قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ.)

[٣٨ / ص : ٤١ ـ ٤٤]

وروى ابن عساكر من طريق الكلبي أنه قال : أول نبي بعث إدريس ، ثم نوح ، ثم إبراهيم ، ثم إسماعيل ، ثم إسحاق ، ثم يعقوب ، ثم يوسف ، ثم لوط ، ثم هود ، ثم صالح ، ثم موسى وهارون ، ثم إلياس ، ثم اليسع ، ثم عرفى بن سويلخ بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب ثم يونس بن متي من بني يعقوب ، ثم أيوب بن زراح بن آموص بن ليفرز بن العيص بن إسحاق بن ابراهيم. وفي بعض هذا الترتيب نظر فإن هودا وصالحا : المشهور أنهما بعد نوح وقيل إبراهيم. والله أعلم.

* * *

قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم : كان أيوب رجلا كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه ؛ من الأنعام والعبيد والمواشي ؛ والأراضي المتسعة بأرض الثنية من أرض حوران. وحكى ابن عساكر : أنها كلها كانت له. وكان له أولاد وأهلون كثير.

فسلب منه ذلك جميعه ، وابتلي في جسده بأنواع من البلاء ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه ، يذكر الله عزوجل بهما. وهو في ذلك كله صابر محتسب ، ذاكرا الله عزوجل في ليله ونهاره وصباحه ومسائه.

وطال مرضه حتى عافه الجليس ، وأوحش منه الأنيس ، وأخرج من بلده وألقى على مزبلة خارجها ، وانقطع عنه الناس ، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته ، كانت ترعى له حقه ، وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها. فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه ، وتعينه على قضاء حاجته.

وتقوم بمصلحته. وضعف حالها وقل مالها حتى كانت تخدم الناس بالأجر ، لتطعمه وتقوم بأوده ، رضي الله عنها وأرضاها ، وهي صابرة معه على ما حل بهما من فراق المال والولد ، وما يختص بها من المصيبة بالزوج ، وضيق ذات اليد وخدمة الناس ، بعد السعادة والنعمة والخدمة والحرمة. فإنا لله وإنا إليه راجعون!

وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل» وقال «يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه» (١)

ولم يزد هذا كله أيوب عليه‌السلام إلا صبرا واحتسابا وحمدا وشكرا حتى إن المثل ليضرب بصبره عليه‌السلام ، ويضرب المثل أيضا بما حصل له من أنواع البلايا.

__________________

(١) الحديث رواه الدرامي في سننه (٢٠ / ٦٧ / ٢٧٨٦). ورواه أحمد في مسنده (١ / ١٧٢ ، ١٧٤ ، ١٨٠ ، ١٨٥).

والحاكم وابن ابي الدنيا. والترمذي في سننه (٣٧ / ٥٦ / ٢٣٩٨). وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح. ورواه ابن ماجه في سننه (٣٦ / ٢٣ / ٤٠٢٣). كلهم بزيادة «فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة».

٢٤١

وقد روي عن وهب بن منبه وغيره من علماء بني إسرائيل في قصة أيوب خبر طويل ؛ في كيفية ذهاب ماله وولده ، وبلائه في جسده. والله أعلم بصحته.

وعن مجاهد أنه قال : كان أيوب عليه‌السلام أول من أصابه الجدري.

وقد اختلفوا في مدة بلواه على أقوال : فزعم وهب أنه ابتلي ثلاث سنين لا تزيد ولا تنقص.

وقال أنس : ابتلي سبع سنين وأشهرا ، وألقى على مزبلة لبني إسرائيل تختلف الدواب في جسده حتى فرج الله عنه وأعظم له الأجر وأحسن الثناء عليه. وقال حميد : مكث في بلواه ثمانية عشرة سنة ، وقال السدي : تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم والعصب ، فكانت امرأته تأتيه بالرماد تفرشه تحته ، فلما طال عليها ، قالت : يا أيوب : ولو دعوت ربك لفرج عنك ، فقال : قد عشت سبعين سنة صحيحا ، فهل قليل لله أن أصبر له سبعين سنة؟ فجزعت من هذا الكلام ، وكانت تخدم الناس بالأجر وتطعم أيوب عليه‌السلام.

ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها ، لعلمهم انها امرأة أيوب ، خوفا أن ينالهم من بلائه أو تعديهم بمخالطته ، فلما لم تجد أحدا يستخدمها ، عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير ، فأتت به أيوب ، فقال من أين لك هذا؟ وأنكره ، فقالت : خدمت به أناسا. فلما كان الغد لم تجد أحدا فباعت الضفيرة الأخرى بطعام فأتته به ، فأنكره وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام؟ فكشفت عن رأسها خمارها ، فلما رأى رأسها محلوقا قال في دعائه : «رب إني مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين».

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا جرير بن حازم ، عن عبد الله ابن عبيد بن عمير قال : كان لأيوب اخوان ، فجاءا يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه ، فقاما من بعيد ، فقال أحدهما لصاحبه : لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع مثله من شيء قط ، فقال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعانا وأنا أعلم مكان جائع فصدقني ، فصدق من السماء وهما يسمعان. ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني. فصدق من السماء وهما يسمعان. ثم قال : اللهم بعزتك وخر ساجدا ، فقال اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدا حتى تكشف عنى ، فما رفع رأسه حتى كشف عنه.

وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا : حدثنا يونس عن عبد الأعلى نبأنا ابن وهب ، أخبرني نافع بن يزيد ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد ، إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له ؛ كانا يغدوان اليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين. قال صاحبه : وما ذاك؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه ربه فيكشف ما به ، فلما راحا اليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له ، فقال أيوب : لا أدري ما تقول؟ غير أن الله عزوجل يعلم

٢٤٢

أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان ، فيذكران الله فارجع الى بيتي فأكفر عنهما ، كراهية أن يذكر الله إلا في حق.

قال : وكان يخرج في حاجته ، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يرجع ، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه ، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه : «أن أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب».

فاستبطأته فتلقته تنظر ، وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء ، وعلى أحسن ما كان ، فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك! هل رأيت نبي الله هذا المبتلي؟ فو الله القدير على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذا كان صحيحا. قال : فإني أنا هو ، وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير ، فبعث الله سحابتين ، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض».

هذا لفظ ابن جرير ، وهكذا رواه بتمامه ابن حبان في صحيحه عن محمد بن الحسن بن قتيبة ، عن حرملة ، عن ابن وهب به. وهذا غريب رفعه جدا ، والأشبه أن يكون موقوفا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، أنبأنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : وألبسه الله حلة من الجنة فتنحى أيوب وجلس في ناحية ، جاءت امرأته فلم تعرفه فقالت : يا عبد الله ، أين ذهب هذا المبتلي الذي كان هاهنا؟

لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب ، وجعلت تكلمه ساعة ، فقال : ويحك أنا أيوب! قالت : أتسخر مني يا عبد الله؟ فقال : ويحك أنا أيوب قد رد الله عليّ جسدي.

قال ابن عباس : ورد الله عليه ماله وولده بأعيانهم ، ومثلهم معهم.

قال وهب بن منبه : أوحى الله إليه : «قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ، فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك ، وقرب عن صحابتك قربانا ، واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك».

رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عمر بن مرزوق ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما عافى الله أيوب عليه‌السلام أمطر عليه جرادا من ذهب ، فجعل يأخذ منه بيده ويجعل في ثوبه ، قال : فقيل له يا أيوب أما تشبع؟ قال : يا رب ومن يشبع من رحمتك»؟.

وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي داود الطيالسي ، وعبد الصمد عن همام ، عن قتادة به.

ورواه ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن محمد الأزدي ، عن إسحاق بن راهويه ، عن عبد الصمد به : ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب ، وهو على شرط الصحيح فالله أعلم.

٢٤٣

وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : أرسل على أيوب رجل من جراد من ذهب ، فجعل يقبضها في ثوبه ، فقيل يا أيوب : ألم يكفك ما أعطيناك؟

قال : أي رب ومن يستغني عن فضلك؟.

هذا موقوف. وقد روي عن أبي هريرة من وجه مرفوعا.

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما أيوب يغتسل عريانا خرج عليه رجل جراد من ذهب ، فجعل أيوب يحثي في ثوبه. فناداه ربه عزوجل : يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال : بلى يا رب ، ولكن لا غنى لي عن بركتك»

رواه البخاري من حديث عبد الرزاق به.

وقوله : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) أي أضرب الأرض برجلك ، فامتثل ما أمر به. فأنبع الله له عينا باردة الماء ، وأمر أن يغتسل فيها ويشرب منها ، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى ، والسقم والمرض ، الذي كان في جسده ظاهرا وباطنا ، وأبدله الله بعد ذلك كله صحة ظاهرة وباطنة ، وجمالا تاما ومالا كثيرا ؛ حتى صب له من المال صبا ، مطرا عظيما جرادا من ذهب.

وأخلف الله له أهله ، كما قال تعالى : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) فقيل أحياهم الله بأعيانهم ، وقيل آجره فيمن سلف ، وعوضه عنهم في الدنيا بدلهم وجمع له شمله بكلهم في الدار الآخرة وقوله : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي رفعنا عنه شدته ، وكشفنا ما به من ضر ، رحمة منا به وإحسانا. (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي تذكرة لمن ابتلى في جسده أو ماله أو ولده ، فله أسوة بنبي الله أيوب ؛ حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه.

ومن فهم من هذا اسم امرأته فقال : هي «رحمة» من هذه الآية فقد أبعد النجمة وأغرق النزع. وقال الضحاك عن ابن عباس : رد الله إليها شبابها وزادها حتى ولدت له ستة وعشرين ولدا ذكرا.

وعاش أيوب بعد ذلك سبعين سنة بأرض الروم على دين الحنيفية ثم غيروا بعده دين إبراهيم.

وقوله : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ، إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) هذه رخصة من الله تعالى لعبده ورسوله أيوب عليه‌السلام ، فيما كان من حلفه ليضربن امرأته مائة سوط. فقيل حلفه ذلك لبيعها ضفائرها ، وقيل لأنه عارضها الشيطان في صورة طبيب يصف لها دواء لأيوب فأتته فأخبرته فعرف أنه الشيطان ، فحلف ليضربنها مائة سوط. فلما عافاه الله عزوجل أفتاه أن يأخذ ضغثا وهو كالعكال الذي يجمع الشماريخ ، فيجمعها كلها ويضربها به ضربة واحدة ، ويكون هذا منزلا منزلة الضرب بمائة سوط ويبر ولا يحنث.

٢٤٤

وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأطاعه ، ولا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة ، المكابدة الصديقة البارة الراشدة ، رضي الله عنها.

