قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

الْعَذابَ الْأَلِيمَ.)

[٥١ / الذاريات : ٣١ ـ ٣٨]

وقال تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ* إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ* نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ* وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ* وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ* وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ* فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ* وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.)

[٥٤ / القمر : ٣٣ ـ ٤٠]

وقد تكلمنا على هذه القصص في أماكنها من هذه السور في التفسير.

وقد ذكر الله لوطا وقومه في مواضع أخر من القرآن ؛ تقدم ذكرها مع نوح وعاد وثمود.

* * *

والمقصود الآن إيراد ما كان من أمرهم ، وما أحل الله بهم ، مجموعا من الآيات والاثار.

وبالله المستعان.

وذلك أن لوطا عليه‌السلام لما دعاهم الى عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهاهم عن تعاطي ما ذكر الله عنهم من الفواحش ، لم يستجيبوا له ولم يؤمنوا به حتى ولا رجل واحد منهم ، ولم يتركوا ما عنه نهوا. بل استمروا على حالهم ، ولم يرعووا (١) عن غيهم وضلالهم ، وهموا بإخراج رسولهم من بين ظهرانيهم. وما كان حاصل جوابهم عن خطابهم ـ إذ كانوا لا يعقلون إلا أن قالوا :

(أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) فجمعوا غاية المدح ذما يقتضي الإخراج! وما حملهم على مقالتهم هذه إلا العناد واللجاج.

فطهره الله وأهله إلا امرأته ، وأخرجهم منها أحسن إخراج ، وتركهم في محلتهم خالدين ، لكن بعد ما صيرها عليهم بحرة منتنة ذات أمواج ، لكنها عليهم في الحقيقة نار تأجج ، وحر يتوهج ، وماؤها ملح أجاج.

وما كان هذا جوابهم إلا لما نهاهم عن [ارتكاب](٢) الطامة العظمى ، والفاحشة الكبرى ، التي لم يسبقهم إليها أحد من [العالمين](٣) أهل الدنيا. ولهذا صاروا مثلة فيها وعبرة لمن عليها.

وكانوا مع ذلك يقطعون الطريق ، ويخونون الرفيق ، ويأتون في ناديهم ، وهو مجتمعهم ومحل حديثهم وسمرهم ، المنكر من الأقوال والأفعال على اختلاف أصنافه. حتى قيل إنهم كانوا

__________________

(١) م : ولم يرتدعوا.

(٢) من و.

(٣) من و.

١٨١

يتضارطون في مجالسهم ، ولا يستحيون من مجاليسهم ، وربما وقعت (١) الفعلة العظيمة في المحافل ولا يستنكفون ، ولا يرعوون لوعظ واعظ ولا نصيحة من عاقل. وكانوا في ذلك وغيره كالأنعام بل أضل سبيلا ، ولم يقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر ، ولا ندموا على ما سلف من الماضي ، ولا راموا في المستقبل تحويلا ، فأخذهم الله أخذا وبيلا.

وقالوا له فيما قالوا : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فطلبوا منه وقوع ما حذرهم منه من العذاب الأليم ، وحلول البأس العظيم.

فعند ذلك دعا عليهم نبيهم الكريم ، فسأل من رب العالمين وإله المرسلين أن ينصره على القوم المفسدين.

فغار الله لغيرته ، وغضب لغضبته ؛ واستجاب لدعوته ، وأجابه إلى طلبته وبعث رسله الكرام ، وملائكته العظام ، فمروا على الخليل إبراهيم وبشروه بالغلام العليم ، أخبروه بما جاءوا له من الأمر الجسيم والخطب العميم : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ* قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ* لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ* مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) وقال : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ* قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ، قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ). وقال الله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ). وذلك أنه كان يرجو أن [يجيبوا أو](٢) ينيبوا ويسلموا ويقلعوا ويرجعوا ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ* يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) أي أعرض عن هذا وتكلم غيره ؛ فإنه قد حتم أمرهم ، ووجب عذابهم وتدميرهم وهلاكهم ، (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي قد أمر به من لا يرد أمره ، ولا يرد بأسه ، ولا معقب لحكمه. (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ).

وذكر سعيد بن جبير والسدي وقتادة ومحمد بن إسحاق : أن إبراهيم عليه‌السلام جعل يقول : أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن. قالوا لا؟ قال : فمائتا مؤمن؟ قالوا : لا. قال :

فأربعون مؤمنا؟ قالوا : لا. قال : فأربعة عشر مؤمنا؟ قالوا : لا. قال ابن إسحاق : إلى أن قال : أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد؟ قالوا : لا. (قالَ : إِنَّ فِيها لُوطاً ، قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) «الآية.

وعند أهل الكتاب أنه قال : يا رب أتهلكهم وفيهم خمسون رجلا صالحا؟ فقال الله : «لا أهلكهم وفيهم خمسون صالحا» ثم تنازل إلى عشرة فقال الله : لا أهلكهم وفيهم عشرة صالحون».

قال الله تعالى : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ

__________________

(١) و : وقد أوقع.

(٢) من و.

