قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

للوط عليه‌السلام (١).

قالوا : فتزوج إبراهيم سارة ، وناحور «ملكا» ابنة هاران يعنون ابنة أخيه.

قالوا : وكانت سارة عاقرا لا تلد.

قالوا : وانطلق تارخ بابنه إبراهيم وامرأته سارة وابن أخيه لوط بن هاران ، فخرج بهم من أرض الكلدانيين الى أرض الكنعانيين ، فنزلوا حران فمات فيها تارخ وله مائتان وخمسون سنة وهذا يدل على أنه لم يولد بحران ، وإنما مولده بأرض الكلدانيين وهي أرض بابل وما والاها.

ثم ارتحلوا قاصدين أرض الكنعانيين ، وهي بلاد بيت المقدس ، فأقاموا بحران وهي أرض الكلدانيين في ذلك الزمان ، وكذلك أرض الجزيرة والشام أيضا. وكانوا يعبدون الكواكب السبعة.

والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هذا الدين ، يستقبلون القطب الشمالي ويعبدون الكواكب السبعة بأنواع من الفعال والمقال. ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل لكوكب منها ، ويعملون لها أعيادا وقرابين.

وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب والأصنام وكل من كان على وجه الأرض كانوا كفارا ، سوى ابراهيم الخليل وامرأته وابن أخيه لوط عليهم‌السلام.

وكان الخليل عليه‌السلام هو الذي أزال الله به تلك الشرور ، وأبطل به ذاك الضلال ؛ فإن الله سبحانه وتعالى آتاه رشده في صغره ، وابتعثه رسولا واتخذه خليلا في كبره.

قال الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ.)

[٢١ / الأنبياء : ٥١]

وقال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ* أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ* قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ* وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ

__________________

(١) ابن عساكر (٢ / ١٣٧ / تهذيب).

١٢١

بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ* فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.)

[٢٩ / العنكبوت : ١٦ ـ ٢٧]

ثم ذكر تعالى مناظرته لأبيه وقومه كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وكان أول دعوته لأبيه ، وكان أبوه ممن يعبد الأصنام ، لأنه أحق الناس بإخلاص النصيحة له كما قال تعالى

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً* يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا* يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا* يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا* قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا* قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا* وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا.)

[١٩ / مريم : ٤١ ـ ٤٨]

فذكر تعالى ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة ، وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة وأحسن إشارة ، بين له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها ولا تبصر مكانه ، فكيف تغني عنه شيئا أو تفعل به خيرا من رزق أو نصر؟ ثم قال له منبها على ما أعطاه الله من الهدى والعلم النافع وإن كان أصغر سنا من أبيه : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي مستقيما واضحا سهلا حنيفا يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك.

فلما عرض هذا الرشد عليه وأهدى هذه النصيحة إليه ، لم يقبلها منه ولا أخذها عنه ، بل تهدده وتوعده قال : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) قيل بالمقال وقيل بالفعال. (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي واقطعني وأطل هجراني.

فعندها قال له إبراهيم : «سلام عليك» أي لا يصلك مني مكروه ولا ينالك مني أذى ، بل أنت سالم من ناحيتي. وزاده خيرا فقال : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا). قال ابن عباس وغيره : أي لطيفا ، يعني في أن هداني لعبادته والإخلاص له. ولهذا قال : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي ، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا).

وقد استغفر له إبراهيم عليه‌السلام كما وعده في أدعيته ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما قال تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ

١٢٢

تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).

وقال البخاري : حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني أخي عبد الحميد ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : يا رب إنك وعدتني ألا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله : إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقال : يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذبح متلطخ ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» (١). هكذا رواه في قصة إبراهيم منفردا.

وقال في التفسير : وقال إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب (٢) ، عن سعيد المقبري ، عن أبيه عن أبي هريرة.

وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن حفص بن عبد الله ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن طهمان به ، وقد رواه البزار عن حديث حماد بن سلمة عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، وفي سياقه غرابة ، ورواه أيضا من حديث قتادة عن عقبة ابن عبد الغافر ، عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه.

وقال تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). هذا يدل على أن اسم أبي إبراهيم آزر ، وجمهور أهل النسب ، منهم ابن عباس ، على أن اسم أبيه تارح. وأهل الكتاب يقولون تارخ بالخاء المعجمة ، فقيل : إنه لقب بصنم كان يعبده اسمه آزر.

وقال ابن جرير : والصواب أن اسمه آزر ولعل له إسمين علمين ، أو أحدهما لقب والأخر علم.

وهذا الذي قاله محتمل. والله أعلم.

* * *

ثم قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي ، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ*

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٦٠ / ٨ / ٣٣٥٠ / فتح). ورواه ابن عساكر في تاريخه من نفس طريق البخاري (٢ / ١٣٧ / تهذيب).

(٢) م : ابن أبي ذؤيب. وهو تحريف.

١٢٣

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ، فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ؟ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً ، وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ* وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.)

