قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

مساو فقطع النظير المداني والأعلى والمساوي ، فانتفى أن يكون له ولد ، إذ لا يكون الولد إلا متولدا بين شيئين متعادلين أو متقاربين ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وقال تبارك وتعالى وتقدس : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً* لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً* فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.)

[٤ / النساء : ١٧١ ـ ١٧٣]

ينهي تعالى أهل الكتاب ومن شابههم عن الغلو والإطراء في الدين وهو مجاوزة الحد ، فالنصارى لعنهم الله غلوا وأطروا المسيح حتى جاوزوا الحد.

فكان الواجب عليهم أن يعتقدوا أنه عبد الله ورسوله وابن أمته العذراء البتول التي أحصنت فرجها فبعث الله الملك جبريل إليها فنفخ فيها عن أمر الله نفخة حملت منها بولدها عيسى عليه‌السلام. والذي اتصل بها من الملك هي الروح المضافة إلى الله إضافة تشريف وتكريم ، وهي مخلوقة من مخلوقات الله تعالى كما يقال : بيت الله وناقة الله وعبد الله ، وكذا روح الله أضيفت إليه تشريفا لها وتكريما. وسمي عيسى بها لأنه كان بها من غير أب وهي الكلمة ايضا التي عنها خلق وبسببها وجد كما قال تعالى :

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.)

[٣ / آل عمران : ٥٩]

وقال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ* بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.)

[٢ / البقرة : ١١٦ ، ١١٧]

وقال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.)

[٩ / التوبة : ٣٠]

فأخبر تعالى أن اليهود والنصارى عليهم لعائن الله ، كل من الفريقين ادّعى على الله شططا وزعم أن له ولدا ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وأخبر أنهم ليس لهم مستند فيما زعموه ولا فيما

٥٠١

ائتفكوه ، إلا مجرد القول ومشابهة من سبقهم إلى هذه المقالة الضالة تشابهت قلوبهم.

وذلك أن الفلاسفة عليهم لعنة الله زعموا أن العقل الأول صدر عن واجب الوجود الذي يعبرون عنه بعلة العلل والمبدأ الأول ، وأنه صدر عن العقل الأول عقل ثان ونفس وفلك ، ثم صدر عن الثاني كذلك حتى تناهت العقول إلى عشرة والنفوس إلى تسعة والأفلاك إلى تسعة ، باعتبارات فاسدة ذكروها واختيارات باردة أوردوها. ولبسط الكلام معهم وبيان جهلهم وقلة عقلهم موضع آخر.

وهكذا طوائف من مشركي العرب زعموا ـ لجهلهم ـ أن الملائكة بنات الله وأنه صاهر سروات الجن فتولد منها الملائكة. تعالى الله عما يقولون وتنزه عما يشركون.

كما قال تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ.)

[٤٣ / الزخرف : ١٩]

وقال تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ* أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ* أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ* وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ* أَفَلا تَذَكَّرُونَ* أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ* فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ* سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ.)

[٣٧ / الصافات : ١٤٩ ـ ١٦٠]

وقال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ* يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ* وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ.)

[٢١ / الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٩]

وقال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً* ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً* وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً* ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً.)

[١٨ / الكهف : ١ ـ ٥]

وقال تعالى : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ* قُلْ إِنَّ الَّذِينَ)

٥٠٢

(يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ* مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.)

[١٠ / يونس : ٦٨ ـ ٧٠]

فهذه الآيات المكيات الكريمات تشمل الرد على سائر فرق الكفرة من الفلاسفة ومشركي العرب واليهود والنصارى الذين ادعوا وزعموا بلا علم أن الله ولدا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا.

ولما كانت النصارى عليهم لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة من أشهر من قال بهذه المقالة ذكروا في القرآن كثيرا للرد عليهم وبيان تناقضهم وقلة علمهم وكثرة جهلهم ، وقد تنوعت أقوالهم وكفرهم ، وذلك أن الباطل كثير التشعب والاختلاف والتناقض.

وأما الحق فلا يختلف ولا يضطرب. قال الله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً). فدل على أن الحق يتحد ويتفق والباطل يختلف ويضطرب. فطائفة من ضلالهم وجهالهم زعموا أن المسيح هو الله تعالى. وطائفة قالوا هو ابن الله ، عز الله ، وطائفة قالوا هو ثالث ثلاثة. جل الله.

قال الله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.)

[٥ / المائدة : ١٧]

فأخبر تعالى عن كفرهم وجهلهم وبيّن أنه الخالق القادر على كل شيء وأنه رب كل شيء ومليكه وإلهه. وقال في أواخرها :

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.)

[٥ / المائدة : ٧٣ ـ ٧٥]

حكم تعالى بكفرهم شرعا وقدرا ، فأخبر أن هذا صدر منهم مع أن الرسول إليهم هو عيسى ابن مريم ، وقد بين لهم أنه عبد مربوب مخلوق مصور في الرحم داع إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وتوعدهم على خلاف ذلك بالنار وعدم الفوز بدار القرار والخزي في الدار والآخرة والهوان والعار ، ولهذا قال : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ).

٥٠٣

ثم قال : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) قال ابن جرير وغيره : المراد بذلك قولهم بالأقانيم الثلاثة (١) : أقنوم الأب وأقنوم الأبن وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الأبن ، على اختلافهم في ذلك ما بين المليكية واليعقوبية والنسطورية ، عليهم لعائن الله كما سنبين كيفية اختلافهم في ذلك ومجامعهم الثلاثة في زمن قسطنطين بن قسطس ، وذلك بعد المسيح بثلاثمائة سنة وقبل البعثة المحمدية بثلاثمائة سنة.

ولهذا قال تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي وما من إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير له ولا كفؤ له ولا صاحبة له ولا ولد ، ثم توعدهم وتهددهم فقال : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ثم دعاهم برحمته ولطفه إلى التوبة والاستغفار من هذه الأمور الكبار والعظائم التي توجب النار فقال : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ثم بيّن حال المسيح وأمه وأنه عبد رسول وأمه صديقة ، أي ليست بفاجرة كما يقول اليهود لعنهم الله ، وفيه دليل على أنها ليست بنبية كما زعمه طائفة من علمائنا. وقوله : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) كناية عن خروجه منهما كما يخرج من غيرهما ، أي ومن كان بهذه المثابة كيف يكون إلها! تعالى الله عن قولهم وجهلهم علوا كبيرا.

