قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

قصة عيسى ابن مريم

عبد الله ورسوله وابن أمته عليه من الله أفضل الصلاة والسلام

قال الله تعالى في سورة آل عمران التي أنزل صدرها وهو ثلاث وثمانون آية منها في الرد على النصارى عليهم لعائن الله ، الذين زعموا أن لله ولدا ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

وكان قد قدم وفد نجران منهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعلوا يذكرون ما هم عليه من الباطل من التثليث في الأقانيم ويدعون بزعمهم أن الله ثالث ثلاثة وهم الذات المقدسة وعيسى ومريم ، على اختلاف فرقهم ، فأنزل الله عزوجل صدر هذه السورة وبيّن فيها أن عيسى عبد من عباد الله خلقه وصوره في الرحم كما صور (١) غيره من المخلوقات وأنه خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم ، وقال له كن فكان (٢) سبحانه وتعالى. وبيّن أصل ميلاد أمه مريم وكيف كان من أمرها وكيف حملت بولدها عيسى ، وكذلك بسط ذلك في سورة مريم كما سنتكلم على ذلك كله بعون الله وحسن توفيقه وهدايته.

فقال تعالى وهو أصدق القائلين : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ* فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.)

[٣ / آل عمران ـ ٣٣ : ٣٧]

يذكر تعالى أنه اصطفى آدم عليه‌السلام والخلص من ذريته المتبعين شرعة الملازمين طاعته ، ثم خصص فقال : «وآل إبراهيم» فدخل فيهم بنو إسماعيل ثم ذكر فضل هذا البيت الطاهر الطيب وهم آل عمران ، والمراد بعمران هذا والد مريم عليها‌السلام.

وقال محمد بن إسحاق : وهو عمران بن باشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن

__________________

(١) و : كما خلق.

(٢) و : فيكون.

٤٨١

موثم بن عزازيا بن أمصيا بن ياوش بن أحريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إيشا بن إيان بن رحبعان (١) بن داود.

وقال أبو القاسم بن عساكر : مريم بنت عمران بن ماثان بن العازر بن اليود بن أخنز بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن أبيود بن زربابيل بن شالتال بن يوحينا بن برشا بن أمون ابن ميشا ابن حزقيا (٢) بن أحاز بن موثام بن عزريا بن يورام بن يوشافاط بن إيشا بن إيبا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليه‌السلام (٣). وفيه مخالفة لما ذكره محمد بن إسحاق.

ولا خلاف أنها من سلالة داود عليه‌السلام وكان أبوها عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه ، وكانت أمها وهي حنة بنت فاقود بن قبيل من العابدات ، وكان زكريا نبي ذلك الزمان زوج أخت مريم أشياع في قول الجمهور ، وقيل زوج خالتها أشياع فالله أعلم.

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أم مريم كانت لا تحبل فرأت يوما طائرا يزق فرخا له فاشتهت الولد فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محررا أي حبيسا في بيت المقدس.

قالوا : فحاضت من فورها فلما طهرت واقعها بعلها فحملت بمريم عليها‌السلام (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) وقرىء بضم التاء (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) أي في خدمة بيت المقدس ، وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خادما من أولادهم.

وقولها : (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) استدل به على تسمية المولود يوم يولد ، وكما ثبت في الصحيحين عن أنس في ذهابه بأخيه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحنك أخاه وسماه عبد الله. وجاء في حديث الحسن عن سمرة مرفوعا «كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه».

ورواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي. وجاء في بعض ألفاظه : «ويدمى» بدل ويسمى وصححه بعضهم والله أعلم.

وقولها : (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) قد استجيب لها في هذا كما تقبل منها نذرها ، فقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مسة الشيطان إلا مريم وابنها» ثم يقول أبو هريرة : واقرأوا إن شئتم «وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم» (٤).

__________________

(١) و : رخيعم.

(٢) م : حزنا.

(٣) الحديث رواه أبو داود في سننه (١٦ / ٢١). ورواه الترمذي في سننه (١٧ / ٢١). ورواه النسائي في سننه (٤٠ / ٥). ورواه أحمد في مسنده (٥ / ٧ ، ١٢ ، ١٧ ، ٢٢). ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده (٩٠٩).

(٤) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٦٠ / ٤٤ / ٣٤٣١ / فتح). ورواه أحمد في مسنده (٢ / ٢٧٤ / حلبي). والآية من سورة آل عمران الآية ٣٦.

٤٨٢

أخرجاه من حديث عبد الرزاق ورواه ابن جرير عن أحمد بن الفرج عن بقية ، عن عبد الله ابن الزبيدي ، عن الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه.

وقال أحمد أيضا : حدثنا إسماعيل بن عمر ، حدثنا أبن أبي ذؤيب ، عن عجلان مولى المشمعل ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بأصبعه إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى عليهما‌السلام» (١).

تفرد به من هذا الوجه. ورواه مسلم عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، عن عمر بن الحارث ، عن أبي يونس ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه.

وقال أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا حفص بن ميسرة ، عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إلا ما كان من مريم وابنها ، ألم تر إلى الصبي حين يسقط كيف يصرخ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : ذلك حين يلكزه الشيطان بحضنيه» (٢).

وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه من هذا الوجه ، ورواه قيس عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين إلا عيسى ابن مريم ومريم» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

وكذا رواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبيد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. بأصل الحديث.

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الملك ، حدثنا المغيرة هو ابن عبد الرحمن الخزامي ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب» (٣). وهذا على شرط الصحيحين ولم يخرجوه من هذا الوجه.

