قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

(وقالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) أي يخافون الله ، وقرأ بعضهم «يخافون» أي يهابون (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) أي بالإسلام والإيمان والطاعة والشجاعة (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ* وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إذا توكلتم على الله ، واستعنتم به ولجأتم إليه ، نصركم على عدوكم وأيدكم عليهم وأظفركم بهم.

(قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) فصمم ملؤهم على النكول عن الجهاد ، ووقع أمر عظيم ووهن كبير ، فيقال إن يوشع وكالب لما سمعا هذا الكلام شقا (١) ثيابهما ، وإن موسى وهارون سجدا إعظاما لهذا الكلام وغضبا لله عزوجل ، وشفقة عليهم من وبيل المقاتلة.

(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ، فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) قال ابن عباس اقض بيني وبينهم : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) عوقبوا على نكولهم بالتيهان في الأرض ؛ يسيرون إلى غير مقصد ، ليلا ونهارا وصباحا ومساء. ويقال إنه لم يخرج أحد من التيه ممن دخله ، بل ماتوا كلهم في مدة أربعين سنة ، ولم يبق إلا ذراريهم ، سوى يوشع وكالب عليهما‌السلام.

لكن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر لم يقولوا له كما قال قوم (٢) موسى لموسى ؛ بل لما استشارهم في الذهاب إلى النفير تكلم الصديق فأحسن ؛ وتكلم غيره (٣) من المهاجرين.

ثم جعل يقول : «أشيروا عليّ» حتى قال سعد بن معاذ : كأنك تعرض بنا يا رسول الله؟

فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء ، لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله. فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول سعد ونشطه ذلك.

وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن مخارق بن عبد الله الأحمسي ، عن طارق ـ هو ابن شهاب ـ أن المقداد قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر : يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون (٤).

وهذا إسناد جيد من هذا الوجه ، وله طرق أخرى.

قال أحمد : حدثنا أسود بن عامر. حدثنا إسرائيل ، عن مخارق ، عن طارق بن شهاب ، قال : قال عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه : لقد شهدت من المقداد مشهدا ، لأن أكون أنا

__________________

(١) و : فتقاء.

(٢) و : أصحاب موسى.

(٣) و : وغيره.

(٤) الحديث رواه أحمد في مسنده (٤ / ٣١٤ / حلبي) وإسناده جيد.

٣٢١

صاحبه ، أحب إليّ مما عدل به. أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يدعو على المشركين فقال (١) : والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكننا نقاتل عن يمينك ؛ وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك. فرأيت وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشرق لذلك وسر بذلك (٢).

رواه البخاري في التفسير ، والمغازي من طرق عن مخارق به.

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا علي بن الحسين بن علي ، حدثنا أبو حاتم الرازي ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا حميد عن أنس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سار إلى بدر ، استشار المسلمين فأشار عليه عمر ، ثم استشارهم فقالت الأنصار : يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا : «إذا لا يقول له كما قال بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك.

رواه الإمام أحمد عن عبيدة بن حميد ، عن حميد الطويل ، عن أنس به ، ورواه النسائي عن محمد بن المثني ، عن خالد بن الحارث ، عن حميد ، عن أنس به نحوه. وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى ، عن عبد الأعلى عن معتمر (٣) عن حميد عن أنس به ونحوه.

__________________

(١) و : قال.

(٢) الحديث رواه البخاري (٦٤ / ٤ / ٣٩٥٢ ، ٤٦٠٩ / فتح). ورواه أحمد (١ / ٣٩٠ ، ٤٢٨ / حلبي) ، (٤ / ١٨٤ ، ٣١٤ / حلبي).

(٣) و : عن معمر.

٣٢٢

فصل في دخول بني إسرائيل التيه

وما جرى لهم فيه من الأمور العجيبة

قد ذكرنا نكول بني إسرائيل عن قتال الجبارين ، وأن الله تعالى عاقبهم بالتيه ، وحكم بأنهم لا يخرجون منه إلى أربعين سنة.

ولم أر في كتاب أهل الكتاب قصة نكولهم عن قتال الجبارين ، ولكن فيه : أن يوشع جهزه موسى لقتال طائفة من الكفار ، وأن موسى وهارون وخور جلسوا على رأس أكمة ، ورفع موسى عصاه ، فكلما رفعها انتصر يوشع عليهم ، وكلما مالت يده بها من تعب أو نحوه غلبهم أولئك وجعل هارون وخور يدعمان يديه عن يمينه وشماله ذلك اليوم إلى غروب الشمس ، فانتصر حزب يوشع عليه‌السلام ، وعندهم أن «يثرون» كاهن مدين وختن موسى عليه‌السلام بلغه ما كان من أمر موسى وكيف أظفره الله بعدوه فرعون ، فقدم على موسى مسلما ، ومعه ابنته صفورا» زوجة موسى ، وابناها منه ، جرشون ، وعازر ، فتلقاه موسى وأكرمه ، واجتمع به شيوخ بني إسرائيل وعظموه وأجلوه.

