قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ* ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ.)

[١٢ / يوسف : ٣٩ ـ ٤٠]

أي المتصرف في خلقه الفعال لما يريد ، الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي وحده لا شريك له (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي المستقيم والصراط القويم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي فهم لا يهتدون إليه مع وضوحه وظهوره.

وكانت دعوته لهما في هذه الحال في غاية الكمال ؛ لأن نفوسهما معظمة له ، منبعثة على تلقي ما يقول بالقبول ، فناسب أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما مما سألا عنه وطلبا منه.

ثم لما قام بما وجب عليه وأرشد إلى ما أرشد إليه قال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) قالوا وهو الساقي (وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) قالوا وهو الخباز (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي وقع هذا لا محالة ، ووجب كونه على كل حالة. ولهذا جاء في الحديث : «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر (١) ؛ فإذا عبرت وقعت».

وقد روي عن ابن مسعود ومجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهما قالا : لم نر شيئا ، فقال لهما : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ).

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).

يخبر تعالى أن يوسف قال للذي ظنه ناجيا منهما وهو الساقي : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ، يعني اذكر أمري وما أنا فيه من السجن بغير جرم عند الملك. وفي هذا دليل على جواز السعي (٢) في الأسباب ، ولا ينافي ذلك التوكل على رب الأرباب.

وقوله : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي فأنسى الناجي منهما الشيطان أن يذكر ما وصاه به يوسف عليه‌السلام. قاله مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد. وهو الصواب ، وهو منصوص أهل الكتاب.

(فَلَبِثَ) يوسف (فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ). والبضع : ما بين الثلاث الى التسع ، وقيل إلى السبع ، وقيل إلى الخمس ، وقيل ما دون العشرة ، حكاها الثعلبي. ويقال بضع نسوة وبضعة رجال.

ومنع الفراء استعمال البضع فيما دون العشر. قال وإنما يقال نيف وقال الله تعالى : (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) وقال تعالى : (فِي بِضْعِ سِنِينَ) وهذا رد لقوله.

__________________

(١) و : ما لم نقص.

(٢) و : الساعي.

٢٢١

قال الفراء : ويقال بضعة عشر وبضعة وعشرون إلى التسعين ، ولا يقال : بضع ومائة ، وبضع وألف. وخالف الجوهري فيما زاد على بضعة عشر ، فمنع أن يقال بضع وعشرون إلى تسعين. وفي الصحيح : «الإيمان بضع وستون شعبة ، وفي رواية وسبعون شعبة ، وأعلاها (١) قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (٢).

ومن قال إن الضمير في قوله : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) عائد على يوسف فقد ضعف ما قاله ، وإن كان قد روى عن ابن عباس وعكرمة.

والحديث الذي رواه ابن جرير في هذا الموضع ضعيف من كل وجه. تفرد بإسناده إبراهيم بن يزيد الخوري المكي وهو متروك. ومرسل الحسن وقتادة لا يقبل ، ولا هاهنا بطريق الأولى والأخرى. والله أعلم.

فأما قول ابن حبان في صحيحه ، عند ذكر السبب الذي من أجله لبث يوسف في السجن ما لبث : أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي ، حدثنا مسدد بن مسرهد ، حدثنا خالد بن عبد الله ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«رحم الله يوسف لو لا الكلمة التي قالها (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ما لبث في السجن ما لبث ، ورحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد ، إذ قال لقومه : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) ، قال : فما بعث الله نبيا بعده إلا في ثروة من قومه».

فإنه حديث منكر من هذا الوجه. ومحمد بن عمرو بن علقمة له أشياء ينفرد بها وفيها نكارة. وهذه اللفظة من أنكرها وأشدها والذي في الصحيحين يشهد بغلطها. والله أعلم.

* * *

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ* قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ* وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ* يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ* قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ.)

[١٢ / يوسف : ٤٣ ـ ٤٩]

__________________

(١) و : أرفعها.

(٢) الحديث رواه البخاري (٢ / ٣). ورواه مسلم (١ / ٥٧ / ٥٨). ورواه أبو داود (٣٩ / ١٤) ورواه النسائي (٤ / ١٦).

ورواه ابن ماجة (المقدمة / ٩). ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده (ح ٢٤٠٢). ورواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٧٩ ، ١٤٤ ، ٤٤٥).

٢٢٢

هذا كان من جملة أسباب خروج يوسف عليه‌السلام من السجن على وجه الاحترام والإكرام ، وذلك أن ملك مصر ، وهو الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح ، رأى هذه الرؤيا.

قال أهل الكتاب : رأى كأنه على حافة نهر ، وكأنه قد خرج منه سبع بقرات سمان ، فجعلن يرتعن في روضة هناك ، فخرجت سبع هزال ضعاف من ذلك النهر ، فرتعن معهن ثم ملن عليهن فأكلنهن ، فاستيقظ مذعورا ثم نام فرأى سبع سنبلات خضر في قصبة واحدة ، وإذا سبع أخر دقاق يابسات فأكلنهن ، فاستيقظ مذعورا.

فلما قصها على ملئه وقومه لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها ، بل (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي أخلاط أحلام من الليل ، لعلها لا تعبير لها ، ومع هذا فلا خبرة لنا بذلك. ولهذا قالوا : (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) فعند ذلك تذكر الناجي منهما ، الذي وصاه يوسف بأن يذكره عند ربه فنسيه إلى حينه هذا ، وذلك عن تقدير الله عزوجل وله الحكمة في ذلك. فلما سمع رؤيا الملك ، ورأى عجز الناس عن تعبيرها ، تذكر أمر يوسف ، وما كان أوصاه به من التذكار.

