قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

بعده ابنه مهلاييل ـ وهو الذي يزعم الأعاجم من الفرس أنه ملك الأقاليم السبعة ، وأنه أول من قطع الأشجار ، وبنى المدائن والحصون الكبار. وأنه هو الذي بنى مدينة بابل ومدينة السّوس الأقصى. وأنه قهر إبليس وجنوده وشرّدهم عن الأرض إلى أطرافها وشعاب جبالها وأنه قتل خلقا من مردة الجن والغيلان ، وكان له تاج عظيم ، وكان يخطب الناس ودامت دولته أربعين سنة.

فلما مات قام بالأمر بعده ولده يرد فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ولده خنوخ ، وهو إدريس عليه‌السلام على المشهور.

٦١

ذكر إدريس عليه‌السلام

قال الله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا.) [١٩ / مريم : ٥٦ ، ٥٧]

فإدريس عليه‌السلام قد أثنى الله عليه ووصفه بالنبوة والصديقية ، وهو خنوخ هذا ، وهو في عمود نسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما ذكره غير واحد من علماء النسب.

وكان أول بني آدم أعطي النبوة بعد آدم وشيث عليهما‌السلام (١).

وذكر ابن إسحاق أنه أول من خط بالقلم ، وقد أدرك من حياة آدم ثلاثمائة سنة وثماني سنين. وقد قال طائفة من الناس إنه المشار إليه في حديث معاوية بن الحكم السّلمي لما سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخط بالرمل فقال : «إنه كان نبي يخط به فمن وافق خطه فذاك».

ويزعم كثير من علماء التفسير والأحكام أنه أول من تكلم في ذلك ، ويسمونه هرمس الهرامسة ، ويكذبون عليه أشياء كثيرة كما كذبوا على غيره من الأنبياء والعلماء والحكماء والأولياء.

وقوله تعالى : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) هو كما ثبت في الصحيحين في حديث الإسراء : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر به وهو في السماء الرابعة. وقد روى ابن جرير عن يونس ، عن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن جرير بن حازم ، عن الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن هلال بن يساف قال : سأل ابن عباس كعبا وأنا حاضر فقال له : ما قول الله تعالى لإدريس : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا)؟ فقال كعب : أما إدريس فإن الله أوحى إليه : إني أرفع لك كل يوم مثل جميع عمل بني آدم ـ لعله من أهل زمانه ـ فأحبّ أن يزداد عملا ، فأتاه خليل له من الملائكة فقال : إن الله أوحى إليّ كذا وكذا فكلّم ملك الموت حتى ازداد عملا ، فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء ، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدرا ، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس ، فقال : وأين إدريس؟ قال هو ذا على ظهري ، فقال ملك الموت : يا للعجب! بعثت وقيل لي أقبض روح إدريس في السماء الرابعة ، فجعلت أقول : كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض؟! فقبض روحه هناك. فذلك قول الله عزوجل : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا).

__________________

(١) هذا الأثر أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (١ / ١ / ١٦) من طريق هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه ، عن أبي صالح عن ابن عباس.

٦٢

ورواه ابن أبي حاتم عند تفسيرها. وعنده فقال لذلك الملك : سل لي ملك الموت كم بقي من عمري؟ فسأله وهو معه : كم بقي من عمره؟ فقال : لا أدري حتى أنظر ، فنظر فقال : إنك لتسألني عن رجل ما بقي من عمره إلى طرفة عين ، فنظر الملك إلى تحت جناحه إلى إدريس فإذا هو قد قبض وهو لا يشعر.

وهذا من الإسرائيليات ، وفي بعضه نكارة.

وقول ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قال : إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى. إن أراد أنه لم يمت إلى الآن ففي هذا نظر ، وإن أراد أنه رفع حيا إلى السماء ثم قبض هناك. فلا ينافي ما تقدم من كعب الأحبار. والله أعلم.

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) : رفع إلى السماء السادسة فمات بها ، وهكذا قال الضحاك. والحديث المتفق عليه من أنه في السماء الرابعة أصح ، وهو قول مجاهد وغير واحد. وقال الحسن البصري : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قال : إلى الجنة ، وقال قائلون : رفع في حياة أبيه يرد بن مهلاييل والله أعلم. وقد زعم بعضهم أن إدريس لم يكن قبل نوح بل في زمان بني إسرائيل.