وقال السدي وغيره : المراد بقوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) زعمهم في عيسى وأمه أنهما الإلهان مع الله ، يعني كما بين تعالى كفرهم في ذلك بقوله في آخر هذه السورة الكريمة :

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.)

[٥ / المائدة : ١١٦ ـ ١١٨]

يخبر تعالى أنه يسأل عيسى ابن مريم عليه‌السلام يوم القيامة على سبيل الإكرام له والتقريع والتوبيخ لعابديه ممن كذب عليه وافترى وزعم أنه ابن الله ، أو أنه الله أو أنه شريكه ، تعالى الله عما يقولون ، فيسأله وهو يعلم أنه لم يقع منه ما يسأله عنه ولكن لتوبيخ من كذب عليه فيقول :

(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ) أي تعاليت أن يكون معك شريك (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) أي ليس هذا يستحقه أحد سواك (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) وهذا تأدب عظيم في

__________________

(١) و : المراد بتلك الثلاثة.

٥٠٤

الخطاب والجواب (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) [أي ما قلت غير ما أمرتني عليه](١) حين أرسلتني إليهم وانزلت عليّ الكتاب الذي كان يتلى عليهم. ثم فسر ما قاله لهم بقوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي خالقي وخالقكم ورازقي ورازقكم (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي رفعتني إليك حين أرادوا قتلي وصلبي فرحمتني وخلصتني منهم وألقيت شبهي على أحدهم حتى انتقموا منه فلما كان ذلك (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

ثم قال على وجه التفويض إلى الرب عزوجل والتبري من أهل النصرانية : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) أي وهم يستحقون ذلك (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وهذا التفويض والإسناد إلى المشيئة بالشرط لا يقتضي وقوع ذلك ، ولهذا قال : (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ولم يقل الغفور الرحيم (٢).

وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الإمام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام بهذه الآية الكريمة ليلة حتى أصبح (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وقال : إني سألت ربي عزوجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئا.

وقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ* بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ* وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ* يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ.)

[٢١ / الأنبياء : ١٦ ـ ٢٠]

وقال تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ* خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ.)

[٣٩ / الزمر : ٤ ـ ٥]

وقال تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ* سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ.)

[٤٣ / الزخرف : ٨١ ، ٨٢]

وقال تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً.)

[١٧ / الإسراء : ١١١]

__________________

(١) من و.

(٢) روى ذلك أبو داود الطيالسي في مسنده (٢٦٣٨). والبخاري في صحيحه (٨ / ٢١٥ / فتح). ورواه أحمد في المسند مطولا (٢٠٩٦ ، ٢٢٨١ ، ١٩٥٠ ، ٢٠٢٧ / شاكر).

٥٠٥

وقال تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.)

[١١٢ / الإخلاص : ١ ـ ٤]

وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : يقول الله تعالى : «شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، يزعم أن لي ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد» (١).

وفي الصحيح أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، أنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعاقبهم» (٢).

ولكن ثبت في الصحيح أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ :

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.)

[١١ / هود : ١٠٢]

وهكذا قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ.)

[٢٢ / الحج : ٤٨]

وقال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ.)

[٣١ / لقمان ٢٤]

وقال تعالى : (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ* مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.)

[١٠ / يونس : ٦٩ ، ٧٠]

وقال تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)

[٨٦ / الطارق : ١٧]

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٥٩ / ١ / ٣١٩٣ / فتح) ولفظه «قال الله تعالى : يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني وما ينبغي له. أما شتمه فقوله : إن لي ولدا. وأما تكذيبه فقوله : ليس يعيدني كما بدأني». أ. ه.

ورواه أيضا في صحيحه (٦٥ / ١١٢ ـ ٢ / ٤٩٧٥ / فتح) ولفظه «.. كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك. أما تكذيبه إياي أن يقول إني لن أعيده كما بدأته ، وأما شتمه إياي أن يقول اتخذ الله ولدا ، وأنا الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد» (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) كفوا وكفيئا وكفاء واحد. أ. ه.

كما رواه أيضا النسائي في سننه (٢١ / ١١٧).

(٢) الحديث رواه مسلم في صحيحه (٤٥ / ١٥ / ٢٥٨٣) من طريق أبي موسى ولفظه : «ان الله عزوجل يملي للظالم. فإذا أخذه لم يفلته». ثم قرأ : «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١١ / هود / ١٠٢) كما رواه البخاري في التفسير وابن ماجه في الفقه.

٥٠٦

ذكر منشأ عيسى ابن مريم عليهما‌السلام

ومرباه في صغره وصباه وبيان بدء الوحي إليه من الله تعالى

قد تقدم أنه ولد ببيت لحم قريبا من بيت المقدس.

وزعم وهب بن منبه أنه ولد بمصر وأن مريم سافرت هي ويوسف بن يعقوب النجار وهي راكبة على حمار ليس بينهما وبين الإكاف شيء.

وهذا لا يصح ، والحديث الذي تقدم ذكره دليل على أن مولده كان ببيت لحم ، كما ذكرناه ، ومهما عارضه باطل.