ولهذا قال تعالى : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ) أي تذكر بعد أمة» أي بعد مدة من الزمان ، وهو بضع سنين وقرأ بعضهم كما حكى عن ابن عباس وعكرمة والضحاك : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) أي بعد نسيان. وقرأها مجاهد : «بعد أمه» بإسكان الميم ، وهو النسيان أيضا. ويقال أمه الرجل يأمه أمها وأمها ، إذا أنسى. قال الشاعر.

أمهت وكنت لا أنسى حديثا

كذاك الدهر يزري بالعقول

فقال لقومه وللملك : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أي فأرسلوني الى يوسف فجاءه فقال (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ، أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ ، يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ ، وَأُخَرَ يابِساتٍ. لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ).

وعند أهل الكتاب : أن الملك لما ذكره له الساقي ، استدعاه الى حضرته ، وقص عليه ما رآه ففسره له. وهذا غلط. والصواب ما قصه الله في كتابه القرآن لا ما عربه هؤلاء الجهلة الثيران من فري وهذيان.

فبذل يوسف عليه‌السلام ما عنده من العلم بلا تأخر ولا شرط ، ولا طلب الخروج سريعا ، بل أجابهم إلى ما سألوه ، وعبر لهم ما كان من منام الملك ، الدال على وقوع سبع سنين من الخصب ويعقبها سبع جدب (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) يعني يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) يعني ما كانوا يعصرونه من الأقصاب والأعناب والزيتون والسمسم وغيرها.

٢٢٣

فعبر لهم وعلى الخير دلهم ، وأرشدهم إلى ما يعتمدونه في حالتي خصبهم وجدبهم ، وما يفعلونه من ادخار حبوب سني الخصب في (١) السبع الأولى في سنبله ، إلا ما يرصد بسبب الأكل ، ومن تقليل البذر في سني الجدب في السبع الثانية ، إذ الغالب على الظن أنه لا يرد البذر من الحقل ، وهذا يدل على كمال العلم وكمال الرأي والفهم.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ* قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ* ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ* وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.)

[١٢ / يوسف : ٥٠ ـ ٥٣]

لما أحاط الملك علما بكمال علم يوسف عليه الصلاة والسلام وتمام عقله ، ورأيه السديد وفهمه ، أمر بإحضاره إلى حضرته ، ليكون من جملة خاصته. فلما جاءه الرسول بذلك ، أحب ألا يخرج حتى يتبين لكل أحد أنه حبس ظلما وعدوانا ، وأنه بريء الساحة مما نسبوه إليه بهتانا. (قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) يعني الملك (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ، إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) قيل معناه : إن سيدي العزيز يعلم براءتي مما نسب إلي ؛ أي فمر الملك فليسألهن : كيف كان امتناعي الشديد عند مراودتهن إياي؟ وحثهن لي على الأمر الذي ليس برشيد ولا سديد؟

فلما سئلن عن ذلك اعترفن بما وقع من الأمر ، وما كان منه من الأمر الحميد و (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ).

فعند ذلك (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) وهي زليخا : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) أي ظهر وتبين ووضح ، والحق أحق أن يتبع. (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي فيما يقوله ؛ ومن أنه بريء وأنه لم يراودني ، وأنه حبس ظلما وعدوانا ، وزورا وبهتانا.

وقوله : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) قيل إنه من كلام يوسف ، أي إنما طلبت تحقيق هذا ليعلم الوزير أني لم أخنه بظهر الغيب. وقيل إنه من تمام كلام زليخا ، أي إنما اعترفت بهذا ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر ، وإنما كان مراودة لم يقع معها فعل فاحشة.

وهذا القول هو الذي نصره طائفة كثيرة من أئمة المتأخرين وغيرهم ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سوى الأول.

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ؛ قيل إنه

__________________

(١) و : من.

٢٢٤

من كلام يوسف ، وقيل من كلام زليخا وهو مفرع على القولين الأولين وكونه من تمام كلام زليخا أظهر وأنسب وأقوى. والله أعلم.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ* قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ* وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) [١٢ / يوسف : ٥٤ ـ ٥٧]

لما ظهرت للملك براءة عرضه ، ونزاهة ساحته عما كانوا أظهروا عنه مما نسبوه إليه ، «ائتوني به أستخلصه لنفسي» أي أجعله من خاصتي ، ومن أكابر دولتي ، ومن أعيان حاشيتي ، فلما كلمه وسمع مقاله وتبين حاله (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) أي ذو مكانة وأمانة.

قال (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) طلب أن يوليه النظر فيما يتعلق بالأهراء ، لما يتوقع من حصول الخلل فيها (١) بعد مضي سبع سني الخصب ، لينظر فيها بما يرضى الله في خلقه ، من الاحتياط لهم والرفق بهم ، وأخبر الملك أنه حفيظ ، أي قوي على حفظ ما لديه أمين عليه ، عليم بضبط الأشياء ومصالح الأهراء.

وفي هذا دليل على جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الأمانة والكفاءة.

وعند أهل الكتاب : أن فرعون عظم يوسف عليه‌السلام جدا ، وسلطه على جميع أرض مصر ، وألبسه خاتمه ، وألبسه الحرير وطوقه الذهب وحمله على مركبه الثاني ، ونودي بين يديه :

أنت رب ومسلط ، وقال له : لست أعظم منك إلا بالكرسي.

قالوا : وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة ، وزوجه امرأة عظيمة الشأن وحكى الثعلبي أنه عزل قطفير عن وظيفته وولاها يوسف.