وذكروا أنه رأى كثرة اجتماع بني إسرائيل على موسى في الخصومات التي تقع بينهم ، فأشار على موسى أن يجعل على الناس رجالا أمناء أتقياء أعفاء ؛ يبغضون الرشاء والخيانة ، فيجعلهم على الناس رؤوس ألوف ، ورؤوس مئين ، ورؤوس خمسين ، ورؤوس عشرة ، فيقضوا بين الناس ، فإذا أشكل عليهم أمر جاءوك ففصلت بينهم ما أشكل عليهم ، ففعل ذلك موسى عليه‌السلام.

قالوا : ودخل بنوا إسرائيل البرية عند سيناء ، في الشهر الثالث من خروجهم من مصر.

وكان خروجهم في أول السنة التي شرعت لهم ، وهي أول فصل الربيع ، فكأنهم دخلوا التيه في أول فصل الصيف ، والله أعلم.

قالوا : ونزل بنو إسرائيل حول طور سيناء ، وصعد موسى الجبل فكلمه ربه ، وأمره أن يذكر بني إسرائيل ما أنعم به عليهم ، من إنجائه إياهم من فرعون وقومه ، وكيف حملهم على مثل جناحي نسر من يده وقبضته ، وأمره أن يأمر بني إسرائيل أن يتطهروا ويغتسلوا ويغسلوا ثيابهم وليستعدوا إلى اليوم الثالث ، فإذا كان في اليوم الثالث فليجتمعوا حول الجبل ، ولا يقتربن أحد منهم إليه ، فمن دنا منه قتل ، حتى ولا شيء من البهائم ، ما داموا يسمعون صوت القرن فإذا

٣٢٣

سكن القرن فقد حل لكم أن ترتقوه. فسمع بنو إسرائيل ذلك وأطاعوا (١) واغتسلوا وتنظفوا وتطيبوا.

فلما كان اليوم الثالث ركت الجبل غمامة عظيمة ، وفيها أصوات وبروق وصوت الصور شديد جدا. ففزع بنو إسرائيل من ذلك فزعا شديدا ، وخرجوا فقاموا في سفح الجبل ، وغشي الجبل دخان عظيم في وسطه عمود نور (٢) زلزل الجبل كله زلزلة شديدة. واستمر صوت الصور ، وهو البوق واشتد ، وموسى عليه‌السلام فوق الجبل ، والله يكلمه ويناجيه. وأمر الرب عزوجل موسى أن ينزل ؛ ويأمر (٣) بني إسرائيل أن يقتربوا من الجبل ليسمعوا وصية الله ، وأمر الأحبار ، وهم علماؤهم ، أن يدنوا وفيصعدوا الجبل ، ليتقدموا (٤) بالقرب.

وهذا نص في كتابهم على وقوع النسخ لا محالة.

فقال موسى : يا رب إنهم لا يستطيعون أن يصعدوا ، وقد نهيتهم عن ذلك فأمره الله تعالى أن يذهب ويأتي معه بأخيه هارون ، ولكن الكهنة وهم العلماء ، والشعب وهم بقية بني إسرائيل ، غير بعيد ، ففعل موسى.

وكلمه ربه عزوجل ، فأمره حينئذ بالعشر الكلمات.

وعندهم أن بني إسرائيل سمعوا كلام الله ، ولكن لم يفهموا حتى فهمهم موسى ، وجعلوا يقولون لموسى : بلغنا أنت عن الرب عزوجل ، فإنا نخاف أن نموت.

فبلغهم عنه فقال هذه العشر الكلمات. وهي الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، والنهي عن الحلف بالله كاذبا ، والأمر بالمحافظة على السبت ومعناه تفرغ يوم من الأسبوع للعبادة ، وهذا حاصل بيوم الجمعة الذي نسخ الله به السبت ، أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض. الذي يعطيك الله ربك. لا تقتل لا تزن. لا تسرق. لا تشهد على صاحبك شهادة زور. ولا تمد عينك إلى بيت صاحبك ، ولا تشته امرأة صاحبك ، ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ، ولا حماره ، ولا شيئا من الذي لصاحبك ، ومعناه النهي عن الحسد.

وقد قال كثير من علماء السلف وغيرهم : مضمون هذه العشر الكلمات في آيتين من القرآن.

هما قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ

__________________

(١) و : فأطاعوه.

(٢) و : نار.

(٣) م : فأمر.

(٤) م : ليتقدموا.

٣٢٤

اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.)

[٦ / الأنعام : ١٥١ ـ ١٥٣]

وذكروا بعد العشر الكلمات وصايا كثيرة وأحكاما متفقة عزيزة ، كانت فزالت ، وعمل بها حينا من الدهر ثم طرأ عليها عصيان من المكلفين بها ، ثم عمدوا إليها فبدلوها وحرفوها ، ثم بعد ذلك كله سلبوها فصارت منسوخة مبدلة ، بعدما كانت مشروعة مكملة.

فلله الأمر من قبل ومن بعد ، وهو الذي يحكم ما يشاء ، ويفعل ما يريد ألا له الخلق والأمر ، وتبارك الله رب العالمين ..

وقال الله تعالى (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى * كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى.)

