قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجاع مطيع لله. ثم ذكر تعالى ما كان من أمره في الخيل الصافنات وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة ، الجياد وهي المضمرة السراع.

(فَقالَ : إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) يعني الشمس. وقيل الخيل على ما سنذكره من القولين : «ردوها عليّ فطفق مسحا بالسوق والأعناق» قيل مسح عراقيبها وأعناقها بالسيوف. وقيل مسح عنها العرق لما أجراها وسابق بينها وبين يديه على القول الآخر.

والذي عليه أكثر السلف الأول ، فقالوا اشتغل بعرض تلك الخيول حتى خرج وقت العصر وغربت الشمس. روى هذا عن علي بن أبي طالب وغيره. والذي يقطع به أنه لم يترك الصلاة عمدا من غير عذر ، اللهم إلا أن يقال إنه كان سائغا في شريعتهم ، فأخر الصلاة لأجل أسباب الجهاد وعرض الخيل من ذلك.

وقد ادعى طائفة من العلماء في تأخير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العصر يوم الخندق أن هذا كان مشروعا إذ ذاك حتى نسخ بصلاة الخوف ، قاله الشافعي وغيره. وقال مكحول والأوزاعي : بل هو حكم محكم إلى اليوم أنه (١) يجوز تأخيرها بعذر القتال الشديد. كما ذكرنا تقرير ذلك في سورة النساء عند صلاة الخوف. وقال آخرون : بل كان تأخير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العصر يوم الخندق نسيانا وعلى هذا فيحمل فعل سليمان عليه‌السلام على هذا والله أعلم. وأما من قال : الضمير في قوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) عائد على الخيل وأنه لم ينته وقت صلاة وأن المراد بقوله : (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) يعني مسح العرق في عراقيبها وأعناقها ، فهذا القول (٢) اختاره ابن جرير ورواه الوالبي عن ابن عباس في مسح العرق. ووجه هذا القول ابن جرير بأنه ما كان ليعذب الحيوان بالعرقبة ويهلك مالا بلا سبب ولا ذنب لها. وهذا الذي قاله فيه نظر لأنه قد يكون هذا سائغا في ملتهم وقد ذهب بعض علمائنا إلى أنه إذا خاف المسلمون أن يظفر الكفار على شيء من الحيوانات من أغنام ونحوها جاز ذبحها وإهلاكها لئلا يتقووا بها. وعليه حمل صنيع جعفر بن أبي طالب يوم عقر فرسه بمؤتة. وقد قيل إنها كانت خيلا عظيمة. قيل كانت عشرة آلاف فرس.

وقيل عشرين ألف فرس. وقيل كان فيها عشرون فرسا من ذوات الأجنحة.

وقد روى أبو داود في سننه : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أنبأنا يحيى ابن أيوب ، حدثني عمارة بن غزية ، أن محمد بن إبراهيم حدثه عن محمد بن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر ، فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال : ما هذا يا عائشة؟ فقالت : بناتي. ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع. فقال : ما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت : فرس. قال : وما الذي عليه هذا؟ قالت : جناحان. قال : فرس له جناحان! قالت : أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة. قالت : فضحك حتى رأيت نواجذه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

__________________

(١) رواه ابن عساكر في تاريخه (٦ / ٢٥٨ ، ٢٥٩ / تهذيب).

(٢) رواه ابو داود في سننه (٢ / ٣٠٥).

(٣) رواه ابو داود في سننه (٢ / ٣٠٥).

٤٤١

وقال بعض العلماء لما ترك الخيل لله عوضه الله عنها بما هو خير له منها ، وهو الريح التي كانت غدوها شهر ورواحها شهر ، كما سيأتي الكلام عليها.

كما قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن حميد بن هلال ، عن أبي قتادة وأبي الدهماء ، وكانا يكثران السفر نحو البيت قالا : أتينا على رجل من أهل البادية فقال البدوي : أخذ بيدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عزوجل وقال : «إنك لا تدع شيئا اتقاء الله عزوجل إلا أعطاك الله خيرا منه».

* * *

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من المفسرين هاهنا آثارا كثيرة من جماعة من السلف ، وأكثرها أو كلها متلقاة من الإسرائيليات ، وفي كثير منها نكارة شديدة ، وقد نبهنا على ذلك في كتابنا التفسير واقتصرنا هاهنا على مجرد التلاوة.

ومضمون ما ذكروه أن سليمان عليه‌السلام غاب عن سريره أربعين يوما ثم عاد إليه ، ولما عاد أمر ببناء بيت المقدس فبناه بناء محكما. وقد قدمنا أنه جدده وأن أول من جعله مسجدا إسرائيل عليه‌السلام ، كما ذكرنا عند قول أبي ذر. قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال :

المسجد الحرام. قلت : ثم أي؟ قال : مسجد بيت المقدس ، قلت : كم بينهما قال : أربعون سنة.

ومعلوم أن بين إبراهيم الذي بنى المسجد الحرام وبين سليمان بن داود عليهما‌السلام أزيد من ألف سنة وليس أربعين سنة ، وكان سؤاله الذي لا ينبغي لأحد من بعده بعد إكماله البيت المقدس؟

قال الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم بأسانيدهم عن عبد الله بن فيروز الديلمي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه عزوجل خلالا ثلاثا ، فأعطاه اثنتين ، ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة : سأله حكما يصادف حكمه. فأعطاه إياه ، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه ، وسأله أيما خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه. فنحن نرجو أن يكون الله قد أعطانا إياها.

فأما الحكم الذي يوافق حكم الله تعالى فقد أثنى الله تعالى عليه وعلى أبيه في قوله :

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ* فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً.)

[٢١ / الأنبياء : ٧٨ ، ٧٩]

وقد ذكر شريح القاضي وغير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كان لهم كرم فنفشت فيه غنم قوم آخرين ، أي رعته بالليل فأكلت شجره بالكلية ، فتحاكموا إلى داود عليه‌السلام فحكم

٤٤٢

لأصحاب الكرم بقيمته فلما خرجوا على سليمان قال : بم حكم لكم نبي الله؟ فقالوا : بكذا وكذا فقال أما لو كنت أنا لما حكمت إلا بتسليم الغنم إلى أصحاب الكرم فيستغلونها نتاجا ودرا حتى يصلح أصحاب الغنم كرم أولئك ويردوه إلى ما كان عليه ، ثم يتسلموا غنمهم ، فبلغ داود عليه‌السلام ذلك فحكم به.

