قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

قصة داود عليه‌السلام

وما كان في أيامه وذكر فضائله وشمائله ودلائل نبوته وأعلامه

هو داود بن إيشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن تحشون بن عوينادب بن إرم بن حصرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عبد الله ونبيه وخليفته في أرض بيت المقدس.

قال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه : كان داود عليه‌السلام قصيرا أزرق العينين قليل الشعر طاهر القلب ونقيه.

تقدم أنه لما قتل جالوت وكان قتله له فيما ذكر ابن عساكر عند قصر أم حكيم بقرب مرج الصفر ، فأحبته بنو إسرائيل ومالوا إليه وإلى ملكه عليهم ، فكان من أمر طالوت ما كان وصار الملك إلى داود عليه‌السلام ، وجمع الله له بين الملك والنبوة بين خير الدنيا والآخرة ، وكان الملك يكون في سبط والنبوة في آخر فاجتمعا في داود هذا.

وهذا كما قال تعالى : (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ.)

[٢ / البقرة : ٢٥١]

أي لو لا إقامة الملوك حكاما على الناس لاكل قوي الناس ضعيفهم. ولهذا جاء في بعض الآثار (السلطان ظل الله في أرضه). وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان : «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».

وقد ذكر ابن جرير في تاريخه أن جالوت لما بارز طالوت قال له : اخرج إليّ وأخرج إليك فندب طالوت الناس فانتدب داود فقتل جالوت.

قال وهب بن منبه : فمال الناس إلى داود حتى لم يكن لطالوت ذكر ، وخلعوا طالوت وولوا عليهم داود ، وقيل إن ذلك عن أمر شمويل حتى قال بعضهم إنه ولاه قبل الواقعة (١).

قال ابن جرير : والذي عليه الجمهور إنه إنما ولي ذلك بعد قتل جالوت والله أعلم ، وروى

__________________

(١) وذكرها ابن عساكر في تاريخه (٥ / ١٩٠ / تهذي).

٤٢١

ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز أن قتله جالوت كان عند قصر أم حكيم وأن النهر الذي كان هو المذكور في الآية فالله أعلم.

* * *

وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وقال تعالى : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ* وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ).

أعانه الله على عمل الدروع من الحديد ليحصن المقاتلة من الأعداء وأرشده إلى صنعتها وكيفيتها فقال : وقدر في السرد» أي لا تدق المسمار فيفلق ولا تغلظه فيفصم. قاله مجاهد وقتادة والحكم وعكرمة.

قال الحسن البصري وقتادة والأعمش : كان الله قد ألان له الحديد حتى كان يفتله بيده لا يحتاج إلى نار ولا مطرقة. قال قتادة : فكان أول من عمل الدروع من زرد وإنما كانت قبل ذلك من صفائح. قال ابن شوذب : كان يعمل كل يوم درعا يبيعها بستة آلاف درهم.

وقد ثبت في الحديث أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وأن نبي الله داود كان يأكل من كسب يده.

وقال تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ* إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ* وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ).

قال ابن عباس ومجاهد : الأيد القوة في الطاعة. يعني ذا قوة في العبادة والعمل الصالح. قال قتادة : أعطي قوة في العبادة وفقها في الإسلام قال : وقد ذكر لنا أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر.

وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى» (١).

وقوله : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ)

[٣٨ / ص : ١٨ ـ ١٩]

__________________

(١) الحديث رواه البخاري (٣٠ / ٥٤ ، ٥٦ ، ٥٨ ، ٥٩) ، (٦٠ / ٣٧ ، ٣٨) ، (٦٦ / ٣٤) ، (٧٩ / ٣٨). ورواه مسلم (١٣ / ١٨١ ، ١٨٢ ، ١٨٦ ، ١٨٧ ، ١٨٩ ـ ١٩٣ ، ١٩٦). وأبو داود (١٤ / ٥٤ ، ٦٧). والنسائي (٢٢ / ٦٩ ، ٧٦ / ٨٠). وابن ماجة (٧ / ٣١). والدارمي في سننه (٤ / ٤٢). وأحمد في مسنده (١ / ٣١٤) ، (٢ / ١٦٠ ، ١٦٤ ، ١٨٧ ، ١٩٠ ، ١٩٤ ، ١٩٥) ، (٥ / ٢٩٦ / ٣٧). ورواه ابن عساكر في تاريخه (٥ / ١٩٢ / ١٩٣ ـ تهذيب).

٤٢٢

كما قال : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ.)

[٣٤ / سبأ : ١٠]

أي سبحي معه. قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد في تفسير هذه الآية : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ). أي عند آخر النهار وأوله ، وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحد بحيث إنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه يقف الطير في الهواء يرجع بترجيعه ويسبح بتسبيحه وكذلك الجبال تجيبه وتسبح معه كلما سبح بكرة وعشيا ، صلوات الله وسلامه عليه.

وقال الأوزاعي : حدثني عبد الله بن عامر قال : أعطي داود من حسن الصوت ما لم يعط أحد قط ، حتى إن كان الطير والوحش ينعكف حوله حتى يموت عطشا وجوعا وحتى إن الأنهار لتقف! وقال وهب بن منبه : كان لا يسمعه أحد إلا حجل كهيئة الرقص ، وكان يقرأ الزبور بصوت لم تسمع الآذان بمثله فيعكف (١) الجن والإنس والطير والدواب على صوته حتى يهلك بعضها جوعا. وقال أبو عوانة الأسفراييني : حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا محمد بن منصور الطوسي سمعت صبيحا أبا تراب (٢) رحمه‌الله قال أبو عوانة : وحدثني أبو العباس المدني ، حدثنا محمد بن صالح العدوي حدثنا سيار هو ابن حاتم عن جعفر ، عن مالك ، قال : كان داود عليه‌السلام إذا أخذ في قراءة الزبور تفتقت العذارى وهذا غريب.

وقال عبد الرزاق عن ابن جريج : سألت عطاء عن القراءة على الغناء فقال : وما بأس بذلك؟ سمعت عبيد بن عمر يقول : كان داود عليه‌السلام يأخذ المعرفة فضربها فيقرأ عليها فترد عليه صوته يريد بذلك أن يبكي وبكى.

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صوت أبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال لقد أوتي أبي موسى من مزامير آل داود (٣).