ولهذا عقب الله الرخصة وعللها بقوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). وقد استعمل كثير من الفقهاء هذه الرخصة في باب الإيمان والنذور ، وتوسع آخرون فيها حتى وضعوا كتاب الحيل في الخلاص من الايمان ، وصدروه بهذه الآية الكريمة وأتوا فيه بأشياء من العجائب والغرائب وسنذكر طرفا من ذلك في كتاب الأحكام ، عند الوصول إليه إن شاء الله تعالى.

وقد ذكر ابن جرير وغيره من علماء التاريخ : أن أيوب عليه‌السلام لما توفي كان عمره ثلاثا وتسعين سنة ، وقيل إنه عاش أكثر من ذلك.

وقد روى ليث عن مجاهد ما معناه : أن الله يحتج يوم القيامة بسليمان عليه‌السلام على الأغنياء ، وبيوسف عليه‌السلام على الأرقاء ، وبأيوب عليه‌السلام على أهل البلاء.

رواه ابن عساكر بمعناه.

وأنه أوصى إلى ولده «حومل» وقام بالأمر بعده ولده «بشر» بن أيوب ، وهو الذي يزعم كثير من الناس أنه «ذو الكفل» فالله أعلم. ومات ابنه هذا وكان نبيا فيما يزعمون وكان عمره من السنين خمسا وسبعين.

ولنذكر هاهنا قصة ذي الكفل ؛ إذ قال بعضهم. إنه ابن أيوب عليهما‌السلام وهذه هي.

٢٤٥

قصة ذي الكفل

الذي زعم قوم أنه ابن أيوب

قال الله تعالى بعد قصة أيوب : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ* وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ.)

[٢١ / الأنبياء : ٨٥ ـ ٨٦]

وقال تعالى بعد قصة أيوب أيضا : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ* إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ* وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ* وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ)

[٣٨ / ص : ٤٥ ـ ٤٨]

فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقرونا مع هؤلاء السادة الأنبياء أنه نبي ، عليه من ربه الصلاة والسلام وهذا هو المشهور.

وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبيا ، وإنما كان رجلا صالحا وحكما مقسطا عادلا وتوقف ابن جرير في ذلك. فالله أعلم.

وروى ابن جرير وأبو نجيح عن مجاهد : أنه لم يكن نبيا وإنما كان رجلا صالحا.

وكان قد تكفل لبني قومه أن يكفيهم أمرهم ، ويقضي بينهم بالعدل فسمي ذا الكفل.

وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند ، عن مجاهد أنه قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي ، حتى أنظر كيف يعمل؟

فجمع الناس فقال : من يتقبل مني بثلاث أستخلفه : يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب.

قال : فقام رجل تزدريه العين ، فقال أنا. فقال : أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب؟ قال نعم. قال : فرده ذلك اليوم ، وقال مثلها في اليوم الآخر ، فسكت الناس ، وقام ذلك الرجل فقال أنا ، فاستخلفه.

قال : فجعل إبليس يقول للشيطان : عليكم بفلان ، فأعياهم ذلك. فقال دعوني وإياه ، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير ، وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ، وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة ، فدق الباب فقال : من هذا؟ قال : شيخ كبير مظلوم قال : فقام ففتح الباب فجعل

٢٤٦

يقص عليه ، فقال إن بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا ، وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة. فقال : إذا رحت فإنني آخذ لك بحقك.

فانطلق للرواح فكان في مجلسه ، فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يتبعه. فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه ، فلما رجع إلى القائلة بأخذ مضجعه أتاه فدق الباب ، فقال : من هذا فقال : الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني؟ قال : إنهم أخبث قوم ، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك ، وإذا قمت أحدوني. قال : فانطلق فإذا رحت فأتني.

قال : ففاتته القائلة ، فراح فجعل ينتظره فلا يراه ، وشق عليه النعاس فقال لبعض أهله : لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام ، فإني قد شق عليّ النوم. فلما كان تلك الساعة جاء ، فقال له الرجل : وراءك وراءك. فقال : قد أتيته أمس وذكرت له أمري. فقال : لا والله. لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه. فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها ، فاذا هو في البيت ، وإذا هو يدق الباب ، من داخل ، فاستيقظ الرجل ، فقال : يا فلان ألم آمرك؟ قال :

أما من قبلي والله فلم تؤت ، فانظر من أين أتيت؟.

قال : فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه ، وإذا الرجل معه في البيت فعرفه. فقال :

أعدو الله؟ قال نعم ، أعييتني في كل شيء ففعلت كل ما ترى لأغضبك.

فسماه الله ذا الكفل ، لأنه تكفل بأمر فوفى به!

وقد روى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس قريبا من هذا السياق وهكذا روى عن عبد الله ابن الحارث ومحمد بن قيس وابن حجيرة الأكبر ، وغيرهم من السلف نحو هذا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهير ، أنبأنا سعيد بن بشير ، حدثنا قتادة ، عن كنانة بن الأخنس ، قال : سمعت الأشعري يعني أبا موسى رضي الله عنه ـ وهو على هذا المنبر يقول : ما كان ذو الكفل نبيا ولكن كان رجل صلاح يصلي كل يوم مائة صلاة ، فتكفل له ذو الكفل من بعده فكان يصلي كل يوم مائة صلاة ، فسمي ذي الكفل.