قال البخاري : ويذكر عن ابن مسعود وابن عباس أن إلياس هو إدريس ، واستأنسوا في ذلك بما جاء في حديث الزهري عن أنس في الإسراء : أنه لما مر به عليه‌السلام قال له : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ولم يقل كما قال آدم وإبراهيم : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح.

قالوا : فلو كان في عمود نسبه لقال كما قالا (١) له (٢)

وهذا لا يدل ولا بد ، لأنه قد يكون الراوي حفظه جيدا ، أو لعله قاله على سبيل الهضم والتواضع ، ولم ينتصب له في مقام الأبوة كما انتصب لآدم أبي البشر ، وإبراهيم الذي هو خليل الرحمن وأكبر أولي العزم بعد محمد صلوات الله عليهم أجمعين.

__________________

(١) في م : قال.

(٢) الحديث رواه ابن عساكر في تاريخه (١ / ٣٨٢ / تهذيب). وقد سبق تخريجه في ذكر قصة ابن آدم.

٦٣

قصة نوح عليه‌السلام

هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ ـ وهو إدريس ـ بن يرد بن مهلاييل بن قينن بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر عليه‌السلام.

وكان مولده بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة ، فيما ذكره ابن جرير وغيره.

وعلى تاريخ أهل الكتاب المتقدم يكون بين مولد نوح وموت آدم مائة وست وأربعون سنة ، وكان بينهما عشرة قرون كما قال الحافظ أبو حاتم بن حبان في صحيحه : حدثنا محمد بن عمر بن يوسف ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه ، حدثنا أبو توبة ، حدثنا معاوية بن سلام ، عن أخيه زيد بن سلام سمعت أبا سلام سمعت أبا أمامة : أن رجلا قال : يا رسول الله أنبيّ كان آدم؟ قال : نعم مكلم. قال : فكم كان بينه وبين نوح؟ قال : عشرة قرون.

قلت : وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه.

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام.

فإن كان المراد بالقرن مائة سنة ـ كما هو المتبادر عند كثير من الناس ـ فبينهما ألف سنة لا محالة ، لكن لا ينفي أن يكون أكثر باعتبار ما قيّد به ابن عباس بالإسلام ، إذ قد يكون بينهما قرون أخر متأخرة لم يكونوا على الإسلام ، لكن حديث أبي أمامة يدل على الحصر في عشرة قرون وزادنا ابن عباس أنهم كانوا على الإسلام.

وهذا يرد قول من زعم من أهل التواريخ وغيرهم من أهل الكتاب : أن قابيل وبنيه عبدوا النار. والله أعلم.

وإن كان المراد بالقرن الجيل من الناس كما في قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) وقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) وقال تعالى : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) وقال : «وكم أهلكنا قبلهم من قرن» وكقوله عليه‌السلام : «خير القرون قرني ...» الحديث ، فقد كان الجيل قبل نوح يعمرون الدهور الطويلة ، فعلى هذا يكون بين آدم ونوح ألوف من السنين والله أعلم.

٦٤

وبالجملة فنوح عليه‌السلام إنما بعثه الله تعالى لما عبدت الأصنام والطواغيت ، وشرع الناس في الضلالة والكفر ، فبعثه الله رحمة للعباد فكان أول رسول بعث إلى أهل الأرض ، كما يقول أهل الموقف يوم القيامة.

وكان قومه يقال لهم بنو راسب فيما ذكره ابن جبير وغيره.

واختلفوا في مقدار سنه يوم بعث ، فقيل كان ابن خمسين سنة وقيل ابن ثلاثمائة وخمسين سنة ، وقيل ابن أربعمائة وثمانين سنة حكاها ابن جرير ، وعزا الثالثة منها إلى ابن عباس.

* * *

وقد ذكر الله قصته وما كان من قومه ، وما أنزل فيمن كفر به من العذاب بالطوفان ، وكيف أنجاه وأصحاب السفينة ، في غير ما موضع من كتابه العزيز ؛ في الأعراف ويونس وهود والأنبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت والصافات واقتربت ، وأنزل فيه سورة كاملة.

وقال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ* أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ.)

[٧ / الأعراف : ٥٩ ـ ٦٤]

وقال تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ* فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ* فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ.)

[١٠ / يونس : ٧١ ـ ٧٣]

وقال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ* فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ* قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ

٦٥

عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ* وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ* وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ* وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ* قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ* وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ* وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ* وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ* وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ* فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ* حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ* وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ* وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ* قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ* وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ* قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ* قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ* قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ* تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.)

