قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

رواهما ابن أبي حاتم.

(وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ* قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ.)

[١١ / هود : ٤٢ ـ ٤٣]

وهذا الابن هو «يام» أخو سام وحام ويافث ؛ وقيل اسمه كنعان. وكان كافرا عمل عملا غير صالح ، فخالف أباه في دينه ؛ فهلك مع من هلك. هذا وقد نجا مع أبيه الأجانب في النسب ؛ لما كانوا موافقين في الدين والمذهب.

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.)

[١١ / هود : ٤٤]

أي لما فرغ من أهل الأرض ؛ ولم يبق بها (١) أحد ممن عبد غير الله عزوجل ؛ أمر الله الأرض أن تبتلع (٢) ماءها ، وأمر السماء أن تقلع أي تمسك عن المطر ، (وَغِيضَ الْماءُ) أي نقص عما كان (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي وقع بهم الذي كان قد سبق في علمه وقدره ؛ من إحلاله بهم ما حلّ بهم.

(وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي نودي عليهم بلسان القدرة : بعدا لهم من الرحمة والمغفرة.

كما قال تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ.)

[٧ / الأعراف : ٦٤]

وقال تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ.) [١٠ / يونس : ٧٣]

وقال تعالى : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ.)

[٢١ / الأنبياء : ٧٧]

وقال تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)

[٢٦ / الشعراء / ١١٩ ـ ١٢٢]

وقال تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ.)

وقال تعالى : (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ.)

__________________

(١) م : منها.

(٢) و : تبلع.

٨١

وقال تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ* فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ* وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.)

[٥٤ / القمر : ١٥ ـ ١٧]

وقال تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً* وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً.)

[١٧ / نوح : ٢٥ ـ ٢٧]

وقد استجاب الله تعالى ـ وله الحمد والمنة ـ دعوته ؛ فلم يبق منهم عين تطرف.

وقد روى الإمامان أبو جعفر بن جرير وأبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما من طريق يعقوب ابن محمد الزهري ؛ عن قائد مولى عبد الله بن أبي رافع ؛ أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة أم المؤمنين أخبرته أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فلو رحم الله من قوم نوح أحدا لرحم أم الصبي!».

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مكث نوح عليه‌السلام في قومه ألف سنة ـ يعني إلا خمسين عاما ـ وغرس مائة سنة الشجر ، فعظمت وذهبت كل مذهب ؛ ثم قطعها ثم جعلها سفينة ؛ ويمرون عليه ويسخرون منه ؛ ويقولون تعمل سفينة في البر : كيف تجري؟ قال : سوف تعلمون.

فلما فرغ ونبع الماء وصار في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا.

فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه ؛ فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل ؛ فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا ؛ فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي!» (١)

وهذا حديث غريب. وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد وغير واحد شبيه لهذه القصة وأحرى بهذا الحديث أن يكون موقوفا متلقى عن مثل كعب الأحبار والله أعلم.

* * *

والمقصود أن الله لم يبق من الكافرين ديارا.

فكيف يزعم بعض المفسرين أن عوج بن عنق ـ ويقال ابن عناق ـ كان موجودا من قبل نوح إلى زمان موسى. ويقولون : كان كافرا متمردا جبارا عنيدا. ويقولون : كان لغير رشدة ، بل ولدته أمه بنت آدم من زنا ، وأنه كان يأخذ من طوله السمك من قرار البحار ويشويه في عين الشمس ، وأنه كان يقول لنوح وهو في السفينة : ما هذه القصعة التي لك ويستهزىء به. ويذكرون أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلثا إلى غير ذلك من الهذيانات التي لو لا أنها مسطرة في كثير من كتب التفاسير وغيرها من التواريخ وأيام الناس لما تعرضنا لحكايتها ، لسقاطتها وركاكتها. ثم إنها مخالفة للمعقول والمنقول.

__________________

(١) رواه الطبري في تاريخه (١ / ١٨٠ / معارف).

٨٢

أما المعقول : فكيف يسوغ فيه أن يهلك الله ولد نوح لكفره ، وأبوه نبي الأمة وزعيم أهل الإيمان ، ولا يهلك عوج بن عنق ، ويقال عناق ، وهو أظلم وأطغى على ما ذكروا؟

وكيف لا يرحم الله منهم أحدا ولا أم الصبي ولا الصبي ، ويترك هذا الدعي (١) الجبار العنيد الفاجر ، الشديد الكافر ، الشيطان المريد على ما ذكروا؟

وأما المنقول فقد قال الله تعالى : (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) وقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً)

ثم هذا الطول الذي ذكروه مخالف لما في الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

«إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ، ثم لم يزل (٢) الخلق ينقص حتى الآن.