وقريب من هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما امرأتان معهما ابناهما إذ عدا الذئب فأخذ ابن إحداهما فتنازعتا في الآخر فقالت الكبرى : إنما ذهب بابنك. وقالت الصغرى : بل إنما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود فحكم به للكبرى ، فخرجتا على سليمان فقال : أئتوني بالسكين أشقه نصفين لكل واحدة منكما نصفه. فقالت الصغرى يرحمك الله هو ابنها. فقضى به لها» (١).

ولعل كلا من الحكمين كان سائغا في شريعتهم ، ولكن ما قاله سليمان أرجح ، ولهذا أثنى الله عليه بما ألهمه إياه ومدح بعد ذلك أباه فقال : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ* وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ.)

[٢١ / الأنبياء : ٧٩ ، ٨٠]

ثم قال : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ* وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ.).

وقال في سورة «ص» : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ* وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ* وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ* هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ* وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ.)

[٣٨ / ص : ٣٦ ـ ٤٠]

لما ترك الخيل ابتغاء وجه الله عوضه الله منها الريح التي هي أسرع سيرا وأقوى وأعظم ولا كلفة عليه لها (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) أي حيث أراد من أي البلاد ، كان له بساط مركب من أخشاب بحيث أنه يسع جميع ما يحتاج إليه من الدور المبنية والقصور والخيام والأمتعة والخيول والجمال والأثقال والرجال من الإنس والجن ، وغير ذلك من الحيوانات والطيور فإذا أراد سفرا أو مستنزها أو قتال ملك أو أعداء من أي بلاد الله شاء ، فإذا حمل هذه الأمور المذكورة على البساط أمر الريح فدخلت تحته فرفعته فإذا استقل بين السماء والأرض أمر الرخاء فسارت به ، فإذا أراد أسرع من ذلك أمر العاصفة فحملته أسرع ما يكون فوضعته في أي مكان شاء ، بحيث انه كان

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٤١ / ٤) ، (٨٥ / ٣٠) ، (٦٠ / ٤٠). ورواه مسلم (٥ / ٣٣) ، (٣٠ / ٢٠). ورواه أبو داود (٢ / ١٦٧). ورواه النسائي (١٣ / ٢٠). ورواه ابن ماجة (٢٨ / ١٤) ورواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٢٢ ، ٣٤٠) ، (٥ / ٤٧٧ ، ٤٤٨).

٤٤٣

يرتحل في أول النهار من بيت المقدس تغدو به الريح فتضعه بإصطخر مسيرة شهر فيقيم هناك إلى آخر النهار ، ثم يروح من آخره فترده إلى بيت المقدس.

كما قال تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ* يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)

[٣٤ / سبأ : ١٢ ، ١٣]

قال الحسن البصري : كان يغدو من دمشق فينزل بإصطخر فيتغدى بها ويذهب رائحا منها فيبيت بكابل وبين دمشق وبين إصطخر مسيرة شهر وبين إصطخر وكابل مسيرة شهر.

قلت : قد ذكر المتكلمون على العمران والبلدان أن أصطخر بنتها الجان لسليمان وكان فيها قرار مملكة الترك قديما ، وكذلك غيرها من بلدان شتى كتدمر وبيت المقدس وباب جيرون وباب البريد اللذان بدمشق على أحد الأقوال.

وأما القطر فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد : هو النحاس. قال قتادة :

وكانت باليمن أنبعها الله له. قال السدي : ثلاثة أيام فقط أخذ منها جميع ما يحتاج إليه للبنايات وغيرها.

وقوله : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) [٣٤ / سبأ : ١٢] أي وسخر الله له من الجن عمالا يعملون له ما يشاء لا يفترون ولا يخرجون عن طاعته ومن خرج منهم عن الأمر عذبه ونكل به (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) وهي الأماكن الحسنة وصدور المجالس (وَتَماثِيلَ) وهي الصور في الجدران ، وكان هذا سائغا في شريعتهم وملتهم (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) قال ابن عباس : الجفنة كالجوبة من الأرض ، وعنه كالحياض ، وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم. وعلى هذه الرواية تكون الجواب جمع جابية وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء ، قال الأعشى :

تروح على آل المحلّق جفنة

كجابية الشيخ العراقي تفهق

وأما القدور الراسيات فقال عكرمة : أثافيها منها ، يعني أنهن ثوابت لا يزلن عن أماكنهن ، وهكذا قال مجاهد وغير واحد.

ولما كان هذا بصدد إطعام الطعام والإحسان إلى الخلق من إنسان وحيوان قال تعالى :

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)

[٣٤ / سبأ : ١٣]

وقال تعالى : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ* وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) يعني أن منهم من

٤٤٤

قد سخره في البناء ومنهم من يأمره بالغوص في الماء لاستخراج ما هنالك من الجواهر واللآلىء وغير ذلك مما لا يوجد إلا هنالك ، وقوله : (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي قد عصوا فقيدوا مقرنين اثنين اثنين في الأصفاد وهي القيود ، وهذا كله من جملة ما هيأه الله وسخره له من أشياء التي هي من تمام الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ولم يكن أيضا لمن كان قبله.

وقد قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن محمد ابن زياد ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن عفريتا من الجن تغلت عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ، فرددته خاسئا» (١).

وكذلك رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة.

وقال مسلم : حدثنا محمد بن سلمة المرادي ، حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح ، حدثني ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي الدرداء قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي فسمعناه يقول : أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله ثلاثا ، وبسط يده كأنه يتناول شيئا ، فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ، ورأيناك بسطت يدك ، قال : إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت :

أعوذ بالله منك ثلاث مرات. ثم قلت : ألعنك بلعنة الله التامة. فلم يستأخر ثلاث مرات ، ثم أردت أخذه ، والله لو لا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة (٢).

وكذا رواه النسائي عن محمد بن سلمة به.

وقال أحمد : حدثنا أبو أحمد ، حدثنا مرة بن معبد ، حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان ، قال :

رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي ، فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال : حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة. فلما فرغ من صلاته قال : «لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين (٣) الإبهام والتي تليها ، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة ، فمن استطاع منكم ألا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل» (٤).

روى أبو داود منه (مَنِ اسْتَطاعَ) إلى آخره عن أحمد بن سريج عن أحمد الزبيري به.

وقد ذكر غير واحد من السلف أنه كانت لسليمان من النساء ألف أمرأة سبعمائة بمهور

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٨ / ٧٥) ، (٦٠ / ٤٠) ، (٦٥ / ٢٢٣٨). ورواه مسلم في صحيحه (٥ / ٣٣٩). ورواه أحمد في مسنده (٢ / ٢٩٨).

(٢) الحديث رواه مسلم في صحيحه (٥ / ٤٠). والنسائي في سننه (١٧ / ١٩).

