قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

بِالْعِبادِ* فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.)

[٤٠ / غافر : ٤١ ـ ٤٦]

كان يدعوهم إلى عبادة رب السموات والأرض ، الذي يقول للشيء كن فيكون ، وهم يدعونه إلى عبادة فرعون الجاهل الضال الملعون!

ولهذا قال لهم على سبيل الإنكار : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ* تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ).

ثم بين لهم بطلان ما هم عليه من عبادة ما سوى الله من الأنداد والأوثان ، وأنها لا تملك من نفع ولا إضرار (١) ، فقال : (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي لا تملك تصرفا ولا حكما في هذه الدار ، فكيف تملكه يوم القرار؟ وأما الله عزوجل فإنه الخالق والرازق للأبرار والفجار ، وهو الذي أحيا العباد ويميتهم ويبعثهم ، فيدخل طائعهم الجنة ، وعاصيهم إلى النار.

ثم توعدهم إن هم استمروا على العناد بقوله : (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ).

قال الله : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ،) أي بإنكاره سلم مما أصابهم من العقوبة على كفرهم بالله ، ومكرهم في صدهم عن سبيل الله ، مما أظهروا للعامة من الخيالات والمحالات التي ألبسوا (٢) بها على عوامهم وطغامهم. ولهذا قال : «وحاق» أي أحاط (بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) أي تعرض أرواحهم في برزخهم صباحا ومساء على النار. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) وقد تكلمنا على دلالة هذه الآية على عذاب القبر في التفسير ، ولله الحمد.

والمقصود ان الله تعالى لم يهلكهم إلا بعد إقامة الحجج عليهم ، وإرسال الرسول إليهم وإزاحه الشبه عنهم ، وأخذ الحجة عليهم منهم ، بالترهيب (٣) تارة والترغيب أخرى ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ* فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ).

يخبر تعالى أنه ابتلى آل فرعون و [هم](٤) قومه من القبط بالسنين وهي عوام الجدب التي لا يستغل فيها زرع ولا ينتفع بضرع. وقوله : (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) وهي قلة الثمار من الأشجار (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي فلم ينتفعوا ولم يرتدعوا ، بل تمردوا واستمروا على كفرهم وعنادهم ،. (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) والخصب

__________________

(١) و : لا تملك نفعا ولا ضرا.

(٢) و : ليسوا.

(٣) و : فبالترهيب ..

(٤) من و.

٣٠١

ونحوه (قالُوا لَنا هذِهِ) أي هذا الذي نستحقه ، وهذا الذي يليق بنا (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أي يقولون هذا بشؤمهم أصابنا هذا ولا يقولون في الأول إنه ببركتهم وحسن مجاورتهم [لهم] ولكن قلوبهم منكرة مستكبرة نافرة عن الحق ، إذا جاء الشر أسندوه إليه ، وإن رأوا خيرا ادعوه لأنفسهم. قال الله تعالى : (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) أي الله يجزيهم على هذا أوفر الجزاء. (ولكن أكثرهم لا يعلمون).

(وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي مهما جئتنا به من الآيات ـ وهي الخوارق للعادات ـ فلسنا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نطيعك ، ولو جئتنا بكل آية. وهكذا أخبر الله عنهم في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ).

قال الله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ.)

[٧ / الأعراف : ١٣٣]

أما الطوفان فعن ابن عباس : هو كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار ، وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك وعن ابن عباس وعطاء : هو كثرة الموت ، وقال مجاهد : الطوفان الماء والطاعون على كل حال ، وعن ابن عباس : أمر طاف بهم.

وقد روى ابن جرير وابن مردويه من طريق يحيى بن يمان ، عن المنهال بن خليفة ، عن الحجاج ، عن الحكم بن ميناء ، عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الطوفان الموت» (١) وهو غريب.

وأما الجراد فمعروف ، وقد روى أبو داود عن أبي عثمان ، عن سلمان الفارسي ، قال :

سئل رسول الله عن الجراد ، فقال : «أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه» (٢). وترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكله إنما هو على وجه التقذر له ، كما ترك أكل الضب وتنزه عن أكل البصل والثوم والكراث ، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفي قال : غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبع غزوات نأكل الجراد (٣) وقد تكلمنا على ما ورد فيه من الأحاديث والآثار في التفسير.

والمقصود أنه استاق خضراءهم فلم يترك لهم زرعا ولا ثمارا ولا سبدا ولا لبدا (٤). وأما القمل فعن أبن عباس : هو السوس الذي يخرج من (٥) الحنطة. وعنه أنه الجراد الصغار الذي لا

__________________

(١) حديث ضعيف. رواه السيوطي في الفتح الكبير (٢ / ٢١٩ / حلبي). ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري في تفسيره وابن مردويه وفيه : المنهال بن خليفة العجلي أبو قدامة الكوفي ضعيف من السابعة ـ د ت ق أه تقريب التهذيب ـ (٢ / ٢٧٧ / ١٤٠١). المغني في الضعفاء (٢ / ٦٧٩ / ٦٤٤٩).

(٢) الحديث رواه أبو داود (٢ / ٣٢١ / حلبي). كتاب الأطعمة ـ باب في أكل الجراد. وفيه : محمد ابن الفرج بن محمود البغدادي ، أبو بكر الأزرق. صدوق ربما وهم ، من الحادية عشرة ، مات سنة اثنتين وثمانين تمييز. أه. تقريب التهذيب (٢ / ٢٠٠ / ٦٢١).

(٣) حديث صحيح. رواه مسلم (٣٤ / ٨ / ٥٢). ورواه البخاري (٧٢ / ١٣). ورواه أبو داود (٢ / ٣٢١ / حلبي).

كتاب الأطعمة ـ باب في آكل الجراد.

(٤) السيد : القليل. اللبد : الكثير.

(٥) و : في

٣٠٢

أجنحة له ، وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة. وقال سعيد بن جبير والحسن : هو دواب سود صغار.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم القمل [هي](١) البراغيث. وحكى ابن جرير عن أهل العربية : أنها الحمنان وهو صغار القردان فوق القمامة (٢) فدخل معهم البيوت والفرش ، فلم يقر لهم قرار. ولم يمكنهم معه الغمض ولا العيش. وفسره عطاء بن السائب بهذا القمل المعروف.