فهذا نص الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)

[٥٣ / النجم : ٤]

إنه لم يزل الخلق ينقص حتى الآن ، أي لم يزل الناس في نقصان في طولهم من آدم إلى يوم إخباره بذلك وهلم جرا إلى يوم القيامة. وهذا يقتضي أنه لم يوجد من ذرية آدم من كان أطول منه.

فكيف يترك هذا ويذهل عنه ويصار إلى أقوال الكذبة الكفرة من أهل الكتاب ، الذين بدلوا كتب الله المنزلة وحرفوها وأولوها ووضعوها على غير مواضعها؟ فما ظنك بما هم يستقلون بنقله أو يؤتمنون عليه [وهم الخونة والكذبة عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة](٣) وما أظن أن هذا الخبر عن عوج بن عناق إلا اختلاقا من بعض زنادقتهم وفجارهم الذين كانوا أعداء الأنبياء والله أعلم.

* * *

ثم ذكر الله تعالى مناشدة نوح ربه في ولده ، وسؤاله له عن غرقه على وجه الاستعلام والاستكشاف.

ووجه السؤال : أنك وعدتني بنجاة أهلي معي وهو منهم وقد غرق؟ فأجيب بأنه ليس من أهلك ، أي الذين وعدت بنجاتهم. أي إنا قلنا لك : (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم بأنه سيغرق بكفره ، ولهذا ساقته الأقدار إلى أن انحاز عن حوزة أهل الإيمان ، فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان.

__________________

(١) و : المدعي.

(٢) و : تزل.

(٣) من : و.

٨٣

ثم قال تعالى : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ)

[١١ / هود : ٤٨]

هذا أمر لنوح عليه‌السلام لما نضب الماء عن وجه الأرض ، وأمكن السعي فيها والاستقرار عليها ، أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر جبل الجودي ، وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور ، «بسلام منا وبركات» أي اهبط سالما مباركا عليك ، وعلى أمم ممن سيولد بعد ، أي من أولادك ، فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلا ولا عقبا سوى نوح عليه‌السلام. قال تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) ، فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم ، ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة وهم : سام ، وحام ، ويافث.

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سام أبو العرب ، وحام أبو الحبش ، ويافث أبو الروم» (١).

ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي ، عن يزيد بن زريع ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة مرفوعا نحوه.

وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : وقد روى عن عمران بن حصين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله. قال : والمراد بالروم هنا الروم الأول وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن لبطي بن يونان بن يافث بن نوح عليه‌السلام.

ثم روى من حديث إسماعيل بن عياش ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أنه قال : ولد نوح ثلاثة : سام ويافث وحام ، وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة : فولد سام :

العرب وفارس والروم. وولد يافث : الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج. وولد حام : القبط والسودان والبربر (٢).

قلت وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا إبراهيم بن هانىء وأحمد بن حسين بن عباد أبو العباس قالا : حدثنا محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي ، حدثني أبي عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولد لنوح :

سام وحام ويافث ، فولد لسام العرب وفارس والروم والخير فيهم ، وولد ليافث : يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم ، وولد لحام : القبط والبربر والسودان» (٣).

__________________

(١) الحديث رواه أحمد في مسنده (٥ / ٨ / حلبي). ورواه الطبري في تاريخه (١ / ٢٠٩ / معارف). والسيوطي في الفتح الكبير (٢ / ١٥٠) وقال : رواه الحاكم في المستدرك وأحمد في المسند والترمذي عن سمرة. ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (١ / ١ / ١٨ / التحرير).

(٢) الحديث رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (١ / ١ / ١٨ / التحرير). ورواه الطبري في تاريخه (١ / ٢١٠ / معارف).

والسيوطي في الفتح الكبير (٣ / ٣٠٣).

(٣) راجع ما قبله.

٨٤

ثم قال : لا نعلم يروى مرفوعا إلا من هذا الوجه تفرد به عن محمد بن يزيد بن سنان عن.

أبيه ، وقد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه. ورواه غيره عن يحيى بن سعيد مرسلا ولم يسنده ، وإنما جعله من قول سعيد.

قلت وهذا الذي ذكره أبو عمر ، هو المحفوظ عن سعيد قوله : «وهكذا روى عن وهب بن منبه مثله والله أعلم». ويزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي ضعيف بمرة لا يعتمد عليه.

وقد قيل إن نوحا عليه‌السلام لم يولد له هؤلاء الأولاد الثلاثة إلا بعد الطوفان ، وإنما ولد له قبل السفينة كنعان الذي غرق ، وعابر مات قبل الطوفان.

والصحيح أن الأولاد الثلاثة كانوا معه في السفينة هم ونساؤهم وأمهم وهو نص التوراة.