١٨٢

عَصِيبٌ.) قال المفسرون : لما فصلت الملائكة من عند إبراهيم ـ وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل ـ أقبلوا حتى أتوا أرض سدوم ، في صور شبان حسان ، اختبارا من الله تعالى لقوم لوط وإقامة للحجة عليهم. فاستضافوا لوطا عليه‌السلام وذلك عند غروب الشمس ، فخشى إن لم يضيفهم أن يضيفهم غيره وحسبهم بشرا من الناس ، و (سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ، وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومحمد بن إسحاق : شديد بلاؤه. وذلك لما يعلم من مدافعته الليلة عنهم ، كما كان يصنع بهم في غيرهم ، وكانوا قد اشترطوا عليه ألا يضيف أحدا ، ولكن رأى من لا يمكن المحيد عنه.

وذكر قتادة : أنهم وردوا عليه وهو في أرض له يعمل فيها ، فتضيفوا فاستحيا منهم وانطلق أمامهم ، وجعل يعرض لهم في الكلام لعلهم ينصرفون عن هذه القرية وينزلون في غيرها ، فقال لهم فيما قال : [والله](١) يا هؤلاء ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء. ثم مشى قليلا ، ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات ، قال : وكانوا قد أمروا ألا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك.

وقال السدي : خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط ، فأتوها نصف النهار ، فلما بلغوا نهر سدوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لأهلها ، وكانت له ابنتان : اسم الكبرى «ريثا» والصغرى «زغرتا». فقالوا لها : يا جارية ، هل من منزل؟ فقالت لهم : نعم مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم. شفقة (٢) عليهم من قومها ، فأتت أباها فقالت : يا أبتاه! أرادك فتيان على باب المدينة ، ما رأيت وجوه قوم قط هي أحسن منهم ، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم. وقد كان قومه (٣) نهوه أن يضيف رجلا فقالوا : خل عنا فلنضف الرجال. فجاء بهم لم يعلم أحد إلا أهل البيت ، فخرجت امرأته فأخبرت قومها ؛ فقالت : إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط. فجاءه قومه يهرعون إليه.

وقوله : (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي هذا مع ما سلف لهم من الذنوب العظيمة الكبيرة الكثيرة ، (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) يرشدهم إلى غشيان نسائهم وهن بناته شرعا ؛ لأن النبي للأمة بمنزلة الوالد ، كما ورد في الحديث ، وكما قال تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) وفي قول بعض الصحابة والسلف : وهو أب لهم. وهذا كقوله تعالى :

(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ* وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ)

[٢٦ / الشعراء : ١٦٥ ـ ١٦٦]

__________________

(١) من و.

(٢) م : فرقت عليهم من قومها.

(٣) و : وقد كانوا نهوه.

١٨٣

وهذا هو الذي نص عليه مجاهد وسعيد بن جبير والربيع بن أنس قتادة والسدي ومحمد ابن إسحاق ، وهو الصواب.

والقول الآخر خطأ مأخوذ من أهل الكتاب ، وقد تصحف عليهم كما أخطأوا في قولهم : إن الملائكة كانوا اثنين ، وإنهم تعشوا عنده. وقد خبط أهل الكتاب في هذه القصة تخبيطا عظيما.

وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ، أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ؟) نهى لهم عن تعاطي ما لا يليق من الفاحشة ، وشهادة عليهم بأنه ليس فيهم رجل له مسكة ولا فيه خير ، بل الجميع سفهاء ، فجرة أقوياء ، كفرة أغبياء (١).

وكان هذا من جملة ما أراد الملائكة أن يسمعوه منه من قبل أن يسألوه عنه.

فقال قومه ، عليهم لعنة الله الحميد المجيد ، مجيبين لنبيهم فيما أمرهم به من الأمر السديد :

(لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ). يقولون عليهم لعائن الله ـ لقد علمت يا لوط أنه لا أرب لنا في نسائنا ، وإنك لتعلم مرادنا وغرضنا.

واجهوا بهذا الكلام القبيح رسولهم الكريم ، ولم يخافوا سطوة العظيم ، ذي العذاب الأليم.

ولهذا قال عليه‌السلام : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ). ود أن لو كان له بهم قوة ، أو له منعة وعشيرة ينصرونه عليهم ، ليحل بهم ما يستحقونه من العذاب على هذا الخطاب.

وقد قال الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا : «نحن أحق بالشك من إبراهيم ، ويرحم الله لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» (٢).

ورواه أبو الزناد (٣) عن الأعرج عن أبي هريرة.

وقال محمد بن عمرو بن عقلمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رحمة الله على لوط ، إن كان يأوي (٤) إلى ركن شديد ـ يعني الله عزوجل ـ فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه».

وقال تعالى : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ* قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ* وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ* قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ* قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ.) فأمرهم

__________________

(١) وكفرة أعتياء.

(٢) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٦٠ / ١١ / ٣٣٧٢). ورواه ابن ماجه بنحوه (٣٦ / ٢٣ / ٤٠٢٦) ورواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٢٦ / ٣٣٢ ، ٣٥٠ / حلبي).

(٣) و : ورواه ابن أبي الدنيا.

(٤) و : لقد كان يأوي.

١٨٤

بقربان نسائهم ، وحذرهم الاستمرار على طريقتهم وسيئاتهم.

هذا وهم في ذلك لا ينتهون ولا يرعوون ، بل كلما نهاهم (١) يبالغون في تحصيل هؤلاء الضيفان ويحرصون ، ولم يعلموا ماحم (٢) به القدر مما هم إليه صائرون وصبيحة ليلتهم إليه منقلبون.