[٢٠ / طه : ٨٠ ـ ٨٢]

يذكر تعالى منته وإحسانه على بني إسرائيل بما أنجاهم من أعدائهم وخلصهم من الضيق والحرج وأنه وعدهم صحبة نبيهم إلى جانب الطور الأيمن أي منهم ؛ ولينزل عليه أحكاما عظيمة فيها مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم وأنه تعالى أنزل عليهم في حال شدتهم وضرورتهم في سفرهم (١) في الأرض التي ليس فيها زرع ولا ضرع ؛ منا من السماء ، يصبحون فيجدونه خلال بيوتهم ، فيأخذون منه قدر حاجتهم في ذلك اليوم إلى مثله من الغد ، ومن ادخر منه لأكثر من ذلك فسد ، ومن أخذ منه قليلا كفاه ، أو كثيرا لم يفضل عنه فيصنعون منه مثل الخبز ، وهو في غاية البياض والحلاوة ، فإذا كان من آخر (٢) النهار غشيهم طير السلوى ، فيقتنصون منها (٣) بلا كلفة ما يحتاجون إليه حسب كفايتهم لعشائهم.

وإذا كان فصل الصيف ظلل الله عليهم الغمام ، وهو السحاب الذي يستر عنهم حر الشمس وضوءها الباهر.

كما قال تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ* وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ.)

[٢ / البقرة : ٣٩ ـ ٤١]

__________________

(١) و : وسفرهم.

(٢) و : في آخر.

(٣) م : منه.

٣٢٥

إلى أن قال : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ* وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ* ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.)

[٢ / ا. لبقرة : ٤٩ ـ ٥٧]

إلى أن قال : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ.)

[٢ / البقرة : ٦٠ ، ٦١]

فذكر تعالى إنعامه عليهم ، وإحسانه إليهم ، بما يسر لهم من المن والسلوى ، طعامين شهيين بلا كلفة ولا سعي لهم فيه ، بل ينزل الله المن باكرا ، ويرسل عليهم طير السلوى ، عشيا ، وأنبع الماء لهم ؛ بضرب موسى عليه‌السلام حجرا كانوا يحملونه معهم بالعصا ، فتفجر منه اثنتا عشرة عينا ، لكل سبط عين منه تنبجس ، ثم تنفجر ماء زلالا فيستقون [فيشربون](١) ويسقون دوابهم ، ويدخرون كفايتهم ، وظلل عليهم الغمام من الحر.

وهذه نعم من الله عظيمة ، وعطيات جسيمة ، فما رعوها حق رعايتها ولا قاموا بشكرها وحق عبادتها. ثم ضجر كثير [منهم](٢) منها وتبرموا بها ، وسألوا أن يستبدلوا منها ببدلها ، مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها.

فقرعهم الكليم ووبخهم وأنبهم (٣) على هذه المقالة وعنفهم قائلا : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى

__________________

(١ و ٢) سقطت من م.

(٣) و : ونبههم.

٣٢٦

بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ؟ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) أي هذا الذي تطلبونه وتريدونه بدل هذه النعم التي أنتم فيها حاصل لأهل الأمصار الصغار والكبار موجود بها ، وإذا هبطتم إليها أي ونزلتم عن هذه المرتبة التي لا تصلحون لمنصبها ـ تجدون بها ما تشتهون وما ترومون بما ذكرتم من المآكل الدنية والأغذية الردية ، ولكني لست أجيبكم إلى سؤال ذلك هاهنا ، ولا أبلغكم ما تعنتم به من المنى.

وكل هذه الصفات المذكورة عنهم الصادرة منهم ، تدل على أنهم لم ينتهوا عما نهوا عنه ؛ كما قال تعالى : (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ، وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) ، أي فقد هلك وحق له والله الهلاك والدمار ، وقد حل عليه غضب الملك الجبار.

ولكنه تعالى مزج هذا الوعيد الشديد ، بالرجاء لمن أناب وتاب ولم يستمر على متابعة الشيطان المريد ، فقال : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى).

٣٢٧

سؤال الرؤية (١)

قال تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ* قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ* وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ* سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ.)

[٧ ـ الأعراف : ١٤٢ ـ ١٤٧]

قال جماعة من السلف منهم ابن عباس ومسروق ومجاهد : الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله ، وأتمت أربعين ليلة بعشر من ذي الحجة.

فعلى هذا يكون كلام الله (٢) له يوم عيد النحر ، وفي مثله أكمل الله عزوجل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم دينه ، وأقام (٣) حجته وبراهينه.

والمقصود أن موسى عليه‌السلام لما استكمل الميقات ، وكان فيه صائما يقال إنه لم يستطعم الطعام ، فلما كمل الشهر أخذ لحاء شجرة فمضغه ليطيب ريح فمه ، فأمره الله أن يمسك عشرا أخرى ، فصارت أربعين ليلة. ولهذا ثبت في الحديث : أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.

فلما عزم على الذهاب استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هارون ، المحبب المبجل الجليل. وهو ابن أمه وأبيه ، ووزيره في الدعوة إلى مصطفيه ، فوصاه ، وأمره وليس في هذا لعلو منزلته في نبوته منافاة.

__________________

(١) ليس في و.

(٢) و : كلامه له.

(٣) و : واقدمه.