وذكر وهب بن منبه أنه لما خرت الأصنام يومئذ في مشارق الأرض ومغاربها ، وأن الشياطين حارت في سبب ذلك حتى كشف لهم إبليس الكبير أمر عيسى فوجدوه في حجر أمه والملائكة محدقة به ، وأنه ظهر نجم عظيم في السماء وأن ملك الفرس أشفق من ظهوره فسأل الكهنة عن ذلك فقالوا : هذا لمولد عظيم في الأرض ، فبعث رسله ومعهم ذهب ومرمر ولبان هدية إلى عيسى ، فلما قدموا الشام سألهم ملكها عما أقدمهم فذكروا له ذلك ، فسأل عن ذلك الوقت فإذا قدر ولد فيه عيسى ابن مريم ببيت المقدس واشتهر أمره بسبب كلامه في المهد فأرسلهم إليه بما معهم وأرسل معهم من يعرفه له ليتوصل إلى قتله إذا انصرفوا عنه ، فلما وصلوا إلى مريم بالهدايا ورجعوا قيل لها إن رسل ملك الشام إنما جاؤوا ليقتلوا ولدك. فاحتملته فذهبت به إلى مصر ، فأقامت به حتى بلغ عمره اثنتي عشرة سنة ، وظهرت عليه كرامات ومعجزات في حال صغره ، فذكر منها أن الدهقان الذي نزلوا عنده افتقد مالا من داره وكانت داره لا يسكنها إلا الفقراء والضعفاء والمحاويج فلم يدر من أخذها ، وعز ذلك على مريم عليها‌السلام وشق على الناس وعلى رب المنزل وأعياهم أمرها ، فلما رأى عيسى عليه‌السلام ذلك عمد إلى رجل أعمى وآخر مقعد من جملة من هو منقطع إليه. فقال للأعمى : أحمل هذا المقعد وانهض به. فقال : إني لا أستطيع ذلك. فقال : بلى كما فعلت أنت وهو حين أخذتما هذا المال من تلك الكوة من الدار. فلما قال ذلك صدقاه فيما قال وأتيا بالمال فعظم عيسى في عين الناس وهو صغير جدا.

ومن ذلك أن ابن الدهقان عمل ضيافة للناس بسبب طهور أولاده ، فلما اجتمع الناس وأطعمهم ثم أراد أن يسقيهم شرابا يعني خمرا ، كما كانوا يصنعون في ذلك الزمان لم يجد في جراره شيئا فشق ذلك عليه ، فلما رأى عيسى ذلك منه قام فجعل يمر على تلك الجرار ويمر يده على أفواهها

٥٠٧

فلا يفعل بجرة منها ذلك إلا امتلأت شرابا من خيار الشراب ، فتعجب الناس من ذلك جدا وعظموه وعرضوا عليه وعلى أمه مالا جزيلا فلم يقبلاه وارتحلا قاصدين بيت المقدس. والله أعلم.

وقال إسحاق بن بشر : أنبأنا عثمان بن ساج وغيره ، عن موسى بن وردان ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، وعن مكحول عن أبي هريرة قال : إن عيسى ابن مريم أول ما أطلق الله لسانه بعد الكلام الذي تكلم به وهو طفل ، فمجد الله تمجيدا لم تسمع الآذان بمثله لم يدع شمسا ولا قمرا ولا جبلا ولا نهرا ولا عينا إلا ذكره في تمجيده فقال : اللهم أنت القريب في علوك ، المتعالي في دنوك ، الرفيع على كل شيء من خلقك ، أنت الذي خلقت سبعا في الهواء بكلماتك مستويات طباقا أجبن وهن دخان من فرقك فأتين طائعات لأمرك ، فيهن ملائكتك يسبحون قدسك لتقديسك وجعلت فيهن نورا على سواد الظلام وضياء من ضوء الشمس بالنهار ، وجعلت فيهن الرعد المسبح بالحمد ، فبعزتك يجلو ضوء ظلمتك وجعلت فيهن مصابيح يهتدي بهن في الظلمات الحيران ، فتباركت اللهم في مفطور سماواتك ، وفيما دحوت من أرضك دحوتها على الماء فسمكتها على تيار الموج الغامر ، فأذللتها إذلال التظاهر ، فذل لطاعتك صعبها واستحيا لأمرك أمرها وخضعت لعزتك أمواجها ، ففجرت فيها بعد البحور الأنهار ومن بعد الأنهار الجداول الصغار ومن بعد الجداول ينابيع العيون الغزار ، ثم أخرجت منها الأنهار والأشجار والثمار ثم جعلت على ظهرها الجبال فوتدتها أوتادا على ظهر الماء ، فأطاعت أطوادها وجلمودها.

فتباركت اللهم! فمن يبلغ بنعته نعتك أم من يبلغ بصفته صفتك؟ تنشر السحاب وتفك الرقاب وتقضي الحق وأنت خير الفاصلين ، لا إله إلا أنت سبحانك أمرت أن نستغفرك من كل ذنب ، لا إله إلا أنت سبحانك سترت السموات عن الناس ، لا إله إلا أنت سبحانك إنما يخشاك من عبادك الأكياس ، نشهد أنك لست بإله استحدثناك ، ولا رب يبيد ذكره ، ولا كان معك شركاء فندعوهم ونذرك ، ولا أعانك على خلقنا أحد فنشك فيك ، نشهد أنك أحد صمد لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوا أحد».

وقال إسحاق بن بشر. عن جويبر ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، أن عيسى ابن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كلمهم طفلا حتى بلغ ما يبلغ الغلمان. ثم أنطقه الله بعد ذلك الحكمة والبيان فأكثر اليهود فيه وفي أمه من القول ، وكانوا يسمونه ابن البغية وذلك قوله تعالى :

(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً).

قال : فلما بلغ سبع سنين أسلمته أمه في الكتاب ، فجعل لا يعلمه المعلم شيئا إلا بدره إليه ، فعلمه أبا جاد فقال عيسى : ما أبو جاد؟ فقال المعلم : لا أدري فقال عيسى : كيف تعلمني ما لا تدري. فقال المعلم : إذا فعلمني ، فقال له عيسى : فقم من مجلسك. فقام فجلس عيسى مجلسه فقال سلني ، فقال المعلم : فما أبو جاد؟ فقال عيسى : الألف آلاء الله. والباء بهاء الله والجيم بهجة الله وجماله. فعجب المعلم من ذلك فكان أول من فسر أبا جاد.

٥٠٨

ثم ذكر أن عثمان سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فأجابه على كل كلمة بحديث طويل موضوع لا يسأل عنه ولا يتمادى!

وهكذا روى ابن عدي من حديث إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن مسعود ، عن مسعر بن كدام عن عطية ، عن أبي سعيد ، رفع الحديث في دخول عيسى إلى الكتاب وتعليمه المعلم معنى حروف أبي جاد وهو مطول لا يفرح به.

