قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

قال ابن عساكر أيضا : أنبأنا أبو القاسم بن إسماعيل بن أحمد أنبأنا أبو بكر بن الطبري ، أنبأنا أبو الحسين بن الفضل ، أنبأنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا يعقوب ـ هو ابن سفيان الفسوي ـ حدثني محمد بن عبد العزيز ، حدثنا ضمرة (١) عن السري بن يحيى ، عن رباح بن عبيدة ، قال :

رأيت رجلا يماشي عمر بن عبد العزيز معتمدا على يديه ، فقلت في نفسي : إن هذا الرجل حاف ، قال فلما انصرف من الصلاة ـ قلت من الرجل الذي كان معتمدا على يدك آنفا؟ قال : وهل رأيته يا رباح؟ قلت : نعم ، قال : ما أحسبك إلا رجلا صالحا ، ذاك أخي الخضر بشرني أني سألي وأعدل.

قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي : الرملي مجروح عند العلماء ، وقد قدح أبو الحسين بن المنادي في ضمرة والسري ورباح. ثم أورد من طريق آخر عن عمر بن عبد العزيز ، أنه اجتمع بالخضر ، وضعفها كلها.

وروى ابن عساكر أيضا أنه اجتمع بإبراهيم التيمي وبسفيان بن عيينة وجماعة يطول ذكرهم.

وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم. وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جدا لا يقوم بمثلها حجة في الدين ، والحكايات لا يخلو أكثرها عن ضعف الإسناد.

وقصاراها أنها صحيحة إلى من ليس بمعصوم من صحابي أو غيره ، لأنه يجوز عليه الخطأ ، والله أعلم.

وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن الزهري ، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أن أبا سعيد قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا طويلا عن الدجال ، وقال فيما يحدثنا : «يأتي الدجال ـ وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة ـ فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خيرهم ، فيقول أشهد أنك أنت الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحديثه ، فيقول الدجال : أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر؟ فيقولون : لا ، فيقتله ثم يحييه : فيقول حين يحيا :

والله ما كنت أشد بصيرة فيك مني الآن. قال فيريد قتله الثانية فلا يسلط عليه (٢).

قال معمر : بلغني أنه يحمل على حلقة صحيفة من نحاس ، وبلغني أنه الخضر الذي يقتله الدجال ثم يحييه.

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري به.

وقال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الراوي عن مسلم : الصحيح أن يقال إن هذا الرجل الخضر ، وقول معمر وغيره : بلغني ـ ليس فيه حجة. وقد ورد في بعض ألفاظ

__________________

(١) م : جمره ، محرفة.

(٢) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٢٩ / ٩) ، (٧٦ / ٣٠) ، (٩٧ / ٣١). ورواه مسلم (١٥ / ٤٨٥) ومالك في الموطأ (٤٥ / ١٦). وأحمد في المسند (١ / ١٨٣) ، (٢ / ٢٣٧ ، ٣٣٠ ، ٤٨٣) ، (٣ / ٢٠٢ ، ٢٧٧ ، ٣٩٣) ، (٥ / ٨١ ، ٢٠٧ ـ حلبي).

٤٠١

الحديث : فيأتي بشاب ممتلىء شبابا فيقتله ، وقوله الذي حدثنا عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يقتضي المشافهة ، بل يكفي التواتر.

وقد تصدى الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه‌الله في كتابه : «عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر» للأحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات فبين أنها موضوعة ، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين من بعدهم فبين ضعف أسانيدها ببيان أحوالها وجهالة رجالها ، وقد أجاد في ذلك إذ أحسن الانتقاد.

وأما الذين ذهبوا إلى أنه قد مات ، ومنهم البخاري وإبراهيم الحربي وأبو الحسين بن المنادي والشيخ أبو الفرج بن الجوزي ، وقد انتصر لذلك وألف (١) فيه كتابا أسماه «عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر» فيحتج لهم بأشياء كثيرة : منها قوله : «وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد» فالخضر إن كان بشرا (٢) فقد دخل في هذا العموم لا محالة ، ولا يجوز تخصيصه منه إلا بدليل صحيح ، والأصل عدمه حتى يثبت : ولم يذكر فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قبوله.

ومنها أن الله تعالى قال : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ.)

[٣ / آل عمران : ٨١]

قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه. وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق ، لئن بعث محمدا وهم احياء ليؤمنن به ولينصرنه. ذكره البخاري عنه.

فالخضر إن كان نبيا أو وليا ، فقد دخل في هذا الميثاق ، فلو كان حيا في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكان أشرف أحواله أن يكون بين يديه ، يؤمن بما أنزل الله عليه ، وينصره أن يصل أحد من الأعداء إليه ، لأنه إن كان وليا فالصديق أفضل منه ، وإن كان نبيا فموسى أفضل منه.

وقد روى الإمام أحمد في مسنده : حدثنا شريح بن النعمان ، حدثنا هشيم ، أنبأنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني». وهذا الذي يقطع به ويعلم من الدين علم الضرورة ، وقد دلت عليه هذه الآية الكريمة : أن الأنبياء كلهم لو فرض أنهم أحياء مكلفون في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكانوا كلهم أتباعا له ، وتحت أوامره وفي عموم شرعه. كما أنه صلوات الله وسلامه عليه لما اجتمع بهم ليلة الإسراء رفع فوقهم كلهم. ولما هبطوا معه إلى بيت المقدس وحانت الصلاة أمره جبريل عن أمر الله أن يؤمهم ، فصلى بهم في محل ولايتهم ودار إقامتهم. فدل على أنه الإمام الأعظم ، والرسول الخاتم المبجل المقدم ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

__________________

(١) و : وصنف.