٣٢٨

قال الله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) أي في الوقت الذي أمر بالمجيء فيه (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) أي كلمه الله من وراء حجاب ، إلا أنه أسمعه الخطاب ، فناداه وناجاه ، قربه وأدناه. وهذا مقام رفيع ومعقل منيع ، ومنصب شريف ومنزل منيف ، فصلوات الله عليه تترى ، وسلامه عليه في الدنيا والأخرى.

ولما أعطي هذه المنزلة العلية والمرتبة وسمع الخطاب ؛ سأل رفع الحجاب ، فقال للعظيم الذي لا تدركه الأبصار القوي البرهان : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) ثم بيّن تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك وتعالى ، لأن الجبل الذي هو أقوى وأكبر ذاتا وأشد ثباتا من الإنسان ، لا يثبت عند التجلي من الرحمن ، ولهذا قال : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي).

وفي الكتب المتقدمة : أن الله تعالى قال له : «يا موسى أنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده» (١).

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «حجابه النور ـ وفي رواية النار ـ لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من حلقه» (٢).

وقال ابن عباس في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ذاك نوره الذي هو نوره. إذا تجلى لشيء لا يقوم له شيء.

ولهذا قال تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً ، فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.)

قال مجاهد : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) فإنه أكبر منك وأشد خلقا ، (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل فدك على أوله ، ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقا.

وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الإمام أحمد والترمذي ، وصححه ابن جرير والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت ، زاد ابن جرير وليث عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) قال هكذا بإصبعه ، ووضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل.

__________________

(١) تدهده : تدحرج.

(٢) الحديث رواه مسلم في صحيحه (١ / ٧٩ / ٢٩٣) ولفظه «قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس كلمات فقال : «إن الله عزوجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار. وعمل النهار قبل عمل الليل. حجابه النور. (وفي رواية أبي بكر : النار). لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلفه». أه. ورواه ابن ماجة في سننه (مقدمة / ١٣ / ١٩٥). ورواه أحمد في مسنده (٤ / ٤٠١ / ٤٠٥ / حلبي).

غريب الحديث.

سبحات وجهه : السبحات جمع سبحة ، كغرقة وغرقات ، وفسر سبحات الوجه بجلالته.

٣٢٩

لفظ ابن جرير.

وقال السدي عن عكرمة ، عن ابن عباس ، : ما تجلى ـ يعني من العظمة ـ منه إلا قدر النصر فجعل الجبل دكا ، قال : ترابا : ، (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي مغشيا عليه. وقال قتادة :

ميتا. والصحيح الأول لقوله : (فَلَمَّا أَفاقَ) فإن الإفاقة إنما تكون عن غشيي : (قالَ سُبْحانَكَ) تنزيه وتعظيم وإجلال أن يراه بعظمته أحد. (تُبْتُ إِلَيْكَ) أي فلست أسأل بعد هذه الرؤية ، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أنه لا يراك أحد حي إلا مات. ولا يابس إلا تدهده.

وقد ثبت في الصحيحين من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني الأنصاري ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تخيروني من بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟» (١).

لفظ البخاري : وفي أوله قصة اليهودي الذي لطم وجهه الأنصاري حين قال : لا والذي اصطفى موسى على البشر. فقال رسول الله : «لا تخيروني من بين الأنبياء» (٢).

وفي الصحيحين من طريق الزهري عن أبي سلمة وعبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه. وفيه : «لا تخيروني على موسى» وذكر تمامه.

وهذا من باب الهضم والتواضع ، أو نهى عن التفضيل بين الأنبياء على وجه الغضب والعصبية ، أو ليس هذا إليكم بل الله هو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات ، وليس ينال هذا بمجرد الرأي ، بل بالتوقيف.

ومن قال إن هذا قاله قبل أن يعلم أنه أفضل ، ثم نسخ باطلاعه على أفضليته عليهم كلهم ، ففي قوله نظر ؛ لأن هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة ، وما هاجر أبو هريرة إلا عام حنين متأخرا ، فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا. والله أعلم.

ولا شك أنه ، صلوات الله وسلامه عليه ، أفضل البشر بل الخليقة ، قال الله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وما كملوا إلا بشرف نبيهم.

وثبت بالتواتر عنه ، صلوات الله وسلامه عليه ، أنه قال : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر» (٣) ثم ذكر اختصاصه بالمقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون ، الذي تحيد عنه

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٤٤ / ١ / ٢٤١٢ / فتح). ورواه مسلم في صحيحه من طريق أبي هريرة (٤٣ / ١٥٩ / ١٦٢). ورواه الطبري في التفسير (٢٤ / ٢١ / بولاق). ورواه الحافظ في الفتح (٦ / ٣١٩ / مصر). ورواه أيضا أحمد في مسنده (١٤ / ٧٥٧٦ / معارف) من طريق أبي هريرة بلفظه ورواه أيضا أبو داود (٣٩ / ١٣) والترمذي وابن ماجة.

(٢) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٦٠ / ٣١ / ٣٤٠٨ / فتح).