[١١ / هود : ٢٥ ـ ٤٩]

وقال تعالى : (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ.)

[٢١ / الأنبياء : ٧٦ ـ ٢٢]

٦٦

وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ* فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ* إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ* قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ* فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ* فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ.)

[٢٣ / المؤمنون : ٢٣ ـ ٣٠]

وقال تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ* قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ* وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ* إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ* قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ* قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ* فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.)

[٢٦ / الشعراء : ١٠٥ ـ ١٢٢]

وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ* فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ)

[٢٩ / العنكبوت : ١٤ ـ ١٥]

وقال تعالى : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ* وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ* وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ* إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ* ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ.)

[٣٧ / الصافات : ٧٥ ـ ٨٢]

وقال تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ* فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ* فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ* وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ* وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ* فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ* وَلَقَدْ يَسَّرْنَا

٦٧

الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.)

[٨٤ / القمر : ٩ ـ ١٧]

وقال تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ* يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً* وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً* ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً* فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً* ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً* أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً* وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً* وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً* لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً* قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً* وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً* وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً* مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً* وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً* رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً.)

[٧١ / نوح بتمامها]

وقد تكلمنا على كل موضع من هذه [السورة] في التفسير. وسنذكر مضمون القصة مجموعا من هذه الأماكن المتفرقة ، ومما دلت عليه الأحاديث والآثار.

وقد جرى ذكره أيضا في مواضع متفرقة من القرآن فيها مدحه وذم من خالفه.

فقال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً* وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً* رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً.)

[٤ / النساء : ١٦٣ ـ ١٦٥]

وقال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ

٦٨

ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ*.)

[٦ / الأنعام ٨٣ ـ ٨٦]

قال تعالى (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)

[١٧ / الإسراء : ١٧]

وتقدمت قصته في الأنبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت.

وقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً.)

[٣٣ / الأحزاب : ٧]

وقال : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ* وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ* إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ.)

[٣٨ / ص : ١٢ ـ ١٤]

وقال تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ* وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ.)

[٤٠ / غافر : ٥ ـ ٦]

وقال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ.)

[٤٢ / الشوري ـ ١٣]

وقال تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ* وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ* وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ.)

[٥٠ / ق : ١٢ ـ ١٤]

وقال تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ.)

[٥١ / الذاريات : ٤٦]

وقال تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى)

[٥٣ / النجم : ٥٢]

وتقدمت قصته في سورة اقتربت الساعة [القمر].

وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ

٦٩

فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ.)

[٦٧ / الحديد : ٢٦]

وقال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ.)

[٦٦ / التحريم : ١٠]

* * *

وأما مضمون ما جرى له مع قومه مأخوذا من الكتاب والسنة والآثار ، فقد قدمنا عن ابن عبار : أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ، رواه البخاري وذكرنا أن المراد بالقرن الجيل أو المدة على ما سلف.

ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأهل ذلك الزمان الى عبادة الأصنام.

وكان سبب ذلك ما رواه البخاري من حديث ابن جريج عن عطاء ، عن ابن عباس عن تفسير قوله تعالى :

(وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً.)

[٧١ / نوح : ٢٣]

هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا الى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ، ففعلوا فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك وانتسخ العلم عبدت (١).

قال ابن عباس : وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد.

وهكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة ومحمد بن إسحاق.

وقال ابن جرير في تفسيره : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن موسى ، عن محمد بن قيس قال : كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح ، وكان لهم أتباع (٢) يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ، فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر.

فعبدوهم.

وروى ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أنه قال : ودّ ويغوث ويعوق وسواع ونسر ، أولاد آدم وكان «ود» أكبرهم وأبرّهم به.

__________________

(١) الأثر رواه البخاري في صحيحه (٢ / ٣٨١).

(٢) و : تباع.

٧٠

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا الحسن بن موسى ؛ حدثنا يعقوب عن أبي المطهّر ، قال : ذكروا عند أبي جعفر ـ هو الباقر ـ وهو قائم يصلي يزيد بن المهلب ، قال فلما انفتل من صلاته قال : ذكرتم يزيد بن الملهب ، أما إنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله تعالى.