(٢) و : بشريا.

٤٠٢

فإذا علم هذا ـ وهو معلوم عند كل مؤمن ـ علم أنه لو كان الخضر حيا لكان من جملة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وممن يقتدي بشرعه لا يسعه إلا ذلك.

وهذا عيسى ابن مريم عليه‌السلام إذا نزل في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة ، لا يخرج منها ولا يحيد عنها ، وهو أحد أولي العزم الخمسة المرسلين وخاتم أنبياء بني إسرائيل والمعلوم أن الخضر لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن النفس إليه ، أنه اجتمع برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يوم واحد ، ولم يشهد معه قتالا في مشهد من المشاهد.

وهذا يوم بدر يقول الصادق المصدوق فيما دعا به لربه عزوجل ، واستنصره واستفتحه على من كفره : «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض» ، وتلك العصابة كان تحتها سادة المسلمين يومئذ ، وسادة الملائكة حتى جبريل عليه‌السلام ، كما قال حسان بن ثابت في قصيدة له ، في بيت يقال إنه أفخر بيت قالته العرب :

وببئر بدر إذ يرد وجوههم

جبريل تحت لوائنا ومحمد

فلو كان الخضر حيا ، لكان وقوفه تحت هذه الراية أشرف مقاماته وأعظم غزواته.

قال القاضي أبو يعلي محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي : سئل بعض أصحابنا عن الخضر هل مات؟ فقال : نعم. قال : وبلغني مثل هذا عن أبي طاهر بن الغباري قال : وكان يحتج بأنه لو كان حيا لجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

نقله ابن الجوزي في العجالة.

فإن قيل : فهل يقال إنه كان حاضرا في هذه المواطن كلها ولكن لم يكن أحد يراه؟

فالجواب : أن الأصل عدم هذا الاحتمال البعيد الذي يلزم منه تخصيص العموميات بمجرد التوهمات. ثم ما الحامل له على هذا الاختفاء؟ وظهوره أعظم لأجره وأعلى في مرتبته وأظهر لمعجزته ثم لو كان باقيا بعده ، لكان تبليغه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأحاديث النبوية والآيات القرآنية ، وإنكاره لما وقع من الأحاديث المكذوبة ، والروايات المقلوبة والآراء البدعية والأهواء العصبية ، وقتاله مع المسلمين في غزواتهم ، وشهوده جمعهم وجماعاتهم ، ونفعه إياهم ودفعه الضرر عنهم ممن سواهم ، وتسديده العلماء والحكام ، وتقريره الأدلة والأحكام ، أفضل مما يقال عنه من كنونه في الأمصار ، وجوبه الفيافي والأقطار. واجتماعه بعباد لا يعرف أحوال كثير منهم ، وجعله لهم كالنقيب المترجم عنهم. وهذا الذي ذكرناه لا يتوقف فيه أحد بعد التفهيم ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما ـ عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى ليلة العشاء ثم قال : «أرأيتم ليلتكم هذه؟ فإنه إلى مائة سنة لا يبقى من هو على وجه الأرض اليوم أحد». وفي رواية «عين تطرف». قال ابن عمر : فذهل الناس من مقالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٤٠٣

هذه ، أراد انخرام قرنه (١).

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن الزهري قال : أخبرني سالم بن عبد الله وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة ، أن عبد الله بن عمر قال : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته ، فلما سلّم قام فقال : «أرأيتم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد» (٢).

وأخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري.

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن سليمان التيمي ، عن أبي نضرة ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل موته بقليل أو بشهر : «ما من نفس منفوسة ـ أو ما منكم من نفس اليوم منفوسة ـ يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية» (٣).

وقال أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال قبل أن يموت بشهر : «يسألونني عن الساعة وإنما علمها عند الله ، أقسم بالله ما على الأرض نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة» (٤).

وهكذا رواه مسلم من طريق أبي نضرة وأبي الزبير : كل منهما عن جابر بن عبد الله به نحوه.

وقال الترمذي : حدثنا عباد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة».

وهذا أيضا على شرط مسلم.

قال ابن الجوزي : فهذه الأحاديث الصحاح تقطع دابر دعوى حياة الخضر.

قالوا : فالخضر (٥) إن لم يكن قد أدرك زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو المظنون الذي يترقى في القوة إلى القطع ، فلا إشكال ، وإن كان قد أدرك زمانه ، فهذا الحديث يقتضي أنه لم يعش بعد مائة سنة ، فيكون الآن مفقودا لا موجودا ، لأنه داخل في هذا العموم ، والأصل عدم المخصص له حتى يثبت بدليل صحيح يجب قبوله ، والله أعلم.

__________________

(١) الحديث رواه مسلم في صحيحه (٤٤ / ٥٣ / ٢١٧). رواه البخاري في صحيحه (٣ / ٤١ / ١١٦ / فتح)

(٢) الحديث رواه أحمد في مسنده (٢ / ٨٨ / حلبي). ورواه مسلم في صحيحه والبخاري (راجع تخريج ما قبله).

(٣) الحديث رواه أحمد في مسنده (٣ / ٣٠٥ ، ٣٠٦ / حلبي). ورواه مسلم في صحيحه (٤٤ / ٥٣ / ٢١٨).

