قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك ، وكان هارون قد خطبهم فقال : إنكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع ، ولكم فيها مثل ذلك ، وأنا أرى أن تحتسبوا مالكم عندهم ، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكينه لأنفسنا ، فحفر حفيرا وأمر كل قوم عندهم من ذلك متع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ، ثم أوقد عليه النار فأحرقه ، فقال : لا يكون لنا ولا لهم.

وكان السامري من قوم يعبدون البقر ، جيران لبني إسرائيل ، ولم يكن من بني إسرائيل ؛ فاحتمل موسى وبني إسرائيل حين احتملوا فقضى له أن رأى أثرا فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون : يا سامري ألا تلقي ما في يدك؟ وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك ، فقال :

هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، ولا ألقيها لشيء ، إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد ، فألقاها ودعا له هارون. فقال : أريد أن تكون عجلا فاجتمع ما كان في الحفرة من متع أو حلية أو نحاس أو حديد ، فصار عجلا أجوف ، ليس فيه روح وله خوار.

قال ابن عباس : لا والله ما كان فيه صوت قط ، إنما كانت الريح تدخل من دبره وتخرج من فيه ، فكان ذلك الصوت من ذلك.

فتفرق بنو إسرائيل فرقا ؛ فقالت فرقة : يا سامري ما هذا وأنت أعلم به؟ قال : هذا ربكم ، ولكن موسى أضل الطريق!

وقالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى ؛ فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه ، وعكفنا عليه حين رأيناه ، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى.

وقالت فرقة : هذا من عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا عدم التكذيب به.

فقال لهم هارون عليه‌السلام :

(يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ)

[٢٠ / طه : ٩٠]

ليس هذا.

قالوا : فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا؟ هذه أربعون يوما قد مضت وقال سفهاؤهم : أخطأ ربه فهو يطلبه ويبتغيه.

فلما كلم الله موسى وقال له ما قال : أخبره بما لقي قومه من بعده ، (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) فقال لهم ما سمعتم مما في القرآن (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) وألقى الألواح من الغضب. ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له ، وانصرف (١) إلى السامري فقال له : ما حملك على

__________________

(١) و : فانصرف.

٣٦١

ما صنعت؟ قال : قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت عليكم (فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي* قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ ، وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ ، وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً). ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه.

فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة ، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون ، فقالوا لجماعتهم : يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فنكفر عنا ما عملنا. فاختار موسى من قومه سبعين رجلا لذلك ، لا يألوا الخير من خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في الحق ، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة ، فرجفت بهم الأرض.

فاستحيا نبي الله عليه‌السلام من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال : (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ، أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا؟) وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به ، فلذلك رجفت بهم الأرض فقال : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ، فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ).

فقال : يا رب سألتك التوبة لقومي ، فقلت : إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي ، فليتك أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحوم. فقال له : إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد ، فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن.

وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون أمرهم ، واطلع الله على ذنوبهم فاعترفوا بها «وفعلوا ما أمروا به وغفر الله للقاتل والمقتول.

ثم سار بهم موسى عليه‌السلام متوجها نحو الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب ، فأمرهم بالذي أمر به من الوظائف فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها ، فنتق (١) الله عليهم الجبل كأنه ظلة ، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم ، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل ، والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم. ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة ، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون ، خلقهم خلق منكر ، وذكروا من ثمارهم أمرا عجبا (٢) من عظمها ، فقالوا : (يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) لا طاقة لنا بهم ، ولا ندخلها ما داموا فيها ، (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ).

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) قيل ليزيد : هكذا قرأه؟ قال : نعم ، من الجبارين ، آمنا بموسى وخرجنا إليه ، فقالوا : نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم

__________________

(١) و : ونتق.

(٢) و : عجيبا.

٣٦٢

فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم ، فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون. ويقول أناس : إنهم من قوم موسى.

فقال الذين يخافون من بني إسرائيل : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) فأغضبوا موسى ، فدعا عليهم وسماهم فاسقين. ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم ، حتى كان يومئذ فاستجاب الله له ، وسماهم كما سماهم موسى فاسقين ، فحرمها (١) عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار ثم ظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا ، وأمر موسى فضربه بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، في كل ناحية ثلاثة أعين ، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها ، فلا يرتحلون من محلة إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه [بالمنزل الأول](٢) بالأمس.

* * *

رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل.

فقال : كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك؟ فغضب ابن عباس ، فأخذ بيد معاوية ، وانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري ، فقال له : يا أبا إسحاق ، هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون؟

الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني؟ قال إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد ذلك وحضره.

هكذا ساق هذا الحديث الإمام النسائي ، وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيرهما من حديث يزيد بن هارون.

والأشبه والله أعلم أنه موقوف ، وكونه مرفوعا فيه نظر :

وغالبه متلقى من الإسرائيليات وفيه شيء يسير مصرح برفعه في أثناء الكلام.