قال ذكر ودّا قال : كان رجلا صالحا (١) ، وكان محببا في قومه ، فلما مات عكفوا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه ، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبّه في صورة إنسان ثم قال : إني أرى جزعكم على هذا الرجل ، فهل لكم أن أصوّر لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به؟ قالوا نعم فصور لهم مثله ، قال : فوضعوه (٢) في ناديهم وجعلوا يذكرونه فلما رأى ما بهم من ذكره قال : هل أجعل لكم في منزل كلّ واحد منكم تمثالا مثله ليكون له في بيته فتذكرونه؟ قالوا : نعم. قال : فمثّل لكل أهل بيت تمثالا مثله ، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به. قال : وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به. قال : وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوا إلها يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم ، فكان أود ما عبد غير الله «ودّ» الصنم الذي سموه ودا.

ومقتضى هذا السياق أن كل صنم من هذه عبده طائفة من الناس وقد ذكر أنه لما تطاولت العهود والأزمان ، جعلوا تلك الصورة تماثيل مجسّدة ليكون أثبت لها (٣) ، ثم عبدت بعد ذلك من دون الله عزوجل. ولهم في عبادتها مسالك كثيرة جدا قد ذكرناها في مواضعها من كتابنا التفسير.

ولله الحمد والمنة.

وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لما ذكرت عنده أم سلمة وأم حبيبة ، تلك الكنيسة التي رأتاها بأرض الحبشة ، ويقال لها مارية ، وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها قال : «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ، ثم صوّروا فيه تلك الصورة ، أولئك شرار الخلق عند الله عزوجل» (٤).

* * *

والمقصود أن الفساد لما انتشر في الأرض وعمّ البلاء بعبادة الأصنام فيها ، بعث الله عبده ورسوله نوحا عليه‌السلام ، يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وينهى عن عبادة ما سواه.

فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي حيان ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الشفاعة ، قال : «فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنة ، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول : ربي قد غضب غضبا شديدا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله ، ونهاني

__________________

(١) و : مسلما.

(٢) و : ووضعوه.

(٣) م : لهم.

(٤) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٨ / ٤٨ / ٤٢٧ ، ٤٣٤ / فتح). ورواه مسلم في صحيحه (٥ / ٣ / ١٦).

والنسائي في سننه (٨ / ١٣ / التجارية). وأحمد في مسنده (٦ / ٥١ / حلبي).

٧١

عن شجرة فعصيت ، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح.

فيأتون نوحا فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبدا شكورا ، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربك عزوجل؟

فيقول : ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله ، نفسي نفسي» (١) وذكر تمام الحديث كما أورده البخاري في قصة نوح.

فلما بعث الله نوحا عليه‌السلام ، دعاهم إلى إفراد عبادة الله وحده لا شريك له ، وألا يعبدوا معه صنما ولا تمثالا ولا طاغوتا وأن يعترفوا بوحدانيته ، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ، كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل الذين هم كلهم من ذريته :

كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ.)

[٣٧ / الصافات : ٧٧]

وقال تعالى فيه وفي إبراهيم : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ.)

[٥٧ / الحديد : ٢٦]

أي كل نبي من بعد نوح فمن ذريته. وكذلك إبراهيم.

قال الله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.)

[١١ / النحل : ٣٦]

وقال تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ.)

[٤٣ / الزخرف : ٤٥]

وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ.)

[٢١ / الأنبياء : ٢٥]

ولهذا قال نوح لقومه : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وقال : (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) وقال : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) وقال : (يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) إلى : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) الآيات الكريمات.

فذكر أنهم دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة في الليل والنهار ، والسر والإجهار ، بالترغيب تارة والترهيب أخرى ، وكل هذا لم ينجح فيهم ، بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان وعبادة الأصنام والأوثان. ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان ، وتنقصوه وتنقصوا من آمن به ، وتوعدوهم بالرجم والإخراج ، ونالوا منهم وبالغوا في أمرهم.

__________________

(١) الحديث رواه مسلم في صحيحه (١ / ٨٤ / ٣٢٢) .. ورواه البخاري (٦٠ / ٣). (٦٥ / ١٧ ، ٥). ورواه أبو داود (٣٩ / ١٦ / حلبي). ورواه الترمذي في سننه (٣٠ / ٢) ، (٣٥ / ١٠). ورواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٩٨ ، ٤٣٥ ، ٤٣٦ ـ حلبي).

٧٢

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) أي السادة الكبراء منهم : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي لست كما تزعمون من أني ضال ، بل على الهدى المستقيم رسول من رب العالمين ، أي الذي يقول للشيء كن فيكون (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وهذا شأن الرسول أن يكون بليغا ، أي فصيحا ناصحا ، أعلم الناس بالله عزوجل.