وهذا على شرط الشيخين ولم يخرجاه من هذا الوجه.

وقال أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمر ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد أعطي أبو موسى من مزامير داود» (٤).

على شرط مسلم.

__________________

(١) و : لتعتكف.

(٢) كذا في و. وفي المطبوعة «أنبئنا برادح» وهي محرفة وقال مصححة في الهامش : كذا بالنسخة الحلبية وبإحدى النسختين المصريتين «با تراب ح» وفي الثانية (أبو تراب ح). أ. ه.

(٣) الحديث رواه أحمد في مسنده (٦ / ٣٧ ، ١٦٧ / حلبي).

(٤) الحديث رواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٦٩ / حلبي). ورواه ابن ماجة في سننه (٥ / ١٧٦ / ١٣٤١). وفي الزوائد :

قلت : أصله في الصحيحين من حديث أبي موسى (٦٦ / ٣٠ / ٥٠٤٨ / فتح). وفي مسلم من حديث بريدة (٦ / ٣٤ / ٢٣٥). وفي النسائي من حديث عائشة (١٨ / ٨٣). وفي الدارمي أيضا من حديث أبي موسى (٢ / ١٧١ / ١٤٩٧).

٤٢٣

وقد روينا عن أبي عثمان النهدي (١) أنه قال : لقد سمعت البربط والمزمار ، فلما سمعت صوتا أحسن من صوت أبي موسى الأشعري.

وقد كان مع هذا الصوت الرخيم سريع القراءة لكتابة الزبور ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خفف على داود القراءة ، فكان يأمر بدابته فتسرج فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته ، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه».

وكذلك رواه البخاري منفردا به عن عبد الله بن محمد ، عن عبد الرزاق به ، ولفظه :

«خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه فتسرج فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه ، ولا يأكل إلا من عمل يديه» (٢).

ثم قال البخاري : «ورواه موسى بن عقبة ، عن صفوان ، هو ابو سليم ، عن عطاء ، ابن يسار ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد أسنده ابن عساكر في ترجمة داود عليه‌السلام في تاريخه من طرق عن إبراهيم بن طهمان ، عن موسى بن عقبة ، ومن طريق ابي عاصم عن أبي بكر السبري ، عن صفوان بن سليم به.

والمراد بالقرآن هاهنا الزبور الذي أنزله عليه وأوحاه إليه ، وذكر رواية أشبه أن يكون محفوظا فإنه كان ملكا له أتباع ، فكان يقرأ الزبور بمقدار ما تسرج الدواب ، وهذا أمر سريع مع التدبر والترنم والتغني به على وجه التخشع ، صلوات الله وسلامه عليه.

وقد قال الله تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) والزبور كتاب مشهور ، وذكرنا في التفسير الحديث الذي رواه أحمد وغيره أنه أنزل في شهر رمضان ، وفيه من المواعظ والحكم ما هو معروف لمن نظر فيه.

* * *

وقوله : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي أعطيناه ملكا عظيما وحكما نافذا.

روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجلين تداعيا إلى داود عليه‌السلام في بقر ادعى أحدهما على الآخر أنه أغتصبها منه. فأنكر المدعي عليه فأرجأ أمرهما إلى الليل ، فلما كان الليل أوحى الله إليه أن يقتل المدعي ، فلما أصبح قال له داود : إن الله أوحى إليّ أن أقتل فأنا

__________________

(١) م : الترمذي محرفة وما أثبته من و.

(٢) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٦٠ / ٣٧ / ٣٤١٧ / فتح).

٤٢٤

قاتلك لا محالة ، فما خبرك فيما ادعيته على هذا؟ قال : والله يا نبي الله إني لمحق فيما ادعيت عليه ، ولكني كنت اغتلت أباه قبل هذا. فأمر به داود فقتل. فعظم أمر داود في بني إسرائيل جدا وخضعوا له خضوعا عظيما. قال ابن عباس وهو قوله تعالى : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) وقوله تعالى :

(وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي النبوة ، (وَفَصْلَ الْخِطابِ) قال شريح والشعبي وقتادة وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهم : «فصل الخطاب الشهود والإيمان يعنون ذلك : «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (١) وقال مجاهد والسدي : هو إصابة القضاء وفهمه. وقال مجاهد : هو الفصل في الكلام وفي الحكم. واختاره ابن جرير.

وهذا لا ينافي ما روي عن أبي موسى أنه قول : «أما بعد».

وقال وهب بن منبه : لما كثر الشر وشهادات الزور في بني إسرائيل أعطى داود سلسلة لفصل القضاء. فكانت ممدودة من السماء إلى صخرة بيت المقدس ، وكانت من ذهب ، فإذا تشاجر الرجلان في حق فأيهما كان محقا نالها والآخر لا يصل إليها. فلم تزل كذلك حتى أودع رجل رجلا لؤلؤة فجحدها منه وأخذ عكازا وأودعها فيه ، فلما حضرا عند الصخرة تناولها المدعي فلما قيل للآخر خذها بيدك عمد إلى العكاز فأعطاه المدعي وفيه تلك اللؤلؤة وقال : اللهم إنك تعلم أني دفعتها إليه. ثم تناول السلسلة فنالها. فأشكل أمرها على بني إسرائيل ثم رفعت سريعا من بينهم.

ذكره بمعناه غير واحد من المفسرين. وقد رواه إسحاق بن بشر عن إدريس بن سنان عن وهب به بمعناه.

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ* إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ ، فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ* قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ ، وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ* فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ).

وقد ذكر كثير من المفسرين من السلف والخلف هاهنا قصصا وأخبارا أكثرها إسرائيليات ومنها ما هو مكذوب لا محالة. تركنا إيرادها في كتابنا قصد الاكتفاء واقتصارا على مجرد تلاوة القصة من القرآن العظيم ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وقد اختلف الأئمة في سجدة «ص» : هل هي من عزائم السجود أو إنما هي سجدة شكر ليست من عزائم السجود؟ على قولين :

__________________

(١) هكذا رواه ابن عساكر في تاريخه (٥ / ١٩٦ / تهذيب). وقد روي بالمعنى في صحيح البخاري (٤٨ / ٦ / ٢٥١٤ / فتح). ولفظه من طريق ابن عباس (... أن اليمين على المدعي عليه) أ. ه. وهكذا رواه مسلم في صحيحه (٣٠ / ١ ـ ٢). والترمذي (١٣ / ١٢ / ١٣٤٢). وابن ماجه (١٣ / ٧ / ٢٣٢١).