وقد ذكر أن «حاما» واقع امرأته في السفينة ، فدعا عليه نوح أن تشوه خلقة نطفته ، فولد له ولد أسود وهو كنعان بن حام جد السودان. وقيل بل رأى أباه نائما وقد بدت عورته فلم يسترها وسترها أخواه ؛ فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته ؛ وأن يكون أولاده عبيدا لإخوته.

وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير من طريق علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران ؛ عن ابن عباس أنه قال : قال الحواريون لعيسى ابن مريم : لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدثنا عنها. قال : فانطلق بهم حتى أتى إلى كثيب من تراب ؛ فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه. وقال :

أتدرون ما هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : هذا كعب حام بن نوح. قال : وضرب الكثيب بعصاه وقال : قم بإذن الله. فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب فقال له عيسى عليه‌السلام هكذا هلكت ، قال : لا ، ولكني مت وأنا شاب ، ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت.

قال : حدثنا عن سفينة نوح قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات : فطبقة فيها الدواب والوحش ، وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير. فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله عزوجل إلى نوح عليه‌السلام أن أغمز ذنب الفيل ، فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ، فأقبلا على الروث ، ولما وقع الفأر يخرز السفينة بقرضه ، أوحى الله عزوجل إلى نوح عليه‌السلام : أن أضرب بين عيني الأسد ، فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر. فقال له عيسى : كيف علم نوح عليه‌السلام أن البلاد قد غرقت؟ قال : بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت.

قال : ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها ، فعلم أن البلاد قد غرقت فطوقها الخضرة التي في عنقها ، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان ، فمن ثم تألف البيوت.

قال : فقالوا يا رسول الله ألا تنطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له؟ قال : فقال له : عد بإذن الله فعاد ترابا (١).

__________________

(١) هذا الأثر رواه الطبري في تاريخه (١ / ١٨١ ، ١٨٢ / معارف).

٨٥

وهذا أثر غريب جدا.

وروى علباء بن أحمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم ، وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوما ، وإن الله وجه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوما ، ثم وجهها الى الجودي فاستقرت عليه ، فبعث نوح عليه‌السلام الغراب ليأتيه بخبر الأرض ؛ فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه ، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ولطخت رجليها بالطين ، فعرف نوح أن الماء قد نضب ، فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين ، فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة ، إحداها العربية.

وكان بعضهم لا يفقه كلام بعض فكان نوح عليه‌السلام يعبر عنهم.

وقال قتادة وغيره : ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوما واستقرت بهم على الجودي شهرا. وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم. وقد روى ابن جرير خبرا مرفوعا يوافق هذا ، وأنهم صاموا يومهم ذلك.

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو جعفر ، حدثنا عبد الصمد بن حبيب الأزدي ، عن أبيه حبيب ابن عبد الله ، عن شبل ، عن أبي هريرة قال : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء ، فقال ما هذا الصوم؟ فقالوا : هذا اليوم الذي نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من الغرق ، وغرق فيه فرعون ، وهذا اليوم استوت فيه السفينة على الجودي ، فصامه نوح وموسى عليهما‌السلام شكرا لله عزوجل ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم» [فأمر أصحابه بالصوم](١) وقال لأصحابه : «من كان منكم أصبح صائما فليتم صومه ، ومن كان منكم قد أصاب من غد أهله فليتم بقية يومه» (٢).

وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه آخر ، والمستغرب ذكر نوح أيضا. والله أعلم.

وأما ما يذكره كثير من الجهلة أنهم أكلوا من فضول أزوادهم ؛ ومن حبوب كانت معهم قد اصطحبوها ، وطحنوا الحبوب يومئذ ، واكتحلوا بالإثمد لتقوية أبصارهم لما انهارت من الضياء بعد ما كانوا في ظلمة السفينة ـ فكل هذا لا يصح فيه شيء ، وإنما يذكر فيه آثار منقطعة عن بني إسرائيل لا يعتمد عليها ولا يقتدى بها. والله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق : لما أراد الله أن يكف ذلك الطوفان ـ أرسل ريحا على وجه الأرض ،

__________________

(١) الحديث رواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٥٩ ، ٣٦٠).

وما بين الأقواس زيادة كانت ساقطة من الأصول وأثبتها من الحديث في المصدر السابق.

(٢) هذا جزء من حديث محذوف السند وليس له أي علاقة بالحديث السابق وهو مروي عن أبي هريرة أيضا وأوله «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صائما يوم عاشوراء ...» وذكر تمام الحديث.

رواه أحمد في مسنده (٥ / ٣٥٩ / حلبي). وله شاهد في شرح معاني الآثار للطحاوى (٢ / ٧٥ / مصر) عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ ـ به.