وفي بعضه ما فيه نظر ونكارة ، والأغلب أنه [من](٣) كلام كعب الأحبار ، وقد سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) م : حرمها.

(٢) من و.

(٣) من و.

٣٦٣

ذكر بناء قبة الزمان

قال أهل الكتاب : وقد أمر الله موسى عليه‌السلام بعمل قبة من خشب الشمشاز وجلود الأنعام وشعر الأغنام ، وأمر بزينتها بالحرير المصبّغ والذهب والفضة على كيفيات مفصلة عند أهل الكتاب ، ولها عشر سرادقات ؛ طول كل واحد ثمانية وعشرون (١) ذراعا ، وعرضه أربعة أذرع ولها أربعة أبواب وأطناب من حرير ودمقس (٢) مصبغ ، وفيها رفوف وصفائح من ذهب وفضة ولكل زاوية بابان وأبواب أخر كبيرة ، وستور من حرير مصبغ وغير ذلك مما يطول ذكره .. ويعمل تابوت من خشب الشمشاز يكون طوله ذراعين ونصفا ، وعرضه ذراعين وارتفاعه ذراعا ونصفا ، ويكون مضببا بذهب خالص من داخله وخارجه ، وله أربع حلق في أربع زواياه ، ويكون على حافتيه كروبيان من ذهب ـ يعنون صفة ملكين بأجنحة ، وهما متقابلان صنعه (٣) رجل اسمه :

«بصليال».

وأمره أن يعمل مائدة من خشب الشمشاز طولها ذراعان وعرضها ذراعان (٤) ونصف ، لها ضباب ذهب وإكليل ذهب ، بشفة مرتفعة بإكليل من ذهب ، وأربع حلق من نواحيها من ذهب ، مفرزة في مثل الرمان من خشب ملبس ذهبا. وأن يعمل صحافا ومصافي وقصاعا على المائدة ، ويصنع منارة من الذهب تتدلى فيها ست قصبات من ذهب ، من كل جانب ثلاثة ، على كل قصبة ثلاثة سرج ، وليكن في المنارة أربعة قناديل ، ولتكن هي وجميع هذه الآنية من قنطار من ذهب ، صنع ذلك «بصليال» أيضا ، وهو الذي عمل المذبح أيضا.

ونصبت (٥) هذه القبة أول يوم من سنتهم ، وهو أول يوم من الربيع ونصب تابوت الشهادة ، وهو ـ والله أعلم ـ المذكور في قوله تعالى : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وقد بسط هذا الفصل في كتابهم مطولا جدا ، وفيه شرائع لهم وأحكام وصفة قربانهم ، وكيفيته ، وفيه أن قبة الزمان كانت موجودة قبل عبادتهم العجل الذي هو متقدم على مجيئهم (٦) بيت المقدس ، وأنها كانت لهم كالكعبة يصلون فيها وإليها ، ويتقربون عندها ، وأن موسى عليه‌السلام كان إذا دخلها يقفون عندها وينزل عمود الغمام على بابها فيخرون عند ذلك سجدا لله عزوجل

__________________

(١) و : مائة وعشرون.

(٢) و : ونقش.

(٣) و : صفة.

(٤) م : طولها ذراع وعرضها ذراع ونصف.

(٥) م : ونصب.

(٦) و : مجيء.

٣٦٤

ويكلم الله موسى عليه‌السلام من ذلك العمود الغمام الذي هو نور ويخاطبه ويناجيه ، ويأمره وينهاه ، وهو واقف عند التابوت صامد إلى ما بين الكروبيين فإذا فصل الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه الله عزوجل إليه من الأوامر والنواهي.

وإذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه شيء ، يجيء إلى قبة الزمان ، ويقف عند التابوت ويصمد لما بين ذينك الكروبيين ، فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الحكومة.

وقد كان هذا مشروعا لهم في زمانهم ، أعني استعمال الذهب والحرير المصبغ واللآلىء ، في معبدهم وعند مصلاهم ، فأما في شريعتنا فلا ، بل قد نهينا عن زخرفة المساجد وتزيينها ؛ لئلا تشغل المصلين ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لما وسع في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، للذي وكله على عمارته : ابن للناس ما يكنهم ، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. وقال ابن عباس : لا نزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم.

وهذا من باب التشريف والتكريم والتنزيه ، فهذه الأمة غير مشابهة من كان قبلهم من الأمم ؛ إذ جمع الله هممهم (١) في صلاتهم على التوجه إليه والإقبال عليه ، وصان أبصارهم وخواطرهم عن الاشتغال والتفكر في غير ما هم بصدده (٢) ، من العبادة العظيمة. فلله الحمد والمنة.

وقد كانت قبة الزمان هذه مع بني إسرائيل في التيه ، يصلون إليها وهي قبلتهم وكعبتهم ، وإمامهم كليم الله موسى عليه‌السلام ، ومقدم القربان أخوه هارون عليه‌السلام.

فلما مات هارون ثم موسى عليهما‌السلام استمر بنو هارون في الذي كان يليه أبوهم ؛ من أمر القربان وهو فيهم إلى الآن.