٤٢٥

قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي ، عن العوام ، قال سألت مجاهدا عن سجدة «ص» فقال : سألت ابن عباس من أين سجدت؟ قال أو ما تقرأ :

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده» فكان داود ممن أمر نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتدي به فسجدها داود عليه‌السلام فسجدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل هو ابن علية ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : في السجود في «ص» : ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسجد فيها.

وكذا رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أيوب وقال الترمذي : حسن صحيح. وقال النسائي : أخبرني إبراهيم بن الحسن المقسمي ، حدثنا حجاج بن محمد ، عن عمر ابن ذر ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد في «ص» وقال :

سجدها داود توبة ونسجدها شكرا.

رد به أحمد ورجاله ثقات.

وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن عياض بن عبد الله بن سعيد بن أبي سرح ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر «ص» فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد معه الناس فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود فقال : إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم تشزنتم فنزل وسجد (١).

تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح.

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا يزيد بن زريع (٢) ، حدثنا حميد ، حدثنا بكر ، هو ابن عمر ، وأبو الصديق الناجي ، أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب «ص» فلما بلغ إلى التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجدا. قال : فقصها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يزل يسجد بها بعد.

تفرد به أحمد.

وروى الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : قال لي ابن جريج حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد ، عن ابن عباس ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة ، فقرأت السجدة فسجدت الشجرة بسجودي ، فسمعتها تقول وهي ساجدة : «اللهم

__________________

(١) الحديث رواه أبو داود في السنن (١ / ٢٢٣).

(٢) يريد بن زريع البصري أبو معاوية ، ثقة ثبت ، من الثامنة ، مات سنة اثنين وثمانين / ع. تقريب التهذيب (٢ / ٣٦٤ / ٢٥٠).

٤٢٦

اكتب لي بها عندك أجرا واجعلها عندك ذخرا وضع عني بها وزرا ، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود».

قال ابن عباس : فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل عن كلام الشجرة.

ثم قال الترمذي : غيب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقد ذكر بعض المفسرين أنه عليه‌السلام مكث ساجدا أربعين يوما وقاله مجاهد والحسن وغيرهما وورد في ذلك حديث مرفوع ، لكنه من رواية يزيد الرقاشي وهو ضعيف متروك الرواية.

قال الله تعالى : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي أن له يوم القيامة لزلفى ، وهي القربة التي يقربه الله بها ويدنيه من حظيرة قدسه بسببها ، كما ثبت في حديث :

«المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يقسطون ، في أهليهم وحكمهم وما ولوا».

وقال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا فضيل ، عن عطية. عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل ، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر» (١).

وهكذا رواه الترمذي من حديث فضيل بن مرزوق الأغر به وقال : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثنا سيار ، حدثنا جعفر بن سليمان ، سمعت مالك بن دينار في قوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) قال :

يقوم (٢) داود عليه‌السلام يوم القيامة عند ساق العرش فيقول (٣) الله : يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا ، فيقول وكيف وقد سلبته فيقول : إني أرده عليك اليوم. قال : فيرفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان (٤).

يقول تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ.)

[٣٨ / ص : ٢٦]

__________________

(١) الحديث رواه أحمد في مسنده (٣ / ٢٢ / حلبي). ورواه الترمذي في سننه (١٢ / ٤ / ١٣٢٩). وفيه : فضيل بن مرزوق الأغر الرقاشي ، الكوفي أبو عبد الرحمن ، صدوق يهم ، ورمي بالتشيع ، من السابعة ، مات في حدود سنة ستين.

/ ي م ع. وقال الذهبي : وثقه غير واحد. وضعفه النسائي وابن معين أيضا. وقال الحاكم عيب على مسلم إخراجه في صحيحه. أه.

تقريب التهذيب (٢ / ١١٣ / ٧٣) ، (المغني في الضعفاء (١ / ٥١٥ / ٤٩٦٠).

(٢) و : يقام.

(٣) و : ثم يقول

(٤) و : الجنة.

٤٢٧

هذا خطاب من الله تعالى مع داود ، والمراد ولاة الأمور وحكام الناس ، وأمرهم بالعدل واتباع الحق المنزل من الله ، لا ما سواه من الآراء والأهواء ، وتوعد من سلك غير ذلك وحكم بغير ذلك ، وقد كان داود عليه‌السلام ، هو المقتدى به في ذلك الزمان (١) في العدل ، وكثرة العبادة ، وأنواع القربات ، حتى إنه كان لا يمضي ساعة من آناء الليل وأطراف النهار إلا وأهل بيته في عبادة ليلا ونهارا كما قال تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ).

قال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام ، حدثنا صالح المري (٢) عن أبي عمران الجولي ، عن أبي الجلد ؛ قال : قرأت في مسألة داود عليه‌السلام أنه قال : يا رب كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك؟ قال : فأتاه الوحي : «أن يا داود ألست تعلم أن الذي بك من النعم مني؟ قال : بلى يا رب ، قال : فإني أرضى بذلك منك».

وقال البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا أبو بكر بن بالوية ، حدثنا محمد بن يونس القرشي ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثني عبد الله بن لاحق ، عن ابن شهاب قال : قال داود :

«الحمد لله كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. فأوحى الله إليه : إنك أتعبت الحفظة يا داود!».

ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا عن علي بن الجعد ، عن الثوري مثله.

وقال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد : أنبأنا سفيان الثوري ، عن رجل ، عن وهب بن منبه ، قال : إن في حكمة آل داود : حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات ، ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه ، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل فإن هذه الساعة عون على هذه الساعات وإجمام القلوب ، وحق على العاقل أن يعرف زمانه ، ويحفظ لسانه ، ويقبل على شأنه ، وحق على العاقل ألا يظعن إلا في إحدى ثلاث : زاد لمعاده ، ومرمة لمعاشه ، ولذة في غير محرم (٣).

وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا ، عن أبي بكر بن أبي خيثمة ، عن ابن مهدي ، عن سفيان ، عن أبي الأغر ، عن وهب بن منبه. فذكره. ورواه أيضا عن علي بن الجعد ، عن عمر بن الهيثم الرقاشي عن أبي الأغر عن وهب بن منبه فذكره. وأبو الأغر هذا هو الذي أبهمه ابن المبارك في روايته. قاله ابن عساكر.

وقال عبد الرزاق : انبأنا بشر بن رافع ، حدثنا شيخ من أهل صنعاء يقال له أبو عبد الله قال سمعت وهب بن منبه ، فذكر مثله ، وقد أورد الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود عليه‌السلام أشياء كثيرة مليحة منها قوله : كن لليتيم كالأب الرحيم ، واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد.

وروى بسند غريب مرفوعا قال داود : يا زارع السيئات أنت تحصد شوكها وحسكها.

__________________

(١) م : الوقت.

(٢) م : المزى. محرفة. وهو صالح بن بشير المري البصري نسب إلى مرة بن الحارث بن عبد القيس. اللباب في تهذيب الأنساب (٣ / ١٢٩).

(٣) الحديث رواه ابن المبارك في الزهد (١ / ١٠٥ / ٣١٣).

٤٢٨

وعن داود عليه‌السلام أنه قال : مثل الخطيب الأحمق في نادي القوم كمثل المغني عند رأس الميت ، وقال أيضا : ما أقبح الفقر بعد الغنى وأقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى.

وقال : أنظر ما تكره أن يذكر عنك في نادي القوم فلا تفعله إذا خلوت.

وقال : لا تعدن (١) أخاك بما لا تنجزه له فإن ذلك عداوة ما بينك وبينه.

وقال محمد بن سعد : أنبأنا محمد بن عمر الواقدي ، حدثني هشام بن سعيد ، عن عمر مولى عفرة ، قال : قالت يهود ، لما رأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتزوج النساء : أنظروا إلى هذا الذي لا يشبع من الطعام ولا والله ما له همة إلا إلى النساء. حسدوه لكثرة نسائه وعابوه بذلك فقالوا لو كان نبيا ما رغب في النساء. وكان أشدهم في ذلك حيي بن أخطب فأكذبهم الله وأخبرهم بفضل الله وسعته على نبيه صلوات الله وسلامه عليه فقال : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني بالناس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) يعني ما آتى الله سليمان بن داود كانت له ألف امرأة ، سبعمائة مهرية (٢) وثلاثمائة سرية ، وكانت لداود عليه‌السلام مائة امرأة منهن امرأة أوريا أم سليمان بن داود التي تزوجها بعد الفتنة ، هذا أكثر مما لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ذكر الكلبي نحو هذا وأنه كانت لداود عليه‌السلام مائة امرأة ولسليمان ألف أمرأة ، منهن ثلاثمائة سرية.

وروى (٣) الحافظ في تاريخه في ترجمة صدقة الدمشقي الذي يروي عن ابن عباس من طريق الفرج بن فضالة الحمصي ، عن أبي هريرة الحمصي ، عن صدقة الدمشقي ، أن رجلا سأل ابن عباس عن الصيام فقال : لأحدثنك بحديث كان عندي في البحث مخزونا ، إن شئت أنبأتك بصوم داود فإنه كان صواما قواما وكان شجاعا لا يفر إذا لاقى ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الصيام صيام داود. وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا يكون فيها ، وكانت له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه ويبكي ببكائه كل شيء ويصرف بصوته المهموم والمحموم».

وإن شئت أنبأتك بصوم ابنه سليمان فإنه كان يصوم من أول الشهر ثلاثة أيام ومن وسطه ثلاثة أيام ومن آخره ثلاثة أيام يستفتح الشهر بصيام ووسطه بصيام ويختمه بصيام.

وإن شئت أنبأتك بصوم ابن العذراء البتول عيسى ابن مريم ، فإنه كان يصوم الدهر ويأكل الشعير ويلبس الشعر ، يأكل ما وجد ولا يسأل عما فقد ، ليس له ولد يموت ولا بيت يخرب ، وكان أينما أدركه الليل صف بين قدميه وقام يصلي حتى يصبح ، وكان راميا لا يفوته صيد يريده ، وكان يمر بمجالس بني إسرائيل فيقضي لهم حوائجهم.

وإن شئت أنبأتك بصوم أمه مريم بنت عمران ، فإنها كانت تصوم يوما وتفطر يومين.

__________________

(١) و : لا قواعد.

(٢) و : مهيرة.

(٣) تاريخ ابن عساكر (٦ / ٤١٨ ، ٤١٩ / تهذيب). ومن هنا إلى آخر القصة لا يوجد في النسخة المخطوطة (و) ولا نسخة تيمور. وما أثبته من المطبوعة بمصر (٢ / ١٥).

٤٢٩

وإن شئت أنبأتك بصوم النبي العربي الأمي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ويقول إن ذلك صوم الدهر.

وقد روي الإمام أحمد عن أبي النضر ، عن فرج بن فضالة ، عن أبي هرم عن صدقة عن ابن عباس مرفوعا في صوم داود.

ذكر كمية حياته وكيفية وفاته

قد تقدم في ذكر الأحاديث الواردة في خلق آدم أن الله لما استخرج ذريته من ظهره فرأى فيهم الأنبياء عليهم‌السلام ورأى فيهم رجلا يزهر فقال : أي رب من هذا؟ قال : هذا ابنك داود. قال : أي رب كم عمره؟ قال : ستون عاما. قال : أي رب زد في عمره. قال : لا إلا أن أزيده من عمرك. وكان عمر آدم ألف عام فزاده أربعين عاما فلما انقضى عمر (١) آدم جاءه ملك الموت فقال : بقي من عمري أربعون سنة ونسي آدم ما كان وهبه لولده داود فأتمها الله لآدم ألف سنة ولداود مائة سنة.

رواه أحمد عن ابن عباس ، والترمذي وصححه عن أبي هريرة ، وابن خزيمة وابن حبان.

وقال الحاكم : على شرط مسلم. وقد تقدم ذكر طرقه وألفاظه في قصة آدم.

قال ابن جرير : وقد زعم أهل الكتاب أن عمر داود كان سبعا وسبعين سنة. قلت : هذا غلط مردود عليهم. قالوا : وكانت مدة ملكه أربعين سنة ، وهذا قد يقبل نقله لأنه ليس عندنا ما ينافيه ولا ما يقتضيه.