وقالوا له فيما قالوا : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا ، وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ ، وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ).

تعجّبوا أن يكون بشر رسولا ، وتنقصوا من اتبعه ورأوهم أراذلهم. وقد قيل إنهم من أفناد الناس وهم ضعفاؤهم ، كما قال هرقل : وهم أتباع الرسل ، وما ذاك إلا لأنه لا مانع لهم من اتباع الحق.

وقولهم : (بادِيَ الرَّأْيِ) أي بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر ولا روية. وهذا الذي رموهم به هو عين ما يمدحون بسببه رضي الله عنهم ، فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية ولا فكر ولا نظر ، بل يجب اتباعه والانقياد له متى ظهر.

ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مادحا للصدّيق : «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر ، فإنه لم يتلعثم» ولهذا كانت بيعته يوم السّقيفة أيضا سريعة من غير نظر ولا روية ، لأنه أفضليته على من عداه ظاهرة جليّة عند الصحابة رضي الله عنهم. ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أراد أن يكتب الكتاب الذي أراد أن ينص فيه على خلافته فتركه ، قال : «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (١) رضي الله عنه.

وقول كفرة قوم نوح له ولمن آمن به : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان ولا مزية علينا (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ* قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ).

وهذا تلطف في الخطاب معهم : وترفق بهم في الدعوة إلى الحق.

قال تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى.)

[٢٠ / طه : ٤٤]

وقال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.)

[١٦ / النحل : ١٢٥]

__________________

(١) الحديث رواه مسلم في صحيحه (٤٤ / ١ / ١١) ونصه : عن عائشة : قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرضه : «ادعي لي أبا بكر ، وأخاك ، حتى أكتب كتابا ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر».

ورواه أبو داود في سننه (١٦ / ١١ / حلبي). ورواه أحمد في مسنده (٤ / ٣٢٢ / ، ٦ / ٣٤ ، ٤٧ ، ١٠٦ ، ١٤٤ / حلبي).

٧٣

يقول لهم : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) أي النبوة والرسالة ، (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي فلم تفهموها ولم تهتدوا إليها ، (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي أنغضبكم بها ونجبركم عليها؟ (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أي ليس لي فيكم حيلة والحالة هذه. (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم ، إن أطلب ذلك إلا من الله الذي ثوابه خير لي ، وأبقى مما تعطونني أنتم.

وقوله تعالى : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنهم ، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك ، فأبى عليهم ذلك وقال : (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي فأخاف إن طردتهم أفلا تذكّرون.

ولهذا لما سأل كفار قريش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطرد عنه ضعفاء المؤمنين ، كعمّار وصهيب وبلال وخباب وأشباههم ، نهاه الله عن ذلك ، كما بيناه في سورتي الأنعام والكهف.

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) أي بل أنا عبد رسول ، لا أعلم من علم الله إلا ما أعلمني به ، ولا أقدر إلا على ما أقدرني عليه ، ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرّا إلا ما شاء الله. (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) يعني من أتباعه (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً ، اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم عند الله يوم القيامة. الله أعلم بهم وسيجازيهم على ما في نفوسهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشر ، كما قالوا في المواضع الأخرى : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ* قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ* وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ* إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

* * *

وقد تطاول الزمان والمجادلة بينه وبينهم كما قال تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) أي ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم.

وكان كلّما انقرض جيل وصّوا من بعدهم بعدم الإيمان به ومحاربته ومخالفته. وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه ، وصاه فيما بينه وبينه ، ألا يؤمن بنوح أبدا ما عاش ودائما ما بقي.

وكانت سجاياهم تأبى الإيمان واتباع الحق ، ولهذا قال : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً).

ولهذا : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.)

[١١ / هود : ٣٢ ، ٣٣]

أي إنما يقدر على ذلك الله عزوجل ، فإنه الذي لا يعجزه شيء ولا يكترثه أمر ، بل هو الذي يقول للشيء كن فيكون ، ((وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ

٧٤

أَنْ يُغْوِيَكُمْ ، هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي من يرد الله فتنته فلن يملك أحد هدايته ، هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وهو الفعال لما يريد ، وهو العزيز الحكيم ، العليم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الغواية ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.

* * *

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) تسلية له عما كان منهم إليه (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) وهذه تعزية لنوح عليه‌السلام في قومه أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن ، أي لا يسوأنّك ما جرى فإن النصر قريب والنّبأ [عجب](١) عجيب.