وقيل إنه لما مات زوجه امرأته زليخا فوجدها عذراء ، لأن زوجها كان لا يأتي النساء ، فولدت ليوسف عليه‌السلام رجلين وهما : أفرايم (٢) ومنسا. قال : واستوثق ليوسف ملك مصر ، وعمل فيهم بالعدل فأحبه الرجال والنساء.

وحكي أن يوسف كان يوم دخل على الملك عمره ثلاثين سنة ، وأن الملك خاطبه بسبعين لغة ، وفي كل (٣) ذلك يجاوبه بكل لغة منها ، فأعجبه ذلك مع حداثة سنة. فالله أعلم.

قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي بعد السجن والضيق والحصر ، صار مطلق الركاب بديار مصر ، (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي أين شاء حل منها مكرما محسودا معظما.

__________________

(١) م : فيما بعد.

(٢) و : أفريتم.

(٣) : وكل.

٢٢٥

(نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [من أي](١) هذا كله من جزاء الله وثوابه للمؤمن ، مع ما يدخر له في آخرته من الخير الجزيل والثواب الجميل.

ولهذا قال : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ).

ويقال إن قطفير زوج زليخا كان قد مات ، فولاه الملك مكانه وزوجه امرأته زليخا ، فكان وزير صدق.

وذكر محمد بن إسحاق أن صاحب مصر ـ الوليد بن الريان ـ أسلم على يدي يوسف عليه‌السلام. فالله أعلم. وقد قال بعضهم :

وراء مضيق الخوف متسع الأمن

وأول مفروح به غاية الحزن (٢)

فلا تيأسن ، فالله ملك يوسفا

خزائنه بعد الخلاص من السجن

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ* وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ* فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ* قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ* وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.)

[١٢ / يوسف : ٥٨ ـ ٦٢]

يخبر تعالى عن قدوم إخوة يوسف عليه‌السلام إلى الديار المصرية يمتارون طعاما ، وذلك بعد إتيان سني الجدب وعمومها على سائر العباد والبلاد.

وكان يوسف عليه‌السلام إذ ذاك الحاكم في أمور الديار المصرية دينا ودنيا. فلما دخلوا عليه عرفهم ولم يعرفوه ؛ لأنهم لم يخطر ببالهم ما صار إليه يوسف عليه‌السلام من المكان والعظمة ، فلهذا عرفهم وهم له منكرون.

وعند أهل الكتاب : أنهم لما قدموا عليه سجدوا له فعرفهم ، وأراد ألا يعرفوه فأغلظ لهم في القول ، وقال : أنتم جواسيس ، جئتم [لنا](٣) لتأخذوا خير بلادي. فقالوا : معاذ الله ، وإنما جئنا نمتار (٤) لقومنا من الجهد والجوع الذي أصابنا ، ونحن بنو أب واحد من كنعان ، ونحن أثنا عشر رجلا ذهب منا واحد ، وصغير عند أبينا. فقال : لا بد أن أستعلم أمركم. وعندهم : أنه حبسهم ثلاثة أثام ثم أخرجهم ، واحتبس شمعون عنده ليأتوه بالأخ الآخر. وفي بعض هذا نظر.

__________________

(١) من : و.

(٢) و : آخر الحزن.

(٣) من : و.

(٤) و : لنتمار.

٢٢٦

قال الله تعالى : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي أعطاهم من الميرة ما جرت به عادته ؛ من إعطاء كل إنسان حمل بعير لا يزيده عليه (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) ، وكان قد سألهم عن حالهم ، وكم هي؟ فقالوا : كنا اثني عشر رجلا ، فذهب منا واحد وبقي شقيقه عند أبينا. فقال :

إذا قدمتم من العام المقبل فأتوني به معكم.

(أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ؟) أي قد أحسنت نزلكم وقراكم ، فرغبهم ليأتوه به ثم رهبهم إن لم يأتوه به فقال (١) : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) أي فلست أعطيكم ميرة ، ولا أقربكم بالكلية ، عكس ما أسدى إليهم أولا.

فاجتهد (٢) في إحضاره معهم ليبل شوقه منه بالترغيب والترهيب.

(سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي سنجتهد في مجيئه معنا وإتيانه إليك بكل ممكن. (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) أي وإنا لقادرون على تحصيله.

ثم أمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم وهي ما جاءوا به يتعوضون به من الميرة في أمتعتهم من حيث لا يشعرون بها (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قيل أراد أن يردوها إذا وجدوها في بلادهم ، وقيل خشى ألا يكون عندهم ما يرجعون به مرة ثانية وقيل تذمم أن يأخذ منهم عوضا عن الميرة.

وقد اختلف المفسرون في بضاعتهم على أقوال سيأتي ذكرها. وعند أهل الكتاب : أنها كانت صررا من ورق ، وهو أشبه. والله أعلم.

* * *

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ* قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ* قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ* وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ* وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.)

[١٢ / يوسف : ٦٣ ـ ٦٨]

__________________

(١) و : قال.

(٢) و : فاجتهدوا.

٢٢٧

يذكر تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم الى أبيهم وقولهم له : (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أي بعد عامنا هذا إن لم ترسل معنا (١) أخانا فإن أرسلته معنا لم يمنع منا.

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي؟) أي شيء نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا؟ (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي نمتار لهم ونأتيهم بما يصلحهم في سنتهم ومحلهم ، (وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ) بسببه (كَيْلَ بَعِيرٍ).

قال الله تعالى : (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي في مقابلة ذهاب ولده الآخر.

وكان يعقوب عليه‌السلام أضن شيء بولده بنيامين ؛ لأنه كان يشم فيه رائحة أخيه ويتسلى به عنه ، ويتعوض بسببه منه.