وقرأها الحسن البصري كذلك بالتخفيف.

وأما الضفادع فمعروفة ، لبستهم حتى كانت تسقط في أطعمتهم وأوانيهم ، حتى إن أحدهم إذا فتح فاه (٣) لطعام أو شراب سقطت فيه ضفدعة من تلك الضفادع.

وأما الدم فكان قد مزج ماؤهم كله فلا يستقون من النيل شيئا إلا وجدوه دما عبيطا ، ولا من نهر ولا بئر ولا شيء إلا كان دما في الساعة الراهنة.

هذا كله ولم ينل بني إسرائيل من ذلك شيء بالكلية. وهذا من تمام المعجزة الباهرة ، والحجة القاطعة ، أن هذا كله يحصل لهم عن (٤) فعل موسى عليه‌السلام ، فينالهم عن آخرهم ، ولا يحصل هذا لأحد من بني إسرائيل ، وفي هذا أدل دليل.

* * *

قال محمد بن إسحاق : فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مغلولا ، ثم أبى إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر ، فتابع الله عليه الآيات ، فأخذه بالسنين : فأرسل عليه الطوفان ثم الجراد ، ثم القمل ، ثم الضفادع ، ثم الدم ، آيات مفصلات ، فأرسل الطوفان ـ وهو الماء ـ ففاض على وجه الأرض ثم ركد ، لا يقدرون على أن يحرثوا ولا أن يعملوا شيئا ، حتى جهدوا جوعا.

فلما بلغهم ذلك (قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ).

فدعا موسى ربه فكشفه عنهم. فلما لم يفوا له بشيء مما قالوا. أرسل الله عليهم الجراد ، فأكل كل الشجر فيما بلغني حتى إنه كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم. فقالوا مثل ما قالوا ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم القمل ، فذكر لي أن موسى عليه‌السلام ، أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم ، فضربه بها ، فانثال عليهم قملا ، حتى غلب على البيوت والأطعمة ، ومنعهم النوم والقرار.

__________________

(١) من و.

(٢) م : القمقامة وهي صغار القردان : (يراجع حياة الحيوان).

(٣) م : فمه.

(٤) م : من فعل موسى.

٣٠٣

فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له ، فدعا ربه فكشف عنهم فلم (١) يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الضفادع ، فملأت البيوت والأطعمة والآنية ، فلا يكشف أحد ثوبا ولا طعاما ، إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه.

فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فلم يفوا بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم الدم ، فصارت مياه آل فرعون دما ، لا يستقون من بئر ولا نهر ، ولا يغترفون من إناء ، إلا عاد دما عبيطا. وقال زيد بن أسلم : المراد بالدم الرعاف. ، رواه ابن أبي حاتم.

قال الله تعالى : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ* فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ.)

[٧ / الأعراف : ١٣٤ ـ ١٣٦]

يخبر تعالى عن كفرهم وعتوهم واستمرارهم على الضلال والجهل ، والاستكبار عن اتباع آيات الله وتصديق رسوله ، مع ما أيده به من الآيات العظيمة الباهرة ، والحجج البليغة إلى شر ما كانوا عليه ، وأعرضوا عما جاءهم به من الحق ولم يلتفتوا إليه ، فيرسل الله عليهم آية أخرى هي أشد مما أتت قبلها وأقوى ، فيقولون ويكذبون (٢) ، ويعدون ولا يفون : لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل. فيكشف عنهم ذلك العذاب الوبيل ، ثم يعودون إلى جهلهم الطويل العريض.

هذا ؛ والعظيم الحليم القدير ، ينظرهم ولا يعجل عليهم ، ويؤخرهم ويتقدم بالوعيد إليهم. ثم أخذهم بعد إقامة الحجة عليهم ، والإعذار (٣) إليهم ، أخذ عزيز مقتدر ؛ فجعلهم عبرة ونكالا وسلفا لمن أشبههم من الكافرين ، ومثلا لمن اتعظ بهم من عباده المؤمنين.

كما قال تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين ، في سورة حم والكتاب المبين : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ* فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ* وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها. وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ* وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ* فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ* وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ ، قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي* أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ* فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ* فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ* فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ* فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ).

__________________

(١) ف م : فلما لم يفوا له بشيء مما قالوا أرسل الله عليهم.

(٢) م : فكيذبون.

(٣) م : والأنذار.

٣٠٤

يذكر تعالى إرساله عبده الكليم الكريم إلى فرعون الخسيس اللئيم ، وانه تعالى أيد رسوله بآيات بينات واضحات ، تستحق أن تقابل بالتعظيم والتصديق ، وأن يرتدعوا عما هم فيه من الكفر ويرجعوا إلى الحق والصراط المستقيم ، فإذا هم منها يضحكون وبها يستهزئون ، وعن سبيل الله يصدون وعن الحق ينصرفون. فأرسل الله عليهم الآيات تترى يتبع بعضها بعضا ، وكل آية اكبر من التي تتلوها ؛ لأن التوكيد أبلغ مما قبله.

(وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ* وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) لم يكن لفظ الساحر في زمنهم نقصا ولا عيبا ؛ لأن علماءهم في ذلك الوقت هم السحرة ، ولهذا خاطبوه به في حال احتياجهم إليه ، وضراعتهم لديه ، قال الله تعالى : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ).

ثم أخبر تعالى عن تبجح فرعون بملكه ، وعظمة بلده وحسنها ، وتخرق الأنهار فيها ، وهي الخلجانات التي يكسرونها ايام زيادة النيل ثم تبجح بنفسه وحليته ، وأخذ يتنقص رسول الله موسى عليه‌السلام ، ويزدريه بكونه «لا يكاد يبين» يعني كلامه بسبب ما كان في لسانه من بقية تلك اللثغة ، التي هي شرف له وكمال وجمال ، ولم تكن مانعة له أن كلمه الله تعالى وأوحى إليه ، وأنزل بعد ذلك التوراة عليه.