(٤) الحديث رواه أحمد في مسنده (٣ / ٣٤٥) برواية الزبير عن جابر بالعنعنة وهي رواية ضعيفة ولكن قوتها رواية مسلم من نفس الطريق (٤٤ / ٥٣ / ٢١٨) التي صرح فيها الزبير أنه سمع من جابر فيعتبر الحديث صحيحا لأنه روى بالتحديث وليس بالعنعنة.

(٥) و : والخضر.

٤٠٤

وقد حكى الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتابه : «التعريف والإعلام» عن البخاري وشيخه أبي بكر العربي : أنه أدرك حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن مات بعده لهذا الحديث.

وفي كون البخاري رحمه‌الله يقول بهذا وأنه بقي إلى زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نظر.

ورجح السهيلي بقاءه ، وحكاه عن الأكثرين.

قال : وأما اجتماعه مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعزيته لأهل البيت بعده فمروي من طرق صحاح ، ثم ذكر ما تقدم مما ضعفناه ، ولم يورد أسانيدها والله أعلم.

٤٠٥

وأما إلياس عليه‌السلام

قال الله تعالى بعد قصة موسى وهارون من سورة الصافات : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ* أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ* اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ* إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ* وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ* إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.)

[٣٧ / الصافات : ١٢٣ ـ ١٣٢]

قال علماء النسب هو : إلياس النشبي ، ويقال : ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون. وقيل : إلياس بن العازر بن العيزار بن هارون بن عمران.

وقالوا وكان ارساله إلى أهل بعلبك غربي دمشق ، فدعاهم إلى الله عزوجل وأن يتركوا عبادة صنم لهم كانوا يسمونه «بعلا». وقيل كانت أمرأة اسمها «بعل» والله أعلم.

والأول أصح ولهذا قال لهم (أَلا تَتَّقُونَ* أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ* اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)

[٣٧ / الصافات : ١٢٤ ـ ١٢٦]

فكذبوه وخالفوه وأرادوا قتله. فيقال إنه هرب منهم واختفى عنهم ، قال أبو يعقوب الأذرعي ، عن يزيد بن عبد الصمد ، عن هشام بن عمار قال : وسمعت من يذكر عن كعب الأحبار أنه قال : إن إلياس اختفى من ملك قومه في الغار الذي تحت الدم عشر سنين ، حتى أهلك الله الملك وولى غيره ، فأتاه إلياس فعرض عليه الإسلام ، وأسلم من قومه خلق عظيم غير عشرة آلاف منهم. فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم.

وقال ابن أبي الدنيا : حدثني أبو محمد القاسم بن هاشم ، حدثنا عمر بن سعيد الدمشقي ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن بعض مشيخة دمشق قال : أقام إلياس عليه‌السلام هاربا من قومه في كهف جبل عشرين ليلة ـ أو قال أربعين ليلة ـ تأتيه الغربان برزقه.

وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي : أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبيه قال : أول نبي بعث إدريس ، ثم نوح ثم إبراهيم ، ثم إسماعيل وإسحاق ، ثم يعقوب ثم يوسف

٤٠٦

ثم لوط ثم هود ثم صالح ثم شعيب ، ثم موسى وهارون ابنا عمران ، ثم إلياس النشبي بن العازر ابن هارون بن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام.

هكذا قال : وفي هذا الترتيب نظر.

وقال مكحول عن كعب. أربعة (١) أنبياء أحياء ، اثنان في الأرض إلياس والخضر ، واثنان في السماء : إدريس وعيسى عليهم‌السلام.

وقد قدمنا من ذكر أن إلياس والخضر يجتمعان في كل عام في شهر رمضان ببيت المقدس ، وأنهما يحجان كل سنة ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من العام المقبل. وأوردنا الحديث الذي فيه أنهما يجتمعان بعرفات كل سنة.

وبيّنا أنه لم يصح شيء من ذلك ، وأن الذي يقوم عليه الدليل : أن الخضر مات ، وكذلك إلياس عليهما‌السلام.

وما ذكره وهب بن منبه وغيره : أنه لما دعا ربه عزوجل أن يقبضه إليه لما كذبوه وآذوه ، فجاءته دابة لونها لون النار فركبها ، وجعل الله له ريشا وألبسه النور ، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب ، وصار ملكيا بشريا سماويا أرضيا ، وأوصى إلى اليسع بن أخطوب ، ففي هذا نظر.

وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب ، بل الظاهر أن صحتها بعيدة ، والله تعالى أعلم.

فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثني أبو العباس أحمد بن سعيد المعداني البخاري ، حدثنا عبد الله بن محمود ، حدثنا عبدان بن سنان ، حدثني أحمد بن عبد الله البرقي ، حدثنا يزيد بن يزيد البلوي ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، عن أنس بن مالك قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر ، فنزلنا منزلا فإذا رجل في الوادي يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المرحومة المغفور لها المتاب عليها ، قال :

فأشرفت على الوادي فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع ، فقال لي من أنت؟ فقلت : أنس بن مالك خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فأين هو؟ قلت هو ذا يسمع كلامك ، قال : فأته فاقرئه [مني](٢) السلام ، وقل له (٣) أخوك إلياس يقرئك السلام. قال : فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فجاء حتى لقيه فعانقه وسلّم عليه ، ثم قعدا يتحادثان فقال له : يا رسول الله إني ما آكل في السنة إلا يوما ، وهذا يوم فطري (٤) فآكل أنا وأنت ، قال : فنزلت عليهما مائدة من السماء ، عليها خبز وحوت وكرفس ، فأكلا وأطعماني وصلينا العصر ، ثم ودعه ورأيت مرة في السحاب نحو السماء (٥).