فلهذا قال : (لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أي إلا أن تغلبوا كلكم عن الإتيان به (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ).

أكد المواثيق وقرر العهود ، واحتاط لنفسه في ولده ، ولن يغنى حذر من قدر! ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة ، لما بعث الولد العزيز ، ولكن الأقدار لها أحكام ، والرب تعالى يقدر ما يشاء ويختار ما يريد ، ويحكم ما يشاء وهو الحكيم العليم.

ثم أمرهم ألا يدخلوا المدينة من باب واحد ، ولكن ليدخلوا من أبواب متفرقة. قيل : أراد ألا يصيبهم أحد بالعين ، وذلك لأنهم كانوا أشكالا حسنة وصورا بديعة. قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وقتادة والسدي والضحاك.

وقيل : أراد أن يتفرقوا لعلهم يجدون خبرا ليوسف أو يحدثون عنه بأثر. قاله إبراهيم النخعي.

والأول أظهر : ولهذا قال : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ).

وقال تعالى : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ، إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها ، وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

وعند أهل الكتاب : أنه بعث معهم هدية إلى العزيز من الفستق واللوز والصنوبر والبطم والعسل ، وأخذ الدراهم الأولى وعرضا (٢) آخر.

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ* قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ* قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ

__________________

(١) و : فأرسل معنا أخانا.

(٢) و : وعوضوا آخر.

٢٢٨

بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ* قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ* قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ* قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ* فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ* قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ.)

[١٢ / يوسف : ٦٩ ـ ٧٩]

يذكر تعالى ما كان من أمرهم حين دخلوا بأخيهم بنيامين على شقيقه يوسف ، وإيوائه إليه ، وإخباره له سرا عنهم بأنه أخوه ، وأمره بكتم ذلك عنهم. وسلاه عما كان منهم من الإساءة اليه.

ثم احتال على أخذه منهم وتركه إياه عنده دونهم ، فأمر فتيانه بوضع سقايته ، وهي التي كان يشرب بها ويكيل بها للناس الطعام ، عن غرة (١) في متاع بنيامين ، ثم أعلمهم بأنهم قد سرقوا صواع الملك ، ووعدهم جعالة على رده ، حمل بعير ، وضمنه المنادي لهم. فأقبلوا على من اتهمهم بذلك فأنبوه وهجنوه فيما قاله لهم : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) يقولون : أنتم تعلمون منا خلاف ما رميتمونا به من السرقة.

(قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ* قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) وهذه كانت شريعتهم : أن السارق يدفع إلى المسروق منه ولهذا قالوا : (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).

قال الله تعالى : (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) ليكون ذلك أبعد في التهمة وأبلغ في الحيلة ، ثم قال الله تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي لو لا اعترافهم بأن جزاءه من وجد في رحله فهو جزاؤه ، لما كان يقدر يوسف على أخذه منهم في سياسة ملك مصر ، (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أي في العلم (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).

وذلك لأن يوسف كان أعلم منهم ، وأتم رأيا وأقوى عزما وحزما ، وإنما فعل ما فعل عن أمر الله له في ذلك ، لأنه يترتب على هذا الأمر مصلحة عظيمة بعد ذلك : من قدوم أبيه وقومه عليه ووفودهم إليه :

فلما عاينوا استخراج الصواع من حمل بنيامين (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) يعنون يوسف. قيل كان قد سرق صنم جده أبي أمه فكسره. وقيل كانت عمته قد علقت عليه بين

__________________

(١) و : عن غرته.

٢٢٩

ثيابه وهو صغير منطقه كانت لإسحاق ، ثم استخرجوها من بين ثيابه وهو لا يشعر بما صنعت ، وإنما أرادت أن يكون عندها وفي حضانتها لمحبتها له. وقيل كان يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء. وقيل غير ذلك. فلهذا : (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) وهي كلمته بعدها ، وقوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أجابهم سرا لا جهرا ، حلما وكرما وصفحا وعفوا ، فدخلوا معه في الترفق والتعطف فقالوا : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ، إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) أي إن أطلقنا المتهم وأخذنا البريء ، وهذا ما لا نفعله ولا نسمح به ، وإنما نأخذ من وجدنا متاعنا عنده.

وعند أهل الكتاب : أن يوسف تعرف إليهم حينئذ. وهذا مما غلوا فيه ولم يفهموه جيدا.

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ* ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ* وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ* قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ* قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ* قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ* يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)

[١٢ / يوسف : ٨٠ ـ ٨٧]

يقول تعالى مخبرا عنهم لما استيأسوا من أخذه منه : خلصوا يتناجون فيما بينهم ، قال كبيرهم وهو روبيل : (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) ، لتأتنني به إلا يحاط بكم؟ لقد أخلفتم عهده ، وفرطتم فيه كما فرطتم في أخيه يوسف من قبله ، فلم يبق لي وجه أقابله به (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي لا أزال مقيما هاهنا (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) في القدوم عليه ، (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) بأن يقدرني على رد أخي إلى أبي ، (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) أي أخبروه بما رأيتم من الأمر في ظاهر المشاهدة (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ* وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) ، أي فإن هذا الذي أخبرناك به ـ من أخذهم أخانا لأنه سرق ـ أمر اشتهر بمصر وعلمه العير التي كنا نحن [وهم هناك](١) ، (وَإِنَّا لَصادِقُونَ).

__________________

(١) و : معهم.

٢٣٠

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي ليس الأمر كما ذكرتم ، لم يسرق فإنه ليس سجية له ولا خلقه. وإنما (سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).