(٣) الحديث رواه ابن ماجة في سننه (٣٧ / ٣٧ / ٤٣٠٨). وتمامه «أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر ، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر» أه. وفيه علي بن زيد بن جدعان ضعيف وقد سبق ترجمته.

٣٣٠

الأنبياء والمرسلون ، حتى أولوا العزم الأكملون : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش ـ أي آخذا بها ـ فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» (١) دليل على أن هذا الصعق الذي يحصل للخلائق في عرصات القيامة ، حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين عباده ، فيصعقون من شدة الهيبة والعظمة والجلال ، فيكون أولهم إفاقة محمد خاتم الأنبياء ، ومصطفى رب الأرض والسماء على سائر الأنبياء ، فيجد موسى باطشا بقائم العرش. قال الصادق المصدوق : فلا أدري أصعق فأفاق قبلي؟» أي وكانت (٢) صعقته خفيفة ، لأنه قد ناله بهذا السبب في الدنيا صعق ، «أو جوزي بصعقة الطور؟» يعني فلم يصعق بالكلية.

وهذا فيه شرف كبير لموسى عليه‌السلام من هذه الحيثية ، ولا يلزم تفضيله بها مطلقا من كل وجه. ولهذا نبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على شرفه وفضيلته بهذه الصفة ؛ لأن المسلم لما ضرب وجه اليهودي حين قال : «لا والذي اصطفى موسى على البشر» قد يحصل في نفوس المشاهدين لذلك هضم بجناب موسى عليه الصلاة والسلام ، فبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضيلته (٣) وشرفه.

وقوله تعالى : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) أي في ذلك الزمان ، لاما (٤) قبله ؛ لأن ابراهيم الخليل أفضل منه ، كما تقدم بيان ذلك في قصة إبراهيم ، ولا ما بعده ؛ لأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل منهما ، كما ظهر شرفه ليلة الإسراء على جميع المرسلين والأنبياء ، وكما ثبت أنه قال : «سأقوم مقاما يرغب إلى الخلق حتى إبراهيم».

وقوله تعالى : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي فخذ ما أعطيتك من الرسالة والكلام ، ولا تسأل زيادة عليه ، وكن من الشاكرين على ذلك.

وقال الله تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) وكانت الألواح من جوهر نفيس ، ففي الصحيح : أن الله كتب له التوراة بيده ، وفيها مواعظ من الآثام ، وتفصيل لكل ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام.

(فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي بعزم ونية صادقة وقوية (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أن يضعوها على أحسن وجوهها وأجمل محاملها (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي سترون عاقبة الخارجين عن طاعتي ، المخالفين لأمري ، المكذبين لرسلي.

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) أي عن فهمها وتدبرها ، وتعقل معناها الذي أريد منها ، ودل على مقتضاها الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها» أي ولو شاهدوا ما

__________________

(١) الحديث رواه البخاري (٦٠ / ٢٥ / ٣٣٩٨). ورواه أبو داود في سننه (٢ / ٥٣١ / حلبي).

(٢) و : وكانت.

(٣) و : فضله.

(٤) و : فيما قبله.

٣٣١

شاهدوا (١) من الخوارق والمعجزات ، لا ينقادون لاتباعها ، (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) أي لا يسلكوه ويتبعوه (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي صرفناهم عن ذلك لتكذيبهم بآياتنا ، وتغافلهم عنها ، وإعراضهم عن التصديق بها والتفكير في معناها ، وترك العمل بمقتضاها. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

__________________

(١) و : شاهدوه.

٣٣٢

قصة عبادتهم العجل في غيبة كليم الله عنهم

قال الله تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ* وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ* وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ* وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ* وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ.)

[٧ / الأعراف : ١٤٨ ـ ١٥٤]

قال تعالى : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى * قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى * قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ* فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي* قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ* فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ* أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً* وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي* قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى * قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي* قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي* قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ* قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ

٣٣٣

يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي* قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً* إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً.)

[٢٠ ـ / طه : ٨٣ ـ / ٩٨]

يذكر تعالى ما كان من أمر بني إسرائيل ، حين ذهب موسى عليه‌السلام إلى ميقات ربه فمكث على الطور يناجيه ويسأله موسى عليه‌السلام عن أشياء كثيرة وهو تعالى يجيبه عنها.

فعمد رجل منهم يقال له هارون السامري ، فأخذ ما كانوا استعاروه من الحلي ، فصاغ منه عجلا وألقى فيه قبضة من التراب ، كان أخذها من أثر فرس جبريل ، حين رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه ، فلما ألقاها فيه خار كما يخور العجل الحقيقي. ويقال إنه استحال عجلا جسدا أي لحما ودما حيا يخور ، قاله قتادة وغيره. وقيل بل كانت الريح إذا دخلت من دبره خرجت من فمه فيخور كما تخور البقرة ، فيرقصون حوله ويفرحون.

(فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) أي فنسي موسى ربه عندنا ، وذهب يتطلبه وهو ها هنا! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، تقدمت أسماؤه وصفاته ، وتضاعفت آلاؤه وهباته (١).