وتنقصه فرعون ـ لعنه الله ـ بكونه لا أساور في يديه ، ولا زينة عليه! وإنما ذلك من حلية النساء ، لا يليق بشهامة الرجال ، فكيف بالرسل الذين هم أكمل عقلا ، وأتم معرفة ، وأعلى همة وأزهد في الدنيا ، وأعلم بما أعد الله لأوليائه في الأخرى؟

قوله : (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) لا يحتاج الأمر إلى ذلك ؛ فإن كان المراد أن تعظمه الملائكة فالملائكة يعظمون ويتواضعون لمن هو دون موسى عليه‌السلام بكثير ؛ كما جاء في الحديث : «إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع» فكيف يكون تواضعهم ـ وتعظيمهم لموسى الكليم عليه الصلاة والتسليم والتكريم!

وإن كان المراد شهادتهم له بالرسالة فقد أيد من المعجزات بما يدل قطعا لذوي الألباب ، ولمن قصد إلى الحق والصواب ، ويعمى عما جاء به من البينات والحجج والواضحات من نظر إلى القشور ، وترك لب اللباب ، وطبع على قلبه رب الأرباب ، وختم عليه بما فيه من الشك والارتياب ، كما هو حال فرعون القبطي العمي الكذاب.

* * *

قال الله تعالى : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) أي استخف عقولهم ودرجهم من حال إلى حال إلى أن صدقوه في دعواه الربوبية ، لعنه الله وقبحهم (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ* فَلَمَّا آسَفُونا) أي أغضبونا (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي بالغرق والإهانة وسلب العز ، والتبدّل بالذل وبالعذاب بعد النعمة ، والهوان بعد الرفاهية ، والنار بعد طيب العيش ، عياذا بالله العظيم ، وسلطانه القديم من ذلك.

٣٠٥

(فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) أي لمن اتبعهم في الصفات «ومثلا» أي لمن اتعظ بهم : خاف من وبيل مصرعهم ، ممن بلغه جلية خبرهم وما كان من أمرهم.

كما قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ* وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ* وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ* وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ* فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ* وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ* وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ.)

[٢٨ / القصص : ٣٦ ـ ٤٢]

يخبر تعالى أنهم لما استكبروا عن اتباع الحق ، وادعى ملكهم الباطل ووافقوه عليه وأطاعوه فيه ، اشتد غضب الرب الكبير العزيز ، الذي لا يغالب ولا يمانع عليهم ، فانتقم منهم أشد الأنتقام ، وأغرقه هو وجنوده في صبيحة واحدة فلم يفلت منهم أحد ، ولم يبق منهم ديار ، بل كل قد غرق فدخل النار ، وأتبعوا في هذه الدار لعنة بين العالمين ، ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ، ويوم القيامة هم من المقبوحين.

٣٠٦

ذكر هلاك فرعون وجنوده

لما تمادى قبط مصر على كفرهم وعتوهم وعنادهم ؛ متابعة لملكهم فرعون ، ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه‌السلام أقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة ، وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحير العقول ، وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون ، ولا ينزعون ولا يرجعون.

ولم يؤمن منهم إلا القليل ، قيل ثلاثة : وهم امرأة فرعون ، ولا علم لأهل الكتاب بخبرها ، ومؤمن آل فرعون الذي تقدمت حكاية موعظته ومشورته وحجته عليهم ، والرجل الناصح الذي جاء يسعى من أقصى المدينة فقال : (يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ).

قاله ابن عباس فيما رواه ابن أبي حاتم عنه ومراده غير السحرة فإنهم كانوا من القبط.

وقيل بل آمن به طائفة من القبط من قوم فرعون ، والسحرة كلهم وجميع شعب بني إسرائيل. ويدل على هذا قوله تعالى :

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ.)

[١٠ / يونس : ٨٣]

فالضمير في قوله : (إلا ذرية من قومه) عائد على فرعون لأن السياق يدل عليه ، وقيل على موسى لقربه ، والأول أظهر كما هو مقرر في التفسير وإيمانهم إليه فيفتنهم عن دينهم.

قال الله تعالى مخبرا عن فرعون وكفى بالله شهيدا : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) أي جبار عنيد مشتغل بغير الحق ، (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي في جميع أموره وشؤونه وأحواله ولكنه جرثومة قد حال انجعافها وثمرة خبيثة قد آن قطافها ، ومهحة ملعونة قد حتم إتلافها.

وعند ذلك قال موسى : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ* فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فأمرهم بالتوكل على الله والاستعانة به ، والالتجاء إليه ، فأتمروا بذلك فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجا ومخرجا.

٣٠٧

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً ، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون عليهما‌السلام أن يتخذا لقومهما بيوتا متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط ؛ ليكونوا على أهبة الرحيل إذا أمروا به ، ليعرف بعضهم بيوت بعض.

وقوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) قيل مساجد ، وقيل معناه كثرة الصلاة فيها.

قاله مجاهد وأبو مالك وإبراهيم النخعي والربيع والضحاك وزين بن أسلم وابنه عبد الرحمن وغيرهم.

ومعناه على هذا : الاستعانة على ما هم فيه من الضر والشدة والضيق بكثرة الصلاة ، كما قال تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حز به أمر صلى.

وقيل معناه : أنهم لم يكونوا حينئذ يقدرون على إظهار عبادتهم في مجتمعاتهم ومعابدهم ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم ؛ عوضا عما فاتهم من إظهار شعائر الدين الحق في ذلك الزمان ؛ الذي اقتضى حالهم إخفاءه خوفا من فرعون وملئه والمعنى الأول أقوى لقوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ). وإن كان لا ينافي الثاني أيضا والله أعلم.

وقال سعيد بن جبير : «واجعلوا بيوتكم قبلة» أي متقابلة.

* * *

قال تعالى :

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ* قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.)

[١٠ / يونس : ٨٨ ـ ٨٩]

هذا دعوة عظيمة دعا بها كليم الله موسى على عدو الله فرعون ، غضبا لله عليه ؛ لتكبره عن اتباع الحق ، وصده عن سبيل الله ومعاندته وعتوه وتمرده ، واستمراره على الباطل ، ومكابرته الحق الواضح الجلي الحسي والمعنوي ، والبرهان القطعي ، فقال : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ) يعني قومه من القبط ، ومن كان على ملته ودان بدينه (زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي وهذا يغتر به من يعظم أمر الدنيا ، فيحسب الجاهل أنهم على شيء ، لكن هذه الأموال وهذه الزينة ، من اللباس والمراكب الحسنة الهنية ، والدور الأنيقة والقصور المبنية ، والمآكل الشهية والمناظر البهية ، والملك العزيز والتمكين ، والجاه العريض في الدنيا لا الدين.