(٣) و : ما بين ..

(٤) الحديث رواه أحمد في مسنده (٣ / ٨٢).

٤٤٥

وثلاثمائة سراري ، وقيل بالعكس ثلاثمائة حرائر وسبعمائة من الإماء ، وقد كان يطيق من التمتع بالنساء أمرا عظيما جدا.

قال البخاري : حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة على سبعين أمرأة تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه : إن شاء الله. فلم يقل فلم تحمل شيئا إلا واحدا ساقطا أحد شقيه. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو قالها لجاهدوا في سبيل الله» (١).

وقال شعيب وابن أبي الزناد : تسعين وهو أصح.

تفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقال أبو يعلي : حدثنا زهير ، حدثنا يزيد ، أنبأنا هشام بن حسان عن محمد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على مائة امرأة كل امرأة منهن تلد غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله ، فطاف تلك الليلة على مائة امرأة فلم تلد منهن امرأة إلا امرأة ولدت نصف إنسان. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو قال إن شاء لولدت كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله عزوجل» (٢).

إسناده على شرط الصحيح ولم يخرجوه من هذا الوجه :

وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة قال :

قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله ولم يستثن. فما ولدت إلا واحدة منهن بشق إنسان. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو استثنى لولد له مائة غلام كلهم يقاتل في سبيل الله عزوجل» (٣).

تفرد به أحمد أيضا.

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال سليمان بن داود ، لأطوفن الليلة بمائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله ، قال ونسي أن يقول إن شاء الله فأطاف بهن قال : فلم تلد منهن أمرأة إلا واحدة ولدت نصف إنسان. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته» (٤).

وهكذا أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به مثله. قال إسحاق بن بشر : أنبأنا مقاتل ، عن أبي الزناد ، وابن أبي الزناد عن أبيه ، عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، أن سليمان

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٨٣ / ٤ / ٦٦٣٩ / فتح).

(٢) الحديث رواه ابن عساكر في تاريخه (٦ / ٢٦٦ / تهذيب). ورواه أحمد في مسنده (٢ / ٥٠٦ / حلبي).

(٣) الحديث رواه أحمد في المسند (٢ / ٢٢٩ / حلبي).

(٤) الحديث رواه أحمد في مسنده (٢ / ٢٧٥ / حلبي).

٤٤٦

ابن داود كانت له أربعمائة امرأة وستمائة سرية فقال يوما : لأطوفن الليلة على ألف امرأة فتحمل كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله. ولم يستثن فطاف عليهن فلم تحمل واحدة منهم إلا امرأة واحدة منهن جاءت بشق إنسان.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لو استثنى فقال إن شاء الله لولد له ما قال من فرسان ولجاهدوا في سبيل الله عزوجل».

وهذا إسناد ضعيف لحال إسحاق بن بشر ، فإنه منكر الحديث ولا سيما وقد خالف الروايات الصحاح.

وقد كان له عليه‌السلام من أمور الملك واتساع الدولة وكثرة الجنود وتنوعها ما لم يكن لأحد قبله ولا يعطيه الله أحدا بعده كما قال : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) وقد أعطاه الله ذلك بنص الصادق المصدوق.

ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليه وأسداه من النعم الكاملة العظيمة التي إليه قال : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي أعط من شئت وأحرم من شئت ، فلا حساب عليك ، أي تصرف في المال كيف شئت فإن الله قد سوغ لك ما تفعله من ذلك ولا يحاسبك على ذلك ، وهذا شأن النبي الملك بخلاف العبد الرسول ، فإن من شأنه ألا يعطي أحدا إلا بإذن الله له في ذلك.

وقد خير نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه بين هذين المقامين فاختار أن يكون عبدا رسولا ، وفي بعض الروايات أنه استشار جبريل في ذلك فأشار إليه أن تواضع. فأختار أن يكون عبدا رسولا صلوات الله وسلامه عليه وقد جعل الله الخلافة والملك من بعده في أمته إلى يوم القيامة فلا تزال طائفة من أمته طاهرين حتى تقوم الساعة. فلله الحمد والمنة.

ولما ذكر تعالى ما وهبه لنبيه سليمان عليه‌السلام من خير الدنيا نبه على ما أعده له في الآخرة من الثواب الجزيل والأجر الجميل والقربة التي تقربه إليه والفوز العظيم والإكرام بين يديه ، وذلك يوم المعاد والحساب حيث يقول تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ).

ذكر وفاته وكم كانت مدة ملكه وحياته

قال الله تبارك وتعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ.)

[٣٤ / سبأ : ١٤]

روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من حديث إبراهيم بن طهمان عن عطاء بن السائب ،

٤٤٧

عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كان سليمان نبي الله عليه‌السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها : ما اسمك؟ فتقول كذا. فيقول لأي شيء أنت؟ فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء أنبتت. فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها : ما اسمك؟ قالت : الخروب. قال : لأي شيء أنت؟ قالت : لخراب هذا البيت. فقال سليمان : اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا والجن تعمل ، فأكلتها الأرضة فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين .. قال : وكان ابن عباس يقرؤها كذلك. فشكرت الجن للأرضة فكانت تأتيها بالماء.

لفظ ابن جرير. وعطاء الخرساني في حديثه نكارة.

وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق سلمة بن كهيل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس موقوفا. وهو أشبه بالصواب والله أعلم.

وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن أناس من الصحابة : كان سليمان عليه‌السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر يدخل طعامه وشرابه. فأدخله في المرة التي توفي فيها فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة فيأتيها فيسألها ما أسمك؟ فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا. فإن كانت لغرس غرسها وإن كانت نبتت دواء قالت نبت دواء لكذا وكذا. فيجعلها كذلك حتى تنبت شجرة يقال لها الخروبة فسألها ما أسمك؟ فقالت : أنا الخروبة. فقال : ولأي شيء نبت؟ فقالت : نبت لخراب هذا المسجد. فقال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ،. فنزعها وغرسها في حائط له. ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات ولم تعلم به الشياطين. وهم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم ، وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب ، وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه. فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول : ألست جليدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب. فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر. فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يكن شيطانا ينظر إلى سليمان عليه‌السلام وهو في المحراب إلا احترق ، فلم يسمع صوت سليمان ، ثم رجع فلم يسمع ، ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق ونظر إلى سليمان عليه‌السلام قد سقط ميتا ، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات. ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته وهي العصا بلسان الحبشة ، قد أكلتها الأرضة ولم يعلموا منذ كم مات فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوما وليلة. ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة ، وهي قراءة ابن مسعود : فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا كاملا فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبون ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له وذلك قول الله عزوجل : (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) يقول : تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم ، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين

٤٤٨

الطعام لأتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليك الماء والطين. قال : فإنهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال : ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فهو ما يأتيها به الشيطان تشكرا لها.