٨٦

فسكن الماء وانسدت ينابيع الأرض ، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر ، وكان استواء الفلك [على الجودي](١) فيما يزعم أهل التوراة ـ في الشهر السابع لعشر ليال مضت منه وفي أول يوم من الشهر العاشر رؤيت رؤوس الجبال. فلما مضى بعد ذلك أربعون يوما فتح نوح كوة الفلك التي صنع فيها ، ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء فلم يرجع إليه ، فأرسل الحمامة فرجعت إليه لم يجد لرجلها موضعا ، فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها ، ثم مضت سبعة أيام ثم أرسلها لتنظر له ما فعل الماء فلم ترجع ، فرجعت حين أمست وفيها ورق زيتونة ، فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الأرض. ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع إليه ، فعلم نوح أن الأرض قد برزت ، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنين ، برز وجه الأرض ، وظهر البر وكشف نوح غطاء الفلك.

وهذا الذي ذكره ابن إسحاق هو بعينه مضمون سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.

وقال ابن إسحق : وفي الشهر الثاني من سنة اثنين في ست وعشرين ليلة منه (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ)

[١١ / هود : ٤٨]

وفيما ذكر أهل الكتاب أن الله كلم نوحا قائلا له : اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك ، وجميع الدواب التي معك ، ولينموا وليكثروا (٢) في الأرض. فخرجوا وابتنى نوح مذبحا لله عزوجل وأخذ من جميع الدواب الحلال والطير الحلال فذبحها قربانا إلى الله عزوجل وعهد الله إليه ألا يعيد الطوفان على أهل الأرض. وجعل تذكارا لميثاقه (٣) إليه القوس الذي في الغمام ، وهو قوس قزح الذي روي عن ابن عباس أنه أمان من الغرق. قال بعضهم :

فيه إشارة إلى أنه قوس بلا وتر ، أي أن هذا الغمام لا يوجد طوفان كأول مرة.

وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان ، واعترف به آخرون منهم وقالوا : إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا. قالوا : ولم نزل نتوارث الملك كابرا عن كابر ، من لدن كيومرث ـ يعنون آدم ـ إلى زماننا هذا.

وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عباد النيران وأتباع للشيطان. وهذه سفسطة منهم وكفر فظيع وجهل بليغ ، ومكابرة للمحسوسات ، وتكذيب لرب الأرض والسماوات.

وقد أجمع أهل الأديان الناقلون عن رسل الرحمن ، مع ما تواتر عند الناس في سائر الأزمان ، على وقوع الطوفان ، وأنه عم جميع البلاد ، ولم يبق الله أحدا من كفرة العباد ؛ استجابة لدعوة نبيه المؤيد المعصوم ، وتنفيذا لما سبق في القدر المحتوم.

__________________

(١) من : و.

(٢) م : وليكبروا.

(٣) و : وجعل تذكار الميثاق.

٨٧

ذكر شيء من أخبار نوح نفسه عليه‌السلام

قال الله تعالى : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً)

[١٧ / الإسراء : ٣]

قيل : إنه كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله.

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو أسامة ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن أبي بردة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها» (١).

وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي أسامة.

والظاهر أن الشكور هو الذي يعمل بجميع الطاعات القلبية والقولية والعملية ؛ فإن الشكر يكون بهذا وبهذا كما قال الشاعر :

أفادتكم النعماء مني ثلاثة

يدي ولساني والضمير المحجبا

__________________

(١) الحديث رواه مسلم في صحيحه (٤٨ / ٨٩). ورواه الترمذي في سننه (٢٣ / ١٨). ورواه أحمد في مسنده (٣ / ١٠٠ ، ١١٧ / حلبي).

٨٨

ذكر صومه عليه‌السلام

وقال ابن ماجه : باب صيام نوح عليه‌السلام : حدثنا سهل بن أبي سهل حدثنا سعيد بن أبي مريم ، عن أبي لهيعة ، عن جعفر بن ربيعة ، عن أبي فراس ، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «صام نوح الدهر إلا يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى» (١).

وهكذا رواه ابن ماجه عن طريق عبد الله بن لهيعة بإسناده ولفظه.

وقد قال الطبراني : حدثنا أبو الزنباع روح بن فرج ، حدثنا عمر بن خالد الحراني ، حدثنا عن لهيعة ، عن أبي قتادة ، عن يزيد بن رباح أبي فراس ، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول :

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «صام نوح الدهر إلا يوم الفطر والأضحى ، وصام داود نصف الدهر ، وصام إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر ، صام الدهر وأفطر الدهر».