وقوله : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) ذكر كثير من المفسرين أن أمها حين وضعتها لفتها في خروقها ثم خرجت بها إلى المسجد فسلمتها إلى العباد الذين هم مقيمون به ، وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم فتنازعوا فيها ، والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها وكفالة مثلها في صغرها.

ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا في أيهم يكفلها ، وكان زكريا نبيهم في ذلك الزمان ، وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل زوجته أختها أو خالتها على القولين. فشاحوه في ذلك وطلبوا أن يقترع

__________________

(١) الحديث رواه مسلم في صحيحه (٤٣ / ٤٠ / ١٤٧). ورواه أحمد في مسنده (٢ / / ٢٨٨ ، ٢٩٢ / حلبي)

(٢) الحديث رواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٦٨ / حلبي).

(٣) الحديث رواه أحمد في مسنده (٢ / ٥٢٣ / حلبي).

٤٨٣

معهم ، فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة لهم وذلك أن الخالة بمنزلة الأم.

قال الله تعالى : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أي بسبب غلبه لهم في القرعة كما قال تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ). قالوا : وذلك أن كلا منهم ألقى قلمه معروفا به. ثم حملوها ووضعوها في موضع وأمروا غلاما لم يبلغ الحنث فأخرج واحدا منها وظهر قلم زكريا عليه‌السلام. فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية ، وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر فأيهم جرى قلمه على خلاف جرية الماء (١) فهو الغالب ففعلوا فكان قلم زكريا هو الذي جرى على خلاف جرية الماء ، وسارت أقلامهم مع الماء ثم طلبوا منه أن يقترعوا ثالثة فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الأقلام قد انعكس سيرها صعدا فهو الغالب ففعلوا فكان زكريا هو الغالب فكفلها إذ كان أحق بها شرعا وقدر الوجوه عديدة :

قال الله تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.)

[٣ / آل عمران : ٣٧]

قال المفسرون : اتخذ لها زكريا مكانا شريفا من المسجد لا يدخله سواها ، فكانت تعبد الله فيه وتقوم بما يجب عليها من سدانة البيت إذا جاءت نوبتها وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها ، حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل ، واشتهرت بما ظهر عليها من الأحوال الكريمة والصفات الشريفة حتى إنه كان نبي الله زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجد عندها رزقا غريبا في غير أوانه. فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فيسألها : (أَنَّى لَكِ هذا) فتقول : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي رزق رزقنيه الله (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

فعند ذلك وهنالك طمع زكريا في وجود ولد من صلبه وإن كان قد أسن وكبر (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ). قال بعضهم : قال يا من يرزق مريم الثمر في غير اوانه هب لي ولدا وإن كان في غير أوانه. فكان من خبره وقضيته ما قدمنا ذكره في قصته.

قال الله تعالى :

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ* يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ* ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ* إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ* قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ

__________________

(١) و : فيهم جرى قلمه مع الماء.

٤٨٤

إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.)

[٣ / آل عمران : ٤٢ ـ ٥١]

يذكر تعالى أن الملائكة بشرت مريم باصطفاء الله لها من بين سائر نساء عالمي زمانها ، بأن أختارها لإيجاد ولد منها من غير أب وبشرت بأن يكون نبيا شريفا (يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي في صغره يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وكذلك في حال كهولته ، فدل على أنه يبلغ الكهولة ويدعو إلى الله فيها ، وأمرت بكثرة العبادة والقنوت والسجود والركوع لتكون أهلا لهذه الكرامة ولتقوم بشكر هذه النعمة. فيقال إنها كانت تقوم في الصلاة حتى تفطرت قدماها رضي الله عنها ورحمها ورحم أمها وأباها.

فقول الملائكة : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) أي اختارك واجتباك (وَطَهَّرَكِ) أي من الأخلاق الرذيلة وأعطاك الصفات الجميلة (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ). يحتمل أن يكون المراد عالمي زمانها كقوله لموسى (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) وكقوله عن بني إسرائيل (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) ومعلوم أن إبراهيم عليه‌السلام أفضل من موسى ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل منهما ، وكذلك هذه الأمة افضل من سائر الأمم قبلها وأكثر عددا وأفضل علما وأزكى عملا من بني إسرائيل وغيرهم.

ويحتمل أن يكون قوله : (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) محفوظ العموم فتكون أفضل نساء الدنيا ممن كان قبلها أو جدّ بعدها لأنها إن كانت نبية على قول من يقول بنبوتها ونبوة سارة أم إسحاق ونبوة أم موسى محتجا بكلام الملائكة والوحي إلى أم موسى ، كما يزعم ذلك ابن حزم وغيره ، فلا يمتنع على هذا أن تكون مريم أفضل من سارة وأم موسى لعموم قوله : (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) إذ لم يعارضه غيره. والله أعلم.

وأما قول الجمهور كما قد حكاه أبو الحسن الأشعري وغيره من أهل السنة والجماعة من أن النبوة مختصة بالرجال ، وليس في النساء نبية فيكون أعلى مقامات مريم كما قال الله تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) فعلى هذا لا يمتنع أن تكون أفضل الصديقات المشهورات ممن كان قبلها وممن يكون بعدها. والله أعلم. وقد جاء ذكرها مقرونا مع آسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضي الله عنهن وأرضاهن.

وقد روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عديدة ، عن هشام بن

٤٨٥

عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» (١).

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حسبك من نساء العالمين بأربع ، مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد» (٢).