ثم قال ابن عدي : وهذا الحديث باطل بهذا الإسناد لا يرويه غير إسماعيل. وروى ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة قال كان عبد الله بن عمر يقول : كان عيسى ابن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان فكان يقول لأحدهم : تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك؟ فيقول نعم ، فيقول :

خبأت لك كذا وكذا. فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها أطعميني ما خبأت لي. فتقول : وأي شيء خبأت لك؟ فيقول : كذا وكذا. فتقول له : من أخبرك؟ فيقول عيسى ابن مريم. فقالوا :

والله لئن تركتم هؤلاء الصبيان مع ابن مريم ليفسدنهم. فجمعوهم في بيت وأغلقوا عليهم ، فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم فسمع ضوضاءهم في بيت فسأل عنهم فقيل له : إنما هؤلاء قردة وخنازير. فقال : اللهم كذلك. فكانوا كذلك. رواه ابن عساكر.

وقال إسحق بن بشر ، عن جويبر ، ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : وكان عيسى يرى العجائب في صباه إلهاما من الله ، ففشا ذلك في اليهود وترعرع عيسى ، فهمت به بنو إسرائيل ، فخافت أمه عليه ، فأوحى الله إلى أمه أن تنطلق به إلى أرض مصر ، فذلك قوله تعالى :

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ).

وقد اختلف السلف والمفسرون في المراد بهذه الربوة التي ذكر الله من صفتها أنها ذات قرار ومعين ، وهذه صفة غريبة الشكل ، وهي أنها ربوة وهو المكان المرتفع من الأرض الذي علاه مستو يقر عليه وارتفاع متسع ، ومع علوه فيه عيون الماء المعين ، وهو الجاري السارح على وجه الأرض فقيل المراد المكان الذي ولدت فيه المسيح وهو نخلة بيت المقدس ، ولهذا (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) وهو النهر الصغير في قول جمهور السلف ، وعن ابن عباس بإسناد جيد أنها أنهار دمشق فلعله أراد تشبيه ذلك المكان بأنهار دمشق. وقيل ذلك بمصر كما زعمه من أهل الكتاب ومن تلقاه عنهم والله أعلم. وقيل هي الرملة.

وقال إسحاق بن بشر : قال لنا إدريس عن جده وهب بن منبه ، قال : إن عيسى لما بلغ ثلاث عشرة سنة أمره الله أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت إيليا قال فقدم عليه يوسف ابن خال أمه فحملهما على حمار حتى جاء بهما إلى إيليا وأقام بها حتى أحدث الله له الإنجيل وعلمه التوراة وأعطاه إحياء الموتى وإبراء الأسقام والعلم بالغيوب ، مما يدخرون في بيوتهم وتحدث الناس بمقدمه وفزعوا لما كان يأتي من العجائب ، فجعلوا يعجبون منه فدعاهم إلى الله ففشا فيهم أمره.

٥٠٩

بيان نزول الكتب الأربعة ومواقيتها

وقال أبو زرعة الدمشقي : حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، عمن حدثه قال : «أنزلت التوراة على موسى في ست ليال خلون من شهر رمضان ، ونزل الزبور على داود في اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ، وذلك بعد التوراة بأربعمائة سنة واثنتين وثمانين سنة ، وأنزل الإنجيل على عيسى ابن مريم في ثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بألف عام وخمسين عاما ، وأنزل الفرقان على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أربع وعشرين من شهر رمضان.

وقد ذكرنا في التفسير عند قوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الأحاديث الواردة في ذلك ، وفيها أن الإنجيل أنزل على عيسى ابن مريم عليه‌السلام في ثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.

وذكر ابن جرير في تاريخه أنه أنزل عليه وهو ابن ثلاثين سنة ، ومكث حتى رفع إلى السماء وهو إبن ثلاث وثلاثين سنة. كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وقال إسحاق بن بشر : وأنبأنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، ومقاتل عن قتادة ، عن عبد الرحمن بن آدم ، عن أبي هريرة قال : أوحى الله عزوجل إلى عيسى ابن مريم : يا عيسى جد في أمري ولا تهن وأسمع وأطع يا بن الطاهرة البكر البتول ، إنك من غير فحل ، وأنا خلقتك آية للعالمين ، إياي فاعبد وعليّ فتوكل ، خذ الكتاب بقوة فسر لأهل السريانية بلغ من بين يديك أني أنا الحق الحي القائم الذي لا أزول ، صدقوا النبي الآمي العربي صاحب الجمل والتاج ـ وهي العمامة ـ والمدرعة والنعلين والهراوة ـ وهي القضيب ـ الأنجل العينين الصلت الجبين الواضح الخدين ، الجعد الرأس ، الكث اللحية ، المقرون الحاجبين ، الأقنى الأنف ، المفلج الثنايا ، البادي العنفقة ، الذي كأن عنقه إبريق فضة وكأن الذهب يجري في تراقيه ، له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب ، ليس على بطنه ولا على صدره شعر غيره ، شثن الكف والقدم ، إذا التفت التفت جميعا وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر وينحدر من صيب ، عرقه في وجهه كاللؤلؤ وريح المسك ينفح منه ، ولم ير قبله ولا بعده مثله ، الحسن القامة الطيب الريح ، نكاح النساء ذا النسل القليل إنما نسله من مباركة ، لها بيت يعني في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب ، تكفله يا عيسى في آخر الزمان كما كفل زكريا أمك ، له منها فرخان مستشهدان وله عندي منزلة ليست لأحد من البشر ، كلامه القرآن ودينه الإسلام ، وأنا السلام طوبى لمن أدرك زمانه وشهد أيامه ، وسمع كلامه.

٥١٠

قال عيسى : يا رب وما طوبى؟ قال : غرس شجرة أنا غرستها بيدي ، فهي للجنان كلها أصلها من رضوان وماؤها من تسنيم وبردها برد الكافور وطعمها طعم الزنجبيل وريحها ريح المسك من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا.

قال عيسى : يا رب اسقني منها. قال : حرام على النبيين أن يشربوا منها حتى يشرب ذلك النبي ، وحرام على الأمم أن يشربوا منها حتى تشرب (١) منها أمة ذلك النبي.

قال : يا عيسى ، أرفعك إليّ قال : رب ولم ترفعني؟ قال : أرفعك ثم أهبطك في آخر الزمان لترى من أمة ذلك النبي العجائب ولتعينهم على قتال (٢) اللعين الدجال ، أهبطك في وقت صلاة ثم لا تصلي بهم لأنها مرحومة ولا نبي بعد نبيهم.