__________________

(١) حديث ضعيف. رواه ابن ماجة في سننه (١ / ٥٢٤) قال البوصيري في الزوائد (ق ١٠٨ / ٢) : هذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة. ورواه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (٤ / ٤٥٩ / المكتب الاسلامي).

٨٩

ذكر حجه عليه‌السلام

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا أبي ، عن زمعة ـ هو ابن أبي صالح ـ عن سلمة بن دهران (١) ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أتى وادي عسفان قال : «يا أبا بكر أي واد هذا»؟ قال هذا وادي عسفان. قال : «لقد مر بهذا الوادي نوح وهود وإبراهيم على بكران لهم حمر خطمهم الليف ، أزرهم العباء وأرديتهم النمار يحجون البيت العتيق».

فيه غرابة (٢).

__________________

(١) م : وهرام.

(٢) روى ابن الجوزي في كتابه «مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن عن عروة بن الزبير أن نوحا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حج البيت قبل الغرق» أنظر سبل الهدى والرشاد للصالحي (١ / ٢٤٣) بتحقيق الدكتور مصطفى عبد الواحد وفيه روايات أخرى. أه.

٩٠

ذكر وصيته لولده عليه‌السلام

قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن الصقعب بن زهير ، عن زيد بن أسلم ـ قال حماد : أظنه عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء رجل من أهل البادية عليه جبة سيجان مزرورة بالديباج فقال : «ألا إن صاحبكم هذا قد وضع كل فارس ابن فارس ، أو قال : يريد أن يضع كل فارس ابن فارس ، ورفع كل راع ابن راع».

قال : فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمجامع جبته وقال : «ألا أرى عليك لباس من لا يعقل!؟» ثم قال : «إن نبي الله نوحا عليه‌السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه : إني قاص عليك الوصية ؛ آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين : آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله. ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة ضمتهن لا إله إلا الله ، وبسبحان الله وبحمده. فإن بها صلات كل شيء ، وبها يرزق الخلق. وأنهاك عن الشرك والكبر» قال : قلت ـ أو قيل ـ يا رسول الله ، هذا الشرك قد عرفناه ، فما الكبر؟ أن يكون لأحدنا نعلان حسنتان لهما شراكان حسنان؟ قال : «لا» قال : هو أن يكون لأحدنا حلة يلبسها؟ قال «لا» قال : هو أن يكون لأحدنا دابة يركبها؟ قال : «لا» قال : هو أن يكون لأحدنا أصحاب يجلسون إليه؟ قال :

«لا» قلت ـ أو قيل ـ يا رسول الله فما الكبر؟ قال : «سفه الحق وغمط الناس» (١).

وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.

__________________

(١) حديث صحيح رواه أحمد في مسنده (٢ / ١٦٩ / ١٧٠ ، ٢٢٥ / حلبي). والبيهقي في الاسماء (٧٩ هندية). والهيثمي في مجمع الزوائد (٤ / ٢٢٠) وقال : رواه أحمد والطبراني بنحوه. وزاد في رواية : وأوصيك بالتسبيح فإنها عبادة الخلق ، وبالتكبير. ورواه البزار من حديث ابن عمر ، ورجال أحمد ثقات. ورواه البخاري في الأدب المفرد (٢ / ٢٥١ / ٥٤٨ / فضل الله).

غريب الحديث :

الكبر : ازدراء الغير واحتقاره.

سيجان : جمع ساج الطيلسان الأخضر ، قيل هو الطيلسان المقور ينسخ كذلك ، كانت القلانس تعمل منها أو نوعها.

غمط الناس : الغمط والغمص الاستهانة والاستحقار.

٩١

ورواه أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الرحيم بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان في وصية نوح لابنه : أوصيك بخصلتين وأنهاك عن خصلتين» ، فذكر نحوه.

وقد رواه أبو بكر البزار عن إبراهيم بن سعيد ، عن أبي معاوية الضرير ، عن محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه. والظاهر أنه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، كما رواه أحمد والطبراني. والله أعلم.

ويزعم أهل الكتاب أن نوحا عليه‌السلام لما ركب السفينة ـ كان عمره ستمائة سنة. وقدمنا عن ابن عباس مثله ، وزاد : وعاش بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة ، وفي هذا القول نظر. ثم إن لم يمكن الجمع بينه وبين دلالة القرآن فهو خطأ محض. فإن القرآن يقتضي أن نوحا مكث في قومه بعد البعثة وقبل الطوفان ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون. ثم الله أعلم كم عاش بعد ذلك؟

فان كان ما ذكر محفوظا عن ابن عباس ـ من أنه بعث وله أربعمائة وثمانون سنة ، وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة ـ فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة.

وأما قبره عليه‌السلام : فروى ابن جرير والأرزقي عن عبد الرحمن بن سابط أو غيره من التابعين مرسلا ، أن قبر نوح عليه‌السلام بالمسجد الحرام.