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.)

وذلك أن نوحا عليه‌السلام لما يئس من صلاحهم وفلاحهم ، ورأى أنهم لا خير فيهم ، وتوصلوا إلى أذيته ومخالفته وتكذيبه بكل طريق ، من فعال ومقال ، دعا عليهم دعوة غضب [الله عليهم](٢) فلبى الله دعوته وأجاب طلبته قال الله تعالى : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ* وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) وقال تعالى : (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) وقال تعالى : (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ* فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وقال تعالى : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) وقال تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) وقال تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً* فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً* وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً).

فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورهم ودعوة نبيهم عليهم.

فعند ذلك أمره الله أن يصنع الفلك ، وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظير قبلها ولا يكون بعدها مثلها.

وقدّم الله تعالى إليه أنه إذا جاء أمره وحلّ بهم بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين ، أنه لا يعاوده فيهم ولا يراجعه ؛ فإنه لعله قد تركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم ، فإنه ليس الخير كالمعاينة. ولهذا قال : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) أي يستهزئون به استبعادا لوقوع ما توعدهم به ، (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) أي نحن الذين نسخر منكم ونتعجب منكم في استمراركم على كفركم وعنادكم الذي يقتضي وقوع العذاب بكم وحلوله عليكم. (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم)

__________________

(١) من : و.

(٢) من : و.

٧٥

وقد كانت سجاياهم الكفر الغليظ والعناد البالغ في الدنيا ، وهكذا في الآخرة فإنهم يجحدون أيضا أن يكون جاءهم رسول.

كما قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يجيء نوح عليه‌السلام وأمته ، فيقول الله عزوجل : هل بلغت؟ فيقول : نعم أي رب. فيقول لأمته : هل بلغكم؟ فيقولون : لا ، ما جاءنا من نبي ، فيقول لنوح : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته ، فنشهد أنه قد بلغ» (١).

وهو قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.)

[٢ / البقرة : ١٤٣]

والوسط العدل فهذه الأمة تشهد على شهادة نبيها الصادق المصدوق ، بأن الله قد بعث نوحا بالحق ، وأنزل عليه الحقّ وأمره به ، وأنه بلّغه إلى أمته على أكمل الوجوه وأتمها ، ولم يدع شيئا مما ينفعهم في دينهم إلا وقد أمرهم به ، ولا شيئا مما قد يضرهم إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه.

وهكذا شأن جميع الرسل ، حتى إنه حذّر قومه المسيح الدجال ، وإن كان لا يتوقع خروجه في زمانه ؛ حذرا عليهم وشفقة ورحمة بهم.

كما قال البخاري : حدثنا عبدان ، حدثنا عبد الله ، عن يونس ، عن الزهري ، قال سالم قال ابن عمر : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم ذكر الدجال فقال : «إني لأنذركموه ، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه. لقد أنذر نوح قومه ، ولكني أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه : تعلمون أنه أعور ، وأن الله ليس بأعور» (٢).

وهذا الحديث في الصحيحين أيضا من حديث شيبان بن عبد الرحمن عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أحدثكم عن الدجال حديثا ما حدّث نبيّ قومه؟ إنه أعور وإنه يجيء معه بمثال الجنة والنار والتي يقول عليها الجنة هي النار ، وإني أنذركم كما أنذر به نوح قومه» (٣).

لفظ البخاري.

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٦٠ / ٣ / ٣٣٣٩ / فتح). ورواه أحمد في مسنده (٣ / ٣٢ / حلبي). ورواه السيوطي في الفتح الكبير (٣ / ٤١٥) وقال : رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي.

(٢) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٩٢ / ٢٦ / ٧١٢٧ / فتح). ورواه السيوطي في الفتح الكبير (١ ـ ٤٥٨) وقال : رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.

(٣) الحديث رواه مسلم في صحيحه (٥٢ / ٢٠ / ١٠٩) واللفظ له. ورواه السيوطي في الفتح الكبير (١ / ٤٧٣) وقال رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.

٧٦

وقد قال بعض علماء السلف : لما استجاب الله له ، أمره أن يغرس شجرا ليعمل منه السفينة ، فغرسه وانتظره مائة سنة ، ثم نجره في مائة أخرى ، وقيل في أربعين سنة. والله أعلم.

قال محمد بن إسحاق عن الثّوري : وكانت من خشب الساج ، وقيل من الصنوبر وهو نص التوراة.