وهذا فيه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.

وقال أبو داود في كتاب القدر : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا قبيصة ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، قال : قال سليمان بن داود عليهما‌السلام لملك الموت : إذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني قال : ما أنا أعلم بذاك منك إنما هي كتب يلقى إليّ فيها تسمية من يموت.

وقال أصبغ بن الفرج وعبد الله بن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : قال سليمان لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني ، فأتاه فقال : يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت لك سويعة. فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب ، فقام يصلي فاتكأ على عصاه قال : فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متوكىء على عصاه ولم يصنع ذلك فرارا من ملك الموت. قال والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي ، قال : فبعث الله دابة الأرض يعني إلى منسأته فأكلتها حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا. قال : فذلك قوله : (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ).

قال أصبغ : وبلغني عن غيره أنها مكثت سنة تأكل من منسأته حتى خر. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف وغيرهم والله أعلم.

قال إسحاق بن بشر عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري وغيره أن سليمان عليه‌السلام عاش اثنتين وخمسين سنة وكان ملكه أربعين سنة. قال إسحاق : أنبأنا أبو روق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن ملكه كان عشرين سنة. والله أعلم. وقال ابن جرير : فكان جميع عمر سليمان بن داود عليهما‌السلام نيفا وخمسين سنة.

وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ ببناء [بيت] المقدس فيما ذكر ثم ملك بعده ابنه رحبعام مدة سبع عشرة سنة فيما ذكره ابن جرير وقال : ثم تفرقت بعده مملكة بني إسرائيل.

٤٤٩

باب ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل

عليهم‌السلام

ممن لا يعلم وقت زمانهم على التعيين

إلا أنهم بعد داود وقبل زكريا ويحيى عليهم‌السلام

فمنهم شعيا بن أمصيا. قال محمد بن إسحاق : وكان قبل زكريا ويحيى وهو ممن بشر بعيسى ومحمد عليهما‌السلام. وكان في زمانه ملك اسمه حزقيا على بني إسرائيل ببلاد بيت المقدس ، وكان سامعا مطيعا لشعيا فيما يأمره به وينهاه عنه من المصالح ، وكانت الأحداث قد عظمت في بني إسرائيل ، فمرض الملك وخرجت في رجله قرحة ، وقصد بيت المقدس ملك بابل في ذلك الزمان وهو سنحاريب. قال ابن إسحاق : في ستمائة الف راية.

وفزع الناس فزعا عظيما شديدا. وقال الملك للنبي شعيا : ماذا أوحى الله إليك في أمر سنحاريب وجنوده؟ فقال : لم يوح إليّ فيهم شيء بعد ، ثم نزل عليه الوحي بالأمر للملك حزقيا بأن يوصي ويستخلف على ملكه من يشاء ، فإنه قد اقترب أجله. فلما أخبره بذلك أقبل الملك على القبلة فصلى وسبح ودعا وبكى فقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله عزوجل بقلب مخلص وتوكل وصبر : اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا رحمن يا رحيم ، يا من لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك فأنت أعلم به من نفسي سري وإعلاني لك.

قال فاستجاب الله له ورحمه وأوحى الله إلى شعيا أن يبشره بأنه قد رحم بكاءه وقد أخر في أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سنحاريب ، فلما قال له ذلك ذهب منه الوجع وانقطع عنه الشر والحزن وخر ساجدا وقال في سجوده : «اللهم أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزعه ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ، عالم الغيب والشهادة ، فأنت الأول والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين.

فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعيا أن يأمره أن يأخذ ماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ويصبح قد برىء. ففعل ذلك فشفي.

وأرسل الله على جيش سنحاريب الموت فأصبحوا وقد هلكوا كلهم سوى سنحاريب وخمسة من

٤٥٠

أصحابه منهم بختنصر فأرسل ملك بني إسرائيل فجاء بهم فجعلهم في الأغلال وطاف بهم في البلاد على وجه التنكيل بهم والإهانة لهم سبعين يوما ، ويطعم كل واحد منهم كل يوم رغيفين من شعير ، ثم أودعهم السجن وأوحى الله تعالى إلى شعيا أن يأمر الملك بإرسالهم إلى بلادهم لينذروا قومهم ما قد حل بهم ، فلما رجعوا جمع سنحاريب قومه وأخبرهم بما قد كان من أمره فقال له السحرة والكهنة : إنا أخبرناك عن شأن ربهم وأنبيائهم فلم تطعنا ، وهي أمة لا يستطيعها أحد من بهم فكان أمر سنحاريب مما خوفهم الله به. ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين.

قال إبن إسحاق : ثم مات حزقيا ملك بني إسرائيل وأختلطت أحداثهم ، وكثر شرهم ، فأوحى الله تعالى إلى شعيا فقام فيهم فوعظهم وذكرهم وأخبرهم عن الله بما هو أهله وأنذرهم بأسه وعقابه إن خالفوه وكذبوه. فلما فرغ من مقالته عدوا عليه وطلبوه ليقتلوه ، فهرب منهم فمر بشجرة فانفلقت له فدخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة ثوبه فأبرزها ، فلما رأوا ذلك جاءوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة فنشروها ونشروه معها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

٤٥١

ومنهم أرميا بن حلقيا من سبط لاوي بن يعقوب

وقد قيل إنه الخضر ، رواه الضحاك عن ابن عباس ، وهو غريب وليس بصحيح.

قال ابن عساكر : جاء في بعض الآثار أنه وقف على دم يحيى بن زكريا وهو يفور بدمشق فقال : أيها الدم فتنت الناس فاسكن. فسكن ورسب حتى غاب (١).

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثني علي بن أبي مريم ، عن أحمد بن حباب ، عن عبد الله ابن عبد الرحمن قال : قال أرميا : أي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال : أكثرهم لي ذكرا ، الذين يشتغلون بذكري عن ذكر الخلائق ، الذين لا تعرض لهم وساوس الفناء ولا يحدثون أنفسهم بالبقاء ، الذين إذا عرض لهم عيش الدنيا قلوه ، وإذا زوي عنهم سروا بذلك. أولئك أنحلهم محبتي وأعطيهم فوق غاياتهم.

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر (٢ / ٣٨٤ / تهذيب).

٤٥٢

ذكر خراب بيت المقدس

وقوله تعالى : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً* ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً* وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً* فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً* ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً* إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً* عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً.)

