قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

«كلهم من قريش» (١)

أخرجاه في الصحيحين.

وفي رواية : «لا يزال هذا الأمر قائما ، وفي رواية عزيزا ، حتى يكون اثنا عشر خليفة كلهم من قريش».

فهؤلاء منهم الأئمة الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، ومنهم عمر بن عبد العزيز أيضا ، ومنهم بعض بني العباس. وليس المراد أنهم يكونون اثني عشر نسقا بل لا بد من وجودهم.

وليس المراد الأئمة الأثنى عشر الذين يعتقد فيهم الرافضة ، الذين أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم المنتظر بسرداب سامرا ـ وهو محمد بن الحسن العسكري فيما يزعمون فإن أولئك لم يكن فيهم أنفع من علي وابنه الحسن بن علي ، حين ترك القتال وسلم الأمر لمعاوية ، وأخمد نار الفتنة ، وسكن رحى الحرب بين المسلمين ، والباقون من جملة الرعايا لم يكن لهم حكم على الأمة في أمر من الأمور. وأما ما يعتقدونه بسرداب سامرا ، فذاك هوس في الرؤوس ، وهذيان في النفوس ، لا حقيقة له ولا عين ولا أثر.

* * *

والمقصود أن هاجر عليها‌السلام لما ولد لها إسماعيل ، اشتدت غيرة سارة منها ، وطلبت من الخليل أن يغيب وجهها عنها ، فذهب بها وبولدها ، فسار بها حتى وضعها حيث مكة اليوم.

ويقال إن ولدها كان إذ ذاك رضيعا.

ما تركهما هناك وولى ظهره عنهما قامت إليه هاجر وتعلقت بثيابه ، وقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتدعنا هاهنا وليس معنا ما يكفينا؟ فلم يجبها. فلما ألحت عليه وهو لا يجيبها قالت له :

آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم. قالت فإذن لا يضيعنا!

وقد ذكر الشيخ أبو محمد بن أبي زيد رحمه‌الله في كتاب النوادر : أن سارة غضبت على هاجر فحلفت لتقطعن ثلاثة أعضاء منها فأمرها الخليل أن تثقب أذنيها ، وأن تخفضها فتبر قسمها.

قال السهيلي : فكانت أول من اختتن من النساء ، وأول من ثقبت أذنها منهن ، وأول من طولت ذيلها.

__________________

(١) الحديث رواه مسلم (٦ / ٣). وأبو داود (٢ / ٢٠٧) وأحمد (٥ / ٩٣ ، ٩٨). وأحمد في مسنده (٥ / ١٠١) بروايات متقاربة في اللفظ ورواه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (٣٧٦ / المكتب الإسلامي) بروايات كثيرة.

١٤١

ذكر مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل

وأمه هاجر الى جبال فاران

وهي أرض مكة ، وبنائه البيت العتيق

قال البخاري : قال عبد الله بن محمد ـ هو أبو بكر بن أبي شيبة ـ حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة ، يزيد أحدهما على الآخر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه ، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء.

فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء.

ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل ، فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له :

آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم. قالت : إذن لا يضيعنا. ثم رجعت.

فانطلق إبراهيم ، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.)

[١٤ / إبراهيم : ٣٧]

ورجعت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى ـ أو قال يتلبط ـ فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا. فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ، ونظرت هل ترى

١٤٢

أحدا؟ فلم تر أحدا فعلت ذلك سبع مرات.

قال ابن عباس : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلذلك سعى الناس بينهما».

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه ، تريد نفسها. ثم تسمعت فسمعت أيضا ، فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه ـ أو قال بجناحه ـ حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوّضه وتقول بيدها هكذا. وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف.

قال ابن عباس : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرحم الله أم إسماعيل! لو تركت زمزم ، أو قال لو لم تغرف من الماء ، لكانت زمزم عينا معينا» قال : فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فان هاهنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه. وإن الله لا يضيع أهله.

وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية ، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم ، أو أهل بيت من جرهم ، مقبلين من طريق كداء ، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء. فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا.

قال : وأم إسماعيل عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قال : نعم. ولكن لا حق لكم في الماء عندنا قالوا : نعم.

قال عبد الله بن عباس : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس. فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم.

وشبّ الغلام وتعلّم العربية منهم ، وأنفسهم وأعجبهم حين شبّ. فلما أدرك زوّجوه امرأة منهم.

وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة ، وشكت اليه. قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه‌السلام وقولي له يغير عتبة بابه.

فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال : هل جاءكم من أحد؟ فقالت : نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا في جهد وشدة. قال : فهل أوصاك بشيء؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول لك غير عتبة بابك. قال :

ذاك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك ، وطلقها وتزوج منهم أخرى ، ولبث عنهم إبراهيم ما شاء الله. ثم أتاهم بعد فلم يجده ، فدخل على امرأته فسألها عنه ، فقالت خرج يبتغي لنا.