وقال هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه ، أن عيسى قال : يا رب أنبئني عن هذه الأمة المرحومة. قال : أمة أحمد ، هم علماء حكماء (٣) كأنهم أنبياء ، يرضون مني بالقليل من العطاء وأرضى منهم باليسير من العمل ، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله. يا عيسى هم أكثر سكان الجنة ، لأنه لم تذل ألسن قوم بلا إله إلا الله كما ذلت ألسنتهم ، ولم تذل رقاب قوم قط بالسجود كما ذلت به رقابهم.

رواه ابن عساكر. وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن بديل العقيلي ، عن عبد الله بن عوسجة قال : أوحى الله إلى عيسى ابن مريم : أنزلني من نفسك كهمك ، واجعلني ذخرا لك في معادك ، وتقرب إليّ بالنوافل أحبك ولا تول غيري فأخذلك ، أصبر على البلاء وارض بالقضاء ، وكن لمسرتي فيك ، فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى ، وكن مني قريبا وأحيي ذكري بلسانك ، ولتكن مودتي في صدرك ، تيقظ من ساعات الغفلة واحكم (٤) في لطيف الفطنة ، وكن لي راغبا راهبا وأمت قلبك في الخشية [لي](٥) وراع الليل لحق مسرتي واظم نهارك ليوم الري عندي ، نافس في الخيرات جهدك ، واعترف بالخير حيث توجهت ، وقم في الخلائق بنصيحتي ، واحكم في عبادي بعدلي؟ فقد نزلت عليك شفاء وسواس (٦) الصدور من مرض النسيان وجلاء الأبصار من غشاء الكلال ولا تكن حلسا كأنك مقبوض وأنت حي تنفس.

يا عيسى ابن مريم ما آمنت بي خليقة إلا خشعت ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي فأشهدك أنها آمنة من عقابي ما لم تغير أو تبدل سنتي.

يا عيسى ابن مريم البكر البتول ابك على نفسك أيام الحياة بكاء من ودع الأهل وقلى الدنيا وترك اللذات لأهلها وارتفعت رغبته فيما عند إلهه ، وكن في ذلك تلين الكلام وتفشي السلام وكن يقظان إذا نامت عيون الأبرار ، حذار ما هو آت من أمر المعاد وزلازل شدائد الأهوال ، قبل ألا ينفع أهل ولا مال ، واكحل عينك بملول الحزن إذا ضحك البطالون ، وكن في ذلك صابرا محتسبا ،

__________________

(١) و : تشهد.

(٢) و : على قتل.

(٣) و : حلماء.

(٤) و : واحلم لي.

(٥) ليست في م.

(٦) و : وساوس.

٥١١

وطوبى لك إن نالك ما وعدت الصابرين اخرج من الدنيا بالله يوم يبعثون (١) وذق مذاقة ما قد حرب منك أين طعمه ، وما لم يأتك كيف لذته ، فرح من الدنيا بالبلغة ، وليكفك منها الخشن الجشب ، وقد رأيت إلى ما يصير ، اعمل على حساب فإنك مسؤول ، لو رأت عيناك (٢) ما أعددت لأوليائي الصالحين ذاب قلبك وزهقت نفسك.

وقال أبو داود في كتاب القدر : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري ، عن ابن طاووس ، عن أبيه قال : لقي عيسى ابن مريم إبليس فقال : أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب لك؟ قال إبليس : فأوف (٣) بذروة هذا الجبل فتردي منه فأنظر هل تعيش أم لا. فقال ابن طاووس : عن أبيه : فقال عيسى : أما علمت أن الله تعالى قال : لا يجربني عبدي فإني أفعل ما شئت. وقال الزهري : إن العبد لا يبتلي ربه ولكن الله يبتلي عبده.

وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن عبدة ، أنبأنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاووس قال : أتى الشيطان عيسى ابن مريم ، فقال : اليس تزعم أنك صادق؟ فأت هوة (٤) فالق نفسك. قال :

ويلك أليس قال : يا بن آدم لا تسألني هلاك نفسك فإني أفعل ما أشاء!

وحدثنا أبو توبة الربيع بن نافع ، حدثنا حسين بن طلحة ، سمعت خالد بن يزيد ، قال :

تعبد الشيطان مع عيسى عشر سنين أو سنتين ، أقام يوما على شفير جبل فقال الشيطان : أرأيت إن ألقيت نفسي هل يصيبني إلا ما كتب لي. قال : إني لست بالذي ابتلى ربي ، ولكن ربي إذا شاء ابتلاني. وعرفه أنه الشيطان ففارقه.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا شريح بن يونس ، حدثنا علي بن ثابت ، عن الخطاب بن القاسم ، عن أبي عثمان ، كان عيسى عليه‌السلام يصلي على رأس جبل ، فأتاه إبليس فقال : أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر؟ قال : نعم. قال : ألق نفسك من هذا الجبل وقل قدر عليّ. فقال : يا لعين! الله يختبر العباد وليس العباد يختبرون الله عزوجل.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا الفضل بن موسى البصري ، حدثنا إبراهيم بن بشار سمعت سفيان بن عيينة يقول : لقي عيسى ابن مريم إبليس فقال له إبليس : يا عيسى ابن مريم الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تكلمت في المهد صبيا ، ولم يتكلم فيه أحد قبلك. قال : بل الربوبية للإله الذي أنطقني ثم يميتني ثم يحييني. قال : فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تحيي الموتى. قال : بل الربوبية لله الذي يحيي ويميت من أحييت ثم يحييه. قال : والله إنك لإله في السماء وإله في الأرض. قال : فصكه جبريل صكة بجناحيه فما نباها دون قرون الشمس. ثم صكه أخرى بجناحيه فما نباها دون العين الحامية ، ثم صكه أخرى فأدخله بحار السابعة فأساخه

__________________

(١) كذا في و : وفي م : يوم بيوم.

(٢) و : عينك.

(٣) م : فارق.

(٤) و : هذه.

٥١٢

وفي رواية فأسلكه فيها ، حتى وجد طعم الحمأة فخرج منها وهو يقول : ما لقي أحد من أحد ما لقيت منك يا ابن مريم.