[١٧ / الإسراء : ٢ ـ ٨]

وقال وهب بن منبه (١) : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرميا حين ظهرت فيهم المعاصي : أن قم بين ظهراني قومك فأخبرهم أن لهم قلوبا ولا يفقهون ، وأعينا ولا يبصرون ، وآذانا ولا يسمعون ، وإني تذكرت صلاح آبائهم فعطفني ذلك على أبنائهم. فسلهم كيف وجدوا غب طاعتي ، وهل سعد أحد ممن عصاني بمعصيتي ، وهل شقي أحد ممن أطاعني بطاعتي؟ إن الدواب تذكر أوطانها فتنزع إليها وإن هؤلاء القوم تركوا الأمر الذي أكرمت عليه آباءهم والتمسوا الكرامة من غير وجهها ، أما أحبارهم فأنكروا حقي وأمانساكهم فعبدوا غيري ، وأما قراؤهم فلم ينتفعوا بما علموا ، وأما ولاتهم فكذبوا عليّ وعلى رسلي ، خزنوا المكر في قلوبهم ، وعودوا الكذب ألسنتهم وأني أقسم بجلالي وعزتي لأهيجن عليهم جيولا لا يفقهون ألسنتهم ، ولا يعرفون وجوههم ، ولا يرحمون بكاءهم ، ولأبعثن فيهم ملكا جبارا قاسيا له عساكر كقطع السحاب ومواكب كأمثال الفجاج كأن خفقان راياته طيران النسور وكأن حمل فرسانه كر العقبان يعيدون العمران خرابا ويتركون القرى وحشة ، فيا ويل إليا وسكانها كيف أذلهم بالقتل وأسلط عليهم السبا وأعيد بعد لجب الأعراس صراخا ، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب ، وبعد شرفات القصور مساكن السباع وبعد ضوء السرج وهج العجاج وبالعز ذلا (٢) وبالنعمة العبودية وأبدلن (٣) نساءهم بعد

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر (٢ / ٣٨٥ ، ٣٨٦ / تهذيب).

(٢) في تهذيب تاريخ ابن عساكر الذل كما في و.

(٣) في تهذيب ابن عساكر ولأبدلن.

٤٥٣

الطيب التراب ، وبالمشي على الزرابي الخبب ، ولأجعلن أجسادهم زبلا للأرض وعظامهم ضاحية للشمس ، ولأدوسنهم بألوان العذاب ثم لآمرن السماء فتكون طبقا من حديد والأرض سبيكة من نحاس ، فإن أمطرت لم تنبت الأرض ، وإن أنبتت شيئا في خلال ذلك فبرحمتي للبهائم ، ثم أحبسه في زمان الزرع وأرسله في زمان الحصاد ، فإن زرعوا في خلال ذلك شيئا سلطت عليه الآفة فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة ، فإن دعوني لم أجبهم ، وإن سألوا لم أعطهم ، وإن بكوا لم أرحمهم ، وإن تضرعوا صرفت وجهي عنهم.

رواه ابن عساكر (١) بهذا اللفظ

قال إسحاق بن بشر : أنبأنا إدريس ، عن وهب بن منبه ، قال إن الله تعالى لما بعث أرميا إلى بني إسرائيل وذلك حين عظمت الأحداث فيهم فعملوا بالمعاصي وقتلوا الأنبياء طمع بختنصر فيهم وقذف الله في قلبه وحدث نفسه بالمسير إليهم لما أراد الله أن ينتقم به منهم فأوحى الله إلى أرميا :

إني مهلك بني إسرائيل ومنتقم منهم فقم على صخرة بيت المقدس يأتيك أمري ووحيي. فقام أرميا فشق ثيابه وجعل الرماد على رأسه وخر ساجدا وقال : يا رب وددت لو أن أمي لم تلدني حين جعلتني آخر أنبياء بني إسرائيل فيكون خراب بيت المقدس وبوار بني إسرائيل من أجلي ، فقال له :

ارفع رأسك. فرفع رأسه فبكى ثم قال : يا رب من تسلط عليهم؟ فقال : عبدة النيران لا يخافون عقابي ولا يرجون ثوابي قم يا أرميا فاستمع وحيي أخبرك خبرك وخبر بني إسرائيل : من قبل أن أخلقك اخترتك ، ومن قبل أن أصورك في رحم أمك قدستك ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك ، ومن قبل أن تبلغ نبأتك ، ومن قبل أن تبلغ الأشد اخترتك (٢) ولأمر عظيم اجتبيتك ، فقم مع الملك تسدده وترشده. فكان مع الملك يسدده (٣) ويأتيه الوحي من الله حتى عظمت الأحداث ونسوا ما نجاهم الله به من عدوهم سنحاريب وجنوده فأوحى الله إلى أرميا : قم فأقصص عليهم ما آمرك به وذكرهم نعمتي عليهم وعرفهم أحداثهم. فقال أرميا : يا رب إني ضعيف إن لم تقوني ، عاجز إن لم تبلغني ، مخطىء إن لم تسددني ، مخذول إن لم تنصرني ، ذليل إن لم تعزني ، فقال الله تعالى : أو لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي ، وأن الخلق والأمر كله لي ، وأن القلوب والألسنة (٤) كلها بيدي فأقلبها كيف شئت فتطيعني فأنا الله الذي ليس شيء مثلي ، قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي ، وإنه لا يخلص التوحيد ولم تتم القدرة إلا لي ، ولا يعلم ما عندي غيري ، وأنا الذي كلمت البحار ففهمت قولي وأمرتها ففعلت أمري ، وحددت عليها حدودا فلا تعدو حدي ، وتأتي بأمواج كالجبال فإذا بلغت حدي ألبستها مذلة لطاعتي وخوفا واعترافا لأمري ، وإني معك ولن يصل إليك شيء معي ، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي فتستوجب لذلك أجر من اتبعك ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. إنطلق إلى قومك فقم فيهم وقل لهم إن الله قد ذكركم بصلاح آبائكم فلذلك استبقاكم ، يا معشر ابناء الأنبياء ، وكيف

__________________

(١) رواه ابن عساكر في تاريخه (٢ / ٣٨٨ ، ٣٨٩ ، ٣٩٠ / تهذيب).

(٢) في تاريخ الطبري (٦٥٨ / أوربا) «اختبرتك».

(٣) و : فكان يرشده ويأتيه الوحي.

(٤) الطبري : والألسن.