وهذا أقوى وأثبت من الذي يذكره كثير من المتأخرين ، من أنه ببلدة بالبقاع تعرف اليوم بكرك نوح ، وهناك جامع قد بني بسبب ذلك فيما ذكر والله أعلم.

٩٢

قصة هود عليه‌السلام

وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه‌السلام.

ويقال : إن هودا هو عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، ويقال : هود بن عبد الله ابن رباح الجارود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام.

ذكره ابن جرير.

وكان من قبيلة يقال لهم عاد بن عوص بن سام بن نوح. وكانوا عربا يسكنون الأحقاف ـ وهي جبال الرمل ـ وكانت باليمن بين عمان وحضرموت ، بأرض مطلة على البحر يقال لها الشحر ، واسم واديهم مغيث.

وكانوا كثيرا ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام ، كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) أي عاد إرم وهم عاد الأولى. وأما عاد الثانية فمتأخرة كما سيأتي بيان ذلك في موضعه. وأما عاد الأولى فهم عاد (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) أي مثل القبيلة ، وقيل مثل العمد. والصحيح الأول كما بيناه في التفسير.

ومن زعم أن «إرم» مدينة تدور في الأرض ، فتارة في الشام ، وتارة في اليمن ، وتارة في الحجاز ، وتارة في غيرها ، فقد أبعد النجعة ، وقال ما لا دليل عليه ، ولا برهان يعول عليه ، ولا مستند يركن إليه.

وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر في حديثه الطويل في ذكر الأنبياء والمرسلين قال فيه : «منهم أربعة من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك يا أبا ذر».

ويقال : إن هودا عليه‌السلام أول من تكلم بالعربية ، وزعم وهب بن منبة أن أباه أول من تكلم بها ، وقال غيره : أول من تكلم بها نوح ، وقيل آدم وهو الأشبه ، وقيل غير ذلك. والله أعلم.

ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه‌السلام : العرب العاربة ، وهم قبائل كثيرة :

منهم عاد ، وثمود ، وجرهم ، وطسم ، وجديس ، وأميم ، ومدين ، وعملاق ، وجاسم ، وقحطان ؛ وبنو يقطن ، وغيرهم.

٩٣

وأما العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل. وكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة ، وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى ، ولكن أنطقه الله بها في غاية الفصاحة والبيان. وكذلك كان يتلفظ بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمقصود أن عادا ـ وهم عاد الأولى ـ كانوا أول من عبد الأصنام بعد الطوفان. وكانت أصنامهم ثلاثة : صمدا وصمودا ، وهرا.

فبعث الله فيهم أخاهم هودا عليه‌السلام فدعاهم إلى الله ، كما قال تعالى بعد ذكر قوم نوح وما كان من أمرهم :

قال تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ* قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ* قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ* أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ* فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ.)

[٧ ـ الأعراف : ٦٥ ـ ٧٢]

وقال تعالى بعد ذكر قصة نوح : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ* يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ* وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ* قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ* إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ* وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ* وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ

٩٤

رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ.)

[١١ / هود : ٥٠ ـ ٦٠]

وقال تعالى بعد قصة قوم نوح : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ* فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ* وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ* وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ* أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ* هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ* إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ* إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ* قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ* قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ* فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.)

[٢٣ / المؤمنون : ٣١ ـ ٤١]

وقال تعالى بعد قصة قوم نوح أيضا : (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ* وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ* إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ* وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.)

[٢٦ / الشعراء : ١٢٣ ـ ١٤٠]

وقال تعالى : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ.)

[٤١ / فصلت : ١٥ ـ ١٦]

وقال تعالى : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ* فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ* تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها

٩٥

فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ.)

[٤٦ / الأحقاف : ٢١ ـ ٢٥]

وقال تعالى : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ* ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ.)

[٥١ / الذاريات : ٤١ ـ ٤٢]

وقال تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى * وَثَمُودَ فَما أَبْقى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى * فَغَشَّاها ما غَشَّى* فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى.)

[٥٣ / النجم : ٥٠ ـ ٥٥]

وقال تعالى : (كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ* إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ* تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ* فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ* وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.)

[٥٤ / القمر : ١٨ ـ ٢٢]

وقال تعالى : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ* سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ* فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ.)

[٦٩ / الحاقة : ٦ ـ ٨]

وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ.)

[٨٩ / الفجر : ٦ ـ ١٤]

وقد تكلمنا على كل من هذه القصص في أماكنها من كتابنا التفسير. ولله الحمد والمنة.

وقد جرى ذكر عاد في سورة براءة [التوبة] وإبراهيم والفرقان والعنكبوت وفي صورة ص ، وفي سورة ق.