وقد روي نحو هذا بأبسط منه من وجه آخر ، فقال الحافظ أبو بكر الخطيب : أخبرني أبو الحسن بن رزقويه ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن سيدي ، حدثنا أبو محمد الحسن بن علي القطان ، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار ، أنبأنا علي بن عاصم ، حدثني أبو سلمة سويد عن بعض أصحابه ، قال : صلى عيسى ببيت المقدس فانصرف ، فلما كان ببعض العقبة عرض له إبليس فاحتبسه فجعل يعرض عليه ويكلمه ويقول له : إنه لا ينبغي لك أن تكون عبدا. فأكثر عليه وجعل عيسى يحرص على أن يتخلص منه ، فجعل لا يتخلص منه فقال له فيما يقول : لا ينبغي لك يا عيسى أن تكون عبدا ، قال : فاستغاث عيسى بربه ، فأقبل جبريل وميكائيل فلما رآهما إبليس كف ، فلما استقر معه على العقبة اكتنفا عيسى وضرب جبريل إبليس بجناحه فقذفه في بطن الوادي. قال : فعاد إبليس معه وعلم أنهما لم يؤمرا بغير ذلك. فقال لعيسى : قد أخبرتك أنه لا ينبغي أن تكون عبدا ، إن غضبك ليس بغضب عبد ، وقد رأيت ما لقيت منك حين غضبت ولكن أدعوك لأمر هو لك ، مر الشياطين فليطيعوك فإذا رأى البشر أن الشياطين أطاعوك عبدوك ، أما إني لا أقول أن تكون إلها ليس معه إله ولكن الله يكون إلها في السماء وتكون أنت إلها في الأرض. فلما سمع عيسى ذلك منه استغاث بربه وصرخ صرخة شديدة ، فإذا إسرافيل قد هبط فنظر إليه جبريل وميكائيل فكف إبليس ، فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه فصك به عين الشمس ، ثم ضربه ضربة أخرى فأقبل إبليس يهوي ومر عيسى وهو بمكانه فقال : يا عيسى لقد لقيت فيك اليوم تعبا شديدا فرمى به في عين الشمس ، فوجد سبعة أملاك عند العين الحامية قال : فغطوه فجعل كلما خرج (١) غطوه في تلك الحمأة قال : والله ما عاد إليه بعد.

قال وحدثنا إسماعيل العطار ، حدثنا أبو حذيفة قال : واجتمع إليه شياطينه فقالوا : سيدنا لقد (٢) لقيت تعبا قال : إن هذا عبد معصوم ليس لي عليه من سبيل ، وسأضل به بشرا كثيرا وأبث فيهم أهواء مختلفة واجعلهم شيعا ويجعلونه وأمه إلهين من دون الله. قال : وأنزل الله فيما أيد به عيسى وعصمه من إبليس قرآنا ناطقا بذكر نعمته على عيسى فقال : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) يعني إذ قويتك بروح القدس يعني جبريل (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) الآية كلها وإذ جعلت المساكين لك بطانة وصحابة وأعوانا ترضى بهم وصحابة وأعوانا يرضون بك هاديا وقائدا إلى الجنة ، فذلك فعلي خلقان عظيمان من لقيني بهما فقد لقيني بأزكى الخلائق وأرضاها عندي.

وسيقول لك بنو إسرائيل صمنا فلم يتقبل صيامنا وصلينا فلم تقبل صلاتنا وتصدقنا فلم تقبل صدقاتنا وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاؤنا. فقل لهم : ولم ذلك وما الذي يمنعني؟ أن

__________________

(١) كلما صرح.

(٢) م : قد.

٥١٣

ذات يدي قلت؟ أو ليس خزائن السموات والأرض بيدي أنفق منها كيف أشاء. أو إن البخل يعتريني (١) ، أو لست أجود من سئل (٢) وأوسع من أعطى. أو أن رحمتي ضاقت؟ وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتي.

ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى ابن مريم غروا (٣) أنفسهم بالحكمة التي تورث في قلوبهم ما استأثروا (٤) به الدنيا أثرة على الآخرة لعرفوا من أين أتوا (٥) ، وإذا لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى الأعداء لهم ، وكيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالأطعمة الحرام وكيف أقبل صلاتهم وقلوبهم تركن إلى الذين يحاربونني ويستحلون محارمي وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغصبون الناس عليها فيأخذونها من غير حلها. ، يا عيسى إنما أجزي عليها أهلها ، وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الأنبياء؟ ازددت عليهم غضبا.

يا عيسى وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أنه من عبدني وقال فيكما بقولي أن أجعلهم جيرانك في الدار ورفقاءك في المنازل وشركاءك في الكرامة ، وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أن من اتخذك وامك إلهين من دون الله أن أجعلهم في الدرك الأسفل من النار.

وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أني مثبت هذا الأمر على يدي عبدي محمد وأختم به الأنبياء والرسل ، ومولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يتزين (٦) بالفحش ولا قوال بالخنا ، أسدده لكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم ، وأجعل التقوى ضميره والحكم معقرا له والوفاء طبيعته والعدل سيرته والحق شريعته والإسلام ملته ، اسمه أحمد ، أهدي به بعد الضلالة وأعلم به بعد الجهالة وأغني به بعد العائلة ، وأرفع به بعد الضعة ، أهدي به وأفتح به بين آذان صم وقلوب غلف وأهواء مختلفة متفرقة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إخلاصا لا سمي وتصديقا لما جاءت به الرسل ، ألهمهم التسبيح والتقديس والتهليل في مساجدهم ومجالسهم وبيوتهم ومنقلبهم ومثواهم ، يصلون لي قياما وقعودا ، وركعا وسجودا ، ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا ، قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم وقربانهم في بطونهم ، رهبان بالليل ليوث في النهار ، ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم.

وسنذكر ما يصدق كثيرا من هذا السياق مما سنورده من سورة المائدة والصف إن شاء الله وبه الثقة.

وقد روى أبو حذيفة إسحاق بن بشر بأسانيده عن كعب الأحبار ووهب بن منبه وابن عباس وسلمان الفارسي ، دخل حديث بعضهم في بعض ، قالوا : لما بعث عيسى ابن مريم وجاءهم بالبينات جعل المنافقون والكافرون من بني إسرائيل يعجبون منه ويستهزئون به فيقولون : ما أكل

__________________

(١) م : لا يعتريني.