ورواه الترمذي عن أبي بكر بن زنجويه ، عن عبد الرزاق به وصححه ، ورواه ابن مردوية من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي وابن عساكر من طريق تميم بن زياد كلاهما عن أبي جعفر الرازي ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد رسول الله».

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، قال : كان أبو هريرة يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه لزوج في ذات يده» وقال أبو هريرة : ولم تركب مريم بعيرا قط (٣).

وقد رواه مسلم في صحيحه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد. كلاهما عن عبد الرزاق به.

وقال أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني موسى بن علي ، سمعت أبي يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرأفه بزوج على قلة ذات يده» قال أبو هريرة : وقد علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ابنة عمران لم تركب الإبل.

تفرد به وهو على شرط الصحيح.

ولهذا الحديث طرق أخرى عن أبي هريرة.

وقال أبو يعلي الموصلي : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن علباء بن أحمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : خط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأرض أربعة خطوط فقال :

أتدرون ما هذا قالوا؟ الله ورسوله أعلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» ورواه النسائي من طرق عن داود ابن أبي هند.

وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا يحيى بن حاتم العسكري ، أنبأنا بشر بن مهران بن حمدان ، حدثنا محمد بن دينار ، عن داود بن

__________________

(١) الحديث رواه أحمد في المسند (٦٤٠ ، ٩٣٨ / شاكر). ورواه الطبري في تفسيره (٦ ، ٧٠ / معارف)

(٢) الحديث رواه الحاكم في المستدرك (٣ / ١٩٧ / ١٩٨ / حيدرآباد)

(٣) الحديث رواه أحمد في مسنده (٧٦٣٧ / شاكر) عن عبد الرزاق بعضه في أوله ، ولم يذكر الآية وكذلك رواه مسلم (٢ / ٢٧٠). من طريق عبد الرزاق. وقوله «ولم تركب مريم ...» وهو من كلام أبي هريرة لا من الحديث المرفوع. أه.

٤٨٦

أبي هند ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حسبك منهن أربع سيدات نساء العالمين : «فاطمة بنت محمد ، وخديجة بنت خويلد ، وآسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران».

وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي ، عن محمد ابن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، أنها قالت لفاطمة : أرأيت حين أكببت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبكيت ثم ضحكت؟ قالت : أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت ، ثم أكببت عليه فأخبرني أني أسرع أهله لحوقا به وأني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت.

وأصل هذا الحديث في الصحيح. وهذا إسناد على شرط مسلم وفيه أنهما أفضل الأربع المذكورات.

وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن محمد ، حدثنا جرير ، عن يزيد هو ابن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي نعم ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران» (١). إسناد حسن وصححه الترمذي ولم يخرجوه ، وقد روي نحوه من حديث علي بن أبي طالب ولكن في إسناده ضعف.

والمقصود أن هذا يدل على أن مريم وفاطمة أفضل هذه الأربع. ثم يحتمل الاستثناء أن تكون مريم أفضل من فاطمة ويحتمل أن يكون على السواء في الفضيلة.

ولكن ورد حديث إن صح عين الاحتمال الأول فقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر : أنبأنا أبو الحسين بن الفراء وأبو غالب وأبو عبد الله ابنا البنا ، قالوا أنبأنا أبو جعفر بن المسلمة ، أنبأنا أبو طاهر المخلص ، حدثنا أحمد بن سليمان ، حدثنا الزبير هو بن بكار ، حدثنا محمد بن الحسن ، عن عبد العزيز بن محمد ، عن موسى بن عقبة ، عن كريب ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون».

فإن كان هذا اللفظ محفوظا بثم التي للترتيب فهو مبين لأحد الاحتمالين اللذين دل عليهما الاستثناء ، وتقدم على ما تقدم من الألفاظ التي وردت بواو العطف التي لا تقتضي الترتيب ولا تنفيه. والله أعلم.

وقد روى هذا الحديث أبو حاتم الرازي عن داود الجعفري ، عن عبد العزيز بن محمد وهو الدراوردي ، عن إبراهيم بن عقبة ، عن كريب ، عن ابن عباس مرفوعا. فذكره بواو العطف لا بثم الترتيبية! فخالفه إسنادا ومتنا. فالله أعلم.

فأما الحديث الذي رواه ابن مردويه من حديث شعبة ، عن معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث : مريم بنت عمران وآسية

__________________

(١) الحديث رواه أحمد في مسنده (٣ / ٦٤ ، ٨٠).

٤٨٧

امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» وهكذا الحديث الذي رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق ، عن شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة الهمداني ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».

فإنه حديث صحيح كما ترى اتفق الشيخان على إخراجه ، ولفظه يقتضي حصر الكمال في النساء في مريم وآسية ، ولعل المراد بذلك في زمانهما فإن كلا منهما كفلت نبيا في حال صغره ، فآسية كفلت موسى الكليم ، ومريم كفلت ولدها عبد الله ورسوله ، فلا ينفي كمال غيرهما في هذه الأمة كخديجة وفاطمة.

فخديجة خدمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة خمس عشرة سنة وبعدها أزيد من عشر سنين ، وكانت له وزير صدق بنفسها ومالها ، رضي الله عنها وأرضاها.