قال ابن اسحاق وغيره : لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتبا على صنيعهم (١) في يوسف قال لهم ما قال. وهذا كما قال بعض السلف : إن من جزاء السيئة السيئة بعدها!

ثم قال : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) يعني يوسف وبنيامين وروبيل ، (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) أي بحالي وما أنا فيه من فراق الأحبة (الْحَكِيمُ) فيما يقدره ويفعله ، وله الحكمة البالغة والحجة القاطعة.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي أعرض عن بنيه (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) ذكره حزنه الجديد بالحزن القديم ، وحرك ما كان كامنا ، كما قال بعضهم :

نقّل فؤادلك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأول

وقال آخر :

لقد لامني عند القبور على البكا

رفيقي لتذراف الدموع السوافك (٢)

فقال أتبكي كلّ قبر رأيته؟

لقبر ثوى بين اللّوى فالدكادك (٣)

فقلت له إن الأسى يبعث الأسى

فدعني فهذا كله قبر مالك

وقوله : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي من كثرة البكاء. (فَهُوَ كَظِيمٌ) أي مكظم (٤) من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف.

فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق «قالوا» له على وجه الرحمة والرأفة به والحرص عليه (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ).

يقولون : لا تزال تتذكره (٥) حتى ينحل جسدك وتضعف قوتك ، فلو رفقت بنفسك كان أولى بك.

(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يقول لبنيه : لست أشكو إليكم ولا لأحد من الناس ما أنا فيه ، وإنما أشكو إلى الله عزوجل ، وأعلم أن الله سيجعل لي مما أنا فيه فرجا ومخرجا ، وأعلم أن رؤيا يوسف لا بد أن تقع ، ولا بد أن أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى : ولهذا قال : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

__________________

(١) و : صنعهم.

(٢) السوافك : المذروفة المنصبة.

(٣) اللوي : ما التوى من الرمل. والد كادك : ما استوى منه وتلبد.

(٤) و : مكمد.

(٥) و : تذكره.

٢٣١

ثم قال لهم محرضا على تطلب يوسف وأخيه ، وأن يبحثوا عن أمرهما : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ، إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) أي لا تيأسوا من الفرج بعد الشدة ، فإنه لا ييأس من روح الله وفرجه ، وما يقدره من المخرج في المضايق ، إلا القوم الكافرون.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ* قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ* قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ* قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ.)

[١٢ / يوسف : ٩٤ ـ ٩٨]

يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه وقدومهم عليه ، ورغبتهم فيما لديه من الميرة ، والصدقة عليهم برد أخيهم بنيامين إليهم : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي من الجدب وضيق الحال وكثرة العيال ، (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن تتجاوز عنا. قيل كانت دراهم رديئة ، وقيل قليلة ، وقيل حب الصنوبر وحب البطم ونحو ذلك. وعن ابن عباس : كانت حلق الغرائر والحبال ونحو ذلك.

(فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ). قيل بقبولها ، قاله السدي.

وقيل برد أخينا إلينا ، قاله ابن جريج. وقال سفيان بن عيينة : إنما حرمت الصدقة على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزع بهذه الآية. رواه ابن جرير.

فلما رأى ما هم فيه من الحال وما جاءوا به مما لم يبق عندهم سواء من ضعيف المال ، تعرف عليهم وعطف عليهم ، قائلا لهم عن أمر ربه وربهم ، وقد حسر لهم عن جبينه الشريف ، وما يحويه من الحال الذي يعرفون فيه :

(هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ).

«قالوا» وتعجبوا كل العجب ، وقد ترددوا إليه مرارا عديدة وهم لا يعرفون أنه هو :

(أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ).

(قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي). يعني أنا يوسف الذي صنعتم معه ما صنعتم ، وسلف من أمركم فيه ما فرطتم. وقوله : (وَهذا أَخِي) تأكيدا لما قال ، وتنبيها على ما كانوا أضمروا لهما من الحسد ، وعملوا في أمرهما من الاحتيال. ولهذا قال : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي بإحسانه إلينا وصدقته علينا ، وإيوائه لنا وشده معاقد عزنا ، وذلك بما أسلفنا من طاعة ربنا ، وصبرنا على ما كان

٢٣٢

منكم إلينا ، وطاعتنا وبرنا لأبينا ، ومحبته الشديدة لنا وشفقته علينا. (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) أي فضلك وأعطاك ما لم يعطنا ، (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) أي فيما أسدينا إليك ، وها نحن بين يديك. (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي لست أعاتبكم (١) على ما كان منكم بعد يومكم هذا. ثم زادهم على ذلك فقال : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ومن زعم أن الوقف على قوله (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) وابتدأ بقوله : (الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) فقوله ضعيف والصحيح الأول.

ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه ، وهو الذي يلي جسده ، فيضعوه على عيني أبيه ، فإنه يرجع إليه بصره بعدما كان ذهب ، بإذن الله. وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وأكبر المعجزات.

ثم أمرهم بأن يتحملوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر ، إلى الخير والدعة وجمع الشمل بعد الفرقة ، على أكمل الوجوه وأعلى الأمور.

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ* قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ* فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ* قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.)

[١٢ / يوسف : ٩٤ ـ ٩٨]

قال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، سمعت ابن عباس يقول : «فلما فصلت العير» قال : لما خرجت العير هاجت ريح ، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ). قال : فوجد ريحه من مسيرة ثلاثة (٢) أيام. وكذا رواه الثوري وشعبة وغيرهم عن أبي سنان (٣) به.