ورواه ابن جرير عن طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال أبو موسى الأشعري فذكره منقطعا.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله ابن عبد الله ، عن سعد مولى طلحة ، عن أبي عمر قال : سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين ـ حتى عد سبع مرات. لم أحدث به ، ولكني قد سمعته أكثر من ذلك قال : «كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله ، فأتته امرأة فأعطاها

٢٤٧

ستين دينارا على أن يطأها ، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت ، فقال لها ما يبكيك؟ أأكرهتك؟ قالت لا ، ولكن هذا عمل لم أعمله قط ، وإنما حملتني عليه الحاجة. قال :

فتفعلين هذا ولم تفعليه قط! ثم نزل وقال اذهبي بالدنانير لك. ثم قال : والله لا يعصي الله الكفل أبدا ، فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه : قد غفر الله للكفل! (١)

ورواه الترمذي من حديث الأعمش به وقال حسن ، وذكر أن بعضهم رواه فوقفه علي إبن عمر.

فهو حديث غريب جدا وفي إسناده نظر ، إن سعدا هذا قال أبو حاتم : لا أعرفه إلا بحديث واحد. ووثقه ابن حبان ، ولم يرو عنه سوى عبد الله بن عبد الله الرازي هذا. فالله أعلم.

وإن كان محفوظا فليس هو ذا الكفل وإنما لفظ الحديث الكفل من غير اضافة فهو رجل آخر غير المذكور في القرآن. فالله تعالى أعلم.

__________________

(١) الحديث رواه الترمذي في سننه (٣٨ / ٤٨ / ٢٤٩٦) وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن قد رواه شيبان وغير واحد عن الأعمش نحو هذا ورفعوه ، وروي بعضهم عن الأعمش فلم يرفعه. أه.

٢٤٨

باب ذكر أمم أهلكوا بعامة

وذلك قبل نزول التوراة بدليل قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى.)

[٢٨ / القصص : ٤٣]

كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من حديث عوف الأعرابي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء أو من الأرض ، بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض ، غير القرية التي مسخوا قردة. ألم تر أن الله تعالى يقول : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى.)

ورفعه البزار في رواية له. والأشبه والله أعلم وقفه. فدل على أن كل أمة أهلكت بعامة قبل موسى عليه‌السلام.

فمنهم :

أصحاب الرس

قال الله تعالى : (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً* وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً.)

[٢٥ / الفرقان : ٣٨ ـ ٣٩]

وقال تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ* وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ* وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ.)

[٥٠ / ق : ١٢ ـ ١٤]

وهذا السياق والذي قبله ، يدل على أنهم أهلكوا ودمروا وتبروا ، وهو الهلاك.

وهذا يرد اختيار ابن جرير من أنهم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج ، لأن أولئك عند ابن إسحاق وجماعة كانوا بعد المسيح عليه‌السلام. وفيه نظر أيضا.

وروى ابن جرير قال : قال ابن عباس : أصحاب الرس أهل قرية من قرى ثمود.

وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر في أول تاريخه ، عند ذكر بناء دمشق ، عن تاريخ أبي القاسم عبد الله بن عبد الله بن جرداد وغيره ، أن أصحاب الرس كانوا بحضور ، فبعث

٢٤٩

الله إليهم نبيا يقال له حنظلة بن صفوان ، فكذبوه وقتلوه. فسار عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وولده من الرس ، فنزل الأحقاف. وأهلك الله أصحاب الرس وانتشروا في اليمن كلها ، وفشوا مع ذلك في الأرض كلها. حتى نزل جبرون بن سعد بن عاد ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، دمشق وبنى مدينتها ، وسماها جبرون ، وهي إرم ذات العماد وليس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منها بدمشق ، فبعث الله هود بن عبد الله بن رباح بن خالد بن الخلود بن عاد ، أى ساد ، يعني أولاد عاد بارقاف فكذبوه ، فأهلكهم الله عزوجل.

فهذا يقتضي أن أصحاب الرس قبل عاد بدهور متطاولة فالله أعلم (١).

وروى ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي عاصم ـ عن أبيه عن شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الرس بئر بأذربيجان. وقال الثوري عن أبي بكر عن عكرمة قال : الرس بئر رسوا فيها نبيهم ، أي دفنوه فيها.

قال ابن جريج قال عكرمة : أصحاب الرس بفلج وهم أصحاب يس. وقال قتادة : فلج من قرى اليمامة.

قلت : فإن كانوا أصحاب يس كما زعمه عكرمة ، فقد أهلكوا بعامة ، قال الله تعالى في قصتهم : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) وستأتي قصتهم بعد هؤلاء.

وإن كان غيرهم ، وهو الظاهر ، فقد أهلكوا أيضا وتبروا. وعلى كل تقدير فينافي ما ذكره ابن جرير.

وقد ذكر أبو بكر محمد بن الحسن النقاش : أن أصحاب الرس كانت لهم بئر ترويهم وتكفي أرضهم جميعها ، وكان لهم ملك عادل حسن السيرة ، فلما مات وجدوا عليه وجدا عظيما ، فلما كان بعد أيام تصور لهم الشيطان في صورته وقال : إني لم أمت ، ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم. ففرحوا أشد الفرح ، وأمر بضرب حجاب بينهم وبينه ، وأخبرهم أنه لا يموت أبدا ، فصدق به أكثرهم ، وأفتتنوا به وعبدوه. فبعث الله فيهم نبيا ، فأخبرهم (٢) ان هذا شيطان يخاطبهم من وراء الحجاب ، ونهاهم عن عبادته ، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.