وأما فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنها خصت بمزيد فضيلة على أخواتها لأنها أصيبت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقية أخواتها متن في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما عائشة فإنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه ولم يتزوج بكرا غيرها ، ولا يعرف في سائر النساء في هذه الأمة بل ولا في غيرها أعلم منها ولا أفهم ، وقد غار الله لها حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فأنزل الله براءتها من فوق سبع سموات ، وقد عمرت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريبا من خمسين سنة تبلغ عنه القرآن والسنة وتفتي المسلمين وتصلح بين المختلفين وهي أشرف أمهات المؤمنين حتى خديجة بنت خويلد أم البنات والبنين في قول طائفة من العلماء السابقين واللاحقين ، والأحسن الوقف فيهما رضي الله عنهما وما ذاك إلا لأن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» يحتمل أن يكون عاما بالنسبة إلى المذكورات وغيرهن ويحتمل أن يكون عاما بالنسبة إلى ما عدا المذكورات والله أعلم.

والمقصود هاهنا ذكر ما يتعلق بمريم بنت عمران عليها‌السلام ، فإن الله طهرها واصطفاها على نساء عالمي زمانها ، ويجوز أن يكون تفضيلها على النساء مطلقا كما قدمنا. وقد ورد في حديث أنها تكون من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجنة هي وآسية بنت مزاحم. وقد ذكرنا في التفسير عن بعض السلف أنه قال ذلك واستأنس بقوله : «ثيبات وأبكارا». قال : فالثيب آسية ومن الأبكار مريم بنت عمران. وقد ذكرناه في آخر سورة التحريم. فالله أعلم.

قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثنا أبي ، أنبأنا عمي الحسين ، حدثنا يونس بن نفيع ، عن سعيد بن جنادة ، هو العوفي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله زوجنى في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى» (١).

__________________

(١) الحديث رواه أبو الشيخ في التاريخ (٢٨٨). ورواه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (٢ / ٨١٢ / المكتب الاسلامي).

٤٨٨

رواه ابن جعفر العقيلي من حديث عبد النور به وزاد فقلت : هنيئا لك يا رسول الله. ثم قال العقيلي : وليس بمحفوظ.

وقال الزبير بن بكار : حدثني محمد بن الحسن ، عن يعلي بن المغيرة عن أبي داود ، قال :

دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خديجة وهي في مرضها الذي توفيت فيه فقال لها : بالكره مني ما أرى منك يا خديجة ، وقد يجعل الله في الكره خيرا كثيرا ، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون؟ قالت : وقد فعل الله بك ذلك يا رسول الله؟ قال : نعم. قالت : بالرفاء والبنين.

وروى ابن عساكر من حديث محمد بن زكريا الغلابي ، حدثنا العباس بن بكار ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على خديجة وهي في مرض الموت فقال : يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فاقرئيهن مني السلام قالت : يا رسول الله وهل تزوجت قبلي؟ قال : لا ولكن الله زوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى.

وروى ابن عساكر من طريق سويد بن سعيد ، حدثنا محمد بن صالح بن عمر ، عن الضحاك ومجاهد ، عن ابن عمر ، قال : نزل جبريل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أرسل به وجلس يحدث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ مرت خديجة. فقال جبريل : من هذه يا محمد؟ قال هذه صديقة أمتي. قال :

جبريل معي إليها رسالة من الرب عزوجل يقرئها السلام ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد عن اللهب لا نصب فيه ولا صخب. قالت : الله السلام ومنه السلام والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته على رسول الله ، ما ذلك البيت الذي من قصب؟ قال : لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم ، وهما من أزواجي يوم القيامة.

وأصل السلام على خديجة من الله وبشارتها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا وصب في الصحيح ، ولكن هذا السياق بهذه الزيادات غريب جدا. وكل من هذه الأحاديث في نظر أسانيدها نظر.

وروى ابن عساكر من حديث أبي زرعة الدمشقي ، حدثنا عبد الله بن صالح حدثني معاوية ، عن صفوان بن عمرو ، عن خالد بن سعدان عن كعب الأحبار أن معاوية سأله عن الصخرة يعني صخرة بيت المقدس فقال : الصخرة على نخلة ، والنخلة على نهر من أنهار الجنة ، وتحت النخلة مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم ينظمان سموط أهل الجنة حتى تقوم الساعة.

ثم رواه من طريق إسماعيل ، عن عياش ، عن ثعلبة بن مسلم ، عن مسعود ، عن عبد الرحمن ، عن خالد بن معدان ، عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثله.

وهذا منكر من هذا الوجه بل هو موضوع.

وقد رواه أبو زرعة عن عبد الله بن صالح ، عن معاوية عن مسعود بن عبد الرحمن ، عن ابن عابد ، أن معاوية سأل كعبا عن صخرة بيت المقدس فذكره.

٤٨٩

قال الحافظ ابن عساكر : وكونه من كلام كعب الأحبار أشبه.

قلت : وكلام كعب الأحبار هذا إنما تلقاه من الإسرائيليات التي منها ما هو مكذوب مفتعل وضعه بعض زنادقتهم أو جهالهم ، وهذا منه والله أعلم.

٤٩٠

ذكر ميلاد العبد الرسول عيسى ابن مريم العذراء البتول

قال الله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا* فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا* قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا* قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا* قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا* قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا* فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا* فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا* فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا* وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا* فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا* فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا* يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا* فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا* قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا* وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا* وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا* ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ* ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ* فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ.)

[١٩ / مريم : ١٦ ـ ٣٧]

ذكر تعالى هذه القصة بعد قصة زكريا التي هي كالمقدمة لها والتوطئة قبلها كما ذكر في سورة آل عمران : قرن بينهما في سياق واحد وكما قال في سورة الأنبياء : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ* وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ).