وقال الحسن البصري وابن جريج المكي : كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخا ، وكان له (٤) منذ فارقه ثمانون سنة.

وقوله : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي تقولون إنما قلت هذا من الفند ، وهو الخرف (٥) وكبر السن.

قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة : «تفندون» تسفهون. وقال مجاهد أيضا والحسن : تهرمون.

__________________

(١) م : أعاقبكم.

(٢) : ثمانية أيام.

(٣) و : عن أبي سعد.

(٤) و : وكان له عنه.

(٥) و : وهو الحزن.

٢٣٣

(قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) قال قتادة والسدي : قالوا له كلمة غليظة.

قال الله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) أي بمجرد ما جاء ألقى القميص على وجه يعقوب فرجع من فوره بصيرا بعدما كان ضريرا. وقال لبنيه عند (١) ذلك :

(أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أعلم أن الله سيجمع شملي بيوسف ، وسيقر عيني به ، وسيريني فيه ومنه ما يسرني.

فمنذ ذلك (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) طلبوا منه أن يستغفر لهم الله عزوجل عما كانوا فعلوا ونالوا منه ومن ابنه ، وما كانوا عزموا عليه ، ولما كان من نيتهم التوبة قبل الفعل ، وفقهم الله للاستغفار عند وقوع ذلك منهم. فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا ، وما عليه عولوا قائلا : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جريج وغيرهم : أرجأهم إلى وقت السحر. قال ابن جرير : حدثني أبو السائب ، حدثنا ابن إدريس قال : سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب بن دثار قال : كان عمر يأتي المسجد فسمع إنسانا يقول : «اللهم دعوتني فأجبت ، وأمرتني فأطعت ، وهذا السحر فاغفر لي» قال : فاستمع الى الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود ، فسأل عبد الله عن ذلك فقال : إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي).

وقد قال تعالى : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ).

وثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول :

هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟». وقد ورد في حديث : «أن يعقوب أرجأ بنيه إلى ليلة الجمعة».

قال ابن جرير : «حدثني المثنى ؛ قال حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب الدمشقي ، حدثنا الوليد ، أنبأنا ابن جريج ، عن عطاء وعكرمة عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) يقول : «حتى ليلة الجمعة ، وهو قول أخي يعقوب لبنيه».

وهذا غريب من هذا الوجه ، وفي رفعه نظر. والأشبه أن يكون موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما.

* * *

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ* وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ

__________________

(١) و : بعد ذلك.

٢٣٤

جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.)

[١٢ / يوسف : ٩٩ ـ ١٠١]

هذا إخبار عن حال اجتماع المتحابين بعد الفرقة الطويلة ، التي قيل إنها ثمانون سنة! وقيل ثلاث وثمانون سنة ، وهما روايتان عن الحسن وقيل خمس وثلاثون سنة. قاله قتادة وقال محمد بن إسحاق : ذكروا أنه غاب عنه ثماني عشرة سنة. قال : وأهل الكتاب يزعمون (١) أنه غاب عنه أربعين سنة.

وظاهر سياق القصة يرشد إلى تحديد المدة تقريبا ؛ فإن المرأة راودته وهو شاب ابن سبع عشرة سنة ، فيما قاله غير واحد ، فامتنع. فكان في السجن بضع سنين ؛ وهي سبع عند عكرمة وغيره.

ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع ، ثم لما أمحل الناس في السبع البواقي ، جاء إخوته يمتارون في السنة الأولى وحدهم ، وفي الثانية ومعهم أخوه (٢) [بنيامين](٣) ، وفي الثالثة تعرف إليهم وأمرهم بإحضار أهلهم أجمعين ، فجاءوا كلهم.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) واجتمع بهما خصوصا وحدهما دون إخوته ، (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ). قيل هذا من المقدم والمؤخر ؛ تقديره قال : ادخلوا ، مصر وآوى إليه أبويه. وضعفه ابن جرير وهو معذور. قيل بل تلقاهما وآواهما في منزل الخيام ، ثم لما اقتربوا من باب مصر (قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) ، قاله السدي ولو قيل إن الأمر لا يحتاج إلى هذا أيضا ، وإنه ضمن قوله ادخلوا ، بمعنى اسكنوا مصر ، أو أقيموا بها ، (إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) لكان صحيحا مليحا أيضا.

وعند أهل الكتاب : أن يعقوب لما وصل إلى أرض جاشر ـ وهي أرض بلبيس ـ خرج يوسف لتلقيه ، وكان يعقوب قد بعث ابنه قهوذا بين يديه مبشرا بقدومه ، وعندهم أن الملك أطلق لهم أرض جاشر ؛ يكونون فيها ، ويقيمون بها بنعمهم ومواشيهم. وقد ذكر جماعة من المفسرين ، أنه لما أزف قدوم نبي الله يعقوب ـ وهو إسرائيل ـ أراد يوسف أن يخرج لتلقيه ، فركب معه الملك وجنوده ؛ خدمة ليوسف وتعظيما لنبي الله «إسرائيل» وأنه دعا للملك ، وأن الله رفع عن أهل مصر بقية سني الجدب ببركة قدومه إليهم. فالله أعلم.

وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم ـ فيما قاله أبو إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة ابن مسعود ـ ثلاثة وستين إنسانا.

__________________

(١) و : يدعون.

(٢) و : أخوهم.

(٣) من : و.

٢٣٥

وقال موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب ، عن عبد الله بن شداد : كانوا ثلاثة وثمانين إنسانا.

وقال أبو إسحاق عن مسروق : دخلوا وهم ثلاثمائة وتسعون إنسانا.