فقد كفانا البيهقي أمره ، وقال : [هذا](٦) حديث ضعيف بمرة.

__________________

(١) و : أنبياء ربعة.

(٢) من و.

(٣) و : أن أخاك.

(٤) و : قطر.

(٥) الحديث رواه ابن الجوزي في الموضوعات (١ / ٢٠٠) وقال : وحديث موضوع لا أصل له» أ. ه.

(٦) من و.

٤٠٧

والعجب أن الحاكم أبا عبد الله النيسابوري أخرجه في مستدركه على الصحيحين ، وهذا مما يستدرك به على المستدرك : فإنه حديث موضوع مخالف للأحاديث الصحاح من وجوه : ومعناه لا يصح أيضا ، فقد تقدم في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله خلق آدم طوله ، ستون ذراعا في السماء إلى أن قال : ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن».

وفيه أنه لم يأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى كان هو الذي ذهب إليه ، وهذا لا يصح ، لأنه كان أحق بالسعي إلى بين يدي خاتم الأنبياء. وفيه أنه يأكل في السنة مرة ، وقد تقدم عن وهب أنه سلبه الله لذة المطعم والمشرب ، وفيما تقدم عن بعضهم : أنه يشرب من زمزم كل سنة شربة تكفيه إلى مثلها من الحول الآخر.

وهذه أشياء متعارضة وكلها باطلة لا يصح شيء منها.

وقد ساق ابن عساكر هذا الحديث من طريق أخرى واعترف بضعفها وهذا عجب منه ، كيف تكلم عليه؟ فإنه أورده من طريق حسين بن عرفة عن هانىء بن الحسن عن بقية ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، عن واثلة عن ابن الأسقع ، فذكر نحو هذا مطولا. وفيه أن ذلك (١) كان في غزوة تبوك ، وأنه بعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنس بن مالك وحذيفة بن اليمان ، قالا : فإذا هو أعلى جسما [منا](٢) بذراعين أو ثلاثة ، واعتذر بعدم قدرته لئلا تنفر الإبل. وفيه أنه لما اجتمع به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكلا من طعام الجنة ، وقال : إن لي في كل أربعين يوما أكلة ، وفي المائدة خبز ورمان وعنب وموز ورطب وبقل ، ما عدا الكراث ، وفيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله عن الخضر فقال : عهدي به عام أول ، وقال لي : إنك ستلقاه قبلي فأقرئه مني السلام.

وهذا يدل على أن الخضر وإلياس ، بتقدير وجودهما وصحة هذا الحديث لم يجتمعا به إلى سنة تسع من الهجرة ، وهذا لا يسوغ (٣) شرعا. وهذا موضوع أيضا.

وقد أورد ابن عساكر طرقا فيمن اجتمع بإلياس من العباد ، وكلها لا يفرح بها ، لضعف إسنادها أو لجهالة المسند إليه فيها. ومن أحسنها ما قال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثني بشر بن معاذ ، حدثنا حماد بن واقد ، عن ثابت قال : كنا مع مصعب بن الزبير بسواد الكوفة ، فدخلت حائطا أصلي فيه ركعتين فافتتحت :

(حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ.)

[٤٠ / غافر : ١ ـ ٣]

فإذا برجل من خلفي على بغلة شهباء ، عليه مقطعات يمنية فقال لي : إذا قلت : «غافر الذنب» فقل : يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي ، وإذا قلت : «قابل التوب» فقل : يا قابل التوب

__________________

(١) و : أنه كان.

(٢) من و.

(٣) و : لا يجوز.

٤٠٨

تقبل توبتي ، وإذا قلت : «شديد العقاب» فقل : يا شديد العقاب لا تعاقبني ، وإذا قلت : «ذي الطول» فقل : يا ذا الطول تطول عليّ برحمتك ، فالتفت فإذا لا أحد. وخرجت فسألت : هل مر بكم رجل على بغلة شهباء عليه مقطعات يمنية؟ فقالوا : ما مر بنا أحد. فكانوا لا يرون إلا أنه إلياس.

وقوله تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)(١).

أي العذاب ، إما في الدنيا والآخرة ، أو في الآخرة. والأول أظهر على ما ذكره المفسرون والمؤرخون.

وقوله : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(٢) أي إلا من آمن منهم ، وقوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)(٣) أي أبقينا له بعده (٤) ذكرا حسنا في العالمين فلا يذكر إلا بخير ، ولهذا قال : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ)(٥) أي سلام على إلياس والعرب تلحن النون في أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها كما قالوا : إسماعيل وإسماعين وإسرائيل وإسرائين ، وإلياس وإلياسين وقد قرىء : سلام على آل ياسين ، أي على آل محمد ، وقرأ ابن مسعود وغيره : سلام على إدراسين ، ونقل عنه من طريق إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن ابن مسعود أنه قال : إلياس هو إدريس. وإليه ذهب الضحاك بن مزاحم ، وحكاه قتادة ومحمد بن إسحاق. والصحيح أنه غيره كما تقدم. والله أعلم.

__________________

(١) سورة الصافات الآية ١٢٧.

(٢) سورة ص الآية ٨٣.

(٣) سورة الصافات الآية ١٣٠.

(٤) أبقينا له.

(٥) سورة الصافات الآية ١٣٠.