قال : كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بخير وسعة ، وأثنت على الله عز

١٤٣

وجل. فقال : ما طعامكم؟ قالت : اللحم. قال : فما شرابكم؟ قالت : الماء. قال : «اللهم بارك لهم في اللحم والماء».

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولم يكن لهم يومئذ حب ، ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه» قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه.

قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه‌السلام ، ومريه يثبت عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد؟ قالت : نعم أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه ، فسألني عنك فأخبرته ، فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير. قال : فأوصاك بشيء؟ قالت : نعم ، هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال : ذاك أبي وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك.

ثم لبث عنهم ما شاء الله ، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم ، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر. قال : فأصنع ما أمرك به ربك ، قال : وتعينني؟ قال وأعينك. قال : فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتا. وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها.

قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ؛ حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

ثم قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو ؛ حدثنا إبراهيم بن نافع ؛ عن كثير بن كثير ؛ عن سعيد بن جبير ؛ عن ابن عباس قال : لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان ؛ خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ؛ ومعهم شنة فيها ماء ؛ وذكر تمامه بنحو ما تقدم.

وهذا الحديث من كلام ابن عباس وموشح برفع بعضه ؛ وفي بعضه غرابة ، وكأنه مما تلقاه ابن عباس عن الإسرائيليات ؛ وفيه أن إسماعيل كان رضيعا إذ ذاك.

وعند أهل التوراة أن إبراهيم أمره الله بأن يختن ولده إسماعيل وكل من عنده من العبيد وغيرهم فختنهم ، وذلك بعد مضي تسع وتسعين سنة من عمره ، فيكون عمر إسماعيل يومئذ ثلاث عشرة سنة ، وهذا امتثال لأمر الله عزوجل في أهله ، فيدل على أنه فعله على وجه الوجوب. ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء أنه واجب على الرجال ، كما هو مقرر في موضعه.

وقد ثبت في الحديث الذي رواه البخاري : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي ، عن أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اختتن إبراهيم النبي عليه‌السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم».

١٤٤

تابعه عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد ، وتابعه عجلان ، عن أبي هريرة ، ورواه محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، وهكذا رواه مسلم عن قتيبة.

وفي بعض الألفاظ : «اختتن إبراهيم بعد ما أتت عليه ثمانون سنة واختتن بالقدوم» والقدوم هو الآلة ، وقيل موضع.

وهذا اللفظ لا ينافي الزيادة على الثمانين. والله أعلم ، لما سيأتي من الحديث عند ذكر وفاته ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اختتن إبراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة ، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة».

رواه ابن حبان في صحيحه.

وليس في هذا السياق ذكر قصة الذبيح وأنه إسماعيل ، ولم يذكر في قدمات إبراهيم عليه‌السلام إلا ثلاث مرات : أولاهن بعد أن تزوج إسماعيل بعد موت هاجر ، وكيف تركهم من حين صغر الولد ـ على ما ذكر ـ إلى حين تزويجه لا ينظر في حالهم ، وقد ذكر أن الأرض كانت تطوى له ؛ وقيل إنه كان يركب البراق إذا سار إليهم ، فكيف يتخلف عن مطالعة حالهم وهم في غاية الضرورة الشديدة والحاجة الأكيدة؟!

وكأن بعض هذا السياق متلقى من الإسرائيليات ومطرز بشيء من المرفوعات ، ولم يذكر فيه قصة الذبيح ؛ وقد دللنا على أن الذبيح هو إسماعيل على الصحيح في سورة الصافات.

١٤٥

قصة الذبيح

قال الله تعالى : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ* رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ* فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ* فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ* فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ* وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ* كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ* وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ* وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ.)

[٣٧ / الصافات : ٩٩ ـ ١١٣]

يذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاده قومه ، سأل ربه أن يهب له ولدا صالحا ؛ فبشره الله بغلام حليم ؛ وهو إسماعيل عليه‌السلام ؛ لأنه أول من ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل. وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل ، لأنه أول ولده وبكره.

وقوله : «فلما بلغ معه السعي» أي شب وصار يسعى في مصالحه كأبيه. قال مجاهد :

«فلما بلغ معه السعي» أي شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل.

فلما كان هذا ، رأى إبراهيم عليه‌السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا ، وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعا : «رؤيا الأنبياء وحي» (١) قاله عبيد بن عمير أيضا.

وهذا اختبار من الله عزوجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كبر ، وقد طعن في السن ، بعدما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر ، وواد ليس به حسيس ولا أنيس ، ولا

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في رواية طويلة (٤ / ٥ / ١٣٨ / فتح) ، (١٠ / ١٦١ / ٨٥٩ / فتح). ونصه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «بت عند خالتي ميمونة ليلة ، فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما كان في بعض الليل قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتوضأ من شن معلق وضوءا خفيفا ويخففه عمرو ويقلله جدا ـ ثم قام يصلي ، فقمت فتوضأت نحوا مما توضأ ثم جئت فقمت عن يساره ، فحولني فجعلني عن يمينه ، ثم صلى ما شاء الله ثم اضطجع فنام ، حتى نفخ. فأتاه المنادي يؤذنه بالصلاة فقام معه إلى الصلاة فصلى ولم يتوضأ. قلنا لعمرو : إن ناسا يقولون : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه. قال عمرو : سمعت عبيد بن عمير يقول : إن رؤيا الأنبياء وحي ثم قرأ (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ). أه.