قالوا : وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل وفي نص أهل الكتاب : أنهم كانوا سبعين نفرا وسموهم.

* * *

قال الله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) قيل : كانت أمه قد ماتت كما هو عند علماء التوراة. وقال بعض المفسرين : أحياها الله تعالى. وقال آخرون : بل كانت خالته «ليا» والخالة بمنزلة الأم.

وقال ابن جرير وآخرون : بل ظاهر القرآن يقتضي بقاء حياة أمه إلى يومئذ ، فلا يعول على نقل أهل الكتاب فيما خالقه. وهذا قوي والله أعلم.

ورفعهما على العرش أي أجلسهما معه على سريره ، (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي سجد له الأبوان والإخوة الأحد عشر ، تعظيما وتكريما وكان هذا مشروعا لهم ، ولم يزل ذلك معمولا به في سائر الشرائع حتى حرم في ملتنا.

(وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) أي هذا تعبير ما كنت قصصته عليك : من رؤيتي الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر ، حين رأيتهم لي ساجدين ، وأمرتني بكتمانها ، ووعدتني ما وعدتني عند ذلك (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ، وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) أي بعد الهم والضيق ، جعلني حاكما نافذ الكلمة في الديار المصرية حيث شئت. (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي البادية. وكانوا يسكنون أرض العربات من بلاد الخيل (بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي فيما كان منهم إلى من الأمر الذي تقدم وسبق ذكره.

ثم قال : (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي إذا أراد شيئا هيأ أسبابه ، ويسرها وسهلها من وجوه لا يهتدي إليها العباد ـ بل يقدرها وييسرها بلطيف صنعه وعظيم قدرته. (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) أي بجميع الأمور (الْحَكِيمُ) في خلقه وشرعه وقدره.

وعند أهل الكتاب : أن يوسف باع أهل مصر وغيرهم من الطعام الذي كان تحت يده ، بأموالهم كلها ؛ من الذهب والفضة ، والعقار والأثاث ، وما يملكونه كله ، حتى باعهم بأنفسهم فصاروا أرقاء. ثم أطلق لهم أرضهم وأعتق رقابهم على أن يعملوا ، ويكون خمس ما يستغلون من زرعهم وثمارهم للملك فصارت سنة أهل مصر بعده.

وحكى الثعلبي : أنه كان لا يشبع في تلك السنين ، حتى لا ينسى الجيعان ، وأنه إنما كان يأكل أكلة واحدة نصف النهار. قال : فمن ثم اقتدى به الملوك في ذلك. قلت : وقد كان أمير

٢٣٦

المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، لا يشبع بطنه عام الرمادة حتى ذهب الجدب وأتى الخصب.

قال الشافعي : قال رجل من الأعراب لعمر بعدما ذهب عام الرمادة : لقد انجلت عنك وإنك لابن حرة!

* * *

ثم لما رأى يوسف عليه‌السلام نعمته قد تمت ، وشمله قد اجتمع ، عرف أن هذه الدار لا يقربها قرار ، وأن كل شيء فيها ومن عليها فان ، وما بعد التمام إلا النقصان ، فعند ذلك أثنى على ربه بما هو أهله ، واعترف له بعظيم إحسانه وفضله ، وسأل منه ـ وهو خير المسئولين ـ أن يتوفاه ، أي حين يتوفاه على الإسلام ، وأن يلحقه بعباده الصالحين ، وهكذا كما يقال في الدعاء : «اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين» أي حين تتوفانا.

ويحتمل أنه سأل ذلك عند احتضاره عليه‌السلام ، كما سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند احتضاره أن يرفع روحه إلى الملأ الأعلى والرفقاء الصالحين من النبيين والمرسلين ، كما قال : اللهم في الرفيق الأعلى ثلاثا. ثم قضى.

ويحتمل أن يوسف عليه‌السلام سأل الوفاة على الإسلام منجزا في صحة بدنه وسلامته ، وأن ذلك كان سائغا في ملتهم وشرعهم ، كما روى عن ابن عباس أنه قال : ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف.

فأما في شريعتنا فقد نهي عن الدعاء بالموت إلا عند الفتن ؛ كما في حديث معاذ في الدعاء الذي رواه أحمد : «وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين» (١). وفي الحديث الآخر :

«ابن آدم ، الموت خير لك من الفتنة». وقالت مريم عليها‌السلام : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا). وتمنى الموت علي بن أبي طالب ، لما تفاقمت الأمور وعظمت الفتن واشتد القتال ، وكثر القيل والقال. وتمنى ذلك البخاري أبو عبد الله صاحب الصحيح ، لما اشتد عليه الحال ولقي من مخالفيه الأهوال.

فأما في حال الرفاهية فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، إما محسنا فلعله يزداد ، وإما مسيئا فلعله يستعتب ولكن ليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني

__________________

(١) الحديث رواه الترمذي في سننه وهو جزء من حديث طويل عن معاذ بن جبل (٤٨ / ٣٩ / ٣٢٣٥) وقال أبو عيسى : هذا الحديث حسن صحيح. سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث ، فقال : هذا حديث حسن صحيح أه.

ورواه أحمد في مسنده (١ / ٣٦٨) ، (٤ / ٦٦) ، (٥ / ٢٤٣) ، (٥ / ٤٢٧).

٢٣٧

إذا كانت الوفاة خيرا لي» (١) والمراد بالضر هاهنا ، ما يخص العبد في بدنه ؛ من مرض ونحوه ، لا في دينه.