٤٥٤

وجد آباؤكم مغبة طاعتي وكيف وجدتم مغبة معصيتي ، وهل وجدوا أحدا عصاني فسعد بمعصيتي وهل علموا أحدا أطاعني فشقي بطاعتي؟ إن الدواب إذا ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها ، وإن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة وتركوا الأمر الذي أكرمت به اباءهم ، وابتغوا الكرامة من غير وجهها. فأما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولا يتعبدونهم ويعملون فيهم بغير كتابي حتى أجهلوهم أمري ، وأنسوهم ذكري وسنتي ، وغروهم عني فدان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي ، فهم يطيعونهم في معصيتي.

وأما ملوكهم وأمراؤهم فبطروا بنعمتي ، وأمنوا مكري ، وغرتهم الدنيا حتى نبذوا كتابي ونسوا عهدي ، فهم يحرفون كتابي ويفترون على رسلي جرأة منهم عليّ وغرة بي ، فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني ، هل ينبغي أن يكون لي شريك في ملكي؟ وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي؟ وهل ينبغي لي أن أخلق عبادا أجعلهم أربابا من دوني أو آذن لأحد بالطاعة لأحد وهي لا تنبغي إلا لي؟!

وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيدرسون ما يتخيرون ، فينقادون للملوك فيتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني ، ويطيعونهم في معصيتي ، ويوفون لهم بالعهود الناقضة لعهدي ، فهم جهلة بما يعلمون ولا ينتفعون بشيء ما علموا من كتابي.

وأما أولاد النبيين فمقهورون ومفتونون ، يخوضون مع الخائضين يتمنون مثل نصري آباءهم والكرامة التي أكرمتهم بها ، ويزعمون أنه لا أحد أولى بذلك منهم بغير صدق منهم ولا تفكر ، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم وكيف كان جهدهم في أمري حين اغتر المغترون ، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم فصبروا وصدقوا حتى عز أمري وظهر ديني فتأنيت هؤلاء القوم لعلهم يستحيون (١) مني ويرجعون ، فتطولت عليهم وصفحت عنهم فأكثرت ومددت لهم العمر وأعذرت لهم لعلهم يتذكرون. وكل ذلك أمطر عليهم السماء وأنبت لهم الأرض وألبسهم العافية وأظهرهم على العدو ولا يزدادون إلا طغيانا وبعدا مني فحتى متى هذا؟ أبي يسخرون؟ أم بي يتحرشون؟ أم إياي يخادعون أم عليّ يجترئون؟ فإني أقسم بعزتي لأتيحن عليهم فتنة يتحير فيها ويضل رأي ذوي الرأي وحكمة الحكيم (٢) ثم لأسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتيا ألبسه الهيبة وأنزع من قلبه الرأفة والرحمة وآليت أن يتبعه عدد وسواد مثل الليل المظلم ، له فيه عساكر مثل قطع السحاب ومواكب مثل العجاج ، وكأن حفيف (٣) راياته طيران النسور وحمل فرسانه كسرب (٤) العقبان ؛ يعيدون العمران خرابا والقرى وحشا ويعيثون في الأرض فسادا ، ويتبرون ما علوا تتبيرا ، قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقبون ولا يرحمون ولا يبصرون ولا يسمعون ، يجولون في الأسواق بأصوات مرتفعة مثل زئير الأسد ، تقشعر من هيبتها الجلود وتطيش من سمعها الأحلام بألسنة لا يفقهونها ، ووجوه ظاهر عليها المنكر لا يعرفونها ، فوعزتي لأعطلن بيوتهم من حديثها ودروسها ، ولأوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها الذين كانوا يتزينون بعمارتها لغيري ، ويتهجدون فيها ويتعبدون لكسب الدنيا بالدين ،

__________________

(١) و : يستخفون.

(٢) و : الحليم.

(٣) في و : خفيق.

(٤) في تاريخ الطبري (١ / ٦٦١ / ليدن) «كريد العقبان».

٤٥٥

ويتفقهون فيها لغير الدين ، ويتعلمون فيها لغير العمل ، لأبدلن ملوكها بالعز الذل ، وبالأمن الخوف ، وبالغنى الفقر وبالنعمة الجوع ، وبطول العافية والرخاء ألوان البلاء ، وبلباس الديباج والحرير مدارع الوبر والعباء ، وبالأرواح الطيبة والأدهان جيف القتلى ، وبلباس التيجان أطواق الحديد والسلاسل ، والأغلال ، ثم لأعيدن فيهم بعد القصور الواسعة والحصون الحصينة الخراب ، وبعد البروج المشيدة مساكن السباع وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب ، وبعد ضوء السراج دخان الحريق ، وبعد الأنس الوحشة والقفار. ثم لأبدلن نساءها بالأسورة الأغلال ، وبقلائد الدر والياقوت سلاسل الحديد ، وبألوان الطيب والأدهان النقع والغبار ، وبالمشي على الزرابي عبور الأسواق والأنهار والخبب إلى الليل في بطون الأسواق ، وبالخدور والستور الحسور عن الوجوه والسوق والأسفار والأرواح السموم ، ثم لأدوسنهم بأنواع العذاب التي لو كان الكائن منهم في حالق لوصل ذلك إليه ، إني إنما أكرم من أكرمني وإنما أهين من هان عليه أمري. ثم لآمرن السماء خلال ذلك فلتكونن عليهم طبقا من حديد ، ولآمرن الأرض فلتكونن سبيكة من نحاس : فلا سماء تمطر ولا أرض تنبت. فإن أمطرت خلال ذلك شيئا سلطت عليهم الآفة ، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة وإن دعوني لم أجبهم ، وإن سألوني لم أعطهم وإن بكوا لم أرحمهم ، وإن تضرعوا إليّ صرفت وجهي عنهم ، وإن قالوا اللهم أنت الذي ابتدأتنا وآباءنا من قبلنا برحمتك وكرامتك ، وذلك بأنك اخترتنا لنفسك وجعلت فينا نبوتك وكتابك ومساجدك ثم مكنت لنا في البلاد واستخلفتنا فيها وربيتنا وآباءنا من قبلنا بنعمتك صغارا وحفظتنا وإياهم برحمتك كبارا فأنت أوفى المنعمين وإن غيرنا ، ولا تبدل وإن بدلنا وإن تتم فضلك ومنك وطولك وإحسانك (١). فإن قالوا ذلك قلت لهم إني أبتدىء عبادي برحمتي ونعمتي ، فإن قبلوا أتممت وإن استزادوا زدت ، وإن شكروا ضاعفت ، وإن غيروا غيرت ، وإذا غيروا غضبت ؛ وإذا غضبت عذبت وليس يقوم شيء بغضبي.