قال السهيلي : وكان يوحي إليه في النوم ؛ وكان اسمه حنظلة بن صفوان ؛ فعدوا عليه فقتلوه وألقوه في البئر ففار ماؤها وعطشوا بعد ريهم ؛ ويبست أشجارهم ، وانقطعت ثمارهم ، وخربت ديارهم وتبدلوا بعد الأنس بالوحشة ، وبعد الاجتماع بالفرقة ، وهلكوا عن آخرهم ، وسكن في مساكنهم الجن والوحوش (٣) ، فلا يسمع ببقاعهم إلا عزيف الجن وزئير الأسود (٤) وصوت الضباع.

فأما ما رواه ـ يعني ابن جرير ـ عن محمد بن حميد عن سلمة عن ابن إسحق عن محمد بن كعب القرظي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة

__________________

(١) ابن عساكر في تاريخه (١ / ١٥ / تهذيب).

(٢) و : وأخبرهم.

(٣) و : والوحش.

(٤) م : الأسد.

٢٥٠

العبد الأسود» وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك العبد الأسود ، ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئرا فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه بحجر أصم ، قال : فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ، ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاما وشرابا ، ثم يأتي به إلى تلك (١) البئر فيرفع تلك الصخرة ويعينه الله عليها ويدلي إليه طعامه وشرابه ، ثم يردها كما كانت.

قال : فكان كذلك ما شاء الله أن يكون : ثم إنه ذهب يوما يحتطب كما كان يصنع ، فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها ، فلما أراد أن يحتملها وجد سنة فاضطجع فنام (٢) ، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما. ثم إنه ذهب فتمطى فتحول (٣) لشقه الآخر ، فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى. ثم إنه هب واحتمل حزمته ولا يحسب أنه نام (٤) إلا ساعة من نهار ، فجاء إلى القرية فباع حزمته ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع. ثم إنه (٥) ذهب إلى الحفيرة (٦) ، إلى موضعها الذي كانت فيه ، يلتمسه فلم يجده وقد كان بدا لقومه فيه بداء ، فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه.

قال فكان (٧) نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل ، فيقولون له ما ندري؟ حتى قبض الله النبي عليه‌السلام وهب (٨) الأسود من نومته (٩) بعد ذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة».

فإنه حديث مرسل ومثله فيه نظر. ولعل بسط قصته من كلام محمد بن كعب القرظي ـ والله أعلم.

ثم قد رده ابن جرير نفسه ، وقال : لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس المذكورون في القرآن ـ قال : لأن الله أخبر عن أصحاب الرس أنه أهلكهم وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم ، اللهم إلا أن يكون حدثت لهم أحداث آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم والله أعلم.

ثم اختار أنهم أصحاب الأخدود وهو ضعيف. لما تقدم ، ولما ذكر في قصة أصحاب الأخدود حيث توعدوا بالعذاب في الآخرة إن لم يتوبوا ، ولم يذكر هلاكهم ، وقد صرح بهلاك أصحاب الرس. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) و : ذلك.

(٢) و : نيام.

(٣) و : وتحول.

(٤) و : إلا أنه نام ساعة.

(٥) و : الحفرة.

(٦) و : وكان.

(٧) و : وأهب.

(٨) و : نومه.

٢٥١

قصة قوم يس

وهم : أصحاب القرية أصحاب يس قال الله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ* إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ* قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ* قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ* وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ* قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ* قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ* وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ* إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ* قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ* وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ* إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ)

[٣٦ / يس : ١٣ ـ ٢٩]

اشتهر عن كثير من السلف والخلف أن هذه القرية «أنطاكية» رواه ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه ، وكذا روي عن بريدة بن الخصيب وعكرمة وقتادة والزهري وغيرهم. قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب أنهم قالوا : وكان لهم ملك اسمه أنطيخس بن أنطيخس وكان يعبد الأصنام. فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم :

صادق ومصدوق (١) ، وشلوم ، فكذبهم.

وهذا ظاهر أنهم رسل من الله عزوجل. وزعم قتادة أنهم كانوا رسلا من المسيح. وكذا قال ابن جرير ، عن وهب ، عن ابن سليمان ، عن شعيب الجبائي : كان اسم المرسلين (٢) الأولين : شمعون ، ويوحنا ، واسم الثالث بولس ، والقرية أنطاكية.

__________________

(١) و : وصدوق.

(٢) و : الرسولين.

٢٥٢

وهذا القول ضعيف جدا ؛ لأن أهل أنطاكية لما بعث إليهم المسيح ثلاثة من الحواريين كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت. ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي تكون فيها بطاركة النصارى. وهن : أنطاكية ، والقدس ، وإسكندرية ، ورومية ثم بعدها القسطنطينية ولم يهلكوا.

وأهل هذه القرية المذكورة (١) في القرآن أهلكوا ، كما قال في آخر قصتها بعد قتلهم صديق المرسلين : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) ولكن إن كان الرسل الثلاثة المذكورون في القرآن ـ بعثوا إلى أهل أنطاكية قديما فكذبوهم وأهلكهم الله ، ثم عمرت بعد ذلك ، فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله إليهم ، فلا يمنع هذا. والله أعلم.

فأما القول بأن هذه القصة المذكورة في القرآن هي قصة أصحاب المسيح فضعيف لما تقدم ؛ ولأن ظاهر سياق القرآن يقتضي أن هؤلاء الرسل من عند الله.