(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) قال ابن عباس ومجاهد : أي أهلكها. وقال أبو العالية والربيع

٣٠٨

ابن أنس والضحاك : اجعلها حجارة منقوشة كهيئة ما أتت ، وقال قتادة : بلغنا أن زروعهم صارت حجارة ، وقال محمد بن كعب : جعل سكرهم حجارة ، وقال أيضا : صارت أموالهم كلها حجارة ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز ، فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له قم ائتني بكيس. فجاء بكيس ، فإذا فيه حمص وبيض قد حول حجارة!

رواه ابن أبي حاتم.

وقوله : (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) قال ابن عباس : أي اطبع عليها. وهذه دعوة غضب لله تعالى ولدينه ولبراهينه.

فاستجاب الله تعالى لها ، وحققها وقبلها ، كما استجاب لنوح في قومه حيث قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً).

ولهذا قال تعالى ، مخاطبا لموسى حين دعا على فرعون وملئه ، وأمن أخوه هارون على دعائه فنزل ذلك منزلة الداعي أيضا : (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

* * *

قال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب : استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج إلى عيد لهم ، فأذن لهم وهو كاره. ولكنهم تجهزوا للخروج وتأهبوا له ، وإنما كان في نفس الأرض مكيدة بفرعون وجنوده ، ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم.

وأمرهم الله تعالى ـ فيما ذكره أهل الكتاب ـ أن يستعيروا حليا منهم ، فأعاروهم شيئا كثيرا ، فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم ، طالبين بلاد الشام ، فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق ، واشتد غضبه عليهم ، وشرع في استحثاث جيشه وجمع جنوده ليلحقهم ويمحقهم.

قال الله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ* فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ* وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ* فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ* كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ* فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ* فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ* فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ* وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ* وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ* ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.) [٢٦ / الشعراء : ٥٢ ـ ٦٨]

قال علماء التفسير : لما ركب فرعون في جنوده طالبا بني إسرائيل يقفو أثرهم كان في جيش كثيف عرمرم ، حتى قيل كان في خيوله مائة الف فحل أدهم ، وكانت عدة جنوده تزيد على ألف

٣٠٩

ألف وستمائة ألف فالله أعلم. وقيل إن بني إسرائيل كانوا نحوا من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية. وكان بين خروجهم من مصر بصحبة موسى عليه‌السلام ودخولهم إليها بصحبة أبيهم إسرائيل أربعمائة سنة وست وعشرون سنة شمسية.

والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود ، فأدركهم عند شروق الشمس ، وتراءى الجمعان ، ولم يبق ثم ريب ولا لبس ، وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه ، ولم يبق إلا المقاتلة والمجادلة والمحاماة. فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ). وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلى البحر فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه ، وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه ، والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة ، وفرعون قد غالقهم وواجههم ، ، وعاينوه في جنوده وجيوشه وعدده وعدته ، وهم منه في غاية الخوف والذعر ؛ لما قاسوا في سلطانه من الإهانة والمكر.

فشكوا إلى نبي الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه. فقال الرسول الصادق المصدوق :

(كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) وكان في الساقة ، فتقدم إلى المقدمة ، ونظر إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه ، ويتزايد زبد أجاجه ، وهو يقول : هاهنا أمرت. ومعه أخوه هارون ، ويوشع بن نون ، وهو يومئذ من سادات بني إسرائيل وعلمائهم وعبادهم الكبار ، وقد أوحى الله إليه وجعله نبيا بعد موسى ، وهارون عليهما‌السلام ، كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله ، ومعهم أيضا مؤمن آل فرعون ، وهم وقوف ، وبنو إسرائيل بكمالهم عليهم عكوف. ويقال إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مرارا في البحر ، هل يمكن سلوكه؟ فلا يمكن ، ويقول لموسى عليه‌السلام : يا نبي الله هاهنا أمرت؟ فيقول : نعم.

فلما تفاقم الأمر وضاق الحال واشتد الأمر ، واقترب فرعون وجنوده في جدهم وحدهم وحديدهم ، وغضبهم وحنقهم ، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، عند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير ، رب العرش الكريم ، إلى موسى الكليم : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ). فلما ضربه ، يقال إنه قال له : انفلق بإذن الله ، ويقال إنه كناه بأبي خالد ، والله أعلم.

قال الله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ). ويقال إنه انفلق اثني عشر طريقا ، لكل سبط طريق يسيرون فيه ، حتى قيل إنه صار فيه أيضا شبابيك ليرى بعضهم بعضا! وفي هذا نظر ، لأن الماء جرم شفاف إذا كان من ورائه ضياء حكاه.

وهكذا كان ماء البحر قائما مثل الجبال ، مكفوفا بالقدرة العظيمة الصادرة من الذي يقول للشيء كن فيكون ، وأمر الله ريح الدبور فلفحت حال البحر فأذهبته ، حتى صار يابسا لا يعلق في سنابك الخيول والدواب.

قال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي

٣١٠

الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ* وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى.)

[٢٠ / طه : ٧٧ ـ ٧٩]

والمقصود أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال ، بإذن الرب العظيم الشديد المحال ، أمر موسى عليه‌السلام أن يجوزه ببني إسرائيل ، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين مبادرين ، وقد شاهدو من الأمر العظيم ما يحير الناظرين ، ويهدي قلوب المؤمنين ، فلما جاوزه (١) وجاوزه وخرج آخرهم منه ، وانفصلوا عنه ، كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ، ووفودهم عليه.

فأراد موسى عليه‌السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما (٢) كان عليه ، لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه ، ولا سبيل عليه ، فأمره (٣) القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال ، كما قال وهو الصادق في المقال :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ* أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ* وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ* وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ* فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ* فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ* وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ* كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ* وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ* كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ* فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ* وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ* مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ* وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ* وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ.)