[٦ / الأنعام : ٧٥ ـ ٨٣]

وهذا المقام مقام مناظرة لقومه ، وبيان لهم أن هذه الأجرام المشاهدة من الكواكب النيرة ، لا تصلح للألوهية ، ولا أن تعبد مع الله عزوجل ، لأنها مخلوقة مربوبة مصنوعة مدبرة مسخرة ، تطلع تارة وتأفل أخرى ، فتغيب عن هذا العالم ، والرب تعالى لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية ، بل هو الدائم الباقي بلا زوال ، لا إله إلا هو ولا رب سواه.

فبين لهم أولا عدم صلاحية الكوكب لذلك قيل هو الزهرة ؛ ثم ترقى منها إلى القمر الذي هو أضوأ منها وأبهى من حسنها ، ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياء وسناء وبهاء ، فبين أنها مسخرة مسيرة مقدرة مربوبة كما قال تعالى :

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ.)

[٤١ / فصلت : ٣٧]

ولهذا قال : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) أي طالعة (قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ ، وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) أي لست أبالي هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله ، فإنها لا تنفع شيئا ولا تسمع ولا تعقل ، بل هي مربوبة مسخرة كالكواكب ونحوها ، أو مصنوعة منحوتة منجورة.

والظاهر أن موعظته هذه في الكواكب لأهل حران ، فإنهم كانوا يعبدونها وهذا يرد قول من زعم أنه قال هذا حين خرج من السرب لما كان صغيرا ، كما ذكره ابن إسحاق وغيره وهو مستند إلى أخبار إسرائيلية لا يوثق بها ، ولا سيما إذا خالفت الحق.

* * *

وأما أهل بابل فكانوا يعبدون الأصنام ، وهم الذين ناظرهم في عبادتها وكسرها عليهم ، وأهانها وبين بطلانها ، كما قال تعالى : (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ

١٢٤

الدُّنْيا ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ.)

وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ* قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ* قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ* قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ* وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ* فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ* قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ* قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ* قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ* قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ* قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ* فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ* قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ* قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ* قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ* وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ.)

[٢١ / الأنبياء : ٥١ ـ ٧٠]

وقال تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ* قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ* قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ* قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ* الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ* رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)

[٢٦ / الشعراء : ٦٩ ـ ٨٣]

وقال تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ، إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ* أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ* فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ* فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ* فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ* فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ* فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ* ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ* فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ* فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ* قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ* قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ* فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ.)

[٣٧ / الصافات : ٨٣ ـ ٩٨]

١٢٥

يخبر الله تعالى عن إبراهيم خليله عليه‌السلام ، أنه أنكر على قومه عبادة الأوثان وحقرها وعندهم وصغرها وتنقصها ، فقال : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ)؟ أي معتكفون عندها وخاضعون لها ، قالوا : (وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ). ما كان حجتهم إلا صنيع الآباء والأجداد ، وما كانوا عليه من عبادة الأنداد.

(قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) كما قال تعالى : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ* أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ* فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ). قال قتادة : فما ظنكم به أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟

وقال لهم : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) سلموا له أنها لا تسمع داعيا ولا تنفع ولا تضر شيئا ، وإنما الحامل لهم على عبادتها الاقتداء بأسلافهم ومن هو مثلهم في الضلال من الآباء الجهال. ولهذا قال لهم : (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ).

وهذا برهان قاطع على بطلان إلهية ما ادعوه من الأصنام ؛ لأنه تبرأ منها وتنقص بها ، فلو كانت تضر لضرته ، أو تؤثر لأثرت فيه.

(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ)؟ ويقولون : هذا الكلام الذي تقوله لنا وتنتقص به آلهتنا ، وتطعن بسببه في آبائنا أتقوله (١) محقا جادا فيه أم لاعبا؟

(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) يعني بل أقول لكم ذلك جادا محقا ، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ، ربكم ورب كل شيء ، فاطر السموات والأرض ، الخالق لهما على غير مثال سبق. فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، وأنا على ذلكم من الشاهدين.

وقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) أقسم ليكيدن هذه الأصنام التي يعبدونها بعد أن يولوا مدبرين إلى عيدهم.

قيل : إنه قال هذا خفية في نفسه. وقال ابن مسعود : سمعه بعضهم.

وكان لهم عيد يذهبون إليه في كل عام (٢) مرة إلى ظاهر البلد ، فدعاه أبوه ليحضره فقال إني سقيم. كما قال تعالى : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ* فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) عرض لهم في الكلام حتى توصل إلى مقصوده من إهانة أصنامهم ونصرة دين الحق ، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي تستحق أن تكسر وأن تهان غاية الإهانة.

__________________

(١) و : تقوله.

(٢) و : عيد.

١٢٦

فلما خرجوا إلى عيدهم ، واستقر هو في بلدهم (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) أي ذهب إليها مسرعا مستخفيا ، فوجدها في بهو عظيم ، وقد وضعوا بين أيديها أنواعا من الأطعمة قربانا إليها فقال لها على سبيل التهكم والازدراء (أَلا تَأْكُلُونَ* ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ* فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) لأنها أقوى وأبطش وأسرع وأقهر ، فكسرها بقدوم في يده كما قال تعالى : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) أي حطاما ، كسرها كلها (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ). قيل إنه وضع القدوم في يد الكبير ، إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار!

فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم (قالُوا : مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون ، وهو ما حل بآلهتهم التي كانوا يعبدونها ، فلو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها من أرادها بسوء لكنهم قالوا من جهلهم وقلة عقلهم وكثرة ضلالهم وخبالهم : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

(قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) أي يذكرها بالعيب والتنقص لها والازدراء بها ، فهو المقدم عليها والكاسر لها. وعلى قول ابن مسعود ، أي يذكرهم بقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ).

(قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أي في الملأ الأكبر على رؤوس الأشهاد ، لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كلامه ، ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه.

وكان هذا أكبر مقاصد الخليل عليه‌السلام أن يجتمع الناس كلهم ، فيقيم على جميع عباد الأصنام الحجة على بطلان ما هم عليه ، كما قال موسى عليه‌السلام لفرعون : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى).

* * *

فلما اجتمعوا وجاءوا به كما ذكروا (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ* قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا). قيل معناه : هو الحامل لي على تكسيرهم ، وإنما عرض لهم في القول (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ).

وإنما أراد بقوله هذا أن يبادروا إلى القول بأن هذه لا تنطق ، فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات.

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي فعادوا على أنفسهم بالملامة ، فقالوا إنكم أنتم الظالمون. أي في تركها لا حافظ لها ولا حارس عندها.

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) قال السدي : أي ثم رجعوا الى الفتنة ، فعلى هذا يكون قوله :

(إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي في عبادتها.

١٢٧

وقال قتادة : أدركت القوم حيرة سوء أي فأطرقوا ثم قالوا : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أي لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا تنطق فكيف تأمرنا بسؤالها!

فعند ذلك قال لهم الخليل عليه‌السلام : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

كما قال : (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) قال مجاهد : يسرعون : قال : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أي كيف تعبدون أصناما أنتم تنحتونها من الخشب والحجارة ، وتصورونها وتشكلونها كما تريدون (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ).

وسواء كانت : «ما» مصدرية أو بمعنى الذي ، فمقتضى الكلام أنكم مخلوقون ، وهذه الأصنام مخلوقة ، فكيف يتعبد مخلوق لمخلوق مثله؟ فإنه ليست عبادتكم لها بأولى من عبادتها لكم.

وهذا باطل ، فالآخر باطل للتحكم ؛ إذ ليست العبادة تصلح ولا تجب (١) إلا للخالق وحده لا شريك له.

* * *

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ* فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ).

عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا وغلبوا ، ولم تبق لهم حجة ولا شبهة إلى استعمال قوتهم وسلطانهم ، لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم ، فكادهم الرب جل جلاله ؛ وأملى كلمته ودينه وبرهانه كما قال تعالى : (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ* قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ* وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ).

وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطبا من جميع ما يمكنهم من الأماكن ، فمكثوا مدة يجمعون له حتى إن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا لحريق إبراهيم ، ثم عمدوا إلى حوبة (٢) عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب وأطلقوا فيه النار ، فاضطرمت وأججت والتهبت وعلاها شرر لم ير مثله قط.

ثم وضعوا إبراهيم عليه‌السلام في كفة منجنيق (٣) صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له «هيزن» وكان أول من صنع المجانيق ، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول : لا إله إلا أنت سبحانك «رب العالمين» (٤) لك الحمد ولك الملك ، لا شريك لك.

__________________

(١) و : تجب ولا تصلح.

(٢) الحوبة : الحفرة.

(٣) المنجنيق : آلة ترمي بها الحجارة في الحرب.

(٤) رواه ابن عساكر في تاريخه (٢ / ١٤٧ / تهذيب) وفيه عاصم بن أبي النجود وقد سبقت ترجمته.

١٢٨

فلما وضع الخليل عليه‌السلام في كفة المنجنيق مقيدا مكتوفا ثم ألقوه منه إلى النار قال :

حسبنا الله ونعم الوكيل ، كما روى البخاري عن ابن عباس أنه قال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد حين قيل له : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً ، وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) الآية.

وقال أبو يعلى : حدثنا أبو هشام الرفاعي ، حدثنا إسحق بن سليمان ، عن أبي جعفر الرازي ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما ألقى إبراهيم في النار قال : اللهم إنك في السماء واحد ، وأنا في الأرض واحد أعبدك!»

وذكر بعض السلف أن جبريل عرض له في الهواء فقال : يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا!

ويروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنه قال : جعل ملك المطر يقول متى أومر فأرسل المطر؟ فكان أمر الله أسرع.

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ). قال علي بن أبي طالب : أي لا تضربه.

وقال ابن عباس وأبو العالية : لولا أن الله قال : وسلاما على إبراهيم لآذى إبراهيم بردها.