* * *

قال الله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) يعني لقومك يا محمد (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) يعني المدينة ، (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ* إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي أيدناهما بثالث (٢) في الرسالة ، (فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) ، فردوا عليهم بأنهم بشر مثلهم ؛ كما قالت الأمم الكافرة لرسلهم ، يستبعدون أن يبعث الله نبيا بشريا. فأجابوهم بأن الله يعلم أنا رسله إليكم ، ولو كنا كذبنا عليه لعاقبنا وانتقم منا اشد الانتقام. (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي تشاءمنا بما جئتمونا به ، (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) قيل بالمقال ، وقيل بالفعال. ويؤيد الأول قوله :

(وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) توعدوهم بالقتل والإهانة.

(قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي مردود عليكم (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ؟) أي بسبب أنا ذكرنا بالهدى ودعوناكم إليه توعدتمونا بالقتل والإهانة (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي لا تقبلون الحق ولا تريدونه.

قال ابن جرير : والأول أولى.

وقوله تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) يعني لنصرة الرسل وإظهار الإيمان بهم (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي يدعونكم إلى الحق المحض بلا أجرة ولا جعالة.

ثم دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهاهم عن عبادة ما سواه مما لا ينفع شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة. (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إن تركت عبادة الله وعبدت معه ما سواه.

__________________

(١) والمذكورون.

(٢) و : بثلثهما.

٢٥٣

ثم قال مخاطبا للرسل : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) قيل : فاستمعوا مقالتي واشهدوا لي بها عند ربكم ، وقيل معناه : فاسمعوا يا قومي إيماني برسل الله جهرة. فعند ذلك قتلوه ، قيل رجما ، وقيل عضا ، وقيل وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه.

وحكى ابن إسحق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود قال : وطئوه بأرجلهم ، حتى أخرجوا قصبته.

وقد روى الثوري عن عاصم الأحول ، عن أبي مجلز : كان اسم هذا الرجل «حبيب بن مري» ثم قيل : كان نجارا ، وقيل حباكا (١) ، وقيل إسكافا ، وقيل قصارا ، وقيل كان يتعبد في غار هناك. فالله أعلم.

وعن ابن عباس : كان حبيب النجار قد أسرع فيه الجذام ، وكان كثير الصدقة فقتله قومه ، ولهذا قال تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) يعني لما قتله قومه أدخله الله الجنة ، فلما رأى فيها من النضرة والسرور (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) يعني ليؤمنوا بما آمنت به فيحصل لهم ما حصل لي.

قال ابن عباس : نصح قومه في حياته بقوله : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) وبعد مماته في قوله :

(يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) رواه ابن أبي حاتم. وكذلك قال قتادة : لا يلقى المؤمن إلا ناصحا ، لا يلقى غاشا ؛ لما عاين ما عاين من كرامة الله (قالَ : يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وما هو عليه!

قال قتادة : فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله» (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ).

وقوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي وما احتجنا في الانتقام منهم إلى إنزال جند من السماء عليهم.

هذا معنى ما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه (٢) عن ابن مسعود. قال مجاهد وقتادة :

وما أنزل عليهم جندا ، أي رسالة أخرى. قال بن جرير : والأول أولى.

قلت : وأقوى ـ ولهذا قال : (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي وما كنا نحتاج (٣) في الانتقام الى هذا حين كذبوا رسلنا وقتلوا ولينا : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ).

__________________

(١) و : حبالا.

(٢) و : أشياخه.

(٣) و : محتاجين.

٢٥٤

قال المفسرون : بعث الله إليهم جبريل عليه‌السلام ، فأخذ بعضادتي الباب الذي لبلدهم ، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون ، أي قد أخمدت أصواتهم ، وسكنت حركاتهم ، ولم يبق منهم عين تطرف.

وهذا كله مما يدل على أن هذه القرية ليست أنطاكية ؛ لأن هؤلاء أهلكوا بتكذيبهم (١) ـ رسل الله إليهم ، وأهل أنطاكية آمنوا واتبعوا رسل المسيح من الحواريين إليهم. لهذا قيل إن أنطاكية أول مدينة آمنت بالمسيح.

فأما الحديث الذي رواه الطبراني من حديث حسين الأشقر (٢) عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «السبق ثلاثة : فالسابق إلى موسى يوشع بن نون ، والسابق الى عيسى صاحب يس ، والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب» (٣) ، فإنه حديث لا يثبت ؛ لأن «حسين» هذا متروك شيعي من الغلاة ، وتفرده بهذا مما يدل على ضعفه بالكلية. والله أعلم.

__________________

(١) و : بتكذيب.

(٢) و : الأصفر. وهو تحريف.

(٣) الحديث ضعيف :

رواه الطبراني (٣ / ١١١ / ٢). والألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (١ / ٣٦٠ / ٢٥٨) وقال : هذا سند ضعيف جدا إن لم يكن موضوعا ، فإن حسين الأشقر وهو أبن الحسن الكوفي شيعي غال ، ضعفه البخاري جدا فقال في «التاريخ الصغير (٢٣٠): «عنده مناكير» وروي العقيلي في «الضعفاء» (٩٠) عن البخاري أنه قال فيه : «فيه نظر». وفي «الكامل» لابن عدي (٩٧ / ١) : قال السعدي : كان غاليا ، من الشتامين للخيرة» أه. ورواه أيضا ابن كثير في التفسير (٣ / ٥٧٠) وقال : «هذا حديث منكر لا يعرف إلا من طريق حسين الأشقر ، وهو شيعي متروك».