[٤٤ / الدخان : ١٧ ـ ٣٣]

فقوله تعالى : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) أي ساكنا على هيئته ، لا تغيره عن هذه الصفة. قاله عبد الله بن عباس ومجاهد وعكرمة والربيع والضحاك وقتادة وكعب الأحبار وسماك بن حرب وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم.

فلما تركه على هيئته وحالته (٤) وانتهى فرعون ، فرأى ما رأى وعاين ما عاين ، هاله هذا المنظر العظيم ، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل رب العرش الكريم ، فأحجم ولم يتقدم ، وندم في نفسه على خروجه في طلبهم والحالة هذه حيث لا ينفعه الندم ، لكنه أظهر لجنوده تجلدا وعاملهم معاملة العداء ، وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه ، وعلى باطله تابعوه (٥) : أنظروا كيف انحسر [البحر](٦) لأدرك عبيدي الآبقين من يدي ،

__________________

(١) م : جاوزوه.

(٢) و : هما.

(٣) و : فأمر.

(٤) و : رحاله.

(٥) و : بايعوه.

(٦) سقطت من م.

٣١١

الخارجين على (١) طاعتي وبلدي؟ وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم ، ويرجو أن ينجو وهيهات ، ويقدم تارة ويحجم تارات!

فذكروا أن جبريل عليه‌السلام تبدى في صورة فارس راكب على رمكة حائل فمر بين يدي فحل فرعون لعنه الله ، فحمحم إليها وأقبل عليها ، وأسرع جبريل بين يديه فاقتحم البحر ، واستبق الجواد وقد أجاد ، فبادر مسرعا ، هذا وفرعون لا يملك من نفسه ضرا ولا نفعا ، فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين ، فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين ، حتى هم أولهم بالخروج منه ، فعند ذلك أمر الله تعالى كليمه فيما أوحاه إليه أن يضرب بعصاه البحر.

فضربه فارتطم عليهم البحر كما كان ، فلم ينج منهم إنسان.

قال الله تعالى : (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ* ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). أي في إنجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد ، وإغراقه أعداءه فلم يخلص منهم أحد ، آية عظيمة ، وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة ، وصدق رسوله فيما جاء به من ربه من الشريعة الكريمة ، والمناهج المستقيمة.

وقال تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ. بَغْياً وَعَدْواً ، حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ : آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ).

يخبر تعالى عن كيفية غرق فرعون زعيم كفرة القبط ، وأنه لما جعلت الأمواج تخفضه تارة وترفعه أخرى (٢) ، وبنو إسرائيل ينظرون إليه وإلى جنوده ، ماذا أحل الله به وبهم من البأس العظيم والخطب الجسيم ؛ ليكون أقر لأعين بني إسرائيل ، وأشفى لنفوسهم. فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به ، وباشر سكرات الموت أناب حينئذ وتاب ، وآمن حين لا ينفع نفسا إيمانها ، كما قال تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ.)

[١٠ / يونس : ٩٦ ، ٩٧]

وقال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ.)

[٤٠ / غافر : ٨٤ ، ٨٥]

__________________

(١) و : عن طاعتي.

(٢) و : ترفعه تارة وتخفضه أخرى.

٣١٢

وهكذا دعا موسى على فرعون وملئه ، أن يطمس على أموالهم ، ويشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، أي حين لا ينفعهم ذلك ، ويكون حسرة عليهم. وقد قال تعالى لهما ـ أي لموسى وهارون ـ حين دعوا بهذا : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) فهذا من اجابة الله تعالى دعوة كليمه وأخيه هارون عليهما‌السلام.

ومن ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما قال فرعون : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) قال لي جبريل : «لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه ، مخافة أن تناله الرحمة!» (١).

ورواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم عند هذه الآية من حديث حماد بن سلمة ، وقال الترمذي حديث حسن.

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن عدي بن ثابت ، وعطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال لي جبريل : لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في في فرعون مخافة أن تدركه الرحمة» (٢).

ورواه الترمذي وابن جرير من حديث شعبة ، وقال الترمذي حسن غريب صحيح وأشار ابن جرير في رواية إلى وقفه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن عمر بن عبد الله ابن يعلي الثقفي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما أغرق الله فرعون أشار بإصبعه ورفع صوته : «آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، قال فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه ، فجعل يأخذ الحال بجناحيه ، فيضرب به وجهه فيرمسه.

ورواه ابن جرير من حديث أبي خالد به.

__________________

(١) الحديث رواه أحمد في مسنده (١ / ٢٤٥ / حلي) وهذه الرواية ضعيفة لأن فيها : علي بن زيد بن عبد الله بن زهير بن عبد الله بن جدعان ، التيمي البصري ، ينسب أبوه إلى جد جده ، ضعيف ، من الرابعة مات سنة إحدى وثلاثين ، وقيل قبلها. ـ غ م م. تقريب التهذيب (٢ / ٣٧ / ٣٤٢).

(٢) الحديث رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (٢ / ٥٤ / ٢٣٠٧ / منحة). وفيه :

(أ) عدي بن ثابت تابعي كوفي شيعي جلد ، ثقة مع ذلك وكان قاضي الشيعة وإمام مسجدهم. قال المسعودي : «ما أدركنه أحدا أقول بقول الشيعة من عدي بن ثابت». وفي نسبه اختلاف. وقال ابن معين : «شيعي مفرط». وقال الدارقطني «رافضي غال».

المغني في الضعفاء (٢ / ٤٣١ / ٤٠٨٤). وتقريب التهذيب (٢ / ١٦ / ١٣٥).

(ب) عطاء بن السائب ، تابعي مشهور حسن الحديث ساء حفظه بآخره. قال أبو حاتم : «سمع منه حماد بن زيد قبل أن يتغير». وقال أحمد : «ثقة رجل صالح». وقال أيضا : «من سمع منه قديما فهو صحيح». وقال غيره «ليس بالقوي» ، وقال ابن معين : «لا يحتج بحديثه». المغني في الضعفاء (٢ / ٤٣٤ / ٤١٢١). وما بين الأقواس الصواب ففي م ، ووردت لفظة «فم» بدلا من لفظة «في» وفي المطبوعة وردت كلمة أن تناله» بدلا من «أن تدركه» والصواب كما في مسند الطيالسي ما أثبته.