قال الثّوري : وأمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعا ، وأن يعلي ظاهرها وباطنها بالقار ، وأن يجعل لها جؤجؤا أزور يشق الماء.

وقال قتادة : كان طولها ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين ذراعا. وهذا الذي في التوراة على ما رأيته وقال الحسن البصري : ستمائة في عرض ثلاثمائة وعن ابن عباس ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة ذراع وقيل كان طولها ألفي ذراع ، وعرضها مائة ذراع.

قالوا كلهم : وكان ارتفاعها ثلاثين ذراعا ، وكانت ثلاث طبقات كل واحدة عشرة أذرع ، فالسفلى للدواب والوحوش ، والوسطى للناس ، والعليا للطيور. وكان بابها في عرضها ، ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.

* * *

قال الله تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ* فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا.) [٢٣ / المؤمنون : ٢٦ ـ ٢٧]

أي بأمرنا لك ، وبمرأى منا لصنعتك لها ، ومشاهدتنا لذلك ، لنرشدك إلى الصواب في صنعتها.

فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون».

فتقدّم إليه بأمره العظيم العالي أنه إذا جاء أمره وحلّ بأسه ، أن يحمل في هذه السفينة من كل زوجين اثنين من الحيوانات ، وسائر ما فيه روح من المأكولات وغيرها لبقاء نسلها ، وأن يحمل معه أهله ، أي أهل بيته ، إلا من سبق عليه القول منهم ، أي إلا من كان كافرا فإنه قد نفذت فيه الدعوة التي لا تردّ ، ووجب عليه حلول البأس الذي لا يردّ وأمر أنه لا يراجعه فيهم إذا حلّ بهم ما يعاينه من العذاب العظيم ، الذي قد حتّمه عليهم الفعّال لما يريد. كما قدمنا بيانه قبل.

والمراد بالتّنور عند الجمهور وجه الأرض ، أي نبعت الأرض من سائر أرجائها حتى نبعت التنانير التي هي محالّ النار. وعن ابن عباس : التنور عين في الهند ، وعند الشعبي بالكوفة ، وعن قتادة بالجزيرة.

وقال علي بن أبي طالب : المراد بالتنور فلق الصبح وتنوير الفجر ، أي إشراقه وضياؤه. أي

٧٧

عند ذلك فاحمل فيها من كل زوجين اثنين ، وهذا قول غريب.

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ.)

[١١ / هود : ٤٠]

هذا أمر بأنه (١) عند حلول النقمة بهم أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين.

وفي كتاب أهل الكتاب : أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج ، وما لا يؤكل زوجين : ذكرا وأنثى.

وهذا مغاير لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق : «اثنين» إن جعلنا ذلك مفعولا به ، وأما إن جعلناه توكيدا لزوجين والمفعول به محذوف فلا ينافي والله أعلم.

وذكر بعضهم ـ ويروى عن ابن عباس : أن أول ما دخل من الطيور الدّرة (٢) ، وآخر ما دخل من الحيوانات الحمار ودخل إبليس متعلقا بذنب الحمار.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني هشام إبن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لمّا حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين ، قال أصحابه. وكيف نطمئن؟ أو كيف تطمئن المواشي ومعنا الأسد؟ فسلط الله عليه الحمى ، فكانت أول حمى نزلت في الأرض. ثم شكوا الفأرة ، فقالوا :

الفويسقة (٣) تفسد علينا طعامنا ومتاعنا. فأوحى الله إلى الأسد فعطس ، فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها».

هذا مرسل.

وقوله : (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي من استجيبت فيهم الدعوة النافذة ممن كفر ، فكان منهم ابنه «يام» الذي غرق كما سيأتي بيانه.

(وَمَنْ آمَنَ) أي واحمل فيها من آمن بك من أمتك. قال الله تعالى : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا

__________________

(١) و : بأن.

(٢) الدرة : بضم الدال المهملة ، الببغاء المتقدمة وهو طائر لونه أخضر وهو في قدر الحمام يتخذها الناس للانتفاع بصوتها.

حياة الحيوان الكبرى الدميري (١ / ١٩٠ ، ٥٩٢ ، ٥٩٣ / ط التحرير). والحيوان للجاحظ (١٥١٥٤٥).