١٤٦

زرع ولا ضرع. فامتثل أمر الله في ذلك ، وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلا عليه ، فجعل الله لهما فرجا ومخرجا ؛ ورزقهما من حيث لا يحتسبان.

ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي قد أفرده عن أمر ربه ، وهو بكره ووحيده الذي ليس له غيره ، أجاب ربه وامتثل أمره ، وسارع إلى طاعته.

ثم عرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قسرا ويذبحه قهرا :

(قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى؟).

فبادر الغلام الحليم ، سر والده الخليل إبراهيم ، فقال : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد.

قال الله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) قيل : أسلما : أي استسلما لأمر الله وعزم على ذلك. وقيل : وهذا من المقدم والمؤخر ، والمعنى : (تَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي ألقاه على وجهه. قيل أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهده في حال ذبحه ، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك. وقيل : بل أضجعه كما تضجع الذبائح وبقي طرف جبينه لاصقا بالأرض (أَسْلَما) أي سمي إبراهيم وكبّر ، وتشهد الولد للموت. قال السدي وغيره : أمرّ السكين على حلقه فلم تقطع شيئا. ويقال : جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس. والله أعلم.

فعند ذلك نودي من الله عزوجل : (أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك ، ومبادرتك إلى أمر ربك. وبذلك ولدك للقربان ، كما سمحت ببدنك للنيران ، وكما مالك مبذول للضيفان! ولهذا قال تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي الاختبار الظاهر البين.

وقوله : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) أي وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه.

والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعين أقرن ، رآه مربوطا بسمرة في ثبير. قال الثوري عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا (١). وقال سعيد بن جبير : كان يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير ، وكان عليه عهن أحمر. وعن ابن عباس : هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء فذبحه ، وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه (٢).

رواه ابن أبي حاتم.

قال مجاهد : فذبحه بمنى ، وقال عبيد بن عمير : ذبحه بالمقام.

__________________

(١ ، ٢) رواه الطبري في تاريخه (١ / ٢٧٧ / معارف).

١٤٧

فأما ما روي عن ابن عباس أنه كان وعلا؟ وعن الحسن أنه كان تيسا من الأروى واسمه جرير ، فلا يكاد يصح عنهما.

ثم غالب ما هاهنا من الآثار مأخوذ من الإسرائيليات. وفي القرآن كفاية عما جرى من الأمر العظيم والاختبار الباهر ، وأنه فدي بذبح عظيم ، وقد ورد في الحديث أنه كان كبشا.

قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا منصور ، عن خاله مسافح ، عن صفية بنت شيبة قالت : أخبرتني امرأة من بني سليم ولدت عليه أهل دارنا قالت : أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عثمان بن طلحة ، وقالت مرة : إنها سألت عثمان : لم دعاك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : قال لي رسول الله : «إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت ، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي» (١).

قال سفيان : لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت فاحترقا.

وكذا روي عن ابن عباس أن رأس الكبش لم يزل معلقا عند ميزاب الكعبة قد يبس.

وهذا وحده دليل على أن الذبيح إسماعيل ، لأنه كان هو المقيم بمكة وإسحق لا نعلم إن قدمها في حال صغره والله أعلم.

وهذا هو الظاهر من القرآن ، بل كأنه نص على أن الذبيح هو إسماعيل ، لأنه ذكر قصة الذبيح ، ثم قال بعده : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) : ومن جعله حالا فقد تكلف ، ومستنده أنه إسحاق إنما هو إسرائيليات. وكتابهم فيه تحريف ، ولا سيما هاهنا قطعا لا محيد عنه ، فإن عندهم أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده وفي نسخة من المعربة بكره إسحاق ، فلفظة إسحاق هاهنا مقحمة مكذوبة مفتراة ، لأنه ليس هو الوحيد ولا البكر إنما ذاك إسماعيل.

وإنما حملهم على هذا حسد العرب ، فإن إسماعيل أبو العرب الذين يسكنون الحجاز الذين منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإسحاق والد يعقوب ـ وهو إسرائيل ـ الذي ينتسبون إليه ، فأرادوا أن يجروا هذا الشرف إليهم ، فحرفوا كلام الله وزادوا فيه وهم قوم بهت ولم يقروا بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

وقد قال بأنه إسحاق طائفة كثيرة من السلف وغيرهم ، وإنما أخذوه ـ والله أعلم ـ من كعب

__________________

(١) الحديث رواه أحمد في مسنده (٤ / ٦٨ / حلبي) ، (٥ / ٣٨٠ / حلبي) وما بين القوسين الصواب وكانت في الأصل المخطوط والمطبوع «نافع» وهو تحريف. والحديث فيه :

(أ) صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية لها رؤية وحدثت عن عائشة وغيرها من الصحابة وفي البخاري التصريح بسماعها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنكر الدارقطني إدراكها / ع.