وقام بأعباء النبوة بعد موسى وتدبير الأمر (٣) بعده فتاه يوشع بن نون عليه‌السلام ، وهو الذي دخل بهم بيت المقدس كما سيأتي بيانه.

والمقصود هنا أنه لما استقرت يده على البيت المقدس نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس فكانوا يصلون إليها. فلما بادت صلوا إلى محلتها وهي الصخرة ، فلهذا كانت قبلة الأنبياء بعده إلى زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد صلى إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الهجرة ، وكان يجعل الكعبة بين يديه ، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى بيت المقدس فصلى إليها ستة عشر ـ وقيل سبعة عشر ـ شهرا.

ثم حولت القبلة إلى الكعبة وهي قبلة إبراهيم في شعبان سنة اثنتين في وقت صلاة العصر وقيل الظهر ، كما بسطنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها). إلى قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). الآيات.

__________________

(١) م : همهم.

(٢) و : في غير ما هم فيه.

(٣) و : الأمور.

٣٦٥

قصة قارون

مع موسى عليه‌السلام

قال الله تعالى (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ* قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ* فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ* وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ* فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ* وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ* تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)

[٢٨ / القصص : ٧٦ ـ ٨٣]

قال الأعمش عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان قارون ابن عم موسى ، وكذا قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن الحارث بن نوفل ، وسماك بن حرب وقتادة ومالك بن دينار وابن جريج وزاد فقال : هو هارون بن يصهب بن قاهث ، وموسى بن عمران ابن قاهث. قال ابن جرير (١) وهذا قول أكثر أهل العلم : إنه ابن عم موسى ، ورد قول ابن إسحاق إنه كان عم موسى. قال قتادة : وكان يسمى المنور لحسن صورته بالتوراة ، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري ، فأهلكه البغي لكثرة ماله. وقال شهر بن حوشب زاد في ثيابه شبرا طولا ترفعا على قومه.

وقد ذكر الله تعالى كثرة كنوزه ؛ حتى إن مفاتحه كان يثقل حملها على الفئام من الرجال

__________________

(١) م : قال ابن جريج وهو تحريف.

٣٦٦

الشداد ، وقد قيل إنها كانت [من الجلود وإنها كانت](١) تحمل على ستين بغلا ، فالله أعلم.

* * *

وقد وعظه (٢) النصحاء من قومه قائلين : «لا تفرح» أي لا تبطر بما أعطيت وتفخر على غيرك (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) يقولون : لتكن همتك مصروفة لتحصيل (٣) ثواب الله في الدار الآخرة ، فإنه خير وأبقى ، ومع هذا (لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي وتناول منها بمالك ما أحل الله لك ، فتمتع لنفسك بالملاذ الطيبة الحلال ، (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي وأحسن إلى خلق الله كما أحسن الله خالقهم وبارئهم إليك ، (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) أي ولا تسيء إليهم ولا تفسد فيهم ، فتقابلهم ضد ما أمرت فيهم فيعاقبك ويسلبك ما وهبك ؛ (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

فما كان جواب قومه لهذه النصيحة الصحيحة الفصيحة إلا أن قال (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي).

يعني أنا لا أحتاج إلى استماع (٤) ما ذكرتم ، ولا إلى ما إليه أشرتم ، فإن الله إنما أعطاني هذا لعلمه إني استحقه ، وإني أهل له ، ولو لا أني حبيب إليه وحظّى عنده لما أعطاني ما أعطاني.

قال الله تعالى ردا عليه وفيما (٥) ذهب إليه : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً؟ وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) أي قد أهلكنا من الأمم الماضين بذنوبهم وخطاياهم من هو أشد من قارون قوة وأكثر أموالا وأولادا ؛ فلو كان ما قال صحيحا لم نعاقب أحدا ممن كان أكثر مالا ، منه ولم يكن ماله دليلا على محبتنا له واعتنائنا به. كما قال تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) ، وقال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) وهذا الرد عليه يدل على صحة ما ذهبنا إليه من معنى قوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي).

وأما من زعم أن المراد من ذلك أنه كان يعرف صنعة الكيمياء ، أو أنه كان يحفظ الاسم الأعظم فاستعمله في جمع الأموال ، فليس بصحيح ؛ لأن الكيمياء تخييل وصنعة ، لا تحيل الحقائق ، ولا تشابه صنعة الخالق (٦) ، والاسم الأعظم لا يصعد الدعاء به من كافر به ، وقارون كان كافرا في الباطن منافقا في الظاهر. ثم لا يصح جوابه لهم بهذا على التقدير ، ولا يبقى بين الكلامين تلازم ، وقد وضحنا هذا في كتابنا التفسير ، ولله الحمد.

__________________

(١) من و.

(٢) و : نصحه

(٣) و : إلى تحصيل.

(٤) م : إلى استعمال.

(٥) م : وما ذهب.

(٦) م : الخلاق.