٤٠٩

باب ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل

بعد موسى عليه‌السلام

ثم نتبعهم بذكر داود وسليمان عليهما‌السلام

قال ابن جرير في تاريخه : لا خلاف بين أهل العلم بأخبار الماضين وأمور السالفين من أمتنا وغيرهم أن القائم بأمور بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوفنا ، يعني أحد أصحاب موسى عليه‌السلام وهو زوج أخته مريم ، وهو أحد الرجلين اللذين ممن يخافون الله ، وهما يوشع وكالب ، وهما القائلان لبني إسرائيل حين نكلوا عن الجهاد ، : (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(١).

قال ابن جرير : ثم من بعده كان القائم بأمور بني إسرائيل حزقيل ابن بوذي وهو الذي دعا الله فأحيا الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت (٢).

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٢٣.

(٢) تاريخ الطبري (١ / ٤٧٧ / معارف).

٤١٠

قصة حزقيل

قال الله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ.)

[٢ / البقرة : ٢٤٣]

قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه أن كالب بن يوفنا لما قبضه الله إليه بعد يوشع خلف في بني إسرائيل حزقيل بن بوذي وهو ابن العجوز وهو الذي دعا القوم الذين ذكرهم الله في كتابه فيما بلغنا.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ).

قال ابن إسحاق : فروا من الوباء فنزلوا بصعيد من الأرض فقال لهم الله موتوا فماتوا جميعا فحظروا عليهم حظيرة دون السباع ، فمضت عليهم دهور طويلة فمر بهم حزقيل عليه‌السلام فوقف عليهم متفكرا فقيل له : أتحب أن يبعثهم الله وأنت تنظر؟ فقال : نعم. فأمر أن يدعو تلك العظام أن تكتسي لحما وأن يتصل العصب بعضه ببعض فناداهم عن أمر الله له بذلك ، فقام القوم أجمعون وكبروا تكبيرة رجل واحد.

وقال أسباط عن السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) قالوا : كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط وقع بها الطاعون ، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها فهلك من بقي في القرية وسلّم الآخرون فلم يمت منهم كثير ، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا : أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا بقينا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم. فوقع في قابل ، فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفا حتى نزلوا ذلك المكان وهو واد أفيح ، فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا. فماتوا حتى إذا هلكوا وبقيت أجسادهم مر بهم نبي يقال له حزقيل ، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوي شدقيه وأصابعه ، فأوحى الله إليه : أتريد أن أريك كيف أحييهم؟ قال : نعم ، وإنما كان تفكيره أنه تعجب من قدرة الله عليهم ، فقيل له : ناد. فنادى :

يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي. فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض ، حتى كانت

٤١١

أجسادا من عظام ، ثم أوحى الله إليه. أن ناد : يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحما فاكتست لحما ودما وثيابها التي ماتت فيها. ثم قيل له : ناد : فنادى : أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي فقاموا (١).

وقال أسباط : فزعم منصور عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا : «سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت» فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى ، سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا إلا عاد رسما ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم.

وعن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه ثمانية آلاف ، وعن أبي صالح تسعة آلاف ، وعن ابن عباس أيضا كانوا أربعين ألفا.

وعن سعيد بن عبد العزيز كانوا من أهل أذرعات.

وقال ابن جريج عن عطاء : هذا مثل. يعني أنه سيق مثلا مبينا أنه لن يغني حذر من قدر!

وقول الجمهور أقوى أن هذا وقع.

وقد روى الإمام أحمد وصاحبا الصحيح من طريق الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن عبد الله بن عباس ، أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء وقع بالشام. فذكر الحديث. يعني في مشاروته المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه ، فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا ببعض حاجته فقال : إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه». فحمد الله عمر ثم انصرف.

وقال الإمام : حدثنا حجاج ويزيد المفتي قالا حدثنا ابن أبي ذؤيب (٢) عن الزهري ، عن سالم ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة. أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم ، فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه. قال : فرجع عمر من الشام.

وأخرجاه من حديث مالك عن الزهري بنحوه.

قال محمد بن إسحاق (٣) ولم يذكر لنا مدة لبث حزقيل في بني إسرائيل ثم إن الله قبضه إليه ، فلما قبض نسي بنو إسرائيل عهد الله إليهم وعظمت فيهم الأحداث وعبدوا الأوثان وكان في جملة ما

__________________

(١) رواه الطبري في تاريخه (١ / ٤٨٨ / معارف).

(٢) و : ابن أبي ذئب.

(٣) و : قال ابن إسحاق.

٤١٢

يعبدونه من الأصنام صنم يقال له بعل ، فبعث الله اليهم إلياس بن ياسين ابن فنحاص بن العيزار ابن هارون بن عمران.

قلت : وقد قدمنا قصة إلياس تبعا لقصة الخضر لأنهما يقرنان في الذكر غالبا ، ولأجل أنها بعد قصة موسى في سورة الصافات فتعجلنا قصته لذلك والله أعلم.

قال محمد بن إسحاق فيما ذكر له عن وهب بن منبه قال : ثم تنبأ فيهم بعد إلياس وصية اليسع بن أخطوب عليه‌السلام.

٤١٣

قصة اليسع عليه‌السلام

وقد ذكره الله مع الأنبياء في قوله : (وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ.)