تقريب التهذيب (٢ / ٦٠٣).

(ب) منصور بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث العبدري الحجي المكي ـ وهو ابن صفية بنت شيبة ، ثقة من الخامسة ، أخطأ ابن خزم في تضعيفه مات سنة سبع أو ثمان وثلاثين أخ م د س ق.

تقريب التهذيب (٢ / ٢٧٦).

١٤٨

الأحبار ، أو من صحف أهل الكتاب.

وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم حتى نترك لأجله ظاهر الكتاب العزيز ولا يفهم هذا من القرآن ، بل المفهوم بل المنطوق بل النص عند التأمل على أنه إسماعيل.

وما أحسن ما استدل به ابن كعب القرظى على أنه إسماعيل وليس بإسحاق من قوله :

(فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) قال فكيف تقع البشارة بإسحاق وأنه سيولد له يعقوب ، ثم يؤمر بذبح اسحاق وهو صغير قبل أن يولد له؟

هذا لا يكون ، لأنه يناقض البشارة المتقدمة. والله أعلم.

وقد اعترض السهيلي على هذا الاستدلال بما حاصله أن قوله : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) جملة تامة ، وقوله : (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) جملة أخرى ليست في حيز البشارة. قال : لأنه لا يجوز من حيث العربية أن يكون مخفوضا إلا أن يعاد معه حرف الجر ، فلا يجوز أن مررت بزيد ومن بعده عمرو ، حتى يقال ومن بعده بعمرو وقال : فقوله : (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) منصوب بفعل مضمر تقديره «ووهبنا لإسحاق يعقوب».

وفي هذا الذي قاله نظر.

ورجح أنه إسحاق ؛ واحتج بقوله : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) قال : وإسماعيل لم يكن عنده وإنما كان في حال صغره هو وأمه بجبل مكة فكيف يبلغ معه السعي؟

وهذا أيضا فيه نظر ، لأنه قد روي أن الخليل كان يذهب في كثير من الأوقات راكبا البراق إلى مكة ، يطلع على ولده وابنه ثم يرجع والله تعالى أعلم.

فمن حكي القول عنه بأنه إسحاق كعب الأحبار. وروي عن عمر والعباس وعلي وابن مسعود ، ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ، وعطاء والشعبي ومقاتل وعبيد بن عمير ، وأبي ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق ، والزهري والقاسم وابن أبي بردة ومكحول ، وعثمان بن حضر والسدي والحسن وقتادة ، وأبي الهذيل وابن سابط ، وهو اختيار ابن جرير ، وهذا عجب منه وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس.

ولكن الصحيح عنه ـ وعن أكثر هؤلاء ـ أنه إسماعيل عليه‌السلام قال مجاهد وسعيد والشعبي ويوسف بن مهران وعطاء وغير واحد عن ابن عباس : هو إسماعيل عليه‌السلام.

وقال ابن جرير : حدثني يونس ؛ أنبأنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن قيس ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس أنه قال : المفدى إسماعيل ، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبيه : هو إسماعيل. وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي

١٤٩

حاتم : وروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة ، وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ، ومجاهد والشعبي ومحمد بن كعب ، وأبي جعفر محمد بن علي وأبي صالح أنهم قالوا :الذبيح هو إسماعيل عليه‌السلام. وحكاه البغوي أيضا عن الربيع بن أنس والكلبي وأبي عمرو بن العلاء.

قلت : وروي عن معاوية (١) ، وجاء عنه : أن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

يا بن الذبيحين : فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز ومحمد بن إسحاق بن يسار ، وكان الحسن البصري يقول :

لا شك في هذا.

وقال محمد بن إسحاق عن بريدة عن سفيان بن فروة الأسلمي ، عن محمد بن كعب : أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كان معه بالشام ـ يعني استدلاله بقوله بعد العصمة : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) ـ فقال له عمر : إن هذا الشيء ما كنت أنظر فيه ، وإني لأراه كما قلت.

ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام ، كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه ، وكان يرى أنه من علمائهم قال : فسأله عمر بن عبد العزيز : أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال : إسماعيل والله يا أمير المؤمنين ، وإن اليهود لتعلم بذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به ، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق ، لأن إسحاق أبوهم.

وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة بأدلتها وآثارها في كتابنا التفسير ، ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) هذه الرواية ضعيفة رواها الحاكم في مستدركه (٢ / ٥٥١ / حيدرآباد). من طريق عبد الله بن محمد العتبي حدثنا عبد الله ابن سعيد عن الصنابحي قال : حضرنا مجلس معاوية بن أبي سفيان فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم فقال بعضهم الذبيح إسماعيل ، وقال بعضهم : بل إسحاق الذبيح ، فقال معاوية : سقطتم على الخبير ـ كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاه الأعرابي فقال : يا رسول الله خلقت البلاد يابسة ، والماء يابسا ، هلك المال وضاع العيال ، فعد علي بما أفاء الله عليك يا بن الذبيحين فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم ينكر عليه فقلنا : يا أمير المؤمنين وما الذبيحان؟ قال : إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الله أمرها أن ينحر بعض ولده ، فأخرجهم فأسهم بينهم فخرج السهم لعبد الله ، فأراد ذبحه ، فمنعه أخواله من بني مخزوم وقالوا : أرض ربك وافد ابنك ، قال : ففداه بمائة ناقة ، قال : فهو الذبيح ، وإسماعيل الثاني ـ وسكت عليه الحاكم ، لكن تعقبه الذهبي بقوله : «قلت إسناده واه» وقال الحافظ بن كثير في تفسيره (٤ / ١٨) بعد أن ذكره من هذا الوجه من رواية بن جرير «وهذا حديث غريب جدا» أ. ه.

١٥٠

ذكر مولد إسحاق عليه‌السلام

قال الله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ* وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ.)

[الصافات : ٣٧ / ١١٢ و ١١٣].

وقد كانت البشارة به من الملائكة لإبراهيم وسارة لما مروا بهما مجتازين ذاهبين إلى مدائن قوم لوط ، ليدمروا عليهم لكفرهم وفجورهم ، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى :

قال الله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ* فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ* وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ* قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ* قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.)

[١١ / هود : ٦٩ ـ ٧٣]

وقال تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ* قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ* قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)

[١٥ / الحجر : ٥١ ـ ٥٦]

وقال تعالى :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ* فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ* فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ* فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ* فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي

١٥١

صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ* قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ.)

[٥١ / الذاريات : ٢٤ ـ ٣٠]

يذكر تعالى : أن الملائكة ـ قالوا : وكانوا ثلاثة : جبريل وميكائيل وإسرافيل ـ لما وردوا على الخليل حسبهم أولا أضيافا ، فعاملهم معاملة الضيوف ، وشوى لهم عجلا سمينا من خيار بقره ، فلما قربه إليهم وعرصه عليهم لم ير لهم همة إلى الأكل بالكلية ، وذلك لأن الملائكة ليس فيهم قوة الحاجة إلى الطعام «فنكرهم» إبراهيم (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ، قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) أي لندمر عليهم. فاستبشرت عند ذلك سارة غضبا لله عليهم ، وكانت نائمة على رءوس الأضياف كما جرت به عادة الناس من العرب وغيرهم ، فلما ضحكت استبشارا بذلك ، قال الله تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أي بشرتها الملائكة بذلك «فأقبلت امرأته في صرة» أي في صرخة «فصكت وجهها» أي كما يفعل النساء عند التعجب وقالت : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) أي كيف يلد مثلي وأنا كبيرة وعقيم أيضا ، وهذا بعلي ، أي زوجي ، شيخا؟ تعجبت من وجود ولد والحالة هذه. ولهذا قالت : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ* قالُوا : أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ! رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).

وكذلك تعجب إبراهيم عليه‌السلام استبشارا بهذه البشارة وتثبيتا لها وفرحا بها ، (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ* قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) أكدوا الخبر بهذه البشارة وقرروه معه ، فبشروهما (بِغُلامٍ عَلِيمٍ) ؛ وهو إسحق أخو إسماعيل ، غلام عليم مناسب لمقامه وصبره ، وهكذا وصفه ربه بصدق الوعد والصبر ، وقال في الآية الأخرى :

(فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ).

وهذا مما استدل به محمد بن كعب القرظي وغيره على أن الذبيح هو إسماعيل ، وأن إسحاق لا يجوز أن يؤمر بذبحه بعد أن وقعت البشارة بوجوده ووجود ولده يعقوب المشتق من العقب من بعده.

وعند أهل الكتاب أنه أحضر مع العجل الحنيذ ، وهو المشوي ، رغيفا من مكة فيه ثلاثة أكيال وسمن ولبن ، وعندهم أنهم أكلوا ، وهذا غلط محض ، وقيل : كانوا يرون أنهم يأكلون والطعام يتلاشى في الهواء.

وعندهم أن الله تعالى قال لإبراهيم : أما سارا امرأتك فلا يدعى اسمها سارا ولكن اسمها سارة ، وأبارك عليها وأعطيك منها ابنا ، وأباركه ويكون الشعوب وملوك الشعوب منه ، فخر إبراهيم على وجهه ـ يعني ساجدا ـ وضحك قائلا في نفسه : أبعد مائة سنة يولد لي غلام؟ أو سارة تلد وقد أتت عليها تسعون سنة؟!

١٥٢

وقال إبراهيم لله تعالى : ليت إسماعيل يعيش قدامك ، فقال الله لإبراهيم : بحق إن امرأتك سارة تلد لك غلاما وتدعو اسمه إسحاق إلى مثل هذا الحين من قابل ، وأوثقه ميثاقي إلى الدهر وخلفه من بعده ، وقد استجبت لك في إسماعيل وباركت عليه وكثرته ونميته جدا كثيرا ، ويولد له اثنا عشر عظيما وأجعله رئيسا لشعب عظيم.