ولنذكر مضمون القصة مجموعا من هذه السياقات ، مع ما يضاف إلى ذلك من الأخبار.

وقد قدمنا أنهم أول الأمم الذين عبدوا الأصنام بعد الطوفان. وذلك بين في قوله تعالى :

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي جعلكم أشد أهل زمانهم في الخلقة والشدة والبطش. وقال في المؤمنون : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) وهم قوم هود على الصحيح.

وزعم آخرون أنهم ثمود لقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً). قالوا : وقوم صالح هم الذين أهلكوا بالصيحة (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ). وهذا الذي قالوه لا

٩٦

يمنع من اجتماع الصيحة والريح العاتية عليهم ، كما سيأتي في قصة أهل مدين أصحاب الأيكة فإنه اجتمع عليهم أنواع العقوبات ، ثم لا خلاف أن عادا قبل ثمود.

والمقصود أن عادا كانوا جفاة كافرين ، عتاة متمردين في عبادة الأصنام ، فأرسل الله فيهم رجلا منهم يدعوهم إلى الله وإلى افراده بالعبادة والإخلاص له ، فكذبوه وخالفوه وتنقصوه فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

فلما أمرهم بعبادة الله ورغبهم في طاعته واستغفاره ، ووعدهم على ذلك خير الدنيا والآخرة ، وتوعدهم على مخالفة ذلك عقوبة الدنيا والآخرة : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) أي هذا الأمر الذي تدعونا إليه سفه بالنسبة الى ما نحن عليه من عبادة هذه الأصنام التي يرتجى منها النصر والرزق ، ومع هذا نظن أنك تكذب في دعواك أن الله أرسلك.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، أي ليس الأمر كما تظنون ولا كما تعتقدون (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) والبلاغ يستلزم عدم الكذب في أصل المبلغ ، وعدم الزيادة فيه والنقص منه ، ويستلزم إبلاغه بعبارة فصيحة وجيزة جامعة مانعة لا لبس فيها ولا اختلاف ولا اضطراب.

وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النصح لقومه والشفقة عليهم والحرص على هدايتهم ، لا يبتغي منهم أجرا ولا يطلب منهم جعلا ، بل هو مخلص لله عزوجل في الدعوة إليه والنصح لخلقه ، لا يطلب أجره إلا من الذي أرسله ، فإن خير الدنيا والآخرة كله في يديه وأمره إليه ، ولهذا قال : (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أما لكم عقل تميزون به وتفهمون أني أدعوكم إلى الحق المبين الذي تشهد به فطركم التي خلقتم عليها ، وهو دين الحق الذي بعث الله به نوحا وأهلك من خالفه من الخلق. وها أنا ذا أدعوكم إليه ولا أسألكم اجرا عليه ، بل أبتغي ذلك عند الله مالك الضر والنفع ، ولهذا قال مؤمن «يس» : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟)

وقال قوم هود له فيما قالوا : (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) يقولون ما جئتنا بخارق يشهد لك بصدق ما جئت به ، وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرد قولك بلا دليل أقمته ولا برهان نصبته ، وما نظن إلا أنك مجنون فيما تزعمه. وعندنا أنه إنما أصابك هذا لأن بعض آلهتنا غضب عليك فأصابك في عقلك فاعتراك جنون بسبب ذلك وهو قولهم : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ).

(قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ)

وهذا تحد منه لهم ، وتبرأ من آلهتهم وتنقص منه لها ، وبيان أنها لا تنفع شيئا ولا تضر ، وأنها

٩٧

جماد حكمها حكمه وفعلها فعله ، فإن كانت كما تزعمون من أنها تنصر ، وتنفع وتضر فها أنا ذا بريء منها لاعن لها فكيدوني ثم لا تنظرون أنتم جميعا بجميع ما يمكنكم أن تصلوا إليه وتقدروا عليه ، ولا تؤخروني ساعة واحدة ولا طرفة عين فإني لا أبالي بكم ولا أفكر فيكم ، ولا أنظر إليكم. (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي أنا متوكل على الله ومتأيد به ، وواثق بجنابه الذي لا يضيع من لاذ به واستند إليه ، فلست أبالي مخلوقا سواه ، لست أتوكل إلا عليه ولا أعبد إلا إياه.

وهذا وحده برهان قاطع على أن هودا عبد الله ورسوله ، وأنهم على جهل وضلال في عبادتهم غير الله ؛ لأنهم لم يصلوا إليه بسوء ولا نالوا منه مكروها. فدل على صدقه فيما جاءهم به ، وبطلان ما هم عليه وفساد ما ذهبوا إليه.

وهذا الدليل بعينه قد استدل به نوح عليه‌السلام قبله في قوله : (يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ.)