ولهذا قال تعالى مقسما بحياة نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ* وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ* وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ.)

[القمر : ٣٦ ـ ٣٨]

ذكر المفسرون وغيرهم : أن نبي الله لوطا عليه‌السلام جعل يمانع قومه الدخول ويدافعهم والباب مغلق ، وهم يرومون فتحه وولوجه ـ وهو يعظهم وينهاهم من وراء الباب ، وكل ما لهم في إلحاح وإنحاح ، فلما ضاق الأمر وعسر الحال قال [ما قال](٣) (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) ، لأحللت بكم النكال.

قالت الملائكة (يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) وذكروا أن جبريل عليه‌السلام خرج عليهم ، فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه فطمست أعينهم ، حتى قيل إنها غارت بالكلية ولم يبق لها محل ولا عين ولا أثر ، فرجعوا يتحسسون مع الحيطان ، ويتوعدون رسول الرحمن ، ويقولون إذا كان الغد كان لنا وله شأن!

قال الله تعالى : (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ* وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ).

فذلك أن الملائكة تقدمت إلى لوط ، عليه‌السلام ، آمرين له بأن يسري هو وأهله من آخر الليل : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) يعني عند سماع صوت العذاب إذا أحل بقومه ، وأمروه أن يكون سيره في آخرهم كالساقة لهم.

وقوله : (إِلَّا امْرَأَتَكَ) على قراءة النصب : يحتمل أن يكون مستثنى من قوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) كأن يقول إلا امرأتك فلا تسر بها ، ويحتمل أن يكون من قوله : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) أي فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصابهم. ويقوى هذا الاحتمال قراءة الرفع ، ولكن الأول أظهر في المعنى. والله أعلم.

قال السهيلي : واسم امرأة لوط «والهة» ، واسم امرأة نوح «والغة».

وقالوا له مبشرين بهلاك هؤلاء البغاة العتاة ، الملعونين النظراء والأشباه الذين جعلهم الله

__________________

(١) و : كلما لهم.

(٢) و : ما حم بهم.

(٣) من و.

١٨٥

سلفا لكل خائن مريب : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ).

فلما خرج لوط عليه‌السلام بأهله ، وهم ابنتاه ، لم يتبعه منهم رجل واحد ، ويقال إن امرأته خرجت معه. فالله أعلم.

فلما خلصوا من بلادهم وطلعت الشمس فكانت عند شروقها ، جاءهم من أمر الله ما لا يرد ، ومن البأس الشديد ما لا يمكن أن يصد.

وعند أهل الكتاب : أن الملائكة أمروه أن يصعد الى رأس الجبل الذي هناك فاستبعده ، وسأل منهم أن يذهب الى قرية قريبة منهم ، فقالوا اذهب فإنا ننتظرك حتى تصير اليها وتستقر فيها ، ثم نحل بهم العذاب. فذكروا أنه ذهب الى قرية «صوعر» (١) التي يقول الناس : غور زغر ، فلما أشرقت الشمس نزل بهم العذاب.

قال الله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ* مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.)

[١١ / هود : ٨٣]

قالوا : اقتلعهن جبريل بطرف جناحه من قرارهن ـ وكن سبع مدن ـ بمن فيهن من الأمم ، فقالوا إنهم كانوا أربعمائة نسمة ، وقيل أربعة آلاف (٢) نسمة ، وما معهم من الحيوانات ، وما يتبع تلك المدن من الأراضي والأماكن والمعتملات ، فرفع الجميع حتى بلغ بهن عنان السماء ، حتى سمعت الملائكة أصوات ديكتهم ونباح كلابهم ، ثم قلبها عليهم ، فجعل عاليها سافلها. قال مجاهد : فكان أول ما سقط منها شرفاتها.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ). والسجيل فارسي معرب والشديد الصلب القوي ، (مَنْضُودٍ) أي يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم من السماء. (مُسَوَّمَةً) أي معلمة مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذي يهبط عليه فيدمغه ، كما قال : (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ). وكما قال تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) ، وقال تعالى :

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) يعني (٣) قلبها فأهوى بها منكسة عاليها سافلها ، وغشاها بمطر من حجارة من سجيل ، متتابعة ، مسومة مرقومة على كل حجر اسم صاحبه الذي سقط عليه ؛ من الحاضرين منهم في بلدهم ، والغائبين عنها من المسافرين والنازحين والشاذين منها.

ويقال إن أمرأة لوط مكثت مع قومها ، ويقال إنها خرجت مع زوجها وبنتيها ، ولكنها لما سمعت الصيحة وسقوط البلدة ، التفتت الى قومها وخالفت أمر ربها قديما وحديثا ، وقالت :

وا قوماه! فسقط عليها حجر فدمغها وألحقها بقومها ؛ إذ كانت على دينهم ، وكانت عينا لهم على من يكون عند لوط من الضيفان.

__________________

(١) و : صغر.

(٢) و : أربعة آلاف ألف نسمة.

(٣) و : أي قبلها.