٤٩١

وقد تقدم أن مريم لما جعلتها أمها محررة تخدم بيت المقدس وأنه كفلها زوج أختها أو خالتها نبي ذلك الزمان زكريا عليه‌السلام ، وأنه اتخذ لها محرابا وهو المكان الشريف من المسجد لا يدخله أحد عليها سواه ، وأنها لما بلغت اجتهدت في العبادة فلم يكن في ذلك الزمان نظيرها في فنون العبادات ، وظهر عليها من الأحوال ما غبطها به زكريا عليه‌السلام وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها وبأنه سيهب لها ولدا زكيا يكون نبيا كريما طاهرا مكرما مؤيدا بالمعجزات ، فتعجبت من وجود ولد من غير والد ، لأنها لا زوج لها ، ولا هي ممن تتزوج فأخبرتها الملائكة بأن الله قادر على ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، فاستكانت لذلك وأنابت وسلمت الأمر لله ، وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها فإن الناس يتكلمون فيها بسببه ، لأنهم لا يعلمون حقيقة الأمر ، وإنما ينظرون إلى ظاهر الحال من غير تدبر ولا تعقل (١).

وكانت إنما تخرج من المسجد في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لا بد منها من استقاء ماء أو تحصيل غذاء ، فبينما هي يوما قد خرجت لبعض شؤونها (انْتَبَذَتْ) أي انفردت وحدها شرقي المسجد الأقصى إذ بعث الله إليها الروح الأمين جبريل عليه‌السلام (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) فلما رأته (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا). قال أبو العالية : علمت أن التقي ذو نهية.

وكذا يرد قول من زعم أنه كان في إسرائيل رجل فاسق مشهور بالفسق أسمه «تقي» فإن هذا قول باطل بلا دليل ، وهو من أسخف الأقوال.

(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أي خاطبها الملك (قالَ)(٢) (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) [أي](٣) لست ببشر ولكني ملك بعثني الله إليك (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) أي ولدا زكيا.

(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي كيف يكون لي غلام أو يوجد لي ولد (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أي ولست ذات زوج وما أنا ممن يفعل الفاحشة ، (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي فأجابها الملك عن تعجبها من وجود ولد منها والحالة هذه قائلا (كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ) أي وعد أنه سيخلق منك غلاما ولست بذات بعل ولا تكونين ممن تبغين (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي وهذا سهل عليه ويسير لديه ، فإنه على ما يشاء قدير.

وقوله (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أي ولنجعل خلقه والحالة هذه دليلا على كمال قدرتنا على أنواع الخلق ، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر ، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى. وقوله (وَرَحْمَةً مِنَّا) أي نرحم به العباد بأن يدعوهم إلى الله في صغره وكبره في طفولته وكهولته. بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له وينزهوه عن اتخاذ الصاحبة والأولاد والشركاء والنظراء والأضداد والأنداد.

وقوله : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها ، يعني أن هذا أمر قضاه الله وحتمه وقدره وقرره ، وهذا معنى قول محمد بن إسحاق واختاره ابن جرير ولم يحك سواه والله أعلم.

__________________

(١) و : ولا عقل.

(٢) و : قائلا إنما أنا رسول ربك.

(٣) من و.

٤٩٢

ويحتمل أن يكون قوله : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) كناية عن نفخ جبريل فيها كما قال تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا).

فذكر غير واحد من السلف أن جبريل نفخ في جيب درعها فنزلت النفخة إلى فرجها فحملت من فورها كما تحمل المرأة عند جماع بعلها. ومن قال إنه نفخ في فمها أو أن الذي كان يخاطبها هو الروح الذي ولج فيها من فمها ، فقوله خلاف ما يفهم من سياقات هذه القصة في محالها من القرآن ، فإن هذا السياق يدل على أن الذي أرسل إليها ملك من الملائكة وهو جبريل عليه‌السلام ، وإنه إنما نفخ فيها ولم يواجه الملك الفرج بل نفخ في جيبها فنزلت النفخة إلى فرجها فانسلكت فيه ، كما قال تعالى : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) فدل على أن النفخة ولجت فيه لا في فمها ، كما رواه السدي بإسناده عن بعض الصحابة.

ولهذا قال تعالى : (فَحَمَلَتْهُ) أي فحملت ولدها (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) وذلك لأن مريم عليها‌السلام لما حملت ضاقت به ذرعا ، وعلمت أن كثيرا من الناس سيكون منهم كلام في حقها ، فذكر غير واحد من السلف. منهم وهب بن منبه أنها لما ظهرت عليها مخايل الحمل كان أول من فطن لذلك رجل من عباد بني إسرائيل يقال له يوسف بن يعقوب النجار ، وكان ابن خالها فجعل يتعجب من ذلك عجبا شديدا ، وذلك لما يعلم من ديانتها ونزاهتها وعبادتها وهو مع ذلك يراها حبلى وليس لها زوج ، فعرض لها ذات يوم في الكلام فقال : يا مريم هل يكون زرع من غير بذر؟

قالت : نعم ، فمن خلق الزرع الأول. ثم قال : فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت : نعم الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى. قال لها : فأخبريني خبرك. فقالت : إن الله بشرني (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ).

ويروى مثل هذا عن زكريا عليه‌السلام أنه سألها فأجابته بمثل هذا والله أعلم.

وذكر السدي بإسناده عن الصحابة : أن مريم دخلت يوما على أختها فقالت لها أختها :

أشعرت أني حبلى؟ فقالت مريم : وشعرت أيضا أني حبلى؟ فاعتنقتها وقالت لها أم يحيى : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك وذلك قوله (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) ومعنى السجود هاهنا الخضوع والتعليم ، كالسجود عند المواجهة للسلام كما كان في شرع من قبلنا ، وكما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم.