وقد تكلمنا على هذا بما تقدم. والله أعلم.

فقوله تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) دليل على أنها تستمتع بوجود ولدها إسحاق ، ثم من بعده يولد ولده يعقوب. أي يولد في حياتهما لتقر أعينهما به كما قرت بولده. ولو لم يرد هذا لم يكن لذكر يعقوب وتخصيص التنصيص عليه من دون سائر نسل إسحاق فائدة ؛ ولما عين بالذكر دل على أنهما يتمتعان به ويسران بولده كما سرا بمولد أبيه من قبله.

وقال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا)

[٦ / الأنعام : ٨٤]

وقال تعالى : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ)

[١٩ / مريم : ٤٩]

وهذا إن شاء الله ظاهر قوي ، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش عن إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه ، عن أبي ذر ، قال : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال : «المسجد الحرام». قلت : ثم أي؟ قال : «المسجد الأقصى» قلت كم بينهما؟ قال : أربعون سنة» قلت : ثم أي؟ قال : «ثم حيث أدركت الصلاة فصل فكلها مسجد».

وعند أهل الكتاب : أن يعقوب عليه‌السلام هو الذي أسس المسجد الأقصى ، وهو مسجد إيليا بيت المقدس شرفه الله.

وهذا متجه ويشهد له ما ذكرناه من الحديث ، فعلى هذا يكون بناء يعقوب عليه‌السلام وهو ـ إسرائيل ـ بعد بناء الخليل وابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء. وقد كان بناؤهما ذلك بعد وجود إسحق ؛ لأن إبراهيم عليه‌السلام لما دعا ، قال في دعائه :

كما قال تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ

١٥٣

يَشْكُرُونَ* رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ* الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ* رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ.)

[١٤ / إبراهيم : ٣٥ ـ ٤١]

وما جاء في الحديث من أن سليمان بن داود عليهما‌السلام ، لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثا كما ذكرناه عند قوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) ، وكما سنورده في قصته ـ فالمراد من ذلك والله أعلم ، أنه جدد بناءه كما تقدم من أن بينهما أربعين سنة ، ولم يقل أحد إن بين سليمان وإبراهيم أربعين سنة سوى ابن حبان في تقاسيمه وأنواعه. وهذا القول لم يوافق عليه ولا سبق إليه.

١٥٤

ذكر بناية البيت العتيق

قال الله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)

[٢٢ / الحج : ٢٦ ـ ٢٧]

وقال تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ* فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.)

[٣ / آل عمران : ٩٦ ـ ٩٧]

وقال تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ* وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

[٢ / البقرة : ١٢٤ ـ ١٢٥]

يذكر تعالى عن عبده ورسوله وصفيه وخليله ، إمام الحنفاء ووالد الأنبياء إبراهيم عليه‌السلام أنه بنى البيت العتيق الذي هو أول مسجد وضع لعموم الناس ، يعبدون الله فيه. وبوأه الله مكانه ، أي أرشده إليه ودله عليه.

وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغيره : أنه أرشد إليه بوحي من الله عزوجل. وقد ذكرنا في صفة خلق السموات : أن الكعبة بحيال البيت المعمور ، بحيث أنه لو سقط لسقط عليها ، وكذلك معابد السموات السبع ، كما قال بعض السلف : إن في كل سماء بيتا يعبد

١٥٥

الله فيه أهل كل سماء ، وهو فيها كالكعبة لأهل الأرض.

فأمر الله إبراهيم عليه‌السلام أن يبنى له بيتا يكون لأهل الأرض كتلك المعابد لملائكة السموات ، وأرشده الله إلى مكان البيت المهيأ له ، المعين لذلك منذ خلق السموات والأرض ، كما ثبت في الصحيحين : «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة».

ولم يجيء في خبر صحيح عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه‌السلام. ومن تمسك في هذا بقوله : «مكان البيت» فليس بناهض ولا ظاهر ، لأن المراد مكانه المقدر في علم الله ، المقرر في قدره ، المعظم عند الأنبياء موضعه ، من لدن آدم إلى زمان إبراهيم.

وقد ذكر أن آدم نصب عليه قبة ، وأن الملائكة قالوا له : قد طفنا قبلك بهذا البيت ، وأن السفينة طافت به أربعين يوما أو نحو ذلك. ولكن كل هذه الأخبار عن بني إسرائيل. وقد قررنا أنها لا تصدق ولا تكذب فلا يحتج بها ، فأما إن ردها الحق فهي مردودة.