١٨٦

كما قال تعالى : «ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة نوح وامرأة لوط ، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين ، فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ، وقيل ادخلا النار مع الداخلين» أي خانتاهما في الدين فلم يتبعاهما فيه. وليس المراد أنهما كانتا على فاحشة ـ حاشا وكلا ـ ولم فإن الله لا يقدر على نبي قط أن تبغي أمرأته ، كما قال ابن عباس وغيره من أئمة السلف والخلف : ما بغت امرأة نبي قط. ومن قال خلاف هذا فقد أخطأ خطأ كبيرا.

قال الله تعالى في قصة الإفك ، لما أنزل براءة أم المؤمنين عائشة بنت الصديق ، زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فعاتب الله المؤمنين وأنب وزجر ، ووعظ وحذر قال فيما قال تعالى :

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ* وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ.)

[٢٤ / النور : ١٥ ـ ١٦]

أي سبحانك أن تكون زوجة نبيك بهذه المثابة.

وقوله هنا : وما هي من الظالمين ببعيد» أي وما هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم في فعلهم.

ولها ذهب من ذهب من العلماء إلى أن اللائط يرجم ، سواء كان محصنا أو لا. ونص عليه الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من الأئمة.

واحتجوا أيضا بما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (١).

وذهب أبو حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق جبل ويتبع بالحجارة ، كما فعل بقوم لوط ، لقوله تعالى : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).

وجعل الله مكان تلك البلاد بحرة منتنة لا ينتفع بمائها ، ولا بما حولها من الأراضي المتاخمة لفنائها ، لرداءتها ودناءتها فصارت عبرة ومثلة وآية على قدرة الله تعالى وعظمته ، وعزته وفي انتقامه ممن خالف أمره ، وكذب رسله ، واتبع هواه وعصى مولاه ، ودليلا على رحمته بعباده المؤمنين في

__________________

(١) الحديث رواه أبو داود في سننه (٢ / ٤٦٨ / حلبي). ورواه الترمذي في سننه (١٥ / ٢٤ / ١٤٥٦). ورواه ابن ماجه في سننه (٢٠ / ١٢ / ٢٥٦١). كلهم من طريق : عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب. قال عنه الذهبي في كتابه المغني في الضعفاء (٢ / ٤٨٧ / ٤٦٨٥). «لينه يحيى بن معين. وقال أحمد «ما به بأس» ووثقه غيره. وقال أبو داود : ليس بالقوي» أ. ه وقال عنه ابن حجر في تعريب التهذيب (٢ / ٧٥ / ٦٤٢) «ثقة ربما وهم ، من الخامسة مات بعد الخمسين / ع) أ. ه.

١٨٧

إنجائه إياهم من المهلكات ، وإخراجه إياهم من النور الى الظلمات ، كما قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

وقال الله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ* فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ* وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي من نظر بعين الفراسة والتوسم فيهم (١) ، كيف غير الله تلك البلاد وأهلها؟ وكيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة هالة غامرة؟

كما روى الترمذي وغيره مرفوعا : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» (٢) ثم قرأ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ).

وقوله : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أي لبطريق مهيع مسلوك إلى الآن. كما قال : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). وقال تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وقال تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ* وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ).

أي تركناها عبرة وعظة لمن خاف عذاب الآخرة ، وخشي الرحمن بالغيب ، وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، فانزجر من محارم الله وترك معاصيه ، وخاف أن يشابه قوم لوط. ومن تشبه بقوم فهو منهم ، وإن لم يكن من كل وجه ؛ فمن بعض الوجوه ، كما قال بعضهم :

فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم

فما قوم لوط منكم ببعيد

فالعاقل اللبي الفاهم الخائف من ربه ، يمتثل ما أمره الله به عزوجل ، ويقبل ما أرشده اليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إتيان ما خلق الله له من الزوجات الحلال ، والجواري من السراري ذوات الجمال ، وإياه أن يتبع كل شيطان مريد ، فيحق عليه الوعيد ، ويدخل في قوله تعالى : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).

__________________

(١) م : فهم.

(٢) الحديث رواه الترمذي (ذ / ١٦ / ٣١٢٧). ورواه ابن حجر في لسان الميزان (٥ / ١١٥٤). ورواه القرطبي في تفسيره (١ / ٤٣ / دار الكتب). ورواه الأصفهاني في حلية الأولياء (٤ / ٩٤ ، ٦ / ١١٨ ـ الخانجي). ورواه السيوطي في جمع الجوامع (٤٥٦ / الهيئة العامة للكتاب). ورواه العجلوني في كشف الخفاء (١ / ٤٢). ورواه السيوطي في الدر المنثور (٤ / ١٠٣). ورواه الذهبي في الطب النبوي (١١٢ / حلبي) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٨ / ١٢١). ورواه رحمه‌الله في كنز العمال رقم (٣٠٧٣٠ / سوريا). ورواه العراقي في تنزيه الشريعة (٢ / ٣٠٥).