٣١٣

وقد رواه ابن جرير من طريق كثير بن زاذان وليس بمعروف (١) ، وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال لي جبريل عليه‌السلام : يا محمد لو رأيتني وأنا أغطه وأدس من الحال في فيه ، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له!» يعني فرعون.

وقد أرسله غير واحد من السلف كإبراهيم التيمي وقتادة وميمون بن مهران ، ويقال إن الضحاك بن قيس خطب به الناس ، وفي بعض الروايات أن جبريل قال : ما بغضت أحدا بغضي لفرعون حين قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ولقد جعلت أدس في فيه الطين حين قال ما قال.

وقوله تعالى : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) استفهام إنكار ، ونص على عدم قبوله تعالى منه ذلك ؛ لأنه ـ والله أعلم ـ لو رد إلى الدنيا كما كان لعاد إلى ما كان عليه ، كما أخبر تعالى عن الكفار إذا عاينوا النار وشاهدوها أنهم يقولون : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال الله : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). وقوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً).

قال ابن عباس وغير واحد : شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون ، حتى قال بعضهم : إنه لا يموت ، فأمر الله البحر فرفعه على مرتفع ؛ قيل على وجه الماء ، وقيل على نجوة من الأرض ، وعليه درعه التي يعرفونها من ملابسه. ليتحققوا بذلك هلاكه ، ويعلموا قدرة الله عليه. ولهذا قال :

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) أي مصاحبا درعك المعروفة بك ؛ «لتكون» أي أنت آية (لِمَنْ خَلْفَكَ) أي من بني إسرائيل» ، ودليلا على قدرة الله الذي أهلكك ، ولهذا قرأ بعض السلف : (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً). ويحتمل أن يكون المراد : ننجيك بجسدك مصاحبا درعك ، لتكون علامة لمن وراءك من بني إسرائيل على معرفتك وأنك هلكت ، والله أعلم. وقد كان هلاكه وجنوده في يوم عاشوراء.

كما قال الإمام البخاري في صحيحه : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء ، فقال : «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : أنتم أحق بموسى منهم فصوموا» (٢).

وأصل هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما. والله أعلم.

__________________

(١) كثير بن زاذان ، النخعي الكوفي ، مجهول ، من السابعة / ت ق. تقريب التهذيب (٢ / ١٣١ / ٩). المغني في الضعفاء (٢ / ٥٣٠ / ٥٠٧٩). ميزان الاعتدال (٣ / ٤٠٣).

(٢) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٦٥ / ١٢٠ ـ ٢ / ٤٦٨٠ / فتح).

رواه مسلم في صحيحه (١٣ / ١٩ / ١٢٧) نحوه ولفظه : «.. قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة. فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسئلوا عن ذلك؟ فقالوا : هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون. فنحن نصومه تعظما له. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نحن أولى بموسى منكم». فأمر بصومه. أه.

ورواه أبن ماجة أيضا بنحوه (٧ / ٤١ / ١٧٣٤) ولفظه «... فوجد اليهود صياما. فقال «ما هذا؟ قالوا : هذا يوم أنجى الله فيه موسى ، وأغرق فيه فرعون ، فصامه موسى شكرا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحن أحق بموسى منكم «فصامه ، وأمر بصيامه. أه.

٣١٤

فصل فيما كان من أمر بني إسرائيل بعد هلاك فرعون

قال الله تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا* وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ* وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ* وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.)

[٧ / الأعراف : ١٣٦ ـ ١٤١]

يذكر تعالى ما كان من أمر فرعون وجنوده في غرقهم ، وكيف سلبهم عزّهم ومالهم وأنفسهم ، وورث بني إسرائيل جميع أموالهم وأملاكهم».

كما قال : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ)

[٢٦ / الشعراء : ٥٩]

وقال : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ.)

[٢٨ / القصص : ٥]

وقال هاهنا (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ.)

أي أهلك ذلك جميعه ، وسلبهم عزهم العزيز العريض في الدنيا ، وهلك الملك وحاشيته وأمراؤه وجنوده ، ولم يبق ببلد مصر سوى العامة والرعايا.

٣١٥

ذكر ابن عبد الحكم في تاريخ مصر : أنه من ذلك الزمان تسلط نساء مصر (١) على رجالها ، بسبب أن نساء الأمراء والكبراء تزوجن بمن دونهن ، من العامة ، فكانت لهن السطوه عليهم ، واستمرت هذه سنة نساء مصر إلى يومنا (٢) هذا!

وعند أهل الكتاب : أن بني إسرائيل لما أمروا بالخروج من مصر جعل الله ذلك الشهر أول سنتهم وأمروا أن يذبح أهل كل بيت حملا من الغنم ، فإن كانوا لا يحتاجون إلى حمل فليشترك الجار وجاره فيه. فإذا ذبحوه فلينضحوا من دمه على أعتاب أبوابهم ، ليكون علامة لهم على بيوتهم ، ولا يأكلونه مطبوخا ، ولكن مشويا برأسه وأكارعه وبطنه ، ولا يبقوا منه شيئا ، ولا يكسروا له عظما ، ولا يخرجوا منه شيئا إلى خارج بيوتهم. وليكن خبزهم فطيرا سبعة أيام ، ابتداؤها من الرابع عشر من الشهر الأول من سنتهم ، وكان ذلك في فصل الربيع فإذا أكلوا فلتكن أوساطهم مشدودة ، وخفافهم في أرجلهم ، وعصيهم في أيديهم ، وليأكلوا بسرعة قياما ، ومهما فضل عن عشائهم فما بقي إلى الغد فليحرقوه بالنار. وشرع لهم هذا عيدا لأعقابهم ما دامت التوراة معمولا بها ، فإذا نسخت بطل شرعها. وقد وقع.

قالوا : وقتل الله عزوجل في تلك الليلة أبكار القبط وأبكار دوابهم ، ليشتغلوا عنهم. وخرج بنو إسرائيل حين انتصف النهار ، وأهل مصر في مناحة عظيمة على أبكار أولادهم وأبكار أموالهم ، ليس من بيت إلا وفيه عويل.