[٦ / الأنعام : ٨٦]

وقال تعالى : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ)

[٣٨ / ص : ٤٨]

قال ابن إسحاق : حدثنا بشر أبو حذيفة ، أنبأنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال كان بعد إلياس اليسع عليهما‌السلام ، فمكث ما شاء الله أن يمكث يدعوهم إلى الله متمسكا بمنهاج إلياس وشريعته حتى قبضه الله عزوجل إليه ، ثم خلف فيهم الخلوف وعظمت فيهم الأحداث والخطايا ، وكثرت الجبابرة وقتلوا الأنبياء ، وكان فيهم ملك عنيد طاغ ، ويقال إنه الذي تكفل له ذو الكفل إن هو تاب ورجع دخل الجنة فسمى ذا الكفل.

قال محمد بن إسحاق هو اليسع بن أخطوب.

وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر في حرف الياء من تاريخه : اليسع وهو الأسباط بن عدي ابن شوتلم بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل. ويقال : هو ابن عم إلياس النبي عليهما‌السلام ، ويقال : كان مستخفيا معه بجبل قاسيون من ملك بعلبك ثم ذهب معه إليها فلما رفع إلياس خلفه اليسع في قومه ونبأه الله بعده.

ذكر ذلك عبد المنعم بن إدريس [بن سنان](١) عن أبيه ، عن وهب بن منبه ، قال وقال غيره وكان [الأسباط](٢) ببانياس.

ثم ذكر ابن عساكر قراءة من قرأ اليسع بالتخفيف والتشديد ومن قرأ والليسع وهو اسم واحد لنبي من الأنبياء.

قلت : قد قدمنا قصة ذا الكفل بعد قصة أيوب عليه‌السلام لأنه قد قيل إنه ابن أيوب فالله تعالى أعلم.

__________________

(١) من و.

(٢) من و.

٤١٤

فصل

قال ابن جرير وغيره : ثم مرج أمر بني إسرائيل وعظمت منهم (١) الخطوب والخطايا ، وقتلوا من قتلوا من الأنبياء ، وسلط الله عليهم بدل الأنبياء ملوكا جبارين يظلمونهم ويسفكون دماءهم وسلط الله عليهم الأعداء من غيرهم أيضا ، وكانوا إذ قاتلوا أحدا من الأعداء يكون معهم تابوت الميثاق الذي كان فيه قبة الزمان. كما تقدم ذكره فكانوا ينصرون ببركته وبما جعل الله فيه من السكينة والبقية مما ترك آل موسى وآل هارون.

فلما كان في بعض حروبهم مع أهل غزة وعسقلان غلبوهم وقهروهم على أخذه فانتزعوه من أيديهم ، فلما علم بذلك ملك بني إسرائيل في ذلك الزمان مالت عنقه فمات كمدا.

وبقي بنو إسرائيل كالغنم بلا راع حتى بعث الله فيهم نبيا من الأنبياء يقال له شمويل ، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكا ليقاتلوا معه الأعداء ، فكان من أمرهم ما سنذكره مما قص الله في كتابه.

قال ابن جرير : فكان من وفاة يوشع بن نون إلى أن بعث الله عزوجل شمويل بن بالي أربعمائة سنة وستون سنة. ثم ذكر تفصيلها بمدد الملوك الذين ملكوا عليهم وسماهم واحدا واحدا تركنا ذكرهم قصدا.

__________________

(١) و : عظمت فيهم الأحداث.

٤١٥

قصة شمويل عليه‌السلام

وفيها بدء أمر داود عليه‌السلام

هو شمويل ويقال أشمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام بن اليهو بن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا.

قال مقاتل : وهو من ورثة هارون. وقال مجاهد : هو أشمويل بن هلفاقا (١) ولم يرفع في نسبه أكثر من هذا ، فالله أعلم.

حكى السدي بإسناده عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة والثعلبي وغيرهم أنه لما غلبت العمالقة من أرض غزة وعسقلان على بني إسرائيل وقتلوا منهم خلقا كثيرا ، وسبوا من أبنائهم جمعا كثيرا ، وانقطعت النبوة من سبط لاوي ولم يبق فيهم إلا أمرأة حبلى ؛ فجعلت تدعو الله عزوجل أن يرزقها ولدا ذكرا ، فولدت غلاما فسمته أشمويل ، ومعناه بالعبرانية إسماعيل ، أي سمع الله دعائي.

فلما ترعرع بعثته إلى المسجد وأسلمته عند رجل صالح فيه يكون عنده ليتعلم من خيره وعبادته ، وكان عنده فلما بلغ أشده بينما هو ذات ليلة نائم إذا صوت يأتيه من ناحية المسجد ، فانتبه مذعورا ، فظنه الشيخ يدعوه فسأله : أدعوتني ،؟ فكره أن يفزعه فقال : نعم نم. فنام.

ثم ناداه الثانية فكذلك ثم الثالثة فإذا جبريل يدعوه ، فجاءه فقال : إن ربك قد بعثك إلى قومك. فكان من أمره معهم ما قص الله في كنابه.

قال الله تعالى في كتابه العزيز : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ : إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ* وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ

__________________

(١) و : ابن ملقاتا.

٤١٦

مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ* وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ* فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ*.)

[٢ / البقرة : ٢٤٦ ـ ٢٥١]

قال أكثر المفسرين : كان نبي هؤلاء القوم المذكورين في هذه القصة هو شمويل. وقيل شمعون وقيل هما واحد. وقيل يوشع ، وهذا بعيد لما ذكره الإمام أبو جعفر بن جرير في تاريخه أن بين موت يوشع وبعثة شمويل أربعمائة سنة وستين سنة فالله أعلم.