قال الله تعالى مبينا بطلان ما ذهبوا إليه ، وما عولوا عليه من إلهية هذا الذي قصاراه أن يكون حيوانا بهيما أو شيطانا رجيما : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً؟).

وقال : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ).

فذكر أن هذا الحيوان لا يتكلم ولا يرد جوابا ، ولا يملك ضرا ولا نفعا ، ولا يهدي إلى رشد ، اتخذوه وهم ظالمون لأنفسهم. عالمون في أنفسهم بطلان ما هم عليه من الجهل والضلال.

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أي ندموا على ما صنعوا (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).

* * *

ولما رجع موسى عليه‌السلام اليهم ، ورأى ما هم عليه من عبادة العجل ، ومعه الألواح المتضمنة التوراة ، ألقاها ، فيقال إنه كسرها. وهكذا هو عند أهل الكتاب ، وإن الله أبدله غيرها ، وليس في اللفظ القرآني ما يدل على ذلك ، إلا أنه ألقاها حين عاين ما عاين.

وعند أهل الكتاب : أنهما كانا لوحين ، وظاهر القرآن أنها ألواح متعددة. ولم يتأثر بمجرد الخبر من الله تعالى عن عبادة العجل ، فأمره بمعاينة ذلك.

ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان عن ابن عباس قال : قال الرسول

__________________

(١) و : وعداته.

٣٣٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الخبر كالمعاينة» (١).

ثم أقبل عليهم فعنفهم ووبخهم وهجنهم في صنيعهم هذا القبيح فاعتذروا إليه ، بما ليس بصحيح ، «قالوا إنا (حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) تحرجوا من تملك حلي آل فرعون وهم أهل حرب ، وقد أمرهم الله بأخذه وأباحه لهم ، ولم يتحرجوا بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم من عبادة العجل الجسد الذي له خوار ، مع الواحد الأحد الفرد الصمد القهار!

ثم أقبل على أخيه هارون عليهما‌السلام قائلا له : «يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن» أي هلا لما رأيت ما صنعوا اتبعتني فأعلمتني بما فعلوا. فقال : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي تركتهم وجئتني وأنت قد استخلفتني فيهم.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وقد كان هارون عليه‌السلام نهاهم عن هذا الصنيع الفظيع أشد النهي ، وزجرهم عنه أتم الزجر.

قال الله تعالى : (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) أي إنما قدر الله أمر هذا العجل وجعله يخور فتنة واختبارا لكم ، (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) أي لا هذا (فَاتَّبِعُونِي) أي فيما أقول لكم (وَأَطِيعُوا أَمْرِي* قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) يشهد (٢) الله لهارون عليه‌السلام ، (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أنه نهاهم وزجرهم عن ذلك فلم يطيعوه ولم يتبعوه.

ثم أقبل موسى على السامري (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟) أي ما حملك على ما صنعت؟

(قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي رأيت جبرائيل وهو راكب فرسا «فقبضت قبضة من اثر الرسول» أي من أثر فرس جبريل. وقد ذكر بعضهم أنه رآه ، وكلما وطئت بحوافرها على موضع اخضر وأعشب ، فأخذ من أثر حافرها ، فلما ألقاه في هذا العجل المصنوع (٣) من الذهب كان من أمره ما كان. ولهذا قال : (فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي* قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) وهذا دعاء عليه بأن لا يمس أحدا ، معاقبة له على مسه ما لم يكن له مسه ، وهذا معاقبة له في الدنيا ، ثم توعده في الأخرى فقال : (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ). وقرىء : «لن نخلفه» (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً). قال : فعمد

__________________

(١) الحديث رواه أحمد في مسنده (١ / ٢١٥ / ـ ٢٧١ / حلبي). ورواه السيوطي في الفتح الكبير (٣ / ٥٨ / حلبي) وتمامه «ليس الخبر كالمعاينة إن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح ، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت». ورواه العجلوني في كشف الخفاء (٢ / ٢٣٦ / ٢١٣٧) وقال رواه أحمد وابن منيع والطبراني والعسكري وابن حبان والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الحافظ بن حجر في المجلس الثامن والخمسين بعد المائة من تخريجه وأغفله ابن كثير ، وتنبه له السبكي وقال في اللآلىء فإن قيل هو معلول بما قاله ابن عدي في الكامل من أن هشيما لم يسمع هذا الحديث من أبي بشر وإنما سمعه من أبي عوانة. ورواه ابن كثير في تفسيره (٥ / ٢٢٤ ، ٢٢٥ / عمدة التفاسير).

وقال محققه أحمد شاكر : «رواه أحمد في المسند مطولا ومختصرا : ١٨٤٢ ، ٢٤٤٧ ، من حديث ابن عباس ، ورواه الحاكم مطولا (٢ / ٣٢١) وصححه على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي. ورواه ابن حبان في صحيحه (٢ / ٦٦٨ / مخطوطه.

أه.

(٢) و : فشهد ...

(٣) المصوغ.

٣٣٥

موسى عليه‌السلام إلى هذا العجل ، فحرقه [قيل](١) بالنار ، كما قاله قتادة وغيره. وقيل بالمبارد ، كما قاله علي وابن عباس وغيرهما ، وهو نص أهل الكتاب ثم ذراه في البحر ، وأمر بني إسرائيل فشربوا ، فمن كان من عابديه علق على شفاههم من ذلك الرماد ما يدل عليه ، وقيل بل اصفرت ألوانهم.