قال كعب (٢) : فقال أرميا : بوجهك أصبحت أتعلم بين يديك وهل ينبغي ذلك لي وأنا أذل وأضعف من أن ينبغي لي أن أتكلم بين يديك ولكن برحمتك أبقيتني لهذا اليوم وليس أحد أحق أن يخاف هذا العذاب وهذا الوعيد مني بما رضيت به مني طولا والإقامة في دار الخاطئين وهم يعصونك حولي بغير نكر ولا تغيير مني ، فإن تعذبني فبذنبي وإن ترحمني فذلك ظني بك. ثم قال :

يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت ربنا وتعاليت ، أتهلك هذه القرية وما حولها وهي مساكن أنبيائك ومنزل وحيك يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت ربنا وتعاليت لمخرب هذا المسجد وما حوله من المساجد ومن البيوت التي رفعت لذكرك ، يا رب سبحانك وبحمدك وتباركت وتعاليت لمقتل هذه الأمة وعذابك إياهم وهم من ولد إبراهيم خليلك وأمة موسى نجيك وقوم داود صفيك ، يا رب أي القرى تأمن عقوبتك بعد. وأي العباد يأمنون سطوتك بعد ولد خليلك إبراهيم وأمة نجيبك موسى وقوم خليفتك داود تسلط عليهم عبدة النيران. قال الله تعالى : يا أرميا من عصاني فلا

__________________

(١) و : وأن يتم نعمته وفضله وطوله وإحسانه.

(٢) تاريخ ابن عساكر (٢ / ٣٩١ ، ٣٩٢ ، / تهذيب).

٤٥٦

يستنكر نقمتي ، فإني إنما أكرمت هؤلاء القوم على طاعتي ، ولو أنهم عصوني لأنزلتهم دار العاصين ، إلا أن أتداركهم برحمتي.

قال أرميا : يا رب اتخذت إبراهيم خليلا وحفظتنا به ، وموسى قربته نجيا فنسألك أن تحفظنا ولا تتخطفنا ولا تسلط علينا عدونا. فأوحى الله إليه ؛ يا أرميا إني قدستك في بطن أمك وأخرتك إلى هذا اليوم ، فلو أن قومك حفظوا اليتامى والأرامل والمساكين وابن السبيل لكنت الداعم لهم وكانوا عندي بمنزلة جنة ناعم شجرها طاهر ماؤها ولا يغور ماؤها ولا تبور ثمارها ولا تنقطع ، ولكن سأشكو إليك بني إسرائيل : إني كنت لهم بمنزلة الراعي الشفيق أجنبهم كل قحط وكل عسرة وأتبع بهم الخصب حتى صاروا كباشا ينطح بعضها بعضا ، فيا ويلهم ثم يا ويلهم ، إنما أكرم من أكرمني وأهين من هان عليه أمري. إن من كان قبل هؤلاء القوم من القرون يستخفون بمعصيتي وإن هؤلاء القوم يتبرعون بمعصيتي تبرعا فيظهرونها في المساجد والأسواق وعلى رؤوس الجبال وظلال الأشجار حتى عجت السماء إليّ منهم وعجت الأرض والجبال نفرت منها الوحوش بأطراف الأرض وأقاصيها ، وفي كل ذلك لا ينتهون ولا ينتفعون بما علموا من الكتاب.

قال : فلما بلغهم أرميا رسالة ربهم وسمعوا ما فيها من الوعيد والعذاب عصوه وكذبوه واتهموه وقالوا : كذبت وأعظمت على الله الفرية فتزعم أن الله معطل أرضه ومساجده من كتابه وعبادته وتوحيده؟ فمن يعبده حين لا يبقى له في الأرض عابد ولا مسجد ولا كتاب؟! لقد أعظمت الفرية على الله واعتراك الجنون. فأخذوه وقيدوه وسجنوه ، فعند ذلك بعث الله عليهم بختنصر فأقبل يسير بجنوده حتى نزل بساحتهم ثم حاصرهم فكان كما قال الله تعالى : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) قال :

فلما طال بهم الحصر نزلوا على حكمه ففتحوا الأبواب وتخللوا الأزقة وذلك قوله : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) وحكم فيهم حكم الجاهلية وبطش الجبارين ، فقتل منهم الثلث وسبى الثلث وترك الزمنى والشيوخ والعجائز ، ثم وطئهم بالخيل وهدم بيت المقدس وساق الصبيان وأوقف النساء في الأسواق حاسرات ، وقتل المقاتلة وخرب الحصون وهدم المساجد وحرق التوراة ، وسأل عن دانيال الذي كان قد كتب له الكتاب فوجده قد مات وأخرج أهل بيته الكتاب إليه وان فيهم دانيال بن حزقيل الأصغر وميشائيل وعزرائيل وميخائيل ، فأمضى لهم ذلك الكتاب. وكان دانيال بن حزقيل خلفا من دانيال الأكبر ودخل بختنصر بجنوده بيت المقدس ووطىء الشام كلها وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، فلما فرغ منهم انصرف راجعا وحمل الأموال التي كانت بها وساق السبايا فبلغ معه عدة صبيانهم من أبناء الأحبار والملوك تسعين ألف غلام ، وقذف الكناسات في بيت المقدس وذبح فيه الخنازير وكان الغلمان سبعة آلاف غلام من بيت داود ، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه بنيامين ، وثمانية آلاف من سبط ايشي بن يعقوب ، وأربعة عشر ألفا من سبط زبالون ونفتالي ابني يعقوب ، وأربعة عشر ألفا من سبط دان بن يعقوب ، وثمانية آلاف من سبط يستاخر ابن يعقوب ، وألفين من سبط زيكون بن يعقوب ، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي ، واثني عشر ألفا من سائر بني إسرائيل. وانطلق حتى قدم أرض بابل.

قال إسحاق بن بشر : قال وهب بن منبه : فلما فعل ما فعل قيل له كان لهم صاحب يحذرهم

٤٥٧

ما أصبهم ويصفك وخبرك لهم ويخبرهم أنك تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم ، وتهدم مساجدهم وتحرق كنائسهم ، فكذبوه واتهموه وضربوه وقيدوه وحبسوه. فأمر بختنصر فأخرج أرميا من السجن فقال له : أكنت تحذر هؤلاء القوم ما أصابهم؟ قال : نعم ، قال : فإني علمت ذلك. قال :

أرسلني الله إليهم فكذبوني ، قال : كذبوك وضربوك وسجنوك؟ قال : نعم. قال : بئس القوم قوم كذبوا نبيهم وكذبوا رسالة ربهم ، فهل لك أن تلحق بي فأكرمك وأواسيك وإن أحببت أن تقيم في بلادك فقد أمنتك. قال له أرميا : إني لم أزل في أمان الله منذ كنت لم أخرج منه ساعة قط ، ولو أن بني إسرائيل لم يخرجوا منه لم يخافوك ولا غيرك ولم يكن لك عليهم سلطان. فلما سمع بختنصر هذا القول منه تركه فأقام أرميا مكانه بأرض إيليا.