١٨٨

قصة مدين

قوم شعيب عليه‌السلام

قال الله تعالى بعد قصة قوم لوط : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ* وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ* قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ* قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ* وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ* فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)

[٧ / الأعراف : ٨٥ ـ ٩٣]

وقال تعالى بعد قصة قوم لوط أيضا : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ* وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ* قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ* قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ

١٨٩

مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ* وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ* وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ* قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ* قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ* وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ* وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ* كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ)

[١١ / هود : ٨٤ ـ ٩٥]

وقال تعالى بعد قصة قوم لوط أيضا : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ)

[١٥ / الحجر : ٧٨ ـ ٧٩]

وقال تعالى بعد قصتهم : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ* قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ* فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

[٢٦ / الشعراء : ١٧٦ ـ ١٩١]

كان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم «مدين» التي هي قريبة (١) من أرض معان من أطراف الشام ، مما يلي ناحية الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط ، وكانوا بعدهم بمدة قريبة. ومدين قبيلة عرفت بهم (٢) وهم من بني مدين بن مديان بن إبراهيم الخليل.

وشعيب نبيهم هو ابن ميكيل (٣) بن يشجن ، ذكره ابن إسحاق.

قال : ويقال له بالسريانية يترون ، وفي هذا نظر. ويقال شعيب بن يشخر بن لاوى بن

__________________

(١) م : قرية.

(٢) م : مدينة عرفت بها القبيلة.

(٣) م : مكيل.

١٩٠

يعقوب ويقال شعيب بن نويب بن عيفا (١) بن مدين بن إبراهيم ، ويقال شعيب بن صيفور بن عيفا ابن ثابت بن مدين بن إبراهيم ، وقيل غير ذلك في نسبه.

قال ابن عساكر : ويقال جدته ، ويقال أمه ، بنت لوط.

وكان ممن آمن بإبراهيم وهاجر معه ودخل معه دمشق.

وعن وهب بن منبه أنه قال : شعيب وملغم ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق بالنار ، وهاجرا معه إلى الشام ، فزوجهما بنتي لوط عليه‌السلام.

ذكره ابن قتيبة.

وفي هذا كله نظر. والله تعالى أعلم.

وذكر أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة سلمة بن سعد (٢) العنزي : أنه قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم : وانتسب إلى عنزة ، فقال : نعم الحي عنزة ، مبغى (٣) عليهم منصورون رهط شعيب (٤) وأحبار موسى».

فلو صح هذا لدل على أن شعيبا صهر (٥) موسى وأنه من قبيلة من العرب عاربة يقال لهم عنزة ، لا أنهم من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان ، فإن هؤلاء بعده بدهر طويل. والله أعلم.

وفي حديث أبي ذر الذي في صحيح ابن حبان في ذكر الأنبياء والرسل قال : أربعة من العرب :

«هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر».

وكان بعض السلف يسمي شعيبا خطيب الأنبياء. ويعني لفصاحته وعلو عبارته وبلاغته في دعاية قومه إلى الإيمان برسالته.

وقد روى ابن إسحاق بن بشر عن جويبر ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ذكر شعيبا قال : «ذاك خطيب الأنبياء».

وكان أهل مدين كفارا يقطعون السبيل ويخيفون المارة ، ويعبدون الأيكة ، وهي شجرة من الأيك حولها غيضة ملتفة بها.

وكانوا من أسوأ الناس معاملة ؛ يبخسون المكيال والميزان ، ويطففون فيهما ، يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص.

فبعث الله فيهم رجلا منهم وهو رسول الله شعيب عليه‌السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا

__________________

(١) و : غبها.

(٢) و : سعيد.

(٣) و : يبغي.

(٤) م : قوم شعيب.

(٥) م : من موسى.

١٩١

شريك له ، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة من بخس الناس أشياءهم وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم ، فآمن به بعضهم وكفر أكثرهم ، حتى أحل الله بهم البأس الشديد. وهو الولي الحميد.

ا قال تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ، قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي دلالة وحجة واضحة ، وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به وأنه أرسلني ، وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم ينقل إلينا تفصيلها (١) ، وإن كان هذا اللفظ دل عليها إجمالا.

(فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها.)

أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم ، وتوعدهم على خلاف ذلك فقال : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) ـ أي طريق (ـ تُوعِدُونَ) أي تتوعدون الناس بأخذ أموالهم من مكوس وغير ذلك وتخيفون السبل.

قال السدي في تفسيره عن الصحابة : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) أنهم كانوا يأخذون العشور من أموال المارة.

وقال إسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : كانوا قوما طغى ة بغاة يجلسون على الطريق ، يبخسون الناس ، يعني يعشرونهم وكانوا أول من سن ذلك.

(وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً) نهاهم (٢) عن قطع الطريق الحسية الدنيوية ، المعنوية الدينية.

(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ، وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم في تكثيرهم بعد القلة ، وحذرهم نقمة الله بهم إن (٣) خالفوا ما أرشدهم إليه ودلهم عليه. كما قال لهم في القصة الأخرى : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) أي لا تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه (٤) فيمحق الله بركة ما في أيديكم (٥) ؛ ويفقركم ويذهب ما به يغنيكم.

وهذا مضاف إلى عذاب الآخرة ، ومن جمع له هذا وهذا ، فقد باء بالصفقة الخاسرة!

__________________

(١) م : لم تنقل الينا تفصيلا.

(٢) و : فنهاهم.

(٣) و : وإن.

(٤) و : به ت.

(٥) و : ما بأيديكم.

١٩٢

فنهاهم أولا عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف ، وحذرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم ، وعذابه الأليم في أخراهم ، وعنفهم أشد تعنيف.