(٣) الفويسقة : الفأرة وقيل سميت فويسقة لخروجها على الناس واغتيالها إياهم في أموالهم بالفساد ، وأصل الفسق : الخروج ، ومن هذا سمي الخارج عن الطاعة فاسقا. وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وأ ، بو داود والترمذي عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خمروا الآنية ، وأوكئوا الأسقية ، وأجيفوا الأبواب ، وكفوا صبيانكم ، فإن الجن سيارة خطفة. وأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة ربما أخذت الفتيلة وأحرقت أهل البيت». عن حياة الحيوان الكبرى للدميري (٢ / ٣٩٩ / التحرير).

٧٨

قَلِيلٌ) هذا مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ، ودعوتهم الأكيدة ليلا ونهارا بضروب المقال وفنون التلطفات والتهديد والوعيد تارة والترغيب والوعيد أخرى.

وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة.

فعن ابن عباس : كانوا ثمانين نفسا معهم نساؤهم ، وعن كعب الأحبار كانوا اثنين وسبعين نفسا. وقيل كانوا عشرة.

وقيل إنما كانوا نوحا وبنيه الثلاثة وكنائنه الأربع بامرأة «يام» الذي انخزل وانعزل ، وسلك (١) عن طريق النجاة فما عدل إذ عدل.

وهذا القول فيه مخالفة لظاهر الآية ، بل هي نص في أنه قد ركب معه [من](٢) غير أهله طائفة ممن آمن به ، كما قال : (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.)

وقيل كانوا سبعة.

وأما امرأة نوح وهي أم أولاده كلهم : وهم حام وسام ، ويافث ، ويام ، ويسميه أهل الكتاب كنعان وهو الذي قد غرق ، وعابر ، فقد ماتت قبل الطوفان ، وقيل إنها غرقت مع من غرق ، وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها.

وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة ، فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك ، أو أنها أنظرت إلى يوم القيامة. والظاهر الأول لقوله : (لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً.)

* * *

وقال تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.)

[٢٣ / المؤمنون : ٢٨ ـ ٢٩]

أمره أن يحمد ربه على ما سخّر له من هذه السفينة ، فنجاه بها وفتح بينه وبين قومه ، وأقر عينه ممن خالفه وكذبه.

كما قال تعالى : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ* لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ* وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ.)

[٤٣ / الزخرف : ١٢ ـ ١٤]

وهكذا يؤمر بالدعاء في ابتداء الأمور : أن يكون على الخير والبركة ، وأن تكون عاقبتها محمودة.

__________________

(١) م : وتسلل.

(٢) سقطت من م.

٧٩

كما قال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين هاجر : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً.)

[١٧ : الإسراء / ٨٠]

وقد امتثل نوح عليه‌السلام هذه الوصية وقال : (ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي على اسم الله ابتداء سيرها وانتهاؤه (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وذو عقاب أليم ، مع كونه غفورا رحيما ، لا يرد بأسه عن القوم المجرمين ، كما أحلّ بأهل الأرض الذين كفروا به وعبدوا غيره.

قال الله تعالى : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) وذلك ان الله تعالى أرسل من السماء مطرا لم تعهده الأرض قبله ولا تمطره بعده ، كان كأفواه القرب ، وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها.

كما قال تعالى : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ* فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ* وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ.)

[٥٤ / القمر : ١٠ ـ ١٣]

والدسر المسامير (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي بحفظنا وكلاءتنا وحراستنا ومشاهدتنا لهم (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ).

وقد ذكر ابن جرير وغيره أن الطوفان كان في ثالث عشر من شهر آب في حساب القبط (١).

وقال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ؟) أي السفينة (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ.)

قال جماعة من المفسرين : ارتفع الماء على أعلى جبل في الأرض (٢) خمسة عشر ذراعا وهو الذي عند أهل الكتاب. وقيل ثمانين ذراعا ؛ وعمّ جميع الأرض طولها والعرض سهلها وحزنها ، وجبالها وقفارها ورمالها ، ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف ؛ ولا صغير ولا كبير.

قال الإمام مالك عن زيد بن أسلم : كان أهل ذلك الزمان قد ملأوا السهل والجبل. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (٣) لم تكن بقعة في الأرض إلا ولها مالك وحائز.

__________________

(١) رواه الطبري في تاريخه (١ / ١٨٩ / معازف).

(٢) م : بالأرض.

عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، العدوى مولاهم ، ضعيف من الثامنة ، مات سنة اثنتين وثمانين / ت ق تقريب التهذيب (١ / ٤٨٠ / ٩٤١).

٨٠