وحين جاء الوحي إلى موسى خرجوا مسرعين ، فحملوا العجين قبل اختماره ، وحملوا الأزواد في الأردية وألقوها على عواتقهم ، وكانوا قد استعاروا من أهل مصر حليا كثيرا ، فخرجوا وهم ستمائة ألف رجل سوى الذراري بما معهم من الأنعام ، وكانت مدة مقامهم بمصر أربعمائة سنة وثلاثين سنة. هذا نص كتابهم.

وهذه السنة عندهم تسمى سنة الفسخ ، هذا العيد عيد الفسخ ، ولهم عيد الفطر (٣) ، وعيد الحمل وهو أول السنة ، وهذه الأعياد الثلاثة آكد أعيادهم ، منصوص عليها في كتابهم.

ولما خرجوا من مصر أخرجوا معهم تابوت يوسف عليه‌السلام ، وخرجوا على طريق بحر سوف (٤) ، وكانوا في النهار يسيرون والسحاب بين أيديهم يسير أمامهم فيه عمود نور ، والليل أمامهم عمود نار ، فانتهى بهم الطريق إلى ساحل البحر فنزلوا هنالك ، وأدركهم فرعون وجنوده من المصريين ، وهم هناك حلول على شاطىء اليم ، فقلق كثير من بني إسرائيل ، حتى قال قائلهم :

كان بقاؤنا بمصر أحب إلينا من الموت بهذه البرية. فقال موسى عليه‌السلام لمن قال هذه المقالة :

لا تخشوا فإن فرعون وجنوده لا يرجعون إلى بلدهم بعد هذا.

قالوا : وأمر الله موسى عليه‌السلام أن يضرب البحر بعصاه ، وأن يقسمه ليدخل بنو

__________________

(١) م : مصري.

(٢) و : لي يومك هذا.

(٣) م : الفطير.

(٤) و : يحرسون.

٣١٦

إسرائيل في البحر واليبس. وصار الماء من هاهنا وهاهنا كالجبلين ، وصار وسطه يبسا ، لأن الله سلط عليه ريح الجنوب والسموم فجاز بنو إسرائيل البحر وأتبعهم فرعون وجنوده ، فلما توسطوه أمر الله موسى فضرب البحر بعصاه ، فرجع الماء كما كان عليهم ولكن عند أهل الكتاب : أن هذا كان في الليل ، وأن البحر ارتطم عليهم عند الصبح .. وهذا من غلطهم وعدم فهمهم في تعريبهم ، والله أعلم.

قالوا : ولما أغرق الله فرعون وجنوده حينئذ سبح موسى وبنو إسرائيل بهذا التسبيح للرب ، وقالوا : «نسبح الرب البهي ، الذي قهر الجنود ، ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود» وهو تسبيح طويل.

قالوا : وأخذت مريم النبية ـ أخت هارون ـ دفا بيدها ، وخرجت النساء في أثرها كلهن بدفوف وطبول. وجعلت مريم ترتل لهن وتقول : سبحان الرب القهار ، الذي قهر الخيول وركبانها القاء في البحر.

وهكذا رأيته في كتابهم. ولعل هذا هو من الذي حمل محمد بن كعب القرظي على زعمه أن مريم بنت عمران أم عيسى ، هي أخت هارون وموسى ، مع قوله : (يا أُخْتَ هارُونَ).

وقد بينا غلطه في ذلك ، وأن هذا لا يمكن أن يقال ، ولم يتابعه أحد عليه ، بل كل واحد (١) خالفه فيه. ولو قدر أن هذا محفوظ ، فهذه مريم بنت عمران أخت موسى وهارون عليهما‌السلام ، وأم عيسى عليها‌السلام وافقتها في الأسم واسم الأب واسم الأخ ، لأنهم كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمغيرة بن شعبه ، لما سأله أهل نجران عن قوله : يا أخت هارون فلم يدر ما يقول لهم ، حتى سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقال : «أما علمت أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم».

رواه مسلم.

وقولهم : «النبية» كما يقال للمرأة من بيت الملك ملكة ، ومن بيت الإمرة أميرة ، وإن لم تكن مباشرة شيئا من ذلك ، فكذا هذه استعارة لها ، لا أنها نبية حقيقة يوحى إليها.

وضربها بالدف في هذا اليوم الذي هو من أعظم الأعياد عندهم دليل على أنه قد كان شرع من قبلنا ضرب الدف في العيد ، وهذا مشروع لنا أيضا في حق النساء ، لحديث الجاريتين اللتين كانتا عند عائشة تضربان بالدف في ايام منى ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضطجع فحول ظهره إليهن ، ووجهه إلى الحائط فلما دخل أبو بكر زجرهن وقال : أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : «دعهن يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا». وهكذا يشرع عندنا في الأعراس ولقدوم الغياب ، كما هو مقرر في موضعه ، والله أعلم.

وذكروا أنهم لما جازوا البحر وذهبوا قاصدين إلى بلاد الشام مكثوا ثلاثة أيام لا يجدون ماء ،

__________________

(١) و : قل أحد.

٣١٧

فتكلم من تكلم منهم بسبب ذلك ، فوجدوا ماء زعافا أجاجا لم يستطيعوا شربه ، فأمر الله موسى فأخذ خشبة فوضعها فيه ، فحلا وساغ شربه. وعلمه الرب هنالك فرائض وسننا ، ووصاه وصايا كثيرة.

* * *

وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز المهيمن على ما عداه من الكتب : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.)