ثم قال لهم آمرا بعد ما كان عن ضده زاجرا : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ.)

قال ابن عباس والحسن البصري : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) أي رزق الله خير لكم من أخذ أموال الناس. وقال ابن جرير : ما يفضل (١) لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان ، خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف. قال : وقد روي هذا عن ابن عباس.

وهذا الذي قاله وحكاه حسن ، وهو شبيه بقوله تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) يعني أن القليل من الحلال خير لكم من الكثير من الحرام ، فإن الحلال مبارك وإن قل ، والحرام ممحوق وإن كثر. كما قال تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ.)

[٢ / البقرة : ٢٧٦]

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الربا وإن كثر فإن مصيره (٢) إلى قل».

رواه أحمد. أي إلى قلة.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما» (٣).

والمقصود أن الربح حلال مبارك فيه وإن قل ، والحرام لا يجدي وإن كثر ، ولهذا قال نبي الله شعيب : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وقوله : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي أفعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله ورجاء ثوابه ، لا لأراكم أنا وغيري.

__________________

(١) م : ما فضل.

(٢) الحديث رواه أحمد في مسنده (٣٧٥٤ / شاكر) وابن ماجة في سننه رقم (٢٢٧٩ / حلبي) والحاكم في المستدرك (٢ / ٣٧) ، (٤ / ٣١٧ / ٣١٨) وصححه ووافقه الذهبي.

غريب اللغة :

القل : بضم القاف وتشديد اللام : القلة. كالذل والذلة.

(٣) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٣٤ / ١٩ ، ٤٢ ـ ٤٧). رواه مسلم (٢١ / ٤٣ ـ ٤٧). ورواه أبو داود (٢٢ / ٥١). والترمذي (١٢ / ٢٣). ورواه النسائي (٤٤ / ٤ ، ٨ ـ ١٠). ورواه ابن ماجة (١٢ / ١٧). ورواه الدارمي في سننه (١٨ / ١٥). ورواه مالك في الموطأ (٣١ / ٧٩). ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده (٩٢٢ ، ١٣١٦ ، ١٨٦٠ ، ١٨٨٢ ، ٥٦٨). ورواه أحمد في مسنده (٣ / ٤٠٢ ، ٤٠٣ ، ٤٣٤). ز

١٩٣

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا ، أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا ، إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ). يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والتنقص والتهكم : أصلاتك هذه التي تصليها ، هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلا إلهك؟ ونترك (١) ما يعبد آباؤنا الأقدمون وأسلافنا الأولون؟ أو ألا (٢) نتعامل إلا على الوجه الذي ترتضيه أنت ، ونترك المعاملات التي تأباها وإن كنا نحن نرضاها؟

«إنك لأنت الحليم الرشيد» قال ابن عباس وميمون بن مهران وابن جريج وزيد بن أسلم وابن جرير : يقول ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ، وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ، وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

هذا تلطف معهم في العبارة ، ودعوة لهم الى الحق بأبين إشارة.

يقول لهم : «أرأيتم» أيها المكذبون (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على أمر بين من الله تعالى أنه أرسلني إليكم ، (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) يعني النبوة والرسالة ، يعني وعمى عليكم معرفتها ، فأي حيلة لي فيكم؟

وهذا كما تقدم عن نوح عليه‌السلام أنه قال لقومه سواء.

وقوله : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي لست آمركم بالأمر إلا وأنا أول فاعل له ، وإذا نهيتكم عن الشيء فأنا أول من يتركه.

وهذه هي الصفة المحمودة العظيمة ، وضدها هي المردودة الذميمة ، كما تلبس بها علماء بني إسرائيل في آخر زمنهم ، وخطباؤهم الجاهلون. قال الله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) وذكرنا عندها في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه ـ أي تخرج أمعاؤه من بطنه ـ فيدور بها كما يدور الحمار برحاه ، فيجتمع أهل النار فيقولون : يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول : بلى. كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه».

وهذه صفة مخالفي الأنبياء من الفجار [و](٣) الأشقياء ، فأما السادة من النجباء ، والألباء من العلماء ، الذين يخشون ربهم بالغيب ، فحالهم كما قال نبي الله شعيب : «وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت» أي ما أريد في جميع أمري إلا الإصلاح في الفعال والمقال بجهدي وطاقتي.

__________________

(١) و : و : ونذر.

(٢) و : أو أنا.

(٣) و : فهذه.

١٩٤

(وَما تَوْفِيقِي) أي في جميع أحوالي (إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي عليه أتوكل في سائر الأمور ، وإليه مرجعي ومصيري في كل أمري. وهذا مقام ترغيب.

ثم انتقل إلى نوع من الترهيب فقال : (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ ، وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ).

أي لا يحملنكم مخالفتي وبغضكم ما جئتكم به على الاستمرار على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم ؛ فيحل الله بكم من العذاب والنكال ، نظير ما أحله بنظرائكم وأشباهكم ، من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين المخالفين.

وقوله : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) ، قيل معناه : في الزمان ، أي ما بالعهد من قديم ، مما قد بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم. وقيل معناه : وما هم منكم ببعيد في المحلة والمكان. وقيل في الصفات والأفعال المستقبحات ، من قطع الطريق ، وأخذ أموال الناس جهرة وخفية بأنواع الحيل والشبهات.