وأما وفاته عليه‌السلام فقال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

كان داود عليه‌السلام فيه غيرة شديدة فكان إذا خرج أغلقت (٢) الأبواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع. قال : فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تتطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لمن في البيت : من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة ، والله لتفضحن بداود.

فجاء داود فإذا الرجل قائم في وسط الدار فقال له داود : من أنت؟ فقال : أنا الذي لا أهاب الملوك ولا أمنع من الحجاب. فقال داود : أنت والله إذن ملك الموت مرحبا بأمر الله. ثم مكث حتى قبضت روحه فلما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس ، فقال سليمان للطير :

أظلي على داود. فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض ، فقال سليمان للطير : أقبضي جناحا.

__________________

(١) و : عمره.

(٢) في المخطوطة والمطبوعة (اغلق). وهو تحريف وما أثبته من الحديث.

٤٣٠

قال أبو هريرة : فطفق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرينا كيف فعلت الطير. وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، وغلبت عليه يومئذ المصرحية (١).

انفرد بإخراجه الإمام أحمد وإسناده جيد قوي رجاله ثقات ، ومعنى قوله : «وغلبت عليه يومئذ المصرحية» أي وغلبت على التظليل عليه المصرحية وهي الصقور الطوال الأجنحة واحدها مصرحي. قال الجوهري : هو الصقر الطويل الجناح.

وقال السدي عن أبي مالك ، عن ابن مالك ، عن ابن عباس قال : مات داود عليه‌السلام فجأة وكان بسبت. وكانت الطير تظله ،. وقال السدي أيضا ، عن أبي مالك وعن سعيد بن جبير قال : مات داود عليه‌السلام يوم السبت فجأة.

وقال إسحاق بن بشر ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال مات داود عليه‌السلام وهو ابن مائة سنة ومات يوم الأربعاء فجأة. وقال أبو السكن الهجري : مات إبراهيم الخليل فجأة وداود فجأة وابنه سليمان فجأة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

رواه ابن عساكر.

وروى عن بعضهم أن ملك الموت جاءه وهو نازل عن محرابه فقال له : دعني أنزل أو أصعد. فقال : يا نبي الله قد نفذت السنون والشهور والآثار والأرزاق. قال : فخر ساجدا على مرقاة من تلك المراقي فقبضه وهو ساجد.

وقال إسحاق بن بشر (٢) : أنبأنا وافر بن سليمان ، عن أبي سليمان الفلسطيني ، عن وهب ابن منبه قال : إن الناس حضروا جنازة داود عليه‌السلام فجلسوا في الشمس في يوم صائف قال :

وكان قد شيع جنازته يومئذ أربعون ألف راهب عليهم البرانس سوى غيرهم من الناس ، ولم يمت في بني إسرائيل بعد موسى وهارون أحد كانت بنو إسرائيل أشد جزعا عليه منهم على داود. قال :

فآذاهم الحر فنادوا سليمان عليه‌السلام أن يعمل (٣) لهم وقاية لما أصابهم من الحر ، فخرج سليمان فنادى الطير فأجابت فأمرها أن تظل (٤) الناس ، فتراص بعضها إلى بعض من كل وجه ، حتى استمسكت الريح فكاد الناس أن يهلكوا غما فصاحوا إلى سليمان عليه‌السلام من الغم ، فخرج سليمان فنادى الطير أن أظلي الناس من ناحية الشمس وتنحي عن ناحية الريح ، ففعلت فكان ان الناس في ظل تهب (٥) عليهم الريح ، فكان ذلك أول ما رأوه من ملك سليمان.

__________________

(١) الحديث رواه أحمد في مسنده (٢ / ٤١٩ / حلبي) وإسناده قوي. وما بين الأقواس خطأ في المطبوعة والمخطوطة وردت لفظة (المضرحية) وهو تحريف.

(٢) هو إسحاق بن بشر بن حذيفة البخاري صاحب كتاب المبتدأ والفتوح وتركوه وكذبه علي بن المديني وقال ابن حبان : لا يحل حديثه إلا على جهة التعجب وقال الدارقطني متروك وقوله وافر بن سليمان كذا بالنسخة الحلبية والمصرية. من م (٢ / ١٧).

(٣) و : يعجل.

(٤) و : فأظلت.

(٥) م : وتهب.

٤٣١

قال الحافظ أبو يعلي : حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع ، حدثني الوليد بن مسلم ، عن الهيثم ابن حميد ، عن الوضين بن عطاء ، عن نصر بن علقمة ، عن جبير بن نفير ، عن أبي الدرداء.

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد قبض الله داود من بين أصحابه ما فتنوا ولا بدلوا ولقد مكث أصحاب المسيح على سنته وهديه مائتي سنة».

هذا حديث غريب وفي رفعه نظر ، والوضين بن عطاء كان ضعيفا في الحديث. والله أعلم.

٤٣٢

قصة سليمان بن داود عليهما‌السلام

قال الحافظ ابن عساكر : وهو سليمان بن داود بن إيشا بن عويد بن عابر بن سلمون ابن تخشون بن عمينا اداب بن إرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم أبي الربيع نبي الله بن نبي الله.

جاء في بعض الآثار أنه دخل دمشق. قال ابن ماكولا : فارص بالصاد المهملة ، وذكر نسبه قريبا مما ذكره ابن عساكر (١).

قال الله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ.)

[٢٧ / النمل : ١٦]

أي ورثه في النبوة والملك ، وليس المراد ورثه في المال ، لأنه قد كان له بنون غيره ، فما كان ليخص بالمال دونهم ، ولأنه قد ثبت في الصحاح من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا نورث ما تركنا فهو صدقة» وفي لفظه : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» (٢) فأخبر الصادق المصدوق أن الأنبياء لا تورث أموالهم عنهم كما يورث غيرهم ، بل تكون أموالهم صدقة من بعدهم على الفقراء والمحاويج لا يخصون بها أقرباءهم ، لأن الدنيا كانت أهون عليهم وأحقر عندهم من ذلك كما هي عند الذي أرسلهم واصطفاهم وفضلهم. وقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). يعني أنه عليه‌السلام كان يعرف ما يتخاطب به الطيور بلغاتها ويعبر الناس عن مقاصدها وإرادتها.

وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ (٣) ، أنبأنا علي بن جشاد ، حدثنا إسماعيل بن قتيبة ، حدثنا علي بن قدامة ، حدثنا أبو جعفر الأسواني (٤) ، يعني محمد بن

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر (٦ / ٢٥٢ ، ٢٥٣ / تهذيب).

(٢) سيأتي ذكره إن شاء الله في قصة زكريا عليه‌السلام.

(٣) هو محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم الضبي الطهماني الحاكم النيسابوري المعروف بابن البيع ، وإنما عرف بالحاكم لتقلده القضاء وهو صاحب المستدرك وغيره.

(٤) كذا في النسخ بنون بعد الألف وواو بعد السين وهو خطأ والصواب الاستوائي بالهمزة بعد الألف وبتاء مثناة بين السين والواو نسبة إلى استواء بضم الهمزة ثم السكون وضم التاء المثناة وواو وألف ، وهي كورة من نواحي نيسابور ومعناها بلسانهم المضحاة والمشرفة. أه. [عن المطبوعة (١٨ / ٢)]

٤٣٣

عبد الرحمن : عن أبي يعقوب العمي ، حدثني أبو مالك ، قال مر سليمان بن داود بعصفور يدور حول عصفورة فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول؟ قالوا : وما يقول يا نبي الله؟ قال : يخطبها إلى نفسه ويقول زوجيني أسكنك أي غرف دمشق شئت! قال سليمان عليه‌السلام : لأن غرف دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها أحد ولكن كل خاطب كذاب (١).

رواه ابن عساكر عن أبي القاسم زاهر بن طاهر ، عن البيهقي به ، وكذلك ما عداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات ، والدليل على هذا قوله بعد هذا من الآيات : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي من كل ما يحتاج الملك إليه من العدد والآلات والجنود والجيوش والجماعات من الحن والإنس والطيور والوحوش والشياطين والسارحات والعلوم والفهوم والتعبير عن ضمائر المخلوقات من الناطقات والصامتات ، ثم قال : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي من بارىء البريات وخالق الأرض والسموات كما قال تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ* حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ).

يخبر تعالى عن عبده ونبيه وابن نبيه سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام أنه ركب يوما في جيش جميعه من الجن والإنس والطير. فالجن والإنس يسيرون معه والطير سائرة معه تظله بأجنحتها من الحر وغيره وعلى كل من هذه الجيوش الثلاثة وزعه الى نقباء يردون أوله على آخره فلا يتقدم أحد عن موضعه الذي يسير فيه ولا يتأخر عنه.

قال الله تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ.)

[٢٧ : النمل / ١٨]

فأمرت وحذرت واعتذرت عن سليمان وجنوده بعدم الشعور. وقد ذكر وهب أنه مر وهو على البساط بواد بالطائف وأن هذه النملة كان اسمها جرسا ، وكانت من قبيلة يقال لهم بنو الشيصبان وكانت عرجاء وكانت بقدر الذئب.

وفي هذا كله نظر ، بل في هذا السياق دليل على أنه كان في موكبه راكبا في خيوله وفرسانه ، لا كما زعم بعضهم من أنه كان إذ ذاك على البساط لأنه لو كان كذلك لم ينل النمل منه شيء ولا وطء ، لأن البساط كان عليه جميع ما يحتاجون إليه من الجيوش والخيول والجمال والأثقال والخيام والأنعام والطير من فوق ذلك كله ، كما سنبينه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

والمقصود أن سليمان عليه‌السلام فهم ما خاطبت به تلك النملة أمتها من الرأي السديد والأمر الحميد ، وتبسم من ذلك على وجه الاستبشار والفرح والسرور بما أطلعه الله عليه دون غيره ،

__________________

(١) رواه ابن عساكر في تاريخه (٦ / ٢٥٣ / تهذيب).

٤٣٤

وليس كما يقوله بعض الجهلة من أن الدواب كانت تنطق قبل سليمان وتخاطب الناس حتى أخذ عليهم سليمان بن داود العهد وألجمها فلم تتكلم مع الناس بعد ذلك ، فإن هذا لا يقوله إلا الذين لا يعلمون ، ولو كان هذا هكذا لم يكن لسليمان في فهم لغاتهم (١) مزية على غيره إذ قد كان الناس كلهم يفهمون ذلك ولو كان قد أخذ عليها العهد ألا تتكلم مع غيره وكان هو يفهمها لم يكن في هذا أيضا فائدة يعول عليها ، ولهذا قال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني وأرشدني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) فطلب من الله أن يقبضه للشكر على ما أنعم به عليه وعلى ما خصه به من المزية على غيره ، وأن ييسر عليه العمل الصالح وأن يحشره إذا توفاه مع عباده الصالحين وقد استجاب الله تعالى له.

والمراد بوالديه داود عليه‌السلام وأمه ، وكانت من العابدات الصالحات كما قال سنيد بن داود ، عن يوسف بن محمد بن المنكدر ، عن أبيه ، عن جابر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قالت أم سليمان بن داود : يا بني لا تكثر النوم بالليل ، فإن كثرة النوم بالليل تدع العبد فقيرا يوم القيامة.

رواه ابن ماجة عن أربعة من مشايخه عنه به نحوه.

وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، أن سليمان بن داود عليه‌السلام خرج هو وأصحابه يستسقون فرأى نملة قائمة رافعة إحدى قوائمها تستسقي ، فقال لأصحابه : ارجعوا فقد سقيتم إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها!

قال ابن عساكر : وقد روي مرفوعا ولم يذكر فيه سليمان. ثم ساقه من طريق محمد بن عزيز ، عن سلامة بن روح بن خالد ، عن عقيل ، عن ابن شهاب حدثني أبو سلمة ، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون الله فإذا هم بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال النبي : ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة (٢).

وقال السدي : أصاب الناس قحط على عهد سليمان عليه‌السلام ، فأمر الناس فخرجوا فإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول : «اللهم إنا خلق من خلقك ولا غناء بنا عن فضلك».

قال : فصب الله عليهم المطر.

* * *

وقال الله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ* فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ* إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ

__________________

(١) في و : مقالها.

(٢) رواه ابن عساكر في تاريخه (٦ / ٢٧١ / تهذيب).