[٧ / الأعراف : ١٣٨ ، ١٣٩]

قالوا هذا الجهل والضلال ، وقد عاينوا من آيات الله وقدرته ، ما دلهم على صدق ما جاءهم به رسول ذي الجلال والإكرام وذلك أنهم مروا على قوم يعبدون أصناما ، قيل كانت على صور البقر ، فكأنهم سألوهم. لم يعبدونها؟ فزعموا لهم أنها تنفعهم وتضرهم ويسترزقون بها عند الضرورات ، فكأن بعض الجهال منهم صدقوهم في ذلك ، فسألوا نبيهم الكليم الكريم العظيم ، أن يجعل لهم آلهة كما لأولئك آلهة ، فقال لهم مبينا لهم أنهم لا يعقلون ولا يهتدون : (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

ثم ذكرهم نعمة الله عليهم ، في تفضيله إياهم على عالمي زمانهم بالعلم والشرع ؛ والرسول الذي بين أظهرهم ، وما أحسن به إليهم وما امتن به عليهم من إنجائهم من قبضة فرعون الجبار العنيد ، وإهلاكه إياه وهم ينظرون ، وتوريثه إياهم ما كان فرعون وملؤه يجمعونه من الأموال والسعادة ، وما كانوا يعرشون ، وبيّن لهم أنه لا تصلح العبادة إلا لله وحده لا شريك له ، لأنه الخالق الرازق القهار ، وليس كل بني إسرائيل سأل هذا السؤال ، بل هذا الضمير عائد على الجنس في قوله : «وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة» أي قال بعضهم كما في قوله :

(وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً* وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً.)

[١٨ / الكهف : ٤٧ ، ٤٨]

فالذين زعموا هذا بعض الناس لا كلهم.

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل حنين ، فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط. وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (اجعل

٣١٨

لنا إلها كما لهم آلهة ، إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم) (١).

ورواه النسائي عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق به. ورواه الترمذي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري به ، ثم قال : حسن صحيح.

وقد روى ابن جرير من حديث محمد بن إسحاق ومعمر وعقيل ، عن الزهري ، عن سنان ابن أبي سنان ، عن أبي واقد الليثي ، أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حنين ، قال :

وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ، ويعلقون بها أسلحتهم ، يقال لها «ذات أنواط» قال فمررنا بسدرة خضراء عظيمة ، قال : فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.

قال : «قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

* * *

والمقصود أن موسى عليه‌السلام ، لما انفصل من بلاد مصر وواجه بلاد بيت المقدس وجد فيها قوما من الجبارين ، من الحيثانيين والفزاريين والكنعانيين وغيرهم.

فأمرهم موسى عليه‌السلام بالدخول عليهم ومقاتلتهم ، وإجلائهم إياهم عن بيت المقدس ؛ فإن الله كتبه لهم ، ووعدهم إياه على لسان إبراهيم الخليل وموسى الكليم الجليل ، فأبوا ونكلوا عن الجهاد ، فسلط الله عليهم الخوف. وألقاهم في التيه يسيرون ويحلون يرتحلون ويذهبون ويجيئون. ، في مدة من السنين طويلة هي من العدد أربعون ، كما قال الله تعالى :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ* يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ* قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ* قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ* قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ* قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ..)

[٥ / المائدة : ٢٠ ـ ٢٦]

يذكرهم نبي الله نعمة الله عليهم وإحسانه إليهم بالنعمة الدينية والدنيوية ، ويأمرهم بالجهاد في سبيل الله ومقاتلة أعدائه فقال : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) أي تنكصوا على أعقابكم ، وتنكلوا عن قتال أعدائكم (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي فتخسروا بعد الربح ، وتنقصوا بعد الكمال.

__________________

(١) الحديث رواه الترمذي. ورجاله ثقات (٣٤ / ١٨ / ٢١٨٠) وأبي واقد الليثي هو : الحرث بن عون. أه.

٣١٩

(قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) أي عتاة كفرة متمردين (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) خافوا من هؤلاء الجبارين وقد عاينوا هلاك فرعون ، وهو أجبر من هؤلاء وأشد بأسا ، وأكثر جمعا وأعظم جندا. وهذا يدل على أنهم ملومون في هذه المقالة.

ومذمومون على هذه الحالة ، من الذلة عن مصاولة الأعداء ، ومقاومة المردة الأشقياء.

وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا آثارا فيها مجازفات كثيرة باطلة ، يدل العقل والنقل على خلافها من أنهم كانوا أشكالا هائلة ضخاما جدا حتى إنهم ذكروا أن رسل بني إسرائيل لما قدموا عليهم تلقاهم رجل من رسل الجبارين ، فجعل يأخذهم واحدا واحدا ، ويلفهم في أكمامه وحجزة سراويله ، وهم اثنا عشر رجلا ، فجاء بهم فنثرهم بين يدي ملك الجبارين ، فقال : ما هؤلاء؟

ولم يعرف أنهم من بني آدم حتى عرفوه.

وكل هذه هذيانات وخرافات لا حقيقة لها.

وأن الملك بعث معهم عنبا كل عنبة تكفي الرجل ، وشيئا من ثمارهم ليعلموا ضخامة أشكالهم. وهذا ليس بصحيح.

وذكروا هاهنا أن عوج بن عنق خرج من عند الجبارين إلى بني إسرائيل ليهلكهم ، وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة [ذراع](١) وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع.

هكذا ذكره البغوي وغيره ، وليس بصحيح ، كما قدمنا بيانه عند قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق آدم طوله ستون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن».

قالوا : فعمد عوج إلى قمة (٢) جبل فاقتلعها ، ثم أخذها بيديه يلقيها على جيش موسى ، فجاء طائر فنقر تلك الصخرة فخرقها فصارت طوقا في عنق عوج بن عنق. ثم عمد موسى إليه فوثب في الهواء عشرة أذرع وطوله عشرة أذرع ، وبيده عصاه وطولها عشرة أذرع ، فوصل إلى كعب قدمه فقتله.

يروى هذا عن نوف (٣) البكالي ، ونقله ابن جرير عن ابن عباس وفي إسناده إليه نظر. ثم هو مع هذا كله من الإسرائيليات ، وكل هذه من وضع جهال بني إسرائيل ، فإن الأخبار الكاذبة قد كثرت عندهم ولا تمييز لهم بين صحتها وباطلها. ثم لو كان هذا صحيحا لكان بنو إسرائيل معذورين في النكول عن قتالهم ، وقد ذمهم الله على نكولهم ، وعاقبهم بالتيه على ترك جهادهم ومخالفتهم رسولهم. وقد أشار عليهم رجلان صالحان منهم بالإقدام ، ونهياهم عن الإحجام.

ويقال : إنهما يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا. قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطية والسدي والربيع بن أنس ، وغير واحد.

__________________

(١) من و.

(٢) و : قلة.

(٣) م : عوف.

٣٢٠