(٢) م : من سأل.

(٣) و : عدو.

(٤) و : فأستأثروا.

(٥) م : أوتوا.

(٦) م : ولا يزر.

٥١٤

فلان البارحة وما اخر في منزله؟ فيخبرهم ، فيزداد المؤمنون إيمانا والكافرون والمنافقون شكا (١) وكفرانا.

وكان عيسى مع ذلك ليس له منزل يأوي إليه ، إنما يسيح في الأرض ليس له قرار ولا موضع يعرف به ، فكان أول ما أحيا من الموتى أنه مر ذات يوم على امرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فقال لها : ما لك ، ايتها المرأة؟ فقالت : ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها وإني عاهدت ربي ألا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت أو يحييها الله لي فأنظر إليها. فقال لها عيسى :

أرأيت إن نظرت إليها أراجعة أنت؟ قالت : نعم. قالوا : فصلى ركعتين ثم جاء فجلس عند القبر فنادى يا فلانة قومي بإذن الله الرحمن فاخرجي. قال : فتحرك القبر ثم نادى الثانية فانصدع القبر بإذن الله ، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب ، فقال لها عيسى : ما أبطأ بك عني؟ فقالت : لما جاءتني الصيحة الأولى بعث الله لي ملكا فركب خلقي ثم (٢) جاءتني الصيحة الثانية فرجع إلى روحي ، ثم جاءتني الصيحة فخفت أنها صيحة القيامة فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عيني من مخافة القيامة ، ثم أقبلت علي أمها فقالت : يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين يا أماه اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا ، يا روح الله وكلمته سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون عليّ كرب الموت. فدعا ربه فقبضها إليه واستوت عليها الأرض.

فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضبا.

وقدمنا في عقب قصة نوح أن بني إسرائيل سألوه أن يحيي لهم سام بن نوح فدعا الله عزوجل وصلى لله فأحياه الله لهم فحدثهم عن السفينة وأمرها ثم دعا فعاد ترابا.

وقد روى السدي عن أبي صالح وأبي مالك ، عن ابن عباس في خبر ذكره وفيه أن ملكا من ملوك بني إسرائيل مات وحمل على سريره فجاء عيسى عليه‌السلام فدعا الله عزوجل فأحياه الله عزوجل ، فرأى الناس أمرا هائلا ومنظرا عجيبا.

وقال تعالى وهو أصدق القائلين : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ* وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ.)

[٥ / المائدة : ١١٠ ، ١١١]

يذكره الله بنعمته عليه وإحسانه إليه في خلقه إياه من غير أب ، بل من أم بلا ذكر ، وجعله له آية للناس ودلالة على كمال قدرته تعالى ثم إرساله بعد هذا كله (وَعَلى والِدَتِكَ) في اصطفائها

__________________

(١) و : شركا.

(٢) و : فلما جاءتني.

٥١٥

واختيارها لهذه النعمة العظيمة وإقامة البرهان على براءتها مما نسبها إليه الجاهلون ولهذا قال : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وهو جبريل بإلقاء روحه إلى أمه وقرنه معه في حال رسالته ومدافعته عنه لمن كفر به (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أي تدعو الناس إلى الله في حال صغرك في مهدك وفي كهولتك ، «وإذ علمتك الكتاب والحكمة أي الخط والفهم ، نص عليه بعض السلف (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) وقوله : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) أي تصوره وتشكله من الطين على هيئة الطير على أمر الله له بذلك (فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) أي بأمري يؤكد تعالى بذكر الإذن له في ذلك لرفع التوهم.

وقوله (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) قال بعض السلف وهو الذي يولد أعمى ولا سبيل لأحد من الحكماء إلى مداواته (وَالْأَبْرَصَ) هو الذي لا طب فيه بل قد مرض بالبرص وصار داؤه عضالا (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) أي من قبورهم أحياء بإذني. وقد تقدم ما فيه دلالة على وقوع ذلك مرارا متعددة بما فيه كفاية.

وقوله : (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) وذلك حين أرادوا صلبه فرفعه الله إليه وأنقذه من بين أظهرهم صيانة لجنابه الكريم عن الأذى وسلامة له من الردى.

وقوله : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) قيل المراد بهذا الوحي وحي إلهام أي أرشدهم الله إليه ودلهم عليه.

كما قال : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ...)

[١٦ / النحل : ٦٨]

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ.)

[٢٨ / القصص : ٧]

وقيل المراد وحي بواسطة الرسول وتوفيق في قلوبهم لقبول الحق ولهذا استجابوا قائلين : (آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ).

وهذا من جملة نعم الله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم أن جعل له أنصارا وأعوانا ينصرونه ويدعون معه إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

كما قال تعالى لعبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.)

[٨ / الأنفال : ٦٢ ـ ٦٣]

وقال تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ* وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ

٥١٦

فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ* فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ* رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ* وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ.)

[٣ / آل عمران : ٤٨ ـ ٥٤]

كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان ، فذكروا أن موسى عليه‌السلام كانت معجزته مما يناسب أهل زمانه وكانوا سحرة أذكياء ، فبعث بآيات بهرت الأبصار وخضعت لها الرقاب ، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر وما ينتهي إليه وعاينوا ما عاينوا من الأمر الباهر الهائل الذي لا يمكن صدوره إلا عمن أيده الله وأجرى الخارق على يديه تصديقا له ، أسلموا سراعا ولم يتعلثموا.

وهكذا عيسى ابن مريم بعث في زمن الطبائعية الحكماء ، فأرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها ، وأنّى لحكيم إبراء الأكمه الذي هو أسوأ حالا من الأعمى ، والأبرص والمجذوم ومن به مرض مزمن ، وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن يقيم الميت من قبره؟ هذا مما يعلم كل أحد معجزة دالة على صدق من قام به وعلى قدرة من أرسله.