ثم قال تعالى إخبارا عن موسى؟ أنه قال لهم : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً).

وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) وهكذا وقع. وقد قال بعض السلف : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) مسجلة لكل صاحب بدعة إلى يوم القيامة!

ثم أخبر تعالى عن حلمه (٢) ورحمته بخلقه ، وإحسانه على عبيده في قبوله توبة من تاب إليه ، بتوبته عليه ، فقال : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

لكن لم يقبل الله توبة عابدي العجل إلا بالقتل ، كما قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.)

[٢ البقرة : ٥٤]

فيقال إنهم أصبحوا يوما وقد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف ، وألقى الله عليهم ضبابا حتى لا يعرف القريب قريبه ولا النسيب نسيبه ، ثم مالوا على عابديه فقتلوهم وحصدوهم فيقال إنهم قتلوا في صبيحة واحدة سبعين ألفا!

ثم قال تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) استدل بعضهم بقوله : (وَفِي نُسْخَتِها) على أنها تكسرت ، وفي هذا الاستدلال نظر ، وليس في اللفظ ما يدل على أنها تكسرت ، والله أعلم.

وقد ذكر ابن عباس في حديث الفتون كما سيأتي : أن عبادتهم العجل كانت على أثر خروجهم من البحر. وما هو ببعيد ، لأنهم حين خرجوا (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ).

وهكذا عند أهل الكتاب ، فإن عبادتهم العجل كانت قبل مجيئهم ، بلاد بيت المقدس. وذلك أنهم لما أمروا بقتل من عبد العجل ، قتلوا في أول يوم ثلاثة آلاف ، ثم ذهب موسى يستغفر لهم ، فغفر لهم بشرط أن يدخلوا الأرض المقدسة.

__________________

(١) من و.

(٢) و : حكمت ..

٣٣٦

قال تعالى :

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ* وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.)

[٧ / الأعراف : ١٥٥ ـ ١٥٧]

ذكر السدي وابن عباس وغيرهما أن هؤلاء السبعين كانوا علماء بني إسرائيل ، ومعهم موسى وهارون ويوشع وناذاب (١) وأيبهو ، ذهبوا مع موسى عليه‌السلام ليعتذروا عن بني إسرائيل في عبادة من عبد منهم العجل. وكانوا قد أمروا أن يتطيبوا ويتطهروا ويغتسلوا ، فلما ذهبوا معه واقتربوا من الجبل وعليه الغمام وعمود النور ساطع صعد (٢) موسى الجبل.

فذكر بنو إسرائيل أنهم (٣) سمعوا كلام الله ، وهذا قد وافقهم عليه طائفة من المفسرين وحملوا عليه قوله تعالى :

(وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.)

[٢ / البقرة : ٧٥]

وليس هذا بلازم ، لقوله تعالى : (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ)

[٩ / التوبة : ٦]

أي مبلغا ، وهكذا هؤلاء سمعوه مبلغا من موسى عليه‌السلام.

وزعموا أيضا أن السبعين رأوا الله ، وهذا غلط منهم ، لأنهم لما سألوا الرؤية أخذتهم الرجفة ، كما قال تعالى :

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.)

[٢ / البقرة : ٥٥]

__________________

(١) و : ويا ذاب.

(٢) و : وصعد.

(٣) و : فذكر أن بني إسرائيل سمعوا.

٣٣٧

وقال هاهنا : (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ).

قال محمد بن إسحق : اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا : الخير فالخير ، وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه بما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم.

فخرج بهم إلى طور سيناء ، لميقات وقته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فطلب (١) منه السبعون أن يسمعوا كلام الله ، فقال : أفعل.

فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى فدخل في الغمام ، وقال للقوم : ادنوا. وكان موسى إذا كلمه الله ، وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه ، فضرب دونه الحجاب ، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا ، فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه : افعل ولا تفعل. فلما فرغ الله من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم فقالوا : (يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فأخذتهم الرجفة ، وهي الصاعقة فأتلفت (٢) أرواحهم فماتوا جميعا. فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ، ويرغب إليه ويقول : (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ ، أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا؟) أي لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء الذين عبدوا العجل منا فإنا براء مما عملوا.

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج : إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل. وقوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي اختبارك وابتلاؤك وامتحانك. قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس ، وغير واحد من علماء السلف والخلف ، يعني أنت الذي قدرت هذا ، وخلقت ما كان من أمر العجل اختبارا تختبرهم به كما : (قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) أي اختبرتم.

ولهذا قال : (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) أي من شئت أضللته باختبارك إياه ، ومن شئت هديته ، لك الحكم والمشيئة ولا مانع ولا راد لما حكمت وقضيت.

(أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ* وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي تبنا إليك ورجعنا وأنبنا قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية وإبراهيم التيمي والضحاك والسدي وقتادة وغير واحد. وهو كذلك في اللغة.

(قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ ، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) أي أنا أعذب من شئت بما أشاء من الأمور التي أخلقها وأقدرها.

(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب

__________________

(١) و : فقال له وطالب منه.

(٢) و : فأثلبت.

٣٣٨

غضبي» (١) .. (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) أي فسأوجبها حتما لمن يتصف بهذه الصفات : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) الآية.

وهذا فيه تنويه بذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته من الله لموسى عليه‌السلام ، في جملة ما ناجاه به وأعلمه وأطلعه عليه. وقد تكلمنا على هذه الآية وما بعدها في التفسير بما فيه كفاية ومقنع ، ولله الحمد والمنة.

وقال قتادة : قال موسى يا رب إني أجد في الألواح أمة هي خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، رب اجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة محمد.

قال : رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون في الخلق ، السابقون في دخول الجنة ، رب اجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد.

قال : رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها ، ، وكان من قبلهم يقرأون كتابهم نظرا ، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعرفوه ، وإن الله أعطاهم (٢) من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم ، قال : رب اجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد.

قال : رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ، ويقاتلون فضول (٣) الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب ، فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد.

قال : رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ، ويؤجرون عليها ، وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها نارا فأكلتها ، وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير ، وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم (٤) قال : رب فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد.

قال : رب فإني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتب له عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال : رب اجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد.

قال : رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون المشفوع لهم ، فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد.

قال قتادة : فذكر لنا أن موسى عليه‌السلام نبذ الألواح ، وقال : اللهم إجعلني من أمة أحمد (٥).

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٩٧ / ٢٢ / ٧٤٢٢ / فتح) ، (٩٧ / ٢٨ / ٧٤٥٣ / فتح). (٩٧ / ٥٥ / ٧٥٥٣ / فتح). ورواه مسلم. في صحيحه (٤٩ / ٤ / ١٤). ورواه ابن ماجة في سننه (٣٧ / ٣٥ / ٤٢٩٥). ورواه أحمد في مسنده (٢ / ٢٥٨ ، ٢٦٠ ، ٣٥٨ ، ٣٨١ / حلبي).

(٢) و : وان الله أعطاكم أيتها الأمة.

(٣) الرواية ففي الوفاء لأبن الجوزي. (١ / ٤٠) هل الضلالة.

(٤) و : من غنيكم لفقيركم.

(٥) و : من أمة محمد.

٣٣٩

وقد ذكر كثير من الناس ما كان من مناجاة موسى عليه‌السلام ، وأوردوا أشياء كثيرة لا أصل لها ونحن نذكر ما تيسر ذكره من الأحاديث والآثار بعون الله وتوفيقه ، وحسن هدايته ومعونته وتأييده.

قال الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم بن حبان في صحيحه : «ذكر سؤال كليم الله ربه عزوجل عن أدنى أهل الجنة وأرفعهم منزلة» أخبرنا عمر بن سعيد الطائي ببلخ (١) ، حدثنا حامد بن يحيى البلخي ، حدثنا سفيان ، حدثنا مطرف بن طريف وعبد الملك بن أبجر شيخان صالحان ، قالا سمعنا الشعبي يقول : سمعت المغيرة بن شعبة يقول على المنبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن موسى عليه‌السلام سأل ربه عزوجل : أي أهل الجنة أدنى منزلة؟ فقال : رجل يجيء (٢) بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة ، فيقال له ادخل الجنة ، فيقول : كيف أدخل الجنة وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا إخاذاتهم؟ فيقال له : أترضى أن يكون لك من الجنة مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا؟ فيقول :

نعم أي رب ، فيقال : لك هذا ومثله معه (٣) فيقول : أي رب رضيت ، فيقال له : لك مع هذا ما اشتهت نفسك ولذت عينك ،. وسأل ربه : أي أهل الجنة أرفع منزلة؟ قال سأحدثك عنهم :

غرست كرامتهم بيدي ، وختمت عليها ، فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (٤).

ومصداق ذلك في كتاب الله عزوجل : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.)

[٢ / السجدة : ١٧]

وهكذا رواه مسلم والترمذي كلاهما عن ابن أبي عمر ، عن سفيان ـ وهو ابن عيينة ـ به :

ولفظ مسلم : «فيقول له : أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟» فيقول :

رضيت رب ، فيقال له : لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله ، فيقول في الخامسة : رضيت رب.

فيقال هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك ، فيقول : رضيت رب. قال :

رب فأعلاهم منزلة؟ قال : أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها ، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر».

قال : ومصداقه من كتاب الله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وقال الترمذي حسن صحيح : قال : ورواه بعضهم عن الشعبي عن المغيرة فلم يرفعه ، والمرفوع أصح.

وقال ابن حبان : «ذكر سؤال الكليم ربه عن خصال سبع» : حدثنا عبد الله بن محمد بن

__________________

(١) م : بمنج.

(٢) م : يحيا.

(٣) م : ومثله ومثله.

(٤) الحديث رواه مسلم في صحيحه (١ / / ٨٤ / ٣١٢). ورواه الترمذي في سننه (٤٨ / ٣٣ / ٣١٩٨).

٣٤٠