وقال كعب الأحبار : لم ينتفع أهل الأرض يومئذ بنار ، ولم تحرق منه سوى وثاقه.

وقال الضحاك : يروى أن جبريل عليه‌السلام كان معه يمسح العرق عن وجهه لم يصبه منها شيء غيره.

وقال السدي : كان معه أيضا ملك الظل ، وصار إبراهيم عليه‌السلام في ميل الحوبة حوله نار وهو في روضة خضراء ؛ والناس ينظرون إليه لا يقدرون على الوصول ولا هو يخرج إليهم.

فعن أبي هريرة أنه قال : أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم ، إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال : نعم الرب ربك يا إبراهيم!

وروى ابن عساكر عن عكرمة (١) ، أن أم إبراهيم نظرت إلى ابنها عليه‌السلام فنادته : يا

__________________

(١) الرواية ذكرها ابن عساكر مطولة في تاريخه (٢ / ١٤٥ / تهذيب ونصها :

حكى عكرمة بلفظ «إن نار الدنيا كلها لم ينتفع بها يومئذ أحد من أهلها قال فلما أخرج الله إبراهيم من النار زاد في حسنه وجماله سبعين ضعفا وقال إنه لما ألقى في النار قالت أمه لقد كان ابني يقول إن له ربا يمنعه وأراه يلقي في النار مما ينفعه وإني مطلعة على هذه النار أنظر إلى أبني ما فعل فعملت لها سلما ثم طلعت على السلم حتى إذا أشرفت أبصرت إبراهيم في وسط النار فنادته أمه يا إبراهيم فلما رآها قال لها يا أمه ألا ترين ما صنع الله بي قالت يا بني لو لا أني أخاف النار لمشيت إليك فقال يا أمه انزلي وتعالي فقالت يا بني ادع إلهك أن يجعل لي طريقا فدعا ربه فجعل لها طريقا ثم نزلت فقالت إني أخاف فقال لا تخافي هل تجدين من حر النار شيئا قالت لا فسارت اليه حتى إذا دنت منه ضمته إلى صدرها وجعلت تقبله ـ ـ فقال لها يا أمه ارجعي عما أنت عليه فالتفتت لترجع فإذا بالنار قد التهبت فقالت أسألك بحق إلهك ألا ما دعوت ربك أن يبعد النار عن طريقي فدعا ربه فمرت حتى إذا كانت على رأس الحائط وأرادت؟ ن تنزل نادت يا إبراهيم ابني عليك السلام ثم ذهبت «أ. ه».

١٢٩

بني إني أريد أن أجيء إليك فادع الله أن ينجيني من حر النار حولك ، فقال : نعم. فأقبلت إليه لا يمسها شيء من حر النار ، فلما وصلت إليه اعتنقته وقبلته ثم عادت.

وعن المنهال بن عمرو أنه قال : أخبرت أن إبراهيم مكث هناك إما أربعين وإما خمسين يوما ، وأنه قال : ما كنت أياما وليالي أطيب عيشا إذ كنت فيها ، ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها. صلوات الله وسلامه عليه.

فأرادوا أن ينتصروا فخذلوا ، وأرادوا أن ينتفعوا فاتضعوا ، وأرادوا أن يغلبوا فغلبوا. قال الله تعالى : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) وفي الآية الأخرى (الْأَسْفَلِينَ) ففازوا بالخسارة والسفال هذا في الدنيا ؛ وأما في الآخرة فإن نارهم لا تكون عليهم بردا ولا سلاما ، ولا يلقون فيها تحية ولا سلاما ، بل هي كما قال تعالى : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً).

قال البخاري : حدثنا عبيد الله (١) بن موسى ، أو ابن سلام عنه ، أنبأنا ابن جريج ، عن عبد الحميد بن جبير ، عن سعيد بن المسيب ، عن أم شريك ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقتل الوزغ ، وقال : «كان ينفخ على إبراهيم عليه‌السلام».

ورواه مسلم من حديث ابن جريج ، وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث سفيان ابن عيينة ، كلاهما عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة به.

وقال أحمد ؛ حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ابن جريج ، أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي أمية ، أن نافعا مولى ابن عمر أخبره أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اقتلوا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم». قال : فكانت عائشة تقتلهن.

وقال أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن نافع ، أن امرأة دخلت على عائشة فإذا رمح منصوب فقالت : ما هذا الرمح؟ فقالت : نقتل به الأوزاغ ؛ ثم حدثت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن إبراهيم لما ألقى في النار جعلت الدواب كلها تطفىء عنه إلا الوزغ ، فإنه جعل ينفخها عليه» (٢).

تفرد به أحمد من هذين الوجهين.

__________________

(١) وقع في المخطوطة والمطبوعة «عبد الله» وهذا خطأ والتصويب من البخاري.

(٢) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٦٠ / ٨ / ٣٣٥٩ / فتح). ورواه مسلم في صحيحه (٧ / ٤١ / إستانبول. ورواه أبو داود في سننه كتاب الأدب ـ باب في قتل الأوزاغ (٢ / ١٥٥ / حلبي). ورواه ابن عساكر في تاريخه (٢ / ١٤٦ / تهذيب).