وهكذا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهم أجمعين بعث في زمن الفصحاء البلغاء ، فأنزل الله عليه القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فلفظه معجز تحدى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة ، وقطع عليهم بأنهم لا يقدرون لا في الحال ولا في الاستقبال ، فهم لم يفعلوا ولن يفعلوا وما ذاك إلا أنه كلام الخالق عزوجل ، والله تعالى لا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.

* * *

والمقصود أن عيسى عليه‌السلام لما أقام عليهم الحجج والبراهين استمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم وطغيانهم ، فانتدب له من بينهم طائفة صالحة فكانوا له أنصارا وأعوانا قاموا بمتابعته ونصرته ومناصحته ، وذلك حين همّ به بنو إسرائيل ووشوا به إلى بعض ملوك ذلك الزمان ، فعزموا على قتله وصلبه فأنقذه الله منهم ورفعه إليه من بين أظهرهم وألقى شبهه على أحد أصحابه فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدونه عيسى وهم في ذلك غالطون وللحق مكابرون ، وسلم لهم كثير من النصارى ما ادعوه ، وكلا الفريقين في ذلك مخطئون.

٥١٧

وقال تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) وقال تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ* وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.)

[٦١ / الصف : ٦ ـ ٨]

إلى أن قال بعد ذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ.)

[٦١ / الصف : ١٤]

فعيسى عليه‌السلام هو خاتم انبياء بني إسرائيل وقد قام فيهم خطيبا فبشرهم بخاتم الأنبياء الآتي بعده ونوه باسمه وذكر لهم صفته ليعرفوه ويتابعوه إذا شاهدوه ، إقامة للحجة عليهم وإحسانا من الله إليهم.

قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.)

[٧ / الأعراف : ١٥٧]

وقال محمد بن إسحاق : حدثني ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك. قال : «دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام».

وقد روى عن العرباض بن سارية وأبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو هذا وفيه : دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى وذلك أن إبراهيم لما بنى الكعبة قال : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) الآية. ولما انتهت النبوة في بني إسرائيل إلى عيسى قام فيهم خطيبا فأخبرهم أن النبوة قد انقطعت عنهم وأنها بعده في النبي العربي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق أحمد ، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم‌السلام.

قال الله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) يحتمل عود الضمير إلى عيسى عليه‌السلام ويحتمل عوده إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥١٨

ثم حرض تعالى عباده المؤمنين على نصرة الإسلام وأهله ونصرة نبيه ومؤازرته ومعاونته على إقامة الدين ونشر الدعوة فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ). أي من يساعدني في الدعوة ، إلى الله ، (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) وكان ذلك في قرية يقال لها الناصرة فسموا بذلك النصارى قال الله تعالى : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) يعني لما دعا عيسى بني إسرائيل وغيرهم إلى الله تعالى منهم من آمن ومنهم من كفر ، وكان ممن آمن به أهل أنطاكية بكمالهم فيما ذكره غير واحد من أهل السير والتواريخ والتفسير بعث إليهم رسلا ثلاثة ، أحدهم شمعون الصفا فآمنوا واستجابوا (١) وليس هؤلاء هم المذكورون في سورة يس لما تقدم تقريره في قصة أصحاب القرية ، وكفر آخرون من بني إسرائيل وهم جمهور قال تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الآية فكل من كان إليه أقرب كان غالبا (٢) لمن دونه ، ولما كان قول المسلمين فيه هو الحق الذي لا شك فيه ، من أنه عبد الله ورسوله كانوا ظاهرين على النصارى الذين غلوا فيه وأطروه وأنزلوه فوق ما أنزله الله به.

ولما كان النصارى أقرب في الجملة مما ذهب إليه اليهود [فيه](٣) عليهم لعائن الله ، كان النصارى قاهرين لليهود في أزمان الفترة إلى زمن الإسلام وأهله.

__________________

(١) و : واستعجلوا.

(٢) م : كان عليا.

(٣) من و.

٥١٩

ذكر خبر المائدة

قال الله تعالى : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ* قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ.)

[٥ / المائدة : ١١١ ـ ١١٥]

قد ذكرنا في التفسير الآثار الواردة في نزول المائدة عن ابن عباس وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وغيرهم من السلف.

ومضمون ذلك : أن عيسى عليه‌السلام أمر الحواريين بصيام ثلاثين يوما ، فلما أتموها سألوا من عيسى إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها وتطمئن بذلك قلوبهم أن الله قد تقبل صيامهم وأجابهم إلى طلبتهم ، وتكون لهم عيدا يفطرون عليها يوم فطرهم وتكون كافية لأولهم وآخرهم لغنيهم وفقيرهم. فوعظهم عيسى عليه‌السلام في ذلك وخاف عليهم ألا يقوموا بشكرها ولا يؤدوا حق شروطها فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك من ربه عزوجل.

فلما لم يقلعوا عن ذلك قام إلى مصلاه ولبس مسحا من شعر وصف بين قدميه وأطرق رأسه وأسبل عينيه بالبكاء وتضرع إلى الله في الدعاء والسؤال أن يجابوا إلى ما طلبوا.

فأنزل الله المائدة من السماء والناس ينظرون إليها تنحدر بين غمامتين ، وجعلت تدنو قليلا قليلا ، وكلما دنت سأل عيسى ربه عزوجل أن يجعلها رحمة لا نقمة وأن يجعلها بركة وسلامة. فلم تزل تدنو حتى استقرت بين يدي عيسى عليه‌السلام وهي مغطاة بمنديل فقام عيسى يكشف عنها وهو يقول : «بسم الله خير الرازقين» فإذا عليها سبعة من الحيتان وسبعة أرغفة ويقال : وخل ويقال : ورمان وثمار ، ولها رائحة عظيمة جدا ، قال الله كوني فكانت.

ثم أمرهم بالأكل منها» فقالوا : لا نأكل حتى تأكل. فقال : إنكم الذين ابتدأتم السؤال لها. فأبوا أن يأكلوا منها ابتداء ، فأمر الفقراء والمحاويج والمرضى والزمنى وكانوا قريبا من الألف وثلاثمائة فأكلوا منها فبرأ كل من به عاهة أو آفة أو مرض مزمن ، فندم الناس على ترك الأكل منها لما رأوا من إصلاح حال أولئك. ثم قيل إنها كانت تنزل كل يوم مرة فيأكل الناس منها ، يأكل

٥٢٠