والظاهر أن نبي الله يوسف عليه‌السلام سأل ذلك ، إما عند احتضاره ، أو إذا كان ذلك أن يكون كذلك.

وقد ذكر ابن إسحاق عن أهل الكتاب : أن يعقوب أقام بديار مصر عند يوسف سبع عشرة سنة ، ثم توفي عليه‌السلام. وكان قد أوصى إلى يوسف عليه‌السلام أن يدفن عند أبويه إبراهيم وإسحاق. قال السدي : فصبره وسيره إلى بلاد الشام فدفنه بالمغارة عند أبيه إسحاق وجده الخليل عليهم‌السلام.

عند أهل الكتاب : أن عمر يعقوب يوم دخل مصر مائة وثلاثون سنة. وعندهم أنه أقام بأرض مصر سبع عشرة سنة ، ومع هذا قالوا : فكان جميع عمره مائة وأربعين سنة.

وهذا نص كتابهم وهو غلط : إما في النسخة ، أو منهم ، أو قد أسقطوا الكسر وليس بعادتهم فيما هو أكثر من هذا ، فكيف يستعملون هذه الطريقة هاهنا؟

وقد قال تعالى في كتابه العزيز : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ، إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) يوصي بنيه بالإخلاص ، وهو دين الإسلام الذي بعث الله به الأنبياء عليهم‌السلام.

وقد ذكر أهل الكتاب : أنه أوصى بنيه واحدا واحدا ، وأخبرهم بما يكون من أمرهم ، وبشر يهوذا بخروج نبي عظيم من نسله تطيعه الشعوب ، وهو عيسى ابن مريم. والله أعلم.

وذكروا : أنه لما مات يعقوب بكى عليه أهل مصر سبعين يوما ، وأمر يوسف الأطباء فطيبوه بطيب ومكث فيه أربعين يوما. ثم استأذن يوسف ملك مصر في الخروج مع أبيه ليدفنه عند أهله فأذن له وخرج معه أكابر مصر وشيوخها. فلما وصلوا حبرون دفنوه في المغارة التي كان اشتراها ابراهيم الخليل من عفرون بن صخر الحيثي ، وعملوا له عزاء سبعة أيام.

قالوا : ثم رجعوا إلى بلادهم ، وعزى إخوة يوسف يوسف في أبيهم ، وترفقوا له فأكرمهم وأحسن فأقاموا ببلاد مصر.

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٧٥ / ١٩) ، (٨٠ / ٣٠) ، (٨١ / ٧) ، (٩٤ / ٦) ، ورواه مسلم (٤٨ / ١٠ ـ ١٣). ورواه أبو داود (٢٠ / ٩) ورواه الترمذي (٢٠ / ٣). ورواه النسائي (٢١ / ١ ـ ٢). ورواه ابن ماجه (٣٧ / ١٣ ، ٣١). ورواه الدرامي في سننه (٢٠ / ٤٥) ، ورواه أحمد في المسند (٢ / ٢٦٣ ، ٣٠٩ ، ٣١٦ ، ٣٥٠ ـ ٥١٤) ، (٣ / ١٠٠ ، ١٠٤ ، ١٦٣ ، ١٧١ ، ١٩٥ ، ٢٠٨ ، ٢٤٧ ، ٢٥٨ ، ٢٨١ ، ٣٣٢ ، ٤٩٤) ، (٥ / ١٠٩ ، ١١٠ ـ ١١١ ، ١١٢ ، ٢٦٦) ، (٦ / ٣٣٩ ، ٣٩٥).

٢٣٨

ثم حضرت يوسف عليه‌السلام الوفاة ، فأوصى أن يحمل معهم إذا خرجوا من مصر فيدفن عند آبائه فحنطوه ووضعوه في تابوت ، فكان بمصر حتى أخرجه معه موسى عليه‌السلام ، فدفنه عند آبائه كما سيأتي. قالوا : فمات وهو ابن مائة سنة وعشر سنين.

هذا نصهم فيما رأيته وفيما حكاه ابن جرير أيضا. وقال مبارك بن فضالة عن الحسن : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وغاب عن أبيه ثمانين سنة ، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة ، ومات وهو ابن مائة سنة وعشرين سنة. وقال غيره : أوصى إلى أخيه يهوذا ، صلوات الله عليه وسلامه.

٢٣٩

قصة أيوب عليه‌السلام

قال ابن إسحاق : كان رجلا من الروم. وهو أيوب بن موص بن رازح بن العيص ابن اسحاق بن ابراهيم الخليل.

قال غيره : هو أيوب بن موص بن رعويل بن العيص بن إسحق بن يعقوب ، وقيل غير ذلك في نسبه.

وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه‌السلام ، وقيل كان أبوه ممن آمن بإبراهيم عليه‌السلام يوم ألقي في النار لحرقه.

والمشهور الأول ، لأنه من ذرية إبراهيم ، كما قررنا عند قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ) الآيات من أن الصحيح أن الضمير عائد على إبراهيم دون نوح عليهما‌السلام.

وهو من الأنبياء المنصوص على الإيحاء اليهم في سورة النساء في قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ، وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ) الآية.

فالصحيح أنه من سلالة العيص بن إسحق وامرأته قيل : اسمها «ليا» بنت يعقوب ، وقيل رحمة بنت أفراثيم ، وقيل ليا بنت منسا بن يعقوب. وهذا أشهر فلهذا ذكرناه هاهنا.

ثم نعطف بذكر أنبياء بني إسرائيل بعد ذكر قصته إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان.

قال الله تعالى : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ.) [٢١ / الأنبياء : ٨٣ ـ ٨٤]

وقال تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ* ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ* وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ* وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ

٢٤٠