والجمع بين هذه الأقوال ممكن : فإنهم لم يكونوا (١) بعيدين منهم لا زمانا ولا مكانا ولا صفات.

ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) أي أقلعوا عما أنتم فيه ، وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود ؛ فإنه من تاب إليه ، تاب عليه ، فإنه رحيم بعباده ، أرحم بهم من الوالدة بولدها ، (وَدُودٌ) وهو الحبيب ولو بعد التوبة على عبده ، ولو من الموبقات العظام.

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً).

روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنهم قالوا : كان ضرير البصر. وقد روى في حديث مرفوع : أنه بكى من حب الله حتى عمي ، فرد الله عليه بصره ؛ وقال : «يا شعيب أتبكي خوفا (٢) من النار؟ أو من شوقك إلى الجنة فقال : بل من محبتك (٣) ، فإذا نظرت إليك فلا أبالي ماذا يصنع بي. فأوحى الله إليه : هنيئا لك يا شعيب لقائي ، فلذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي».

رواه الواحدي عن أبي الفتح محمد بن علي الكوفي ، عن علي بن الحسن بن بندار ، عن عبد الله محمد بن إسحاق الرملي عن هشام بن عمار ، عن إسماعيل بن عباس ، عن يحيى بن سعيد ، عن شداد بن أوس (٤) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه.

__________________

(١) و : فإنهم غير بعيدين.

(٢) و : من خوفك من النار.

(٣) و : فقال لمحبتك.

(٤) م : ابن أمية. وهو تحريف.

١٩٥

وهو غريب جدا ، وقد ضعفه الخطيب البغدادي.

* * *

وقولهم : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) هذا من كفرهم البليغ ، وعنادهم الشنيع ، حيث قالوا : (ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) أي ما نفهمه ولا نعقله ، لأنه لا نحبه ولا نريده ، وليس لنا همة إليه ، وإقبال عليه.

وهو كما قال كفار قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ).

وقولهم : (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) أي مضطهدا مهجورا. (وَلَوْ لا رَهْطُكَ) أي قبيلتك وعشيرتك فينا (لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ).

(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) أي تخافون قبيلتي وعشيرتي وتراعوني بسببهم ، ولا تخافون عذاب الله ولا تراعوني لأني رسول الله؟ فصار رهطي أعز عليكم من الله (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي جانب الله وراء ظهوركم (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي هو عليم بما تعملونه وما تصنعونه ، محيط بذلك كله ، وسيجزيكم عليه يوم ترجعون إليه.

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ* مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ).

هذا أمر تهديد ووعيد أكيد ، بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم وشاكلتهم ، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ، ومن يحل عليه الهلاك والبوار (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) أي في هذه الحياة الدنيا (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي في الآخرة (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) أي مني ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر.

(وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) هذا كقوله : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا ، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.)

[٧ / الأعراف : ٨٧]

* * *

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ* قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها ، وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا ، وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ.)

[٧ / الأعراف : ٨٨ ، ٨٩]

١٩٦

طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم الى ملتهم ، فانتصب شعيب للمحاجة عن قومه فقال : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟) أي هؤلاء لا يعودون إليكم اختيارا ، وإنما يعودون اليكم إن عادوا ، اضطرارا مكرهين ؛ وذلك لأن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد ، ولا يرتد أحد عنه ، ولا محيد لأحد منه.

(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها ، وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا ، وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أي فهو كافينا ، وهو العاصم لنا وإليه ملجأنا في جميع أمرنا.

ثم استفتح على قومه ، واستنصر ربه عليهم في تعجيل ما يستحقونه إليهم فقال : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) أي الحاكمين. فدعا عليهم ، والله لا يرد دعاء رسله إذا استنصروه على الذين جحدوه وكفروه ، ورسوله خالفوه.

ومع هذا صمموا على ما هم عليه مشتملون ، وبه متلبسون : (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ).

قال الله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) ذكر في سورة الأعراف أنهم أخذتهم رجفة ، أي رجفت بهم أرضهم ، وزلزلت زلزالا شديدا أزهقت أرواحهم من أجسادها ، وصيرت حيوان أرضهم كجمادها ، وأصبحت جثثهم جاثية ؛ لا أرواح فيها ولا حركات بها ، ولا حواس لها.

وقد جمع الله عليهم أنواعا من العقوبات ، وصنوفا من المثلات ، وأشكالا من البليات ، وذلك لما اتصفوا به من قبيح الصفات ، سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات ، وصيحة عظيمة أخمدت الأصوات ، وظلة أرسل عليهم منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات.

ولكنه تعالى أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها ويوافق طباقها ؛ في سياق قصة الأعراف أرجفوا نبي الله وأصحابه ، وتوعدوهم بالإخراج من قريتهم ، أو ليعودون في ملتهم راجعين. فقال تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) فقابل الإرجاف بالرجفة ، والإخافة بالخيفة ، وهذا مناسب لهذا السياق ومتعلق بما تقدمه من السياق».

وأما في سورة هود : فذكر أنهم أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ، وذلك لأنهم قالوا لنبي الله على سبيل التهكم والاستهزاء والتنقص : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) فناسب أن يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكلام القبيح ، الذي واجهوا به هذا الرسول الكريم الأمين الفصيح ، فجاءتهم صيحة (١) أسكتتهم مع رجفة أسكنتهم.