وقال أبو القاسم ، قال مالك : بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابنة خالة وكان حملهما جميعا معا ، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه‌السلام ، لأن الله تعالى جعله يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص.

رواه ابن أبي حاتم.

٤٩٣

وروى عن مجاهد قال : قالت مريم كنت إذا خلوت حدثني وكلمني وإذا كنت بين الناس سبح في بطني.

ثم الظاهر أنها حملت به تسعة أشهر كما تحمل النساء ويضعن لميقات حملهن ووضعهن ، إذ لو كان خلاف ذلك لذكر.

وعن ابن عباس وعكرمة أنها حملت به ثمانية أشهر ، وعن ابن عباس ما هو (١) إلا أن حملت به فوضعته ، قال بعضهم : حملت به تسع ساعات واستأنسوا لذلك بقوله : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا* فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ).

والصحيح أن تعقيب كل شيء بحسبه ، كقوله : (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) وكقوله تعالى :

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.)

[٢٣ / المؤمنون : ١٤]

ومعلوم أن بين كل حالين أربعين يوم كما ثبت في الحديث المتفق عليه.

قال محمد بن إسحق : شاع واشتهر في بني إسرائيل أنها حامل ، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل بيت زكريا.

قال : واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد ، وتوارت عنهم مريم واعتزلتهم وانتبذت مكانا قصيا. وقوله : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أي فألجأها واضطرها الطلق إلى جذع النخلة ، وهو بنص الحديث الذي رواه النسائي بإسناد لا بأس به عن أنس مرفوعا والبيهقي بإسناد وصححه عن شداد بن أوس مرفوعا أيضا ببيت لحم الذي بنى عليه بعض ملوك الروم فيما بعد على ما سنذكره هذا البناء المشاهد الهائل.

(قالَتْ : يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتن ، وذلك أنه علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها بل يكذبونها حين تأتيهم بغلام على يدها ، مع أنها قد كانت عندهم من العابدات الناسكات المجاورات في المسجد المنقطعات إليه المعتكفات فيه ، ومن بيت النبوات والديانة فحملت بسبب ذلك من الهم. ما تمنت أن لو كانت ماتت قبل هذ (٢) الحال أو كانت (نَسْياً مَنْسِيًّا) أي لم تخلق بالكلية.

وقوله : (فَناداها مِنْ تَحْتِها) وقرىء من تحتها على الخفض ، وفي المضمر قولان : أحدهما أنه جبريل. قاله العوفي عن ابن عباس قال : ولم يتكلم عيسى إلا بحضرة القوم. وبهذا قال سعيد بن جبير وعمرو بن ميمون والضحاك والسدي وقتادة. وقال مجاهد والحسن وابن زيد وسعيد بن جبير في رواية : هو ابنها عيسى. واختاره ابن جرير.

__________________

(١) م : يدل. وما أثبته من و.

(٢) و : هذه.

٤٩٤

وقوله : (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا). قيل النهر وإليه ذهب الجمهور. وجاء فيه حديث رواه الطبراني لكنه ضعيف واختاره ابن جرير وهو الصحيح وعن الحسن والربيع بن أنس وابن أسلم وغيرهم أنه ابنها. والصحيح الأول لقوله : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) فذكر الطعام والشراب ولهذا قال : (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً).

ثم قيل : كان جذع النخلة يابسا وقيل كانت نخلة مثمرة فالله أعلم. ويحتمل أنها كانت نخلة ، ولكنها مثمرة إذ ذاك ، لأن ميلاده كان في زمن الشتاء وليس ذاك وقت ثمر ، وقد يفهم ذلك من قوله تعالى على سبيل الامتنان (تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا).

قال عمرو بن ميمون : ليس شيء أجود (١) للنفساء من التمر والرطب ثم تلا هذه الآية.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا شيبان ، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي ، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (٢) عن عروة بن رويم عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم وليس من الشجر شيء يلقح غيرها» (٣). وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أطعموا نساءكم الولد الرطب ، فإن لم يكن رطب فتمر ، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران».

وكذا رواه أبو يعلي في مسنده عن شيبان بن فروخ ، عن مسروق بن سعيد. وفي رواية مسرور بن سعد. والصحيح مسرور بن سعيد التميمي ، أورد له ابن عدي هذا الحديث عن الأوزاعي به. ثم قال : وهو منكر الحديث ولم أسمع بذكره إلا في هذا الحديث.

وقال ابن حبان : يروى عن الأوزاعي المناكير الكثيرة التي لا يجوز الاحتجاج بمن يرويها.

وقوله : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا).

وهذا من تمام كلام الذي ناداها من تحتها قال : (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) أي فإن رأيت أحدا من الناس (فَقُولِي) له أي بلسان الحال والإشارة (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) ، أي صمتا ، وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام. قاله قتادة والسدي وابن أسلم. ويدل على ذلك قوله : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) فأما في شريعتنا فيكره للصائم صمت يوم إلى الليل.

وقوله تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا* يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا.)

[١٩ / مريم : ٢٧ ، ٢٨]

__________________

(١) و : خير.

(٢) م : الأنصاري.