وقد قال الله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ.) أي أول بيت وضع لعموم الناس للبركة والهدى ؛ البيت الذي ببكة. وقيل محل الكعبة (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) أي على أنه بناء الخليل ، والد الأنبياء من بعده وإمام الحنفاء من ولده ، الذين يقتدون به ويتمسكون بسننه. ولهذا قال : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) أي الحجر الذي كان يقف عليه قائما لما ارتفع البناء عن قامته ؛ فوضع له ولده هذا الحجر المشهور ، ليرتفع عليه لما تعالى البناء وعظم الفناء. كما ذكر في حديث ابن عباس الطويل.

وقد كان هذا الحجر ملصقا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ فأخره عن البيت قليلا ، لئلا يشغل المصلين عنده الطائفين بالبيت ؛ واتبع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا ؛ فإنه قد وافقه ربه في أشياء : منها قوله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)(١). وقد كانت آثار قدمي الخليل باقية في الصخرة إلى أول الإسلام. وقد قال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة :

وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه

وراق ليرقى في حراء ونازل

وبالبيت حق البيت من بطن مكة

وبالله إن الله ليس بغافل

وبالحجر المسود إذ يمسحونه

إذ اكتنفوه بالضحى والأصائل

وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة

على قدميه حافيا غير ناعل

__________________

(١) رواه ابن كثير مطولا في تفسيره (١ / ٢٣٤ / عمدة التفاسير). رواه البخاري (٨ / ١٢٨ / فتح). وأحمد في مسنده رقم (١٥٧ ، ١٦٠ ، ٢٥٠ / شاكر). وذكر السيوطي في الدر المنثور (١ / ١١٨). وخرجه من دواوين كثيرة.

١٥٦

يعني أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة فصارت على قدر قدمه حافية لا منتعلة. ولهذا قال تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) أي في حال قولهما : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فهما في غاية الإخلاص والطاعة لله عزوجل ؛ وهما يسألان من الله عزوجل السميع العليم أن يتقبل منهما ما هما فيه الطاعة العظيمة والسعي المشكور : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، وَأَرِنا مَناسِكَنا ، وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

* * *

والمقصود أن الخليل بنى أشرف المساجد في أشرف البقاع ، في واد غير ذي زرع ، ودعا لأهلها بالبركة ، وأن يرزقوا من الثمرات ؛ مع قلة المياه وعدم الأشجار والزرع والثمار ؛ وأن يجعله حرما محرما وآمنا محتما.

فاستجاب الله وله الحمد له مسألته ، ولبى دعوته ؛ وآتاه طلبته ؛ فقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟) وقال تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا.)

وسأل الله أن يبعث فيهم رسولا منهم ، أي من جنسهم ، وعلى لغتهم الفصيحة البليغة النصيحة ؛ لتتم عليهم النعمتان الدنيوية والدينية ؛ سعادة الأولى والأخرى.

وقد استجاب الله له : فبعث فيهم رسولا وأي رسول! ختم به أنبياءه ورسله ، وأكمل له من الدين ما لم يؤت أحدا قبله ، وعم بدعوته أهل الأرض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم ، في سائر الأقطار والأمصار والأعصار إلى يوم القيامة ، وكان هذا من خصائصه من بين سائر الأنبياء ، لشرفه في نفسه وكمال ما أرسل به ؛ وشرف بقعته وفصاحة لغته ، وكمال شفقته على أمته ، ولطفه ورحمته ، وكريم محتده وعظيم مولده ، وطيب مصدره ومورده.

ولهذا استحق إبراهيم الخليل عليه‌السلام إذ كان باني الكعبة لأهل الأرض ، أن يكون منصبه ومحله وموضعه ، في منازل السموات ورفيع الدرجات ، عند البيت المعمور ، الذي هو كعبة أهل السماء السابعة المبارك المبرور ، الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه ، ثم لا يعودون إليه إلى يوم البعث والنشور.

وقد ذكرنا في التفسير من سورة البقرة صفة بنائه للبيت ، وما ورد في ذلك من الأخبار والآثار بما فيه كفاية ، فمن أراد فليراجعه ثم. ولله الحمد.

فمن ذلك ما قال السدي : لما أمر الله ابراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت لم يدريا أين مكانه ؛ حتى بعث الله ريحا يقال له الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية ، فكنست لهما ما حول الكعبة من أساس البيت الأول ، وأتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس. وذلك حين يقول تعالى :

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ)

١٥٧

فلما بلغا القواعد وبنيا الركن ، قال إبراهيم لإسماعيل : يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه هاهنا. قال يا أبت إني كسلان تعب. قال على ذلك فانطلق ، وجاءه جبريل بالحجر (١) الأسود من الهند ، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة (٢). وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس ، فجاء إسماعيل بحجر فوجده عند الركن. فقال : يا أبت من جاءك بهذا؟ قال : جاء به من هو أنشط منك. فبنيا وهما يدعوان الله : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

وذكر ابن أبي حاتم أنه بناه من خمسة أجبل ، وأن ذا القرنين ـ وكان ملك الأرض إذ ذاك ـ مر بهما وهما يبنيانه فقال : من أمركما بهذا؟ فقال إبراهيم : الله أمرنا به. فقال : وما يدريني بما تقول؟

فشهدت خمسة أكبش أنه أمره بذلك فآمن وصدق. وذكر الأزرقي : أنه طاف مع الخليل بالبيت.