__________________

(١) و : فنجاءهم في صيحة.

١٩٧

وأما في سورة الشعراء فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة ، وكان ذلك إجابة لما طلبوا ، وتقريبا إلى ما إليه رغبوا ، فإنهم قالوا : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ* فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ).

قال الله تعالى وهو السميع العليم : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره : أن أصحاب الأيكة أمة أخرى غير أهل مدين فقوله ضعيف.

وإنما عمدتهم شيئان : أحدهما أنه قال : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) ولم يقل أخوهم كما قال : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً).

والثاني : أنه ذكر عذابهم بيوم الظلة ، وذكر في أولئك الرجفة أو الصيحة.

والجواب عن الأول أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) لأنه وصفهم بعبادة الأيكة ، فلا يناسب ذكر الأخوة هاهنا ولما نسبهم إلى القبيلة ساغ ذكر شعيب بأنه أخوهم.

وهذا الفرق من النفائس اللطيفة العزيزة الشريفة.

وأما احتجاجهم بيوم الظلة ؛ فإن كان دليلا بمجرده على أن هؤلاء أمة أخرى ، فليكن تعداد الانتقام بالرجفة والصيحة دليلا على أنهما أمتان أخريان ، وهذا لا يقوله أحد يفهم شيئا من هذا الشأن.

فأما الحديث الذي أورده الحافظ ابن عساكر في ترجمة النبي شعيب عليه‌السلام ، من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، عن أبيه ، عن معاوية بن هشام ، عن هشام بن سعد ، عن شقيق ابن أبي هلال ، عن ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو مرفوعا : «إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا النبي عليه‌السلام».

فإنه حديث غريب. وفي رجاله من تكلم فيه. والأشبه أنه من كلام عبد الله بن عمرو ، مما أصابه يوم اليرموك من تلك الزاملتين من أخبار بني إسرائيل والله أعلم.

ثم قد ذكر الله عن أهل الأيكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان ، فدل على أنهم أمة واحدة ، أهلكوا بأنواع من العذاب. وذكر في كل موضع ما يناسب من الخطاب.

وقوله : (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ذكروا أنهم أصابهم حر

١٩٨

شديد ، وأسكن الله هبوب الهواء عنهم سبعة أيام ، فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل ، ولا دخولهم في الأسراب : فهربوا من محلتهم إلى البرية ، فأظلتهم سحابة ، فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها ، فلما تكاملوا فيه أرسلها الله ترميهم بشررر وشهب ، ورجفت بهم الأرض ، وجاءتهم صيحة من السماء ، فأزهقت الأرواح ، وخربت الأشباح.

(فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) ونجى الله شعيبا والذين آمنوا معه

(فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) ونجى الله شعيبا ومن معه من المؤمنين ، كما قال تعالى وهو أصدق القائلين :

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ* كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ).

قال تعالى : (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ* فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) وهذا في مقابلة قولهم : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ.)

[٧ / الأعراف : ٩٠]

* * *

ثم ذكر تعالى عن نبيهم : أنه نعاهم إلى أنفسهم موبخا ومؤنبا ومقرعا ، فقال تعالى :

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ).

أي أعرض عنهم موليا عن محلتهم بعد هلكتهم قائلا : (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ). أي قد أديت ما كان واجبا على من البلاغ التام والنصح الكامل ، وحرصت على هدايتكم بكل ما أقدر عليه وأتوصل إليه ، فلم ينفعكم ذلك ، لأن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين فلست أتأسف بعد هذا عليكم ، لأنكم لم تكونوا تقبلون النصيحة ، ولا تخافون يوم الفضيحة.

ولهذا قال : (فَكَيْفَ آسى) أي أحزن (عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) أي لا يقبلون الحق ولا يرجعون إليه فحل بهم من بأس الله الذي لا يرد ما لا يدفع ولا يمانع ، ولا محيد لأحد أريد به عنه ، ولا مناص عنه.

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس : أن شعيبا عليه‌السلام كان بعد يوسف عليه‌السلام. وعن وهب بن منبه : أن شعيبا عليه‌السلام مات بمكة ومن معه من المؤمنين ، وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني سهم.

١٩٩

باب ذكر ذرية إبراهيم عليه الصلاة والتسليم

قد قدمنا قصته مع قومه وما كان من أمرهم ، وما آل إليه أمره عليه والصلاة والسلام والتحية والإكرام.

وذكرنا ما وقع في زمانه من قصة قوم لوط ، وأتبعنا ذلك بقصة مدين قوم شعيب عليه‌السلام ، لأنها قرينتها في كتاب الله عزوجل في مواضع متعددة ؛ فذكر تعالى بعد قصة قوم لوط ، قصة مدين ، وهم أصحاب الأيكة على الصحيح كما قدمنا ؛ فذكرناها تبعا لها اقتداء بالقرآن العظيم.

ثم نشرع الآن في الكلام على تفضيل ذرية إبراهيم عليه‌السلام ، لأن الله جعل في ذريته النبوة والكتاب ، فكل نبي أرسل بعده فمن ولده.

٢٠٠