٣٦٧

قال الله تعالى : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) ذكر كثير من المفسرين أنه خرج في تجمل عظيم ؛ من ملابس ومراكب وخدم وحشم. فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله ، وغبطوه بما عليه وله ، فلما سمع مقالتهم العلماء ، ذوو الفهم الصحيح الزهاد الألباء ، قالوا لهم : «ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا» أي ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى وأجل وأعلى. قال الله تعالى : (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي وما يلقى هذه النصيحة وهذه المقالة ، وهذه الهمة السامية إلى الدار الآخرة العلية ، عند النظر إلى زهرة هذه الدنيا الدنية إلا من هدى الله قلبه وثبت فؤاده ، وأيد لبه وحقق مراده.

وما أحسن ما قال بعض السلف : إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ، والعقل الكامل عند حلول الشهوات!

قال الله تعالى : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ).

لما ذكر تعالى خروجه في زينته واختياله فيها ، وفخره على قومه بها قال : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) كما روى البخاري من حديث الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» (١).

ثم روى البخاري من حديث جرير بن زيد ، عن سالم ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه. وقد ذكر [عن](٢) ابن عباس والسدي ، : أن قارون أعطى امرأة بغيا مالا على أن تقول لموسى عليه‌السلام وهو في ملأ من الناس : إنك فعلت بي كذا وكذا ، فيقال إنها قالت له ذلك ، فأرعد من الفرق وصلى ركعتين ، ثم أقبل عليها فاستحلفها من ذلك على ذلك ، وما حملك عليه ، فذكرت أن قارون هو الذي حملها على ذلك. واستغفرت الله وتابت إليه. فعند ذلك خر موسى لله ساجدا ، ودعا الله على قارون. فأوحى الله إليه : أني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه ، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره ، فكان ذلك ، فالله أعلم.

وقد قيل إن قارون لما خرج على قومه في زينته مر بجحفله وبغاله وملابسه على مجلس موسى عليه‌السلام ، وهو يذكر قومه بأيام الله. فلما رآه الناس انصرفت وجوه كثيرة منهم (٣) ينظرون

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٧٧ / ٥ / ٥٧٩٠ / فتح). ورواه مسلم في صحيحه بنحوه من طريق أبي هريرة (٣٧ / ١٠ / ٤٩) ولفظه بينما رجل يمشي ، قد أعجبته جمته وبرداه ، إذ خسف به الأرض ، فهو يتجلجل به في الأرض حتى تقوم الساعة» أ. ه. ورواه النسائي من طريق مسلم في سننه (٤٨ / ١٠١). وأيضا الدارمي في سننه (مقدمة / ٤٠ / ٤٤٣). كما رواه أيضا أحمد في مسنده (٢ / ٦٦ ، ٢٦٧ ، ٣١٥ ، ٣٩٠ ، ٤١٣ ، ٤٥٦ / حلبي). ورواه ابن ماجه في سننه.

غريب اللغة :

الجلجلة : الحركة مع صوت. قال ابن فارس : التجلجل أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد ويندفع من شق إلى شق : فالمعنى يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها مضطربا متدافعا. أ. ه.

(٢) سقطت من م.

(٣) و : كثير من الناس.

٣٦٨

إليه ، فدعاه موسى عليه‌السلام فقال : ما حملك على هذا؟ فقال : يا موسى أما لئن كنت فضلت عليّ بالنبوة ، فقد فضلت عليك بالمال ، ولئن شئت لتخرجن فلتدعون عليّ ولأدعون عليك.

فخرج موسى وخرج قارون في قومه ، فقال له موسى : تدعو أو أدعو أنا؟ قال : أدعو أنا ، فدعا قارون فلم يجب له في موسى ، فقال موسى : أدعو؟ قال : نعم. فقال موسى : اللهم مر الأرض فلتطعني اليوم ، فأوحى الله إليه إني قد فعلت. فقال موسى : يا أرض خذيهم. فأخذتهم إلى أقدامهم. ، ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى ركبهم ، ثم إلى مناكبهم. ثم قال : أقبلي بكنوزهم وأموالهم ، فأقبلت بها حتى نظروا إليها ، ثم أشار موسى بيده فقال : اذهبوا بني لاوي فاستوت بهم الأرض.

وقد روي عن قتادة أنه قال : يخسف بهم كل يوم قامة إلى يوم القيامة. وعن ابن عباس أنه قال : خسف بهم إلى الأرض السابعة ، وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا إسرائيليات كثيرة ، أضربنا عنها صفحا وتركناها قصدا.

وقوله تعالى : (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) لم يكن ناصر له من نفسه ولا من غيره كما قال : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ).

ولما حل به ما حل من الخسف وذهاب الأموال وخراب الدار ، وإهلاك النفس والأهل والعقار ، ندم من كان تمنى مثل ما أوتي ، وشكروا الله تعالى ، الذي يدبر عباده بما يشاء من حسن التدبير المخزون ، ولهذا قالوا : (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) وقد تكلمنا على لفظ ويكأنه في التفسير ، وقد قال قتادة : ويكأن بمعنى ألم تر أن. وهذا قول حسن من حيث المعنى ، والله أعلم.