وهذا سياق غريب ، وفيه حكم ومواعظ وأشياء مليحة ، وفيه من جهة التعريب غرابة.

وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي : كان بختنصر أصفهبذا لما بين الأهواز إلى الروم للملك على الفرس وهو لهراسب ، وكان قد بنى مدينة بلخ التي تلقب بالخنساء ، وقاتل الترك وألجأهم إلى أضيق الأماكن وبعث بختنصر لقتال بني إسرائيل بالشام فلما قدم الشام صالحه أهل دمشق ، وقد قيل إن الذي بعث بختنصر إنما هو بهمن ملك الفرس بعد بشتاسب بن لهراسب ، وذلك لتعدي بني إسرائيل على رسله إليهم.

وقد روى ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب ، أن بختنصر لما قدم دمشق وجد بها دما يغلي على كبا ، يعني القمامة ، فسألهم ما هذا الدم؟ فقالوا : أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر. قال : فقتل على ذلك سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم فسكن.

وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب ، وقد تقدم من كلام الحافظ ابن عساكر ما يدل على أن هذا دم يحيى بن زكريا ، وهذا لا يصح لأن يحيى بن زكريا بعد بختنصر بمدة ، والظاهر أن هذا دم نبي متقدم أو دم لبعض الصالحين أو لمن (١) شاء الله ممن الله اعلم به.

قال هشام بن الكلبي : قدم بختنصر بيت المقدس فصالحه ملكها وكان من آل داود وصانعه عن بني إسرائيل وأخذ منه بختنصر رهائن ورجع ، فلما بلغ طبرية بلغه أن بني إسرائيل ثاروا على ملكهم فقتلوه لأجل أنه صالحه ، فضرب رقاب من معه من الرهائن ورجع إليهم فأخذ المدينة عنوة ، وقتل المقاتلة وسبى الذرية.

قال : وبلغنا أنه وجد في السجن أرميا النبي فأخرجه وقص عليه ما كان من أمره إياهم وتحذيره لهم عن ذلك فكذبوه وسجنوه [فقال بختنصر : بئس القوم قوم عصوا رسول الله وخلى سبيله وأحسن إليه](٢) واجتمع إليه من بقي من ضعفاء بني إسرائيل فقالوا : إنا قد أسأنا وظلمنا

__________________

(١) و : أو من شاء الله.

(٢) ليست في م واثبتها من و.

٤٥٨

ونحن نتوب إلى الله عزوجل مما صنعنا ، فأدع الله أن يقبل توبتنا ، فدعا ربه فأوحى الله إليه أنه غير فاعل ، فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه البلدة. فأخبرهم ما أمره الله تعالى به ، فقالوا :

كيف نقيم بهذه البلدة وقد خربت [وقد](١) غضب الله على أهلها! فأبوا أن يقيموا.

قال ابن الكلبي : ومن ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل في البلاد فنزلت طائفة منهم الحجاز وطائفة يثرب وطائفة وادي القرى ، وذهبت شرذمة منهم إلى مصر ، فكتب بختنصر إلى ملكها يطلب منه من شرد منهم إليه فأبى عليه ، فركب في جيشه فقاتله وقهره وغلبه وسبي ذراريهم ثم ركب إلى بلاد المغرب حتى بلغ أقصى تلك الناحية. قال : ثم انصرف بسبي كثير من أرض المغرب ومصر وأهل بيت المقدس وأرض فلسطين والأردن وفي السبي دانيال.

قلت : والظاهر أنه دانيال بن حزقيل الأصغر لا الأكبر. على ما ذكره وهب بن منبه. والله أعلم.

__________________

(١) من و.

٤٥٩

ذكر شيء من خبر دانيال عليه‌السلام

قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أحمد بن عبد الأعلى الشيباني قال : إن لم أكن سمعته من شعيب بن صفوان فحدثني بعض أصحابنا عنه ، عن الأجلح الكندي عن عبد الله بن أبي الهذيل ، قال أحضر بختنصر أسدين فألقاهما في جب ، وجاء بدانيال فألقاه عليهما فلم يهيجاه ، فمكث ما شاء الله ثم اشتهى ما يشتهي الآدميون من الطعام والشراب ، فأوحى الله إلى أرميا وهو بالشام : أن أعدد طعاما وشرابا لدانيال فقال يا رب أنا بالأرض المقدسة ودانيال بأرض بابل من أرض العراق.

فأوحى الله إليه أن أعدد ما أمرناك به فإنا سنرسل من يحملك ويحمل ما أعددت. ففعل وأرسل إليه من حمله وحمل ما أعده حتى وقف على رأس الجب فقال دانيال من هذا؟ قال : أنا أرميا. فقال :

ما جاء بك؟ فقال : أرسلني إليك ربك. قال : وقد ذكرني ربي؟ قال : نعم. فقال دانيال :

الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ، والحمد لله الذي يجيب من رجاه ، الحمد لله الذي من وثق به لم يكله إلى غيره ، والحمد لله الذي يجزي بالاحسان إحسانا ، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة ، والحمد لله الذي هو يكشف ضرنا بعد كربنا ، والحمد لله الذي يقينا حين يسوء ظننا بأعمالنا ، والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين تنقطع الحيل عنا.

وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن أبي خالد بن دينار ، حدثنا أبو العالية قال : لما افتتحنا تستر وجدنا في مال بيت الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب فدعا له كعبا فنسخه بالعربية ، فأنا أول رجل من العرب (١) قرأه ، قرأته مثل ما أقرأ القرآن هذا. فقلت لأبي العالية : ما كان فيه؟ قال : سيركم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد. قلت : فما صنعتم بالرجل؟ قال : حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة ، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس فلا ينبشونه. قلت : فما يرجون منه ، قال : كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون. قلت : من (٢) كنتم تظنون الرجل؟ قال : رجل يقال له دانيال. قلت : منذ كم وجدتموه قد مات؟ قال : منذ ثلاثمائة سنة.

قلت : ما تغير منه شيء؟ قال : إلا شعرات (٣) من قفاه ، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع.

وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية ، ولكن إن كان تاريخ وفاته محفوظا من ثلاثمائة سنة فليس

__________________

(١) و : من العراب.

(٢) و : كم كنتم.

(٣) و : إلا شعيرات.

٤٦٠