اللغة :

الوزغ : حشرة يقال لكبارها سام أبرص.

١٣٠

وقال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا جرير ، حدثنا نافع ، حدثتني سمامة مولاة الفاكه بن المغيرة ؛ قالت : دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحا موضوعا ؛ فقلت يا أم المؤمنين ، ما تصنعين بهذا الرمح؟ قالت : هذا لهذه الأوزاغ نقتلهن به ؛ فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثنا : «أن إبراهيم حين ألقى في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفىء عنه النار ، غير الوزغ كان ينفخ عليه ، فأمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله» (١).

ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يونس بن محمد عن جرير بن حازم به.

__________________

(١) ورواه ابن عساكر في تاريخه (٢ / ١٤٦ / تهذيب).

١٣١

ذكر مناظرة إبراهيم الخليل مع من أراد أن ينازع الجليل

في إزار العظمة ورداء الكبرياء فادعى الربوبية : وهو أحد العبيد الضعفاء

قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ ؛ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ، وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

يذكر تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد ، الذي ادعى لنفسه الربوبية ، فأبطل الخليل عليه دليله ، وبين كثرة جهله وقلة عقله ، وألجمه الحجة ، وأوضح له طريق المحجة.

قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار : وهذا الملك هو ملك بابل ، واسمه النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح. قاله مجاهد. وقال غيره : نمرود بن فالح بن عابر إبن صالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح.

قال مجاهد وغيره : وكان أحد ملوك الدنيا ، فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة مؤمنان وكافران ؛ فالمؤمنان : ذو القرنين وسليمان ، والكافران : النمرود وبختنصر.

وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة. وكان طغى وبغى ، وتجبر وعتا ، وآثر الحياة الدنيا.

ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، حمله الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الصانع ، فحاج إبراهيم الخليل في ذلك ، وادعى لنفسه الربوبية. فلما قال الخليل : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ).

قال قتادة والسدي ومحمد بن إسحاق : يعني أنه إذا أوتي بالرجلين قد تحتم قتلهما ، فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر فكأنه قد أحيا هذا وأمات الاخر.

وهذا ليس بمعارضة للخليل ، بل هو كلام وخارج عن مقام المناظرة ، ليس بمنع ولا بمعارضة ، بل هو تشغيب محض ، وهو انقطاع في الحقيقة ؛ فإن الخليل استدل على وجود الصانع

١٣٢

بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وموتها ، على وجود فاعل ذلك الذي لا بد من استنادها إلى وجوده ، ضرورة عدم قيامها بنفسها. ولا بد من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة ، من خلقها وتسخيرها ، وتسيير هذه الكواكب والرياح والسحاب والمطر ، وخلق هذه الحيوانات التي توجد مشاهدة ، ثم إماتتها. ولهذا قال إبراهيم : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ).

فقول هذا الملك الجاهل : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) إن عني أنه الفاعل لهذه المشاهدات فقد كابر وعاند. وإن عنى ما ذكره قتادة والسدي ومحمد بن إسحق ، فلم يقل شيئا يتعلق بكلام الخليل ؛ إذ لم يمنع مقدمة ، ولا عارض الدليل.

ولما كان انقطاع معارضة هذا الملك قد تخفى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم ، ذكر دليلا آخر بين وجود الصانع ، وبطلان ما ادعاه النمرود وانقطاعه جهرة :

(فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) أي هذه الشمس مسخرة كل يوم ، تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها ، وهو الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء ، فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحيي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب ، بل قد قهر كل شيء ودان له كل شيء ، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا ، فإن لم تفعله فلست كما زعمت ، وأنت تعلم وكل أحد أنك لا تقدر على شيء من هذا ، بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة أو تنتصر منها.

فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه ، وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه ، ولم يبق له كلام يجيب الخليل به ، بل انقطع وسكت ولهذا قال : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم وبين النمرود يوم أن خرج من النار ، ولم يكن اجتمع به يومئذ ـ فكانت بينهما هذه المناظرة.

وقد روى عبد الرزاق عن معمر ، عن زيد بن أسلم ، أن النمرود كان عنده طعام ، وكان الناس يفدون إليه للميرة ، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة ولم يكن اجتمع به إلا يومئذ فكانت بينهما هذه المناظرة. ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس ، بل خرج وليس معه شيء من الطعام.

فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب ـ فملأ منه عدليه وقال أشغل أهلي إذا قدمت عليهم ، فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام ، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاما طيبا ، فعملت منه طعاما ، ولما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه ، فقال : أني لكم هذا؟ قالت : من الذي جئت به ، فعرف أنه رزق رزقهموه الله عزوجل.

قال زيد بن أسلم : وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ، ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه ،

١٣٣

ثم دعا الثانية فأبى عليه ثم دعا الثالثة فأبى عليه وقال : اجمع جموعك واجمع جموعي.

فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس ، فأرسل الله عليه ذبابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس ، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم ، وتركتهم عظاما بادية ؛ ودخلت واحدة منها في منخر الملك فمكثت في منخره أربعمائة سنة! عذبه الله تعالى بها. فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها ، حتى أهلكه الله عزوجل بها.

١٣٤

ذكر هجرة الخليل عليه‌السلام إلى بلاد الشام

ودخوله الديار المصرية واستقراره بالأرض المقدسة

قال الله : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.)

[٢٩ / العنكبوت : ٢٦ ، ٢٧]

وقال تعالى (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ* وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ* وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ.)

[٢١ / الأنبياء : ٧١ ـ ٧٣]

لما هجر قومه في الله ، وهاجر من بين أظهرهم ، وكانت امرأته عاقرا لا يولد لها ، ولم يكن له من الولد أحد ، بل معه ابن أخيه لوط بن هاران بن آزر ـ وهبه الله تعالى بعد ذلك الأولاد الصالحين ، وجعل في ذريته النبوة والكتاب ، فكل نبي بعث بعده فهو من ذريته ، وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده ، فعلى أحد نسله وعقبه ؛ خلعة من الله وكرامة له ، حين ترك بلاده وأهله وأقرباءه ، وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عزوجل ودعوة الخلق إليه.

والأرض التي قصدها بالهجرة أرض الشام ، وهي التي قال الله عزوجل : (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ).

قاله أبي بن كعب وأبو العالية وقتادة وغيرهم.

وروى العوفي عن ابن عباس قوله : (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) مكة ، ألم تسمع إلى قوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) وزعم كعب الأحبار أنها حران.

وقد قدمنا عن نقل أهل الكتاب : أنه خرج من أرض بابل هو وابن أخيه لوط ، وأخوه ناحور ، وامرأة إبراهيم سارة ، وامرأة أخيه «ملكا» فنزلوا حران ، فمات تارخ أبو إبراهيم بها.

وقال السدي : انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام ، فلقي إبراهيم سارة ـ وهي ابنة ملك حران ـ وقد طعنت على قومها في دينهم ، فتزوجها على ألا يغيرها.

١٣٥

رواه ابن جرير وهو غريب.

والمشهور أنها ابنة عمه هاران الذي تنسب إليه حران.

ومن زعم أنها ابنة أخيه هاران أخت لوط ، كما حكاه السهيلي عن القتيبي والنقاش ، فقد أبعد النجعة وقال بلا علم.

ومن ادعى أن تزويج بنت الأخ كان إذ ذاك مشروعا فليس له على ذلك دليل ، ولو فرض أن هذا كان مشروعا في وقت ـ كما هو منقول عن الربانيين من اليهود ـ فإن الأنبياء لا تتعاطاه. والله أعلم

ثم المشهور أن إبراهيم عليه‌السلام لما هاجر من بابل خرج بسارة مهاجرا من بلاده كما تقدم. والله أعلم.

وذكر أهل الكتاب أنه لما قدم الشام أوحى الله إليه : «إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك فابتنى إبراهيم مذبحا لله شكرا على هذه النعمة ، وضرب قبته شرقي بيت المقدس ثم انطلق مرتحلا ، إلى اليمن ، وأنه كان جوع ، أي قحط وشدة وغلاء ، فارتحلوا إلى مصر.

وذكروا قصة سارة مع ملكها ، وأن إبراهيم قال لها ؛ قولي أنا أخته. وذكروا إخدام الملك إياها هاجر. ثم أخرجهم منها فرجعوا إلى بلاد التيمن ، يعني أرض بيت المقدس وما والاها ، ومع دواب وعبيد وأموال.

وقال البخاري : حدثنا محمد بن محبوب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن محمد ، عن أبي هريرة قال : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ، اثنتان منهن في ذات الله ، قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) ، وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، وقال : بينا هو إذ أتى على جبار من الجبابرة ، فقيل له ، إن ها هنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه وسأله عنها ، فقال : من هذه؟ قال : أختي فأتى سارة فقال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني.

فأرسل إليها ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ ، فقال : ادعى الله لي ولا أضرك ، فدعت الله فأطلق ثم تناولها الثانية مثلها أو أشد ، فقال ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت فأطلق.

فدعا بعض حجبته فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان ، وإنما أتيتموني بشيطان فأخدمها هاجر.

فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده. مهيم؟ فقالت : رد الله يد الكافر أو الفاجر في نحره ، وأخدم هاجر.

قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء» (١).

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٦٠ / ٨ / ٣٣٥٧ / فتح). ورواه مسلم في صحيحه (٤٣ / ١٥٤) ورواه أبو داود في سننه (١٣ / ١٥) ورواه الترمذي في سننه (٤٤ / ١٧ / ٩) ورواه أحمد في مسنده (١ / ٢٨١ ، ٢٩٥) ، (٢ / ٤٠٣) ،.

ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده (٢٧١١).

١٣٦

تفرد به من هذا الوجه موقوفا.

وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن عبد الوهاب الثقفي ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات ، كل ذلك في ذات الله ، قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ،) وبينما هو يسير في أرض جبار من الجبابرة إذ نزل منزلا ، فأتى الجبار فقيل له : إنه قد نزل هاهنا رجل معه امرأة من أحسن الناس ، أرسل إليه فسأله عنها فقال إنها أختي. فلما رجع إليها قال : إن هذا سألني عنك فقلت إنك أختي ، وإنه ليس اليوم مسلم غيري وغيرك ، وإنك أختي ، فلا تكذبيني عنده.

فانطلق بها ، فلما ذهب يتناولها أخذ ، فقال : ادعى الله لي ولا أضرك ، فدعت له فأرسل ، فذهب يتناولها فأخذ مثلها أو أشد منها ، فقال ادعى الله لي ولا أضرك ، فدعت فأرسل ، ثلاث مرات ، فدعا أدنى حشمه فقال : إنك لم تأتني بإنسان ولكن أتيتني بشيطان ، أخرجها وأعطها هاجر.

فجاءت وإبراهيم قائم يصلي. لما أحس بها أنصرف ، فقال : مهيم؟ فقالت : كفى الله كيد الظالم ، وأخدمني هاجر» (١).

وأخرجاه من حديث هشام. ثم قال البزار : لا يعلم أسنده عن محمد عن هريرة إلا هشام.

ورواه غيره موقوفا.

وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن حفص ، عن ورقاء ـ هو أبو عمر اليشكري ـ عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات : قوله حين دعى إلى آلهتهم فقال : (إِنِّي سَقِيمٌ) ، وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وقوله لسارة : «إنها أختي».

قال : ودخل إبراهيم قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة ، فقيل : دخل إبراهيم الليلة بامرأة من أحسن الناس ، قال : فأرسل اليه الملك أو الجبار : من هذه معك؟ قال : أختي ، قال : فأرسل بها ، قال :

فأرسل بها إليه ، وقال : لا تكذبي قولي ، فإني قد أخبرته أنك أختي ، إن ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك.

فلما دخلت عليه قام إليها ، فأقبلت تتوضأ وتصلي وتقول : اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط علي الكافر. قال : فغط حتى ركض برجله.

__________________

(١) روى نحوه ابن عساكر في تاريخه (٢ / ١٤٣). وراجع ما قبله.

١٣٧

قال أبو الزناد : قال أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة إنها قالت : اللهم إن يمت يقل هي قتلته. قال : فأرسل.

قال : ثم قام إليها ، قال فقامت تتوضأ وتصلي وتقول : اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط علي الكافر. قال فغط حتى ركض برجله.

قال أبو الزناد. وقال أبو سلمة عن أبي هريرة إنها قالت : اللهم إن يمت يقل هي قتلته ، قال فأرسل.

قال : فقال في الثالثة أو الرابعة : ما أرسلتم إلي إلا شيطانا ، أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها هاجر.

قال : فرجعت ، فقالت لإبراهيم : أشعرت أن الله رد كيد الكافرين وأخدم وليدة!

تفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط الصحيح.

وقد رواه البخاري عن أبي اليمان ، عن شعيب بن أبي حمزة ، عن أبي الزناد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به مختصرا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سفيان ، عن علي بن زيد بن جدعان ـ عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كلمات إبراهيم الثلاث التي قال : «ما منها كلمة إلا ما حل بها عن دين الله ؛ فقال : إني سقيم. وقال : بل فعله كبيرهم هذا وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي».

فقوله في الحديث : «هي أختي» أي في دين الله. وقوله لها : «إنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك» يعني زوجين مؤمنين غيري وغيرك ويتعين حمله على هذا لأن لوطا كان معهم وهو نبي عليه‌السلام.

وقوله لها لما رجعت إليه : مهيم. معناه ما الخبر. فقالت : إن الله رد كيد الكافرين. وفي رواية : الفاجر وهو الملك ، وأخدم جارية.

وكان إبراهيم عليه‌السلام من وقت ذهب بها إلى الملك ، قام يصلي لله عزوجل ، ويسأله أن يدفع عن أهله ، وأن يرد بأس هذا الذي أراد أهله بسوء. وهكذا فعلت هي أيضا. فلما أراد عدو الله أن ينال منها أمرا قالت إلى وضوئها وصلاتها ، ودعت الله عزوجل بما تقدم من الدعاء العظيم. ولهذا قال تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) فعصمها الله وأصانها لعصمة عبده ورسوله وحبيبه وخليله إبراهيم عليه‌السلام.

وقد ذهب بعض العلماء إلى نبوة ثلاث نسوة : سارة ، وأم موسى ومريم عليهن السلام.

والذي عليه الجمهور أنهن صديقات رضي الله عنهن وأرضاهن.