ثم أخبر تعالى : (إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ) وهي دار القرار ، وهي الدار التي يغبط من أعطيها ويعزى من حرمها إنما هي معدة (لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً). فالعلو هو التكبر والفخر والأشر والبطر.

والفساد هو عمل المعاصي اللازمة والمتعدية ، من أخذ أموال الناس وإفساد معايشهم ، والإساءة إليهم وعدم النصح لهم.

ثم قال تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

وقصة قارون هذه قد تكون قبل خروجهم من مصر ، لقوله : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) فإن الدار ظاهرة في البنيان ، وقد تكون بعد ذلك في التيه ، وتكون الدار عبارة عن المحلة التي تضرب فيها الخيام ؛ كما قال عنترة :

يا دار عبلة بالجواء تكلمي

وعمي صباحا دار عبلة واسلمي

والله أعلم.

٣٦٩

وقد ذكر الله تعالى مذمة قارون في غير ما آية من القرآن ، قال الله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ* إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ).

[٤٠ / غافر : ٢٣ ـ ٢٤]

وقال تعالى بعد ذكر عاد وثمود : (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ، فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ* فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

[٢٩ العنكبوت : ٣٩ ، ٤٠]

فالذي خسف به الأرض قارون كما تقدم ، والذي أغرق فرعون وهامان وجنودهما إنهم كانوا خاطئين.

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا سعيد ، حدثنا كعب بن علقمة ، عن عيسى بن هلال الصدفي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال :

«من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف» (١).

انفرد به أحمد رحمه‌الله.

__________________

(١) الحديث : رواه أحمد في مسنده (٢ / ١٦٩ / حلبي).

٣٧٠

باب ذكر فضائل موسى عليه‌السلام

وشمائله وصفاته ووفاته

قال الله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا* وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا* وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا.)

[١٩ / مريم : ٥١ ـ ٥٣]

وقال تعالى : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ.)

[٧ / الأعراف : ١٤٤]

وتقدم في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تفضلوني على موسى ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش ، فلا أدري أصعق فأفاق قبلي؟ أم جوزي بصعقة الطور؟».

وقد قدمنا أنه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من باب الهضم والتواضع ، وإلا فهو ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ، قطعا جزما لا يحتمل النقيض.

وقال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ.)

[٤ / النساء : ١٦٣]

وقال : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً.)

[٤ / النساء : ١٦٤]

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً.)

[٣٣ / الأحزاب : ٦٩]

٣٧١

قال الإمام أبو عبد الله البخاري : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن روح بن عبادة ، عن عوف عن الحسن ومحمد وخلاس ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه. فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده ، إما برص ، وإما أدرة ، وإما آفة. وإن الله عزوجل أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى ، فخلا يوما وحده ، فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها ، وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله ، وبرأه الله مما يقولون ، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه ، وطفق بالحجر ضربا بعصاه ، فو الله إن في الحجر لندنا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا (١) فذلك قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً).

وقد رواه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن شقيق وهمام بن منبه عن أبي هريرة به ، وهو في الصحيحين من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عنه به. ورواه مسلم من حديث عبد الله ابن شقيق العقيلي عنه.

قال بعض السلف : «كان من وجاهته أنه شفع في أخيه عند الله ، وطلب منه أن يكون معه وزيرا ، فأجابه الله إلى سؤاله وأعطاه طلبته وجعله نبيا ، كما قال : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا).

ثم قال البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة عن الأعمش قال سمعت أبا وائل ، قال سمعت عبد الله ، قال : قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسما ، فقال رجل : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته فغضب ، حتى رأيت الغضب في وجهه ، ثم قال : «يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (٢).

وكذا رواه مسلم من غير وجه عن سليمان بن مهران الأعمش به.

وقال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن حجاج ، سمعت إسرائيل بن يونس ، عن الوليد بن أبي هاشم مولى لهمدان ، عن زيد بن أبي زائد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «لا يبلغني أحد عن أحد شيئا ، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر». قال :

وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مال فقسمه ، قال : فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه : «والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة ، فثبت حتى سمعت ما قالا ، ثم أتيت رسول الله فقلت :

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٥ / ٢٠) ، (٦٠ / ٢٨). ورواه مسلم في صحيحه (٣ / ٧٥) ، (٤٣ / ١٥٥ / ١٥٦). ورواه الترمذي في سننه (٤٤ / سيرة ٣٣). ورواه أحمد في مسنده (٢ / ٣١٥ ؛ ، ٣٢٤ ، ٣٩٢ ، ٤١٤ ، ٥٣٥ ، / حلبي). ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده (٢٤٦٥).

(٢) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٨٠ / ١٩ / ٦٣٣٦) / حلبي).

ورواه مسلم من وجه آخر في صحيحه (١٢ / ٤٦ / ١٤٠).

٣٧٢

يا رسول الله! إنك قلت لنا لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا وإني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا. فأحمر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشق عليه ، ثم قال : «دعنا منك فقد أوذي موسى أكثر من ذلك فصبر»!