والمقصود أن هؤلاء القوم لما أنهكتهم الحروب وقهرهم (١) الأعداء سألوا نبي الله في ذلك الزمان وطلبوا منه أن ينصب لهم ملكا يكونون تحت طاعته ليقاتلوا من ورائه ومعه وبين يديه الأعداء. فقال لهم : (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا؟ قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي وأي شيء يمنعنا من القتال (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) يقولون نحن محروبون موتورون ، فحقيق لنا أن نقاتل عن أبنائنا المقهورين (٢) المستضعفين فيهم المأسورين في قبضتهم.

قال تعالى : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)

[٢ / البقرة : ٢٤٦]

كما ذكر في آخر القصة أنه لم يجاوز النهر مع الملك إلا القليل والباقون رجعوا ونكلوا عن القتال.

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) [٢ / البقرة / ٢٤٧] قال الثعلبي وهو طالوت بن قيش بن أفيل (٣) بن صارو (٤) بن تحورت بن أفيح بن أنيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل.

قال عكرمة والسدي : كان سقاء! وقال وهب بن منبه : كان دباغا وقيل غير ذلك. والله أعلم.

__________________

(١) و : وقهرتهم.

(٢) و : المنهوبين.

(٣) و : أين أسأل.

(٤) و : ابن جرار.

٤١٧

ولهذا (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) ولقد ذكروا أن النبوة كانت في سبط لاوي وأن الملك كان في سبط يهوذا ، فلما كان هذا من سبط بنيامين نفروا منه وطعنوا في إمارته عليهم وقالوا نحن أحق بالملك منه و [قد](١) ذكروا أنه فقير لا سعة من المال معه فكيف يكون مثل هذا ملكا؟

(قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ). قيل كان الله قد أوحى إلى شمويل أن أي بني إسرائيل كان طوله على طول هذه العصا وإذا حضر عندك يفور هذا القرن الذي فيه من دهن القدس فهو ملكهم. فجعلوا يدخلون ويقيسون أنفسهم بتلك العصا فلم يكن أحد منهم على طولها سوى طالوت ولما حضر عند شمويل فار ذلك القرن فدهنه منه وعينه للملك (٢) عليهم وقال لهم : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ) قيل في أمر الحروب وقيل بل مطلقا (وَالْجِسْمِ) قيل الطول وقيل الجمال ، والظاهر من السياق أنه كان أجملهم وأعلمهم بعد نبيهم عليه‌السلام (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) فله الحكم وله الخلق والأمر (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهذا أيضا من بركة ولاية هذا الرجل الصالح عليهم ويمنه عليهم أن يرد الله عليهم التابوت الذي كان سلب منهم وقهرهم الأعداء عليه وقد كانوا ينصرونهم على أعدائهم بسببه (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قيل طست من ذهب كان يغسل فيه صدور الأنبياء. وقيل السكينة مثل الريح الخجوج. وقيل صوتها مثل الهرة إذا صرخت في حال الحرب أيقن بنو إسرائيل بالنصر «وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون» قيل كان فيه رضاض الألواح وشيء من المن الذي كان نزل عليهم بالتيه (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) أي تأتيكم به الملائكة يحملونه وأنتم ترون ذلك عيانا ليكون آية الله عليكم وحجة باهرة على صدق ما أقوله لكم وعلى صحة ولاية هذا الملك الصالح عليكم. ولهذا قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وقيل إنه لما غلب العمالقة على هذا التابوت ، وكان فيه ما ذكر من السكينة والبقعة المباركة وقيل كان فيه التوراة أيضا فلما استقر في أيديهم وضعوه تحت صنم لهم بأرضهم فلما أصبحوا إذا التابوت على رأس الصنم فوضعوه تحته فلما كان اليوم الثاني إذا التابوت فوق الصنم ، فلما تكرر هذا علموا أن هذا أمر من الله تعالى فأخرجوه من بلدهم وجعلوه في قرية من قراهم ، فأخذهم داء في رقابهم فلما طال عليهم هذا جعلوه في عجلة وربطوها في بقرتين وأرسلوهما ، فيقال إن الملائكة ساقتهما حتى جاءوا بهما ملأ بني إسرائيل وهم ينظرون كما أخبرهم نبيهم بذلك ، فالله أعلم على أي صفة جاءت به الملائكة ، والظاهر أن الملائكة كانت تحمله بأنفسهم كما هو المفهوم (٣) من الآية والله أعلم ، وإن كان الأول قد ذكره كثير من المفسرين أو أكثرهم.

__________________

(١) من و.

(٢) م : وعينه الملك.

(٣) م : كما هو المفهوم بالجنود من الآية. ولا معنى لها.

٤١٨

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ).

قال ابن عباس وكثير من المفسرين : هذا النهر هو نهر الأردن ، وهو المسمى بالشريعة ، فكان من أمر طالوت لجنوده عند هذا النهر عن أمر نبي الله له عن أمر الله له اختبارا وامتحانا : أن من شرب من هذا النهر فلا يصحبني في هذه الغزوة ، ولا يصحبني إلا من لم يطعمه إلا غرفة بيده.

قال الله تعالى : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ).

قال السدي : كان الجيش ثمانين ألفا فشرب منه ستة وسبعون ألفا ، فبقي معه أربعة آلاف كذا قال.