٢٥٥

قصة يونس عليه‌السلام

قال الله تعالى في سورة يونس : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ.)

[١٠ / يونس : ٩٨]

وقال تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ.)

[٢١ / الأنبياء : ٨٧ ـ ٨٨]

وقال تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ*؟ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ* فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ* وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ.)

[٣٧ / الصافات : ١٣٩ ـ ١٤٨]

وقال تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ* فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ.)

[٦٨ / القلم : ٤٧ ـ ٥٠]

قال أهل التفسير : بعث الله يونس عليه‌السلام إلى أهل «نينوى» من أرض الموصل ، فدعاهم إلى الله عزوجل ، فكذبوه وتمردوا على كفرهم وعنادهم ، فلما طال ذلك عليه من أمرهم خرج من بين أظهرهم ، ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث.

قال ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف :

فلما خرج من بين ظهرانيهم ، وتحققوا نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة والأنابة وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم ، فلبسوا المسوح وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ، ثم عجوا إلى الله عزوجل ، وصرخوا وتضرعوا إليه ، وتمسكنوا وبكى الرجال والنساء والبنون والبنات والأمهات. وجأرت الأنعام والدواب والمواشي ، فرغت

٢٥٦

الإبل وفصلانها ، وخارت البقر وأولادها ، ثغت الغنم وحملانها وكانت ساعة عظيمة هائلة.

فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته ، عنهم العذاب الذي كان قد اتصل بهم سببه ، ودار على رءوسهم كقطع الليل المظلم.

ولهذا قال تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) أي هلا وجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها ، فدل على أنه لم يقع ذلك ، بل كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ). وقوله ؛ (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي آمنوا بكاملهم.

وقد اختلف المفسرون : هل ينفعهم هذا الإيمان في الدار الآخرة ، فينقذهم من العذاب الأخروي كما أنقذهم من العذاب الدنيوي؟ على قولين :

الأظهر من السياق نعم. والله أعلم ، كما قال تعالى ؛ (لَمَّا آمَنُوا) وقال تعالى :

(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) ، وهذا المتاع إلى حين لا ينفي أن يكون معه غيره من رفع العذاب الأخروي ، والله أعلم.

وقد كانوا مائة ألف لا محالة. واختلفوا في الزيادة. فعن مكحول عشرة آلاف وروى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زهير عمن سمع أبا العالية : حدثني أبي بن كعب ، أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) قال : يزيدون عشرين ألفا ، فلولا هذا الرجل المبهم لكان هذا الحديث فاصلا في هذا الباب.

وعن ابن عباس كانوا مائة ألف وثلاثين ألفا ، عنه : وبضعة وثلاثين ألفا ، عنه وبضعة وأربعين ألفا. وقال سعيد بن جبير : كانوا مائة ألف وسبعين ألفا.

واختلفوا : هل كان إرساله إليهم قبل الحوت أو بعده؟ أو هما أمتان؟ على ثلاثة أقوال : هي مبسوطة في التفسير.

* * *

والمقصود أنه عليه‌السلام لما ذهب مغاضبا بسبب قومه ، ركب سفينة في البحر فلجت بهم ، وأضطربت وماجت بهم وثقلت بما فيها ، وكادوا يغرقون على ما ذكره المفسرون.

قالوا : فتشاوروا فيما بينهم على أن يقترعوا ، فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ليتخففوا منه.

فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله يونس فلم يسمحوا به ، فأعادوها ثانية فوقعت عليه

٢٥٧

أيضا ، فشمر (١) ليخلع ثيابه ويلقي بنفسه ، فأبوا عليه ذلك. ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضا ، لما يريده الله به من الأمر العظيم.

قال الله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ألقي في البحر ، وبعث الله عزوجل حوتا عظيما من البحر الأخضر فالتقمه وأمره الله تعالى ألا يأكل له لحما ولا يهشم له عظما فليس لك برزق ، فأخذه فطاف في البحار كلها وقيل إنه ابتلع ذلك الحوت حوت آخر أكبر منه.

قالوا : ولما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات ، فحرك جوارحه فتحركت ، فإذا هو حي فخر لله ساجدا وقال : يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يعبدك أحد في مثله.

وقد اختلفوا في مقدار لبثه في بطنه. فقال مجالد عن الشعبي : التقمه ضحى ولفظه عشية ، وقال قتادة : مكث فيه ثلاثا ، وقال جعفر الصادق سبعة أيام. ويشهد له شعر أمية ابن أبي الصلت :

وأنت بفضل منك نجيت يونسا

وقد بات في أضعاف حوت لياليا

وقال سعيد بن أبي الحسن وأبو مالك : مكث في جوفه أربعين يوما والله أعلم كم مقدار ما لبث فيه.

* * *

والمقصود أنه لما جعل الحوت يطوف به في قرار البحار اللجية ، ويقتحم به لجج الموج الأجاجي (٢) ، فسمع تسبيح الحيتان الرحمن ، وحتى سمع تسبيح الحصى لفالق الحب والنوى ، ورب السموات السبع والأرضين السبع وما بينها وما تحت الثرى. فعند ذلك وهنالك ، قال ما قال بلسان الحال والمقال ، كما أخبر عنه ذو العزة والجلال ، الذي يعلم السر والنجوى ، ويكشف الضر والبلوى ، سامع الأصوات وإن ضعفت ، وعالم الخفيات وإن دقت ، ومجيب الدعوات وإن عظمت ، حيث قال في كتابه المبين ، المنزل على رسوله الأمين ، وهو أصدق القائلين ورب العالمين وإله المرسلين : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ) أي إلى أهله (مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أن نضيق عليه. وقيل معناه : نقدر من التقدير وهي لغة مشهورة ، قدر وقدر كما قال الشاعر :

فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى

تباركت ، ما تقدر يكن ، فلك الأمر

__________________

(١) و : فتشمر.