وهكذا رواه أبو داود والترمذي من حديث إسرائيل عن الوليد بن أبي هاشم به. وفي رواية للترمذي ولأبي داود من طريق ابن عبد الله عن إسرائيل عن السدي عن الوليد به. وقال الترمذي :

غريب من هذا الوجه.

وقد ثبت في الصحيحين في أحاديث الإسراء : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بموسى وهو قائم يصلي في قبره ، ورواه مسلم عن أنس.

وفي الصحيحين من رواية قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه مر ليلة أسري به بموسى في السماء السادسة ، فقال له جبريل : هذا موسى ، فسلم عليه. قال :

«فسلمت عليه فقال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح ، فلما تجاوزت بكى. قيل له ما يبكيك؟ قال : أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي!» (١).

وذكر إبراهيم في السماء السابعة ، وهذا هو المحفوظ.

وما وقع في حديث شريك بن أبي نمر ، عن أنس ، من أن إبراهيم في السادسة وموسى في السابعة ، بتفضيل كلام الله ـ فقد ذكر غير واحد من الحفاظ : أن الذي عليه الجادة : أن موسى في السادسة وإبراهيم في السابعة ، وأنه مسند ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم.

واتفقت الروايات كلها على أن الله تعالى لما فرض على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته خمسين صلاة في اليوم والليلة ـ مر بموسى ، فقال : ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك ، فإني قد عالجت بني إسرائيل قبلك أشد المعالجة ، وإن أمتك أضعف أسماعا وأبصارا وأفئدة. فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عزوجل ، ويخفف عنه في كل مرة ، حتى صارت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة. وقال الله تعالى : «هي خمس وهي خمسون أي بالمضاعفة ، فجزى الله عنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا ، وجزى الله عنا موسى عليه‌السلام خيرا.

وقال البخاري : حدثنا مسدد ، حدثنا حصين بن نمير عن حصين بن عبد الرحمن ؛ عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فقال : «عرضت علي الأمم ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل هذا موسى في قومه».

هكذا رواه البخاري وهذا الحديث هاهنا مختصرا.

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه وروى هنا مختصرا منه فهو رواية طويلة لحديث الإسراء (١٨ / ١ / ٣٤٩ / فتح) ورواه مسلم في صحيحه (١ / ٣٥٩). والنسائي في سننه (٥ / ١).

٣٧٣

وقد رواه الإمام أحمد مطولا فقال : حدثنا شريح ، حدثنا هشام ، حدثنا حصين بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جبير فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت أنا ، ثم قلت : إني لم أكن في صلاة ولكن لدغت. قال : وكيف فعلت؟ قلت : استرقيت قال وما حملك على ذلك؟ قال : قلت : حديث حدثناه الشعبي عن بريدة الأسلمي أنه قال : «لا رقية إلا من عين أو حمة» ، فقال سعيد ـ يعني ابن جبير ـ قد أحسن من أنهى إلى ما سمع.

ثم قال : حدثنا ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط ، والنبي معه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد ، إذ رفع لي سواد عظيم فقلت هذه أمتي؟ فقيل : هذا موسى وقومه ، ولكن أنظر إلى الأفق ، فإذا سواد عظيم ، ثم قيل انظر إلى هذا الجانب ، فإذا سواد عظيم ، فقيل : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.

ثم نهض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل ، فخاض القوم في ذلك ، فقالوا : من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب؟ فقال بعضهم : لعلهم الذين صحبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال بعضهم :

لعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئا قط وذكروا أشياء.

فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما هذا الذي كنتم تخوضون فيه؟ فأخبروه بمقالتهم فقال : «هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون». فقام عكاشة بن محصن الأسدي فقال : «وأنا منهم يا رسول الله؟ قال : أنت منهم ، ثم قام آخر فقال : أنا منهم يا رسول الله؟ فقال : سبقك بها عكاشة»!

وهذا الحديث له طرق كثيرة جدا وهو في الصحاح والحسان وغيرها وقد أوردناها في باب صفة الجنة عند ذكر أحوال القيامة وأهوالها.

* * *

وقد ذكر الله تعالى موسى عليه‌السلام في القرآن كثيرا ، وأثنى عليه وأورد قصته في كتابه العزيز مرارا ، وكررها كثيرا ، ومطولة ومبسوطة ومختصرة ، وأثنى عليه ثناء بليغا.

وكثيرا ما يقرنه الله ويذكره. ويذكر كتابه مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه ، كما قال في سورة البقرة :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

وقال تعالى : (الم* اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ* نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)

[٣ / آل عمران : ١ ـ ٤]

٣٧٤

وقال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ * وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ)

[٦ / الأنعام : ٩١ ، ٩٢]

فأثنى الله تعالى على التوراة ، ثم مدح القرآن العظيم مدحا عظيما.

وقال تعالى في آخرها : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ* وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

[٦ / الأنعام : ١٥٤]

وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)

[٥ / المائدة : ٤٤]

ألى أن قال : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ.)