[١٠ / يونس : ٧٠]

وهكذا قال الخليل عليه‌السلام : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ* وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.)

[٦ / الأنعام : ٨٠ ـ ٨٣]

وقال تعالى (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ* وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ* أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ.)

[٢٣ / المؤمنون : ٣٣ ـ ٣٥]

استبعدوا أن يبعث الله رسولا بشريا. وهذه الشبهة أدلى بها كثير من جهلة الكفرة قديما وحديثا ، كما قال تعالى (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ.)

[١٠ / يونس : ٢]

وقال تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً* قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً.)

[١٧ / الإسراء : ٩٤ ـ ٩٥]

ولهذا قال لهم هود عليه‌السلام : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ

٩٨

لِيُنْذِرَكُمْ) أي ليس هذا بعجيب ؛ فإن الله أعلم حيث يجعل رسالته.

وقوله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ* هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ* إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ* إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ* قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ). استبعدوا الميعاد وانكروا قيام الأجساد بعد صيرورتها ترابا وعظاما ، هيهات ، هيهات ، أي بعيد بعيد هذا الوعيد ، (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي يموت قوم ويحيا آخرون وهذا هو اعتقاد الدهرية ، كما يقول بعض الجهلة من الزنادقة : أرحام تدفع وأرض تبلع.

وأما الدورية فهم الذين يعتقدون أنهم يعودون إلى هذه الدار بعد كل ستة وثلاثين ألف سنة.

وهذا كله كذب وكفر وجهل وضلال ، وأقوال باطلة وخيال فاسد بلا برهان ولا دليل ، يستميل عقل الفجرة الكفرة من بني آدم الذين لا يعقلون ولا يهتدون ، كما قال تعالى :

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ.)

[٦ / الأنعام : ١١٣]

وقال لهم فيما وعظهم به : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ.) يقول لهم : أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عظيما هائلا كالقصور ونحوها ، تعبثون ببنائها لأنه لا حاجة لكم فيه ، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يسكنون الخيام ، كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ* إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) فعاد إرم هم عاد الأولى الذين كانوا يسكنون الأعمدة التي تحمل الخيام.

ومن زعم أن (إِرَمَ) مدينة من ذهب وفضة وهي تنتقل في البلاد ، فقد غلط وأخطأ ، وقال ما لا دليل عليه.

وقوله : (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) قيل هي القصور ، وقيل بروج الحمام ، وقيل مآخذ الماء (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي رجاء منكم أن تعمروا في هذه الدار أعمارا طويلة (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ* وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)

وقالوا له مما قالوا : (أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا؟ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي أجئتنا لنعبد الله وحده ، ونخالف آباءنا وأسلافنا وما كانوا عليه؟ فإن كنت صادقا فيما جئت به فأتنا بما تعدنا من العذاب والنكال ، فإنا لا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نصدقك.

كما قالوا : (سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ* إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ* وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ). أما على قراءة فتح الخاء ، فالمراد به اختلاف الأولين ، أي إن هذا الذي جئت به

٩٩

إلا اختلاق منك ، أخذته من كتب الأولين ، هكذا فسره غير واحد من الصحابة والتابعين. وأما على قراءة ضم الخاء واللام ـ فالمراد به الدين ؛ أي إن هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأولين الآباء والأجداد من الأسلاف ، ولن نتحول عنه ولا نتغير ، ولا نزال متمسكين به.

ويناسب كلا القراءتين الأولى والثانية قولهم : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).

قال : (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ، أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ؟ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي قد استحققتم بهذه المقالة الرجس والغضب من الله ، أتعارضون عبادة الله وحده لا شريك له بعبادة أصنام نحتموها وسميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم؟ اصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم ، ما نزل الله بها من سلطان ، أي لم ينزل على ما ذهبتم إليه دليلا ولا برهانا ، وإذ أبيتم قبول الحق وتماديتم في الباطل ، وسواء عليكم أنهيتكم عما أنتم فيه أم لا ، فانتظروا الآن عذاب الله الواقع بكم ، وبأسه الذي لا يرد ونكاله الذي لا يصد.

* * *

وقال تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ* قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ* فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وقال تعالى : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا؟ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ* فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ، قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ* تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).

وقد ذكر الله تعالى خبر إهلاكهم في غير ما آية كما تقدم مجملا ومفصلا ، كقوله : (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) وكقوله : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ* وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ، أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ).

ولقوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وقال تعالى :

(فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

وأما تفصيل إهلاكهم فكما (١) قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) كان هذا أول ما ابتدأهم العذاب ، أنهم كانوا ممحلين مسنتين ، فطلبوا السقيا فرأوا عارضا في السماء وظنوه سقيا رحمة ، فإذا هو سقيا

__________________

(١) م : فلما.

١٠٠