٤٣٥

كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ* وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ* أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ* اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ* قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ* اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ* قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ* إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ* قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ* قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ* وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ* فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ* ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ.)

[٢٧ / النمل : ٢٠ ـ ٣٧]

يذكر تعالى ما كان من أمر سليمان والهدهد ، وذلك أن الطيور كان على كل صنف منها مقدمون يقومون بما يطلب منهم ويحضرون عنده بالتوبة كما هي عادة الجنود مع الملوك. وكانت وظيفة الهدهد على ما ذكره ابن عباس وغيره أنهم كانوا إذا أعوزوا الماء في القفار في حال الأسفار يجيء فينظر لهم هل بهذه البقاع من ماء ، وفيه من القوة التي أودعها الله تعالى فيه أن ينظر إلى الماء تحت تخوم الأرض ، فإذا دلهم عليه حفروا عنه (١) واستنبطوه وأخرجوه واستعملوه لحاجتهم. فلما تطلبه سليمان عليه‌السلام ذات يوم فقده ولم يجده في موضعه من محل خدمته (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أي ما له مفقود من هاهنا أو قد غاب عن بصري فلا أراه بحضرتي (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) توعده بنوع من العذاب اختلف المفسرون فيه ، والمقصود حاصل على كل تقدير (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة تنجيه من هذه الورطة.

قال الله تعالى : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي فغاب (٢) الهدهد غيبة ليست بطويلة ثم قدم منها «فقال» لسليمان (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي أطلعت على ما لم تطلع عليه (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي بخبر صادق (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) يذكر ما كان عليه ملوك سبأ في بلاد اليمن من المملكة العظيمة والتبابعة المتوجين ، وكان الملك قد آل في ذلك الزمان إلى امرأة منهم ابنة ملكهم لم يخلف غيرها فملكوها عليهم.

وذكر الثعلبي وغيره أن قومها ملكوا عليهم بعد أبيها رجلا فعم به الفساد ، فأرسلت إليه تخطبه فتزوجها فلما دخلت عليه سقته خمرا ثم حزت رأسه ونصبته على بابها. فأقبل الناس عليها

__________________

(١) و : له.

(٢) و : غاب.

٤٣٦

وملكوها عليهم وهي بلقيس بنت السيرح وهو الهداد ، وقيل شراحيل بن ذي جدن بن السيرج بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وكان أبوها من أكابر الملوك وكان قد يأبى (١) أن يتزوج من أهل اليمن ، فيقال أنه تزوج بامرأة من الجن اسمها ريحانة بنت السكن ، فولدت له هذه المرأة واسمها تلقمة ويقال لها بلقيس.

وقد روى الثعلبي من طريق سعيد بن بشير عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كان أحد أبوي بلقيس جنيا»». وهذا حديث غريب ، وفي سنده ضعف.

وقال الثعلبي : أخبرني أبو عبد الله بن قبحونة ، حدثنا أبو بكر بن حرجة ، حدثنا ابن أبي الليث ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، عن أبي بكر. ، قال ذكرت بلقيس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة».

إسماعيل بن مسلم هذا هو المكي ضعيف.

وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عوف ، عن الحسن ، عن أبي بكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم ابنة كسرى قال : «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (٢).

ورواه الترمذي والنسائي من حديث حميد ، عن الحسن عن أبي بكرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [بمثله](٣) وقال الترمذي حسن صحيح. وقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي مما من شأنه أن تؤتاه الملوك (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) يعني سرير مملكتها كان مزخرفا بأنواع الجواهر واللآلىء والذهب والحلي الباهر.

ثم ذكر كفرهم بالله وعبادتهم الشمس من دون الله وإضلال الشيطان لهم وصده إياهم عن عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما يخفون وما يعلنون ، أي يعلم السرائر والظواهر من المحسوسات والمعنويات : «الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم» أي له العرش العظيم الذي لا أعظم منه في المخلوقات ..

فعند ذاك بعث سليمان عليه‌السلام كتابه يتضمن دعوته لهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله والإنابة والإذعان إلى الدخول في الخضوع لملكه وسلطانه ولهذا قال لهم : (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) أي لا تستكبروا عن طاعتي وامتثال أوامري (٤) (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي واقدموا عليّ سامعين مطيعين بلا معاودة ولا مراودة ، فلما جاءها الكتاب مع الطير ، ومن ثم اتخذ الناس البطائق ، ولكن أين الثريا من الثرى ، تلك البطاقة كانت مع سائر سامع مطيع فاهم عالم بما يقول ويقال له ، فذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن الهدهد حمل الكتاب وجاء إلى قصرها فألقاه إليها وهي في خلوة لها ثم وقف

__________________

(١) في و : تأبى.

(٢ و ٣) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٩٢ / ١٨). الترمذي في سنن (٣١ / ٧٥). والنسائي في سننه (٤٩ / ٨).

وأحمد في مسنده (٥ / ٣٨ ، ٤٣ ، ٤٥ ، ٤٧ ، ٥٠ ، ٥١). ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده (٨٧٨).

(٤) و : أمري.

٤٣٧

ناحية ينتظر ما يكون من جوابها عن الكتاب ، فجمعت أمراءها ووزراءها ، وأكابر دولتها إلى مشورتها ، (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) ثم قرأت عليهم عنوانه أولا : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) ثم قرأته : (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ثم شاورتهم (١) في أمرها وما قد حل بها وتأدبت معهم وخاطبتهم وهم يسمعون (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) تعني ما كنت لأبت أمرا إلا وأنتم حاضرون (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) يعنون لنا قوة وقدرة على الجلاد والقتال ومقاومة الأبطال ، فإن أردت منا ذلك فإنا عليه من القادرين «و» مع هذا (الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) فبذلوا لها السمع والطاعة وأخبروها بما عندهم من الاستطاعة ، وفوضوا اليها في ذلك الأمر لترى فيه ما هو الأرشد لها ولهم.

فكان رأيها أتم وأشد من رأيهم ، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب لا يغالب ولا يمانع ولا يخالف ولا يخادع (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) تقول برأيها السديد : إن هذا الملك لو قد غلب على هذه المملكة لم يخلص الأمر من بينكم إلا إليّ ولم تكن الحدة والشدة والسطوة البليغة إلا علي (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) أرادت أن تصانع عن نفسها. وأهل مملكتها بهدية ترسلها وتحف تبعثها. ولم تعلم أن سليمان عليه‌السلام لا يقبل منهم والحالة هذه صرفا ولا عدلا ، لأنهم كافرون ، وهو وجنوده عليهم قادرون.