وقد روي البخاري في صحيحه من حديث إسرائيل وزهير والثوري ، عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب. قال : كنا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا (١) معه النهر ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر وثلاثمائة مؤمن. وقول السدي أن عدة الجيش كانوا ثمانين ألفا فيه نظر ، لأن أرض بيت المقدس لا تحتمل أن يجتمع فيها جيش مقاتلة يبلغون ثمانين ألفا. والله أعلم.

قال الله تعالى : (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي استقلوا أنفسهم واستضعفوها عن مقاومة أعدائهم بالنسبة إلى قلتهم وكثرة عدد عدوهم (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) يعني ثبتهم الشجعان منهم (٢) والفرسان أهل الإيمان والإيقان الصابرون على الجلاد والجدال والطعان.

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ،) طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر أي يغمرهم به من فوقهم فتستقر قلوبهم ولا تقلق ، وأن يثبت أقدامهم في مجال الحرب ومعترك الأبطال وحومة الوغى والدعاء إلى النزال فسألوا التثبيت الظاهر والباطن وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم وأعدائه من الكافرين الجاحدين بآياته وآلائه ، فأجابهم العظيم القدير السميع البصير الحكيم الخبير إلى ما سألوا (٣) وأنالهم ما إليه فيه رغبوا.

ولهذا قال : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) أي بحول الله وقوته لا بحولهم ، وبقوة الله ونصره لا بقوتهم وعددهم ، مع كثرة أعدائهم وكمال عددهم ، كما قال الله تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.)

وقوله تعالى : (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) فيه دلالة على شجاعة داود عليه‌السلام وأنه قتله قتلا أذل به جنده وكسر جيشه ، ولا أعظم من غزوة يقتل فيها

__________________

(١) و : جازوا.

(٢) م : يعني بها الفرسان منهم.

(٣) و : إلى ما طلبوا.

٤١٩

ملك عدوه فيغنم بسبب ذلك الأموال الجزيلة ويأسر الأبطال والشجعان والأقران وتعلو كلمة الإيمان على الأوثان ويدال لأولياء الله على أعدائه ، ويظهر الدين الحق على الباطل وأوليائه.

وقد ذكر السدي فيما يرويه أن داود عليه‌السلام كان أصغر أولاد أبيه وكانوا ثلاثة عشر ذكرا ، كان سمع طالوت ملك بني إسرائيل وهو يحرض بني إسرائيل على قتل جالوت وجنوده وهو يقول من قتل جالوت زوجته بابنتي وأشركته في ملكي ، وكان داود عليه‌السلام يرمي بالقذافة وهي المقلاع رميا عظيما ، فبينا هو سائر مع بني إسرائيل إذ ناداه حجر أن خذني فإن بي تقتل جالوت. فأخذه ثم حجر آخر كذلك ثم آخر كذلك ؛ فأخذ الثلاثة في مخلاته فلما تواجه الصفان برز جالوت ودعا إلى نفسه فتقدم إليه داود فقال له : ارجع فإني أكره قتلك. فقال : لكني أحب قتلك. وأخذ تلك الأحجار الثلاثة فوضعها في القذافة ثم أدارها فصارت الثلاثة حجرا واحدا. ثم رمى بها جالوت ففلق رأسه وفر جيشه منهزما ، فوفى له طالوت بما وعده فزوجه ابنته وأجرى حكمه في ملكه وعظم داود عليه‌السلام عند بني إسرائيل وأحبوه ومالوا إليه أكثر من طالوت ، فذكروا أن طالوت حسده وأراد قتله واحتال على ذلك فلم يصل إليه ، وجعل العلماء ينهون طالوت عن قتل داود فتسلط عليهم فقتلهم حتى لم يبق منهم إلا القليل ، ثم حصل له توبة وندم وإقلاع عما سلف منه وجعل يكثر من البكاء ويخرج إلى الجبانة فيبكي حتى يبل الثرى بدموعه فنودي ذات يوم من الجبانة : أن يا طالوت قتلتنا ونحن أحياء وآذيتنا ونحن أموات. فازداد لذلك بكاؤه وخوفه واشتد وجله ثم جعل يسأل عن عالم يسأله عن أمره وهل له من توبة ، فقيل له : وهل أبقيت عالما! حتى دل على أمرأة من العابدات فأخذته فذهبت به الى قبر يوشع عليه‌السلام. قالوا : فدعت الله فقام يوشع من قبره فقال : أقامت القيامة؟ فقالت : لا ولكن هذا طالوت يسألك : هل له من توبة؟ فقال : نعم ينخلع من الملك ويذهب فيقاتل في سبيل الله حتى يقتل. ثم عاد ميتا.

فترك الملك لداود عليه‌السلام وذهب ومعه ثلاثة عشر من أولاده فقاتلوا في سبيل الله حتى قتلوا. قالوا : فذلك قوله : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ).

هكذا ذكره ابن جرير في تاريخه من طريق السدي بإسناده. وفي بعض هذا نظر ونكارة. والله أعلم.

وقال محمد بن إسحق : النبي الذي بعث فأخبر طالوت توبته هو اليسع بن أخطوب ـ حكاه ابن جرير أيضا.

وذكر الثعلبي أنها أتت به إلى قبر شمويل فعاتبه على ما صنع بعده من الأمور ، وهذا أنسب.

ولعله إنما رآه في النوم لا أنه قام من القبر حيا ، فإن هذا إنما يكون معجزة لنبي ، وتلك المرأة لم تكن نبية والله أعلم.

قال ابن جرير : وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت إلى أن قتل مع أولاده أربعون سنة فالله أعلم.

٤٢٠