(٢) الأجاجي : الملح.

٢٥٨

(فَنادى فِي الظُّلُماتِ) قال ابن مسعود وابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد ابن كعب والحسن وقتادة والضحاك ؛ ظلمة الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل.

وقال سالم أبي الجعد : ابتلع الحوت حوت آخر فصارت ظلمة الحوتين مع ظلمة البحر.

وقوله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) قيل معناه فلولا أنه سبح الله هنالك ، وقال ما قال من التهليل والتسبيح ، والاعتراف لله بالخضوع ، والتوبة اليه والرجوع إليه للبث هناك إلى يوم القيامة ، ولبعث من جوف ذلك الحوت. هذا معنى ما روى عن سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه.

وقيل معناه : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ) من قبل أخذ الحوت له (مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) أي المطيعين المصلين الذاكرين الله كثيرا قاله الضحاك بن قيس وابن عباس وأبو العالية ووهب بن منبه وسعيد ابن جبير والضحاك والسدي وعطاء بن السائب والحسن البصري وقتادة وغير واحد ، واختاره ابن جرير.

ويشهد بهذا ما رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «يا غلام إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، تعرف الى الله في الرخاء يتعرف إليك في الشدة.

وروى ابن جرير في تفسيره ، والبزار في مسنده من حديث محمد بن إسحق ، عمن حدثه ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت : أن خذه ولا تخدش فيه لحما ولا تكسر له عظما. فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا ، فقال في نفسه ما هذا؟

فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت : إن هذا تسبيح دواب البحر. قال فسبح وهو في بطن الحوت ، فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة! قال : ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا : العبد الصالح ؛ الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال : نعم قال فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل» كما قال الله : (وَهُوَ سَقِيمٌ).

هذا لفظ ابن جرير إسنادا ومتنا. ثم قال البزار لا نعلمه يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. كذا قال.

وقد قال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي وهب ، حدثنا عمي حدثني أبو صخر ، أن يزيد الرقاشي قال : سمعت أنس بن مالك ، ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن يونس النبي عليه‌السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من

٢٥٩

الظالمين. فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش ، فقالت الملائكة يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة. فقال : أما تعرفون ذاك؟ قالوا : لا يا رب ومن هو؟ قال : عبدي يونس قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل (١) ودعوة مجابة؟ قالوا : يا ربنا! أولا ترحم ما كان يصنعه في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال : بلى. فأمر الحوت فطرحه في العراء.

ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب به.

زاد ابن أبي حاتم : قال أبو صخر حميد بن زياد فأخبرني ابن قسيط وأنا أحدثه هذا الحديث ، أنه سمع أبا هريرة يقول : طرح بالعراء ، وأنبت الله عليه اليقطينة. قلنا : يا أبا هريرة وما اليقطينة؟ قال شجرة الدباء قال أبو هريرة وهيأ الله له أروية (٢) وحشية تأكل من خشاش الأرض ، أو قال هشاش الأرض ، قال : فتفسخ عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت.

وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيانا من شعره :

فأنبت يقطينا عليه برحمة

من الله لو لا الله أصبح ضاويا (٣)

وهذا غريب أيضا من هذا الوجه. ويزيد الرقاشي ضعيف ، ولكن يتقوى بحديث أبي هريرة المتقدم ؛ كما يتقوى ذاك بهذا ، والله أعلم.

وقد قال الله تعالى : (فَنَبَذْناهُ) أي ألقيناه (بِالْعَراءِ) وهو المكان القفر الذي ليس فيه شيء من الأشجار ، بل هو عار منها ، (وَهُوَ سَقِيمٌ) أي ضعيف البدن. قال ابن مسعود : كهيئة الفرخ ليس عليه ريش ، وقال ابن عباس والسدي وابن زيد : كهيئة الصبي حين يولد وهو المنفوش ليس عليه شيء. (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) قال ابن مسعود وابن عباس وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير ووهب بن منبه وهلال بن يساف وعبد الله بن طاووس والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغير واحد : هو القرع.

قال بعض العلماء : في إنبات القرع عليه حكم جمة ، منها أن ورقه في غاية النعمومة ، وكثير ظليل ، ولا يقربه ذباب ، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره ، نيا ومطبوخا ، وبقشره وببزره أيضا. وفيه نفع كثير وتقوية للدماغ وغير ذلك.

وتقدم كلام أبي هريرة في تسخير الله تعالى له تلك الأروية التي كانت ترضعه لبنها وترعى في البرية ، وتأتيه بكرة وعشية. وهذا من رحمة الله به ونعمته عليه وإحسانه إليه. ولهذا قال تعالى :

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ) أي الكرب والضيق الذي كان فيه (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي وهذا صنيعنا بكل من دعانا واستجار بنا.

__________________

(١) و : لم نزل نرفع له عملا متقبلا.

(٢) الاروية : أنثى الوعل. والجمع أروى وانظر الحيوان للجاحظ (٣ / ٤٩٨).

(٣) و : ألفي ضافيا.

٢٦٠