١٣٨

ورأيت في بعض الآثار أن الله عزوجل كشف الحجاب فيما بين إبراهيم عليه‌السلام وبينها ، فلم يرها منذ خرجت من عنده إلى أن رجعت إليه. وكان مشاهدا لها وهي عند الملك ، وكيف عصمها الله منه ، ليكون ذلك أطيب لقلبه وأقر لعينه وأشد لطمأنينته ، فإنه كان يحبها حبا شديدا ، لدينها وقرابتها منه وحسنها الباهر ، فإنه قيل إنه لم تكن امرأة بعد حواء إلى زمانها ، أحسن منها ، رضي الله عنها. ولله الحمد والمنة.

وذكر بعض أهل التواريخ أن فرعون مصر هذا كان أخا لضحاك الملك المشهور بالظلم ، وكان عاملا لأخيه على مصر. ويقال كان اسمه سنان بن علوان بن عويج بن عملاق لاوذ بن سام بن نوح. وذكر ابن هشام في التيجان : أن الذي أرادها عمرو بن امريء القيس بن مايلون بن سبأ ، وكان على مصر. نقله السهيلي والله أعلم.

* * *

ثم إن الخليل عليه‌السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض اليمن ، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها ، ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل ، وصحبتهم هاجر القبطية المصرية.

ثم إن لوطا عليه‌السلام نزح بما له من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك ، إلى أرض الغور ، والمعروف بغور زغر ؛ فنزل بمدينة سدوم وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان. وكان أهلها أشرارا كفارا فجارا.

وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليل ، فأمره أن يمد بصره وينظر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ، وبشره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر ، وستكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الأرض.

وهذه البشارة اتصلت بهذه الأمة ، قل ما كملت ولا كانت أعم منها في هذه الأمة المحمدية.

ويؤيد ذلك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها».

قالوا : ثم إن طائفة من الجبارين تسلطوا على لوط عليه‌السلام فأسروه ، وأخذوا أمواله واستاقوا أنعامه ، فلما بلغ الخبر إبراهيم الخليل سار إليهم في ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا فاستنقذ لوطا عليه‌السلام واسترجع أمواله ، وقتل من أعداء الله ورسوله خلقا كثيرا وهزمهم وساق في آثارهم حتى وصل إلى شمالي دمشق وعسكر بظاهرها عند برزة ، وأظن مقام إبراهيم إنما سمى لأنه كان موقف جيش الخليل. والله أعلم.

ثم رجع مؤيدا منصورا إلى بلاده ، وتلقاه ملوك بلاد بيت المقدس معظمين له مكرمين خاضعين ، واستقر ببلاده. صلوات الله وسلامه عليه.

١٣٩

ذكر مولد إسماعيل عليه‌السلام من هاجر

قال أهل الكتاب : إن إبراهيم عليه‌السلام سأل الله ذرية طيبة ، وإن الله بشره بذلك. وإنه لما كان لإبراهيم ببلاد بيت المقدس عشرون سنة قالت سارة لإبراهيم عليه‌السلام : إن الرب قد حرمني الولد ، فأدخل على أمتي هذه لعل الله يرزقني منها ولدا.

فلما وهبتها له دخل بها إبراهيم عليه‌السلام ، فحين دخل بها حملت منه قالوا : فلما حملت ارتفعت نفسها وتعاظمت على سيدتها ، فغارت منها سارة فشكت ذلك إلى إبراهيم ، فقال لها :

افعلي بها ما شئت ، فخافت هاجر فهربت فنزلت عند عين هناك. فقال لها ملك من الملائكة : لا تخافي فإن الله جاعل من هذا الغلام الذي حملت خيرا ، وأمرها بالرجوع وبشرها أنها ستلد ابنا وتسميه إسماعيل ، ويكون وحش الناس ، يده على الكل ، ويد الكل به ، ويملك جميع بلاد إخوته.

فشكرت الله عزوجل على ذلك.

وهذه البشارة انطبقت على ولده محمد صلوات الله وسلامه عليه ؛ فإنه الذي به سادت العرب ، وملكت جميع البلاد غربا وشرقا ، وآتاها الله من العلم النافع والعمل الصالح ما لم تؤت أمة من الأمم قبلهم ، وما ذاك إلا بشرف رسولها على سائر الرسل ، وبركة رسالته ويمن سفارته وكماله فيما جاء به ، وعموم بعثته إلى جميع أهل الأرض.

ولما رجعت هاجر وضعت إسماعيل عليه‌السلام.

قالوا : وولدته ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة ، قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة.

ولما ولد إسماعيل أوحى الله إلى إبراهيم يبشره بإسحاق من سارة ، فخر لله ساجدا ، وقال له : قد استجبت لك في إسماعيل وباركت عليه وكثرته ونميته جدا كثيرا ، ويولد له اثنا عشر عظيما ، وأجعله رئيسا لشعب عظيم.

وهذه أيضا بشارة بهذه الأمة العظيمة ، وهؤلاء الاثنا عشر عظيما هم الخلفاء الراشدون الاثنا عشر ، المبشر بهم في حديث عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سمرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يكون اثنا عشر أميرا». ثم قال كلمة لم أفهمها ، فسألت أبي ما قال. قال :

١٤٠