(٣) الحديث رواه ابن عساكر في تاريخ ابن عساكر (٢ / ٣٤٣ / تهذيب). وقال : إسناد هذا الأثر إلى علي رضي الله عنه ليس بقوي وفي متنه اضطراب واختلاف وعدم استقامة لا يليق معها أن يكون من كلام من كرم الله وجهه كيف. وجميع الشجر خلق من الطين الذي خلق منه آدم وهو تراب الأرض وسائر الأشجار تلقح إما بالفعل وإما بواسطة الرياح كما قال تعالى أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ). أ. ه.

ورواه الشوكاني أيضا في الفوائد المجموعة (٤٨٩). وقال حديث ضعيف. وكذا رواه السخاوي في المقاصد الحسنة (٧٩).

٤٩٥

ذكر كثير من السلف ممن ينقل عن أهل الكتاب أنهم لما افتقدوها من بين أظهرهم ذهبوا في طلبها فمروا على محلتها والأنوار حولها ، فلما واجهوها وجدوا معها ولدها فقالوا لها : (يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أي أمرا عظيما منكرا. وفي هذا الذي قالوه نظر ، مع أنه كلام ينقض أوله آخره وذلك لأن ظاهر سياق القرآن العظيم يدل على أنها حملته بنفسها وأتت به قومها وهي تحمله. قال ابن عباس : وذلك بعد ما تعالت (١) من نفاسها بعد أربعين يوما.

والمقصود أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) والفرية هي الفعلة المنكرة العظيمة من الفعال والمقال.

ثم قالوا لها : (يا أُخْتَ هارُونَ) قيل شبهوها بعابد من عباد زمانهم كانت تساميه في العبادة ، وكان اسمه هارون. قاله سعيد بن جبير. وقيل أرادوا بهارون أخا موسى شبهوها به في العبادة. وأخطأ محمد بن كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهارون نسبا ، فإن بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على أدنى من عنده من العلم ما يرده عن هذا القول الفظيع ، وكأنه غره أن في التوراة أن مريم أخت موسى وهارون ضربت بالدف يوم نجى الله موسى وقومه وأغرق فرعون وملأه ، فاعتقد أن هذه هي هذه.

وهذا في غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح مع نص القرآن كما قررناه في التفسير مطولا ولله الحمد والمنة.

وقد ورد في الحديث الصحيح الدال على أنه قد كان لها أخ أسمه هارون وليس في ذكر قصة ولادتها وتحرير أمها لها ما يدل على أنها ليس لها أخ سواها. والله أعلم.

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن إدريس ، سمعت أبي يذكره ، عن سماك ، عن علقمة ابن وائل ، عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى نجران فقالوا : أرأيت ما تقرأون :

(يا أُخْتَ هارُونَ) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال فرحت فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء الصالحين قبلهم».

وكذا رواه مسلم والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن إدريس ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديثه وفي رواية : «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بأسماء صالحيهم وأنبيائهم».

وذكر قتادة وغيره أنهم كانوا يكثرون من التسمية بهارون حتى قيل إنه حضر بعض جنائزهم بشر كثير منهم ممن يسمى بهارون أربعون ألفا فالله أعلم.

والمقصود أنهم قالوا : (يا أُخْتَ هارُونَ) ودل الحديث على أنها قد كان لها أخ نسبي اسمه هارون وكان مشهورا بالدين والصلاح والخير ، ولهذا قالوا : (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ

__________________

(١) م : تعلت.

٤٩٦

بَغِيًّا) أي لست من بيت هذه شيمتهم ولا سجيتهم ولا أخوك ولا أمك ولا أبوك ، فاتهموها بالفاحشة العظمى ورموها بالداهية الدهياء.

فذكر ابن جرير في تاريخه أنهم اتهموا بها زكريا وأرادوا قتله ففر منهم فلحقوه وقد انشقت له الشجرة فدخلها وأمسك إبليس بطرف ردائه فنشروه فيها كما قدمناه. ومن المنافقين من اتهمها بابن خالها يوسف بن يعقوب النجار.

فلما ضاق الحال وانحصر المجال وامتنع المقال ، عظم التوكل على ذي الجلال ، ولم يبق إلا الإخلاص والاتكال (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أي خاطبوه وكلموه فإن جوابكم عليه وما تبغون من الكلام لديه ، فعندها (قالُوا) من كان منهم جبارا شقيا : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) أي كيف تحيليننا في الجواب على صبي صغير لا يعقل الخطاب ، وهو مع ذلك رضيع في مهده ولا يميز بين مخض وزبده ، وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا والاستهزاء والنقص لنا والازدراء إذ لا تردين علينا قولا نطقيا ، بل تحيلين في الجواب على من كان في المهد صبيا.

فعندها (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا* وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا* وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا).

هذا أول كلام تفوه به عيسى ابن مريم ، فكان أول ما تكلم به. أن (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) اعترف لربه تعالى بالعبودية ، وأن الله ربه فنزه جناب الله عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله ، بل هو عبده ورسوله وابن أمته ، ثم برأ أمه مما نسبها إليه الجاهلون وقذفوها به ورموها بسببه بقوله :

(آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) فإن الله لا يعطي النبوة من هو كما زعموا لعنهم الله وقبحهم ، كما قال تعالى : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) وذلك أن طائفة من اليهود في ذلك الزمان قالوا إنها حملت به من زنى في زمن الحيض ، لعنهم الله فبرأها الله من ذلك وأخبر عنها أنها صديقة واتخذ ولدها نبيا مرسلا أحد أولي العزم الخمسة الكبار ولهذا قال : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) وذلك أنه حيث كان دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونزه جنابه عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة تعالى وتقدس : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) وهذه وظيفة العبيد في القيام بحق العزيز الحميد بالصلاة ، والإحسان إلى الخليقة بالزكاة ، وهي تشتمل على طهارة النفوس من الأخلاق الرذيلة وتطهير الأموال الجزيلة بالعطية للمحاويج على اختلاف الأصناف وقرى الأضياف والنفقات على الزوجات والأرقاء والقرابات وسائر وجوه الطاعات وأنواع القربات.