وقد كانت الكعبة على بناء الخليل مدة طويلة ، ثم بعد ذلك بنتها قريش ، فقصرت بها عن قواعد إبراهيم من جهة الشمال مما يلي الشام على ما هي عليه اليوم.

وفي الصحيحين من حديث مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم : أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عن ابن عمر ، عن عائشة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألم تر أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟» فقلت : يا رسول الله : ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال : «لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت». وفي رواية : «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية ، أو قال بكفر ، لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها الحجر» (٣).

وقد بناها ابن الزبير رحمه‌الله في أيامه على ما أشار إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسبما أخبرته به خالته عائشة ، أم المؤمنين عنه ، فلما قتله الحجاج في سنة ثلاث وسبعين كتب الى عبد الملك بن مروان الخليفة إذ ذاك ، فاعتقدوا أن ابن الزبير إنما صنع ذلك من تلقاء نفسه. فأمر بردها إلى ما كانت عليه ، فنقضوا الحائط الشامي وأخرجوا منها الحجر ، ثم سدوا الحائط وردموا الأحجار في جوف الكعبة ، فارتفع بابها الشرقي وسدوا الغربي بالكلية ، كما هو مشاهد إلى اليوم.

__________________

(١) سقطت من م.

(٢) م : النعامة. والثغام : نبت أبيض.

(٣) حديث صحيح.

رواه البخاري (٢٥ / ٤٢٠ / ١٥٨٣ / فتح) ولفظه «ألم تر أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم فقلت : يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم قال : لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت» أ. ه.

ورواه أيضا في (٦٠ / ١٠ / ٣٣٦٨ / فتح) ، (٦٥ / ٢ / ١٠). ورواه مسلم في صحيحه (١٥ / ٦٩ / ١٣٣٣) ولفظه «يا عائشة لو لا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيه من الحجر. فإن قومك قصروا في البناء» أ. ه ورواه السائي (٥ / ٢١٤ ، ٢١٥ / التجارية) واللفظ له.

ورواه أبو داود (١١ / ٩٢ / ٢٠٢٨) ورواه الترمذي (٧ / ٤٨ / ٨٧٦). ورواه مالك في الموطأ (٢٠ / ٣٣ / ٣٦٣ ، ٣٦٤).

ورواه أحمد في مسنده (٦ / ١١٣ ، ١٧٧ ، ٢٤٧ / حلبي).

١٥٨

ثم لما بلغهم أن ابن الزبير إنما فعل هذا لما أخبرته عائشة أم المؤمنين ندموا على ما فعلوا ، وتأسفوا أن لو كانوا تركوه وما تولى من ذلك.

ثم لما كان في زمن المهدي بن المنصور استشار الإمام مالك بن أنس في ردها على الصفة التي بناها ابن الزبير فقال له إني أخشى أن يتخذها الملوك لعبة. يعني : كلما جاء ملك بناها على الصفة التي يريد. فاستقر الأمر على ما هي عليه اليوم.

١٥٩

ذكر ثناء الله ورسوله الكريم على عبده وخليله إبراهيم

قال الله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ، قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ، قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) لما وفى ما أمره به ربه من التكاليف العظيمة ، جعله الناس إماما يقتدون به ويأتمون بهديه. وسأل الله أن تكون هذه الإمامة متصلة بسببه ، وباقية في نسبه ، وخالدة في عقبه فأجيب إلى ما سأل ورام وسلمت اليه الإمامة بزمام ، واستثنى من نيلها الظالمون. واختص بها من ذريته العلماء العاملون. كما قال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ، وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا ، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)

وقال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ* وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.)

[٦ / الأنعام : ٨٤ ـ ٨٧]

فالضمير في قوله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) عائد على إبراهيم على المشهور ، ولوط وإن كان ابن أخيه إلا أنه دخل في الذرية تغليبا ، وهذا هو الحامل للقائل الآخر أن الضمير على نوح كما قدمنا في قصته. والله أعلم.

قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) الآية.

[٥٨ / الحديد : ٢٦]

فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من الأنبياء بعد إبراهيم الخليل ، فمن ذريته وشيعته.

وهذه خلعة سنية لا تضاهى ، ومرتبة عليه لا تباهى. وذلك أنه ولد له لصلبه ولدان ذكران عظيمان : إسماعيل من هاجر ، ثم إسحق من سارة ، وولد له يعقوب ـ وهو إسرائيل ـ الذي ينسب إليه سائر أسباطهم ، فكانت فيهم النبوة ، وكثروا جدا بحيث لا يعلم عددهم إلا الذي بعثهم واختصهم بالرسالة والنبوة ، حتى ختموا بعيسى ابن مريم من بني إسرائيل.

وأما إسماعيل عليه‌السلام ، فكانت منه العرب على اختلاف قبائلها ، كما سنبينه فيما بعد إن

١٦٠