«و» لهذا (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) هذا وقد كانت تلك الهدايا مشتملة على أمور عظيمة ، ذكرها المفسرون».

ثم قال لرسولها إليه ووافدها الذي قدم عليه والناس حاضرون يسمعون (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) يقول ارجع بهديتك إلتي قدمت بها إلي من قد منّ بها فإن عندي مما قد أنعم الله عليّ وأسداه إليّ من الأموال والتحف والرجال ما هو أضعاف هذا وخير من هذا الذي أنتم تفرحون به وتفخرون على أبناء جنسكم بسببه (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) أي فلأ بعثن إليهم بجنود لا يستطيعون دفاعهم ولانزالهم ولا ممانعتهم ولا قتالهم ولأخرجنهم من بلدهم وحوزتهم ومعاملتهم ودولتهم (أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) عليهم الصغار والعار والدمار.

فلما بلغهم ذلك عن نبي الله لم يكن لهم بد من السمع والطاعة ، فبادروا إلى إجابته في تلك الساعة وأقبلوا بصحبة الملكة أجمعين سامعين مطيعين خاضعين. فلما سمع بقدومهم عليه ووفودهم إليه قال لمن بين يديه ممن هو مسخر له من الجان ما قصه الله عنه في القرآن :

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ

__________________

(١) و : ثم أمرتهم في أمرها.

٤٣٨

الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ* قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ* قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ* فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ* وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ* قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.)

[٢٧ / النمل : ٣٨ ـ ٤٤]

لما طلب سليمان من الجان أن يحضروا له عرش بلقيس ، وهو سرير مملكتها التي تجلس عليه وقت حكمها ، قبل قدومها عليه (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) يعني قبل أن ينقضي مجلس حكمك وكان فيما يقال من أول النهار إلى قريب الزوال يتصدى لمهمات بني إسرائيل وما لهم من الأشغال : (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي وإني لذو قدرة على إحضاره إليك وأمانة على ما فيه من الجواهر النفيسة لديك (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) المشهور أنه آصف ابن برخينا وهو ابن خالة سليمان. وقيل هو رجل من مؤمني الجان ، كان فيما يقال يحفظ الاسم الأعظم. وقيل رجل من بني إسرائيل من علمائهم ، وقيل : إنه سليمان ، وهذا غريب جدا.

وضعفه السهيلي بأنه لا يصح في سياق الكلام. قال وقد قيل فيه قول رابع وهو : جبريل : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) قيل معناه قبل أن تبعث رسولا إلى أقصى ما ينتهي إليه طرفك من الأرض ثم يعود إليك. وقيل قبل أن يصل إليك أبعد من تراه من الناس. وقيل قبل أن يكل طرفك إذا أقدمت على النظر به قبل أن تطبق جفنك. وقيل قبل أن يرجع إليك طرفك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته وهذا أقرب ما قيل.

(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) أي فلما رأى عرش بلقيس مستقرا عنده في هذه المدة القريبة من بلاد اليمن إلى بيت المقدس في طرفة عين (قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) أي هذا من فضل الله عليّ وفضله على عبيده ليختبرهم على الشكر أو خلافه (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أي إنما يعود نفع ذلك عليه : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) أي غني عن شكر الشاكرين ولا يتضرر بكفر الكافرين.

ثم أمر سليمان عليه‌السلام أن يغير حلي هذا العرش وينكر لها ليختبر فهمها وعقلها ولهذا قال : (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ* فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ : أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) وهذا من فطنتها وغزارة فهمها ، لأنها استبعدت أن يكون عرشها لأنها خلفته وراءها بأرض اليمن ، ولم تكن تعلم أن أحدا يقدر على هذا الصنع العجيب الغريب. قال الله تعالى إخبارا عن سليمان وقومه : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ* وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها

٤٣٩

كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) أي ومنعتها عبادة الشمس التي كانت تسجد لها هي وقومها من دون الله اتباعا لدين آبائهم وأسلافهم لا لدليل قادهم إلى ذلك ولا حداهم على ذلك.

وكان سليمان قد أمر ببناء صرح من زجاج وعمل في ممره ماء ، وجعل عليه سقفا من زجاج ، وجعل فيه من السمك وغيرها من دواب الماء ، وأمرت بدخول الصرح وسليمان جالس على سريره فيه (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). وقد قيل إن الجن أرادوا أن يبشعوا منظرها عند سليمان وأن تبدي عن ساقيها ليرى ما عليهما من الشعر فينفره ذلك منها ، وخشوا أن يتزوجها لأن أمها من الجان فتتسلط عليهم معه. وذكر بعضهم أن حافرها كان كحافر الدابة وهذا ضعيف وفي الأول أيضا نظر. والله أعلم.

إلا أن سليمان قيل إنه لما أراد إزالته حين عزم على تزوجها سأل الإنس عن زواله فذكروا له الموسى ، فامتنعت من ذلك فسأل الجان فصنعوا له النورة ووضعوا له الحمام ، فكان أول من دخل الحمام ، فلما وجد مسه قال أوه من عذاب أوه أوه قبل ألا ينفع أوه.

وقد ذكر الثعلبي وغيره أن سليمان لما تزوجها أقرها على مملكة اليمن وردها إليه ، وكان يزورها في كل شهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام ثم يعود على البساط ، وأمر الجان فبنوا له ثلاثة قصور باليمن. غمدان وسالحين وبيتون. فالله أعلم.

وقد روى ابن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه : أن سليمان لم يتزوجها بل زوجها بملك همدان وأقرها على ملك اليمن وسخر زوبعة ملك اليمن فبنى لها القصور الثلاثة التي ذكرناها باليمن. والأول أشهر وأظهر. والله أعلم.

* * *

وقال تعالى : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ* إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ* فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ* رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ* وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ* قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ* فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ* وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ* وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ* هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ* وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ.)

[٣٨ / ص : ٣٠ ـ ٣٩]

يذكر تعالى أنه وهب لداود سليمان عليهما‌السلام ، ثم أثنى الله تعالى عليه فقال : (نِعْمَ

٤٤٠