ثم قال : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) أي وجعلني برا بوالدتي وذلك أنه تأكد حقها عليه لتمحض جهتها إذ لا والد له سواها ، فسبحان من خلق الخليقة وبرأها وأعطى كل نفس هداها. (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) أي لست بفظ ولا غليظ ، ولا يصدر مني قول ولا فعل ينافي أمر الله وطاعته.

(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا). وهذه المواطن الثلاثة التي تقدم

٤٩٧

الكلام عليها في قصة يحيى بن زكريا عليهما‌السلام.

ثم لما ذكر تعالى قصته على الجلية وبين أمره ووضحه وشرحه قال : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ* ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ ، سُبْحانَهُ ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، كما قال تعالى بعد ذكر قصته وما كان من أمره في آل عمران :

(ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ* إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ.)

[٣ / آل عمران : ٥٨ ـ ٦٣]

ولهذا لما قدم وفد نجران وكانوا ستين راكبا يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم ، ويؤول أمر الجميع إلى ثلاثة هم أشرافهم وساداتهم وهم العاقب والسيد وأبو حارثة بن علقمة ، فجعلوا يناظرون في أمر المسيح فأنزل الله صدر سورة آل عمران في ذلك ، وبيّن أمر المسيح وابتداء خلقه وخلق أمه من قبله. وأمر رسوله بأن يباهلهم إن لم يستجيبوا له ويتبعوه ، فلما رأوا عينيها وأذنيها نكصوا (١) وامتنعوا عن المباهلة وعدلوا إلى المسالمة (٢) والموادعة وقال قائلهم وهو العاقب عبد المسيح :

يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمدا لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنها للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فطلبوا ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسألوه أن يضرب عليهم جزية وأن يبعث معهم رجلا أمينا ، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقد بيّنا ذلك في تفسير آل عمران وقد بسطنا هذه القصة في السيرة النبوية (٣).

والمقصود أن الله تعالى بين أمر المسيح فقال لرسوله : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) يعني من أنه عبد مخلوق من امرأة من عباد الله. ولهذا قال : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي لا يعجزه شيء ولا يكربه ولا يؤوده بل هو القدير الفعال لما يشاء (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) هو من تمام كلام عيسى لهم في المهد ، أخبرهم أن الله ربه وربهم وإلهه وإلههم ، وأن هذا هو الصراط المستقيم.

__________________

(١) و : نكلوا.

(٢) و : إلى المسألة.

(٣) و : أنظر السيرة النبوية لأبن كثير (٤ / ١٠ / ١٠٨ / الحلبي) بتحقيق الدكتور مصطفى عبد الواحد.

٤٩٨

قال الله تعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ). أي فاختلف أهل ذلك الزمان ومن بعدهم فيه.

فمن قائل من اليهود : إنه ولد زنية ، واستمروا على كفرهم وعنادهم.

وقابلهم آخرون في الكفر فقالوا : هو الله. وقال آخرون : هو ابن الله.

وقال المؤمنون : هو عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وهؤلاء هم الناجون المثابون والمؤيدون المنصورون ، ومن خالفهم في شيء من هذه القيود فهم الكافرون الضالون الجاهلون ، وقد توعدهم العلي العظيم الحكيم بقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

قال البخاري : حدثنا صدقة بن الفضل ، أنبأنا الوليد ، حدثنا الأوزاعي حدثني عمير بن هانىء ، حدثني جنادة بن ابي أمية ، عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل».

قال الوليد : «فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن عمير ، عن جنادة ، وزاد : «من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء».

وقد رواه مسلم عن داود بن رشيد ، عن الوليد ، عن جابر به ومن طريق أخرى عن الأوزاعي به.

٤٩٩

باب بيان أن الله تعالى منزه عن الولد

تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا

وقال تعالى في آخر هذه السورة : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا* تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً* وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً* إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً* لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً.)

[١٩ / مريم : ٨٨ ـ ٩٥]

فبين أنه تعالى لا ينبغي له الولد لأنه خالق كل شيء ومالكه ، وكل شيء فقير إليه ، خاضع ذليل لديه وجميع سكان السموات والأرض عبيده ، هو ربهم لا إله إلا هو ولا رب سواه كما قال تعالى.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ* بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ* لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.)

[٦ / الأنعام : ١٠٠ ـ ١٠٣]

فبيّن أنه خالق كل شيء فكيف يكون له ولد؟ ، والولد لا يكون إلا بين شيئين متناسبين ، والله تعالى لا نظير له ولا شبيه ولا عديل له ، فلا صاحبة له ، فلا يكون له ولد كما قال تعالى :

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.)

[١١٢ / الاخلاص : ١ ـ ٤]

يقرر أنه الأحد الذي لا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله (الصَّمَدُ) وهو السيد الذي كمل في علمه وحكمته ورحمته و [بلغ](١) جميع صفاته (لَمْ يَلِدْ) أي لم يوجد منه ولد (وَلَمْ يُولَدْ) أي ولم يتولد (٢) عن شيء قبله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي وليس له عدل ولا مكافىء. ولا

__________________

(١) من و.

(٢) و : ولم ولد.

٥٠٠