[٥ / المائدة : ٤٧ ، ٤٨]

فجعل القرآن حاكما على سائر الكتب غيره ، وجعله مصدقا لها ومبينا ما وقع فيها من التحريف والتبديل ؛ فإن أهل الكتاب استحفظوا على ما بأيديهم من الكتب ، فلم يقدروا على حفظها ولا على ضبطها وصونها ، فلهذا دخلها ما دخلها من تغييرهم وتبديلهم ؛ لسوء فهمهم وقصورهم في علومهم ، ورداءة مقصودهم وخيانتهم لمعبودهم ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. ولهذا يوجد في كتبهم من الخطأ البين على الله وعلى رسوله ـ ما لا يحد ولا يوصف ، وما لا يوجد مثله ولا يعرف.

وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ* وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)

[٢١ / الأنبياء : ٤٨ ـ ٥٠]

٣٧٥

وقال تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ* قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.)

[٢٨ / القصص : ٤٨ ، ٤٩]

فأثنى الله على الكتابين وعلى الرسولين عليهما‌السلام.

وقالت الجن لقومهم : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى).

وقال ورقة بن نوفل لما قص عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر ما رأى من أول الوحي وتلا عليه :

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)

[٩٦ / العلق : ١ ـ ٥]

قال : سبوح سبوح ، هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران.

وبالجملة فشريعة موسى عليه‌السلام ، كانت شريعة عظيمة ، وأمته كانت أمة كثيرة ، ووجد فيها أنبياء وعلماء ، وعباد وزهاد وألباء وملوك وأمراء. وسادات وكبراء. لكنهم كانوا فبادوا ، وتبدلوا كما بدلت شريعتهم ومسخوا قردة وخنازير ، ثم نسخت بعد كل حساب ملتهم ، وجرت عليهم خطوب وأمور يطول ذكرها ،. ولكن سنورد ما فيه مقنع لمن أراد أن يبلغه خبرها إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان.

٣٧٦

ذكر حجه عليه‌السلام

إلى البيت العتيق «وصفته»

قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بوادي الأزرق فقال : «أي واد هذا؟» قالوا : وادي الأزرق ، قال :

«كأني أنظر إلى موسى وهو هابط من الثنية ، وله جؤار إلى الله عزوجل بالتلبية» ، حتى أتى على ثنية هرشاء فقال : «أي ثنية هذه؟» قالوا هذه ثنية هرشاء ، قال : «كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء ، عليه جبة من صوف ، خطام ناقته خلبة» ـ قال هشيم : يعني ليفا ـ وهو يلبي (١).

أخرجه مسلم من حديث داود بن أبي هند ـ به.

وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعا «إن موسى حج على ثور أحمر» ، وهذا غريب جدا.

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن ابن عون ، عن مجاهد قال : كنا عند ابن عباس فذكروا الدجال ، فقال : إنه مكتوب بين عينيه «ك ف ر» قال : ما يقولون؟ قال : يقولون : مكتوب بن عينيه «ك ف ر» فقال ابن عباس : لم أسمعه. قال ذلك ولكن قال : «أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم ، وأما موسى فرجل آدم جعد الشعر على جمل أحمر مخطوم بخلبة ، كأني أنظر إليه وقد انحدر من الوادي يلبي» (٢) قال هشيم : الخلبة : الليف.

ثم رواه الإمام أحمد عن أسود ، عن إسرائيل ، عن عثمان بن المغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت عيسى ابن مريم وموسى وإبراهيم : فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر ، وأما موسى فآدم جسيم سبط ، قالوا فإبراهيم؟ قال : انظروا إلى صاحبكم» (٣)

وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا شيبان قال : حدث قتادة عن أبي العالية ، حدثنا

__________________

(١) الحديث رواه مسلم في صحيحه (١ / ٧٤ / ٢٦٨). ورواه أحمد في مسنده (١ / ٢١٥ ، ٢١٦) حلبي /). ورواه ابن ماجة في سننه (٢٥ / ٤ / ٢٨٩١).

غريب اللغة.

جؤار : في النهاية لأبن الأثير : الجؤار رفع الصوت والاستغاثة. ثنيه هرش : جبل على طريق الشام والمدينة ، قريب من الجحفة. خطام : الخطام هو الحبل الذي يقاد به البعير ، يجعل على خطمه ..

خلبه : بإسكان اللام وضمها ، هو الليف. أه.

(٢) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٦٠ / ٨ / ٣٣٥٥ / فتح)

(٣) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٦٠ / ٤٨ / ٣٤٣٨ / فتح).

٣٧٧

ابن عم نبيكم ابن عباس قال : قال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا طوالا جعدا ، كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى ابن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض ، سبط الرأس» (١).

وأخرجاه من حديث قتادة به ، وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر قال الزهري : وأخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أسري به :

«لقيت موسى ، قال فنعته ؛ فإذا رجل ـ حسبته قال ـ مضطرب ، رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة ، ولقيت عيسى ـ فنعته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ربعة أحمر كأنما من ديماس ، يعني الحمام ، قال : ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به» الحديث.

وقد تقدم غالب هذه الأحاديث في ترجمة الخليل.

__________________

(١) روى نحوه البخاري ولكن من طريق أبي هريرة في صحيحه (٦٠ / ٢٤ / ٣٣٩٤).

٣٧٨

ذكر وفاته عليه‌السلام

قال البخاري في صحيحه : «وفاة موسى عليه‌السلام» حدثنا يحيى بن موسى ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه عن أبي هريرة قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليه‌السلام ، فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه عزوجل ، فقال : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، قال : ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور ، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة.

قال : أي رب ثم ماذا؟ قال : ثم الموت ، قال : فالآن.

قال : فسأل الله عزوجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر قال أبو هريرة : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر» (١).

ل : وأنبأنا معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه.

وقد روى مسلم الطريق الأول عن حديث عبد الرزاق به ـ ورواه الإمام أحمد من حديث حماد ابن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، عن أبي هريرة مرفوعا وسيأتي.

وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن ، حدثنا لهيعة ، حدثنا أبو يونس يعني سليم بن جبير ـ عن أبي هريرة ، قال : الإمام أحمد لم يرفعه ، قال : «جاء ملك الموت إلى موسى عليه‌السلام ، فقال أجب ربك ، فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها ، فرجع الملك إلى الله فقال : إنك بعثتني إلى عبد لك لا يريد الموت ، قال : فقد فقأ عيني. قال فرد الله عينه ، وقال : ارجع إلى عبدي فقل له : الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور ، فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بها سنة.

قال : ثم مه؟ قال : ثم الموت ، قال : «فالآن يا رب من قريب».

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٦٠ / ٣١ / ٣٤٠٧ فتح). ومسلم في صحيحه (٤٣ / ٤٢ / ١٥٧) والنسائي في سننه (٢١ / ١٢٠). ورواه أحمد في مسنده (٢ / ٢٦٩ ، ٣١٥ ، ٣٥١ ، ٥٣٣ ـ حلبي).

غريب اللغة :

صكه : يعني لطمه.

متن ثور : أي ظهره.

مه : هي هاء السكت. وهو استفهام. أي ثم ماذا يكون؟ أحياة أم موت؟

رمية بحجر : أي قدر ما يبلغه.

الكثيب : الرمل المستطيل المحدودب.

٣٧٩

تفرد به أحمد ، وهو موقوف بهذا اللفظ.

وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق معمر ، عن أبي طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال معمر : وأخبرني من سمع الحسن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فذكره.

ثم استشكله ابن حبان ، وأجاب عنه بما حاصله : أن ملك الموت لما قال له هذا لم يعرفه ، لمجيئه له على غير صورة يعرفها موسى عليه‌السلام كما جاء جبريل في صورة أعرابي ، وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولوط في صورة شاب ، فلم يعرفهم إبراهيم ولا لوط أولا. وكذلك موسى لعله لم يعرفه ؛ لذلك لطمه ففقأ عينه لأنه دخل داره بغير إذن ، وهذا موافق لشريعتنا في جواز فقء عين من نظر إليك في دارك بغير إذن.

ثم أورد الحديث من طريق عبد الرزاق عن معمر ، عن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جاء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه ، قال له : أجب ربك ، فلطم موسى عين ملك الموت ففقأ عينه» وذكر تمام الحديث كما أشار إليه البخاري.

ثم تأوله على أنه لما رفع يده ليلطمه ، قال له : أجب ربك ، وهذا التأويل لا يتمشى على ما ورد به اللفظ ؛ من تعقيب قوله أجب ربك بلطمه ولو استمر على الجواب الأول لتمشى له ، وكأنه لم يعرفه في تلك الصورة. ولم يحمل قوله هذا على أنه مطابق ؛ إذ لم يتحقق في [تلك](١) الساعة الراهنة أنه ملك كريم ، لأنه كان يرجو أمورا كثيرة كان يحب وقوعها في حياته ؛ من خروجهم من التيه ، ودخولهم الأرض المقدسة. وكان قد سبق في قدر (٢) الله أنه عليه‌السلام يموت في التيه بعد هارون أخيه ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

وقد زعم بعضهم : أن موسى عليه‌السلام هو الذي خرج بهم من التيه ودخل بهم الأرض المقدسة. وذا خلاف ما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين.

ومما يدل على ذلك قوله لما اختار الموت : رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر ، ولو كان قد دخلها لم يسأل ذلك. ولكن لما كان مع قومه بالتيه وحانت وفاته عليه‌السلام أحب أن يتقرب إلى الأرض التي هاجر إليها ، وحيث قومه عليها ، ولكن حال بينهم وبينها القدر ، رمية بحجر.

ولهذا قال سيد البشر ، ورسول الله إلى أهل الوبر والمدر : «فلو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر».

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، حدثنا ثابت وسليمان التيمي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر».

ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.

__________________

(١) من و.

(٢) م : دورة وما أثبته من و.

٣٨٠