قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

بنبي بل هو رجل صالح ، لأن عيسى ابن مريم ليس بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي بنص الحديث الذي في البخاري ، والفترة التي كانت بينهما أربعمائة سنة ، وقيل ستمائة وقيل ستمائة وعشرون سنة ، وقد يكون تاريخ وفاته من ثمانمائة سنة وهو قريب من وقت دانيال ، إن كان كونه دانيال ، هو المطابق لما في نفس الأمر ، فإنه قد يكون رجلا آخر إما من الأنبياء أو من الصالحين ، ولكن قربت الظنون أنه دانيال لأن دانيال كان قد أخذه ملك الفرس فأقام عنده مسجونا كما تقدم.

وقد روي بإسناد صحيح إلى أبي العالية أن طول أنفه شبر ، وعن أنس بن مالك بإسناد جيد أن طول أنفه ذراع ، فيحتمل على هذا أن يكون رجلا من الأنبياء الأقدمين قبل هذه المدد.

والله تعالى أعلم.

وقد قال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب أحكام القبور : حدثنا أبو بلال محمد بن الحارث بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، حدثنا أبو حمد القاسم بن عبد الله ، عن أبي الأشعث الأحمري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن دانيال دعا ربه عزوجل أن تدفنه أمة محمد ، فلما افتتح أبو موسى الأشعري تستر وجده في تابوت تضرب عروقه ووريده ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من دل على دانيال فبشروه بالجنة. فكان الذي دل عليه رجل يقال له حرقوص فكتب أبو موسى إلى عمر يخبره فكتب إليه عمر : أن ادفنه وأبعث إليّ حرقوص فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشره بالجنة.

وهذا مرسل من هذا الوجه وفي كونه محفوظا نظر والله أعلم.

ثم قال بن أبي الدنيا : حدثنا أبو بلال ، حدثنا قاسم بن عبد الله عن عنبسة بن سعيد ، وكان عالما ، قال : وجد أبو موسى مع دانيال مصحفا وجرة فيها ودك ودراهم وخاتمه ، فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر : أما المصحف فأبعث به إلينا ، وأما الودك فأبعث إلينا منه ومر من قبلك من المسلمين يستشفون به وأقسم الدراهم بينهم ، وأما الخاتم فقد نفّلناكه.

وروي عن ابن أبي الدنيا من غير وجه : أن أبا موسى لما وجده وذكروا له أنه دانيال التزمه وعانقه وقبله ، وكتب إلى عمر يذكر له أمره وأنه وجد عنده مالا موضوعا قريبا من عشرة آلاف درهم ، وكان من جاء اقترض منها فإن ردها وإلا مرض وإن عنده ربعة فأمر عمر بأن يغسل بماء وسدر ويكفن ويدفن ويخفى قبره فلا يعلم به أحد ، وأمر بالمال أن يرد إلى بيت المال وبالربعة فتحمل إليه ونفله خاتمه.

وروي عن أبي موسى أنه أمر أربعة من الأسراء فسكروا نهرا وحفروا في وسطه قبرا فدفنه فيه ، ثم قدم الأربعة الأسراء فضرب أعناقهم فلم يعلم موضع قبره غير أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

وقال ابن أبي الدنيا : حدثني إبراهيم بن عبد الله ، حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ، حدثنا ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه قال : رأيت في يد ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري خاتما نقش فصة أسدان بينهما رجل يلحسان ذلك الرجل ، قال أبو بردة : وهذا خاتم

٤٦١

ذلك الرجل الميت الذي زعم أهل هذه البلدة أنه دانيال أخذه أبو موسى يوم دفنه. قال أبو بردة :

فسأل أبو موسى علماء تلك القرية عن نقش ذلك الخاتم فقالوا : إن الملك الذي كان دانيال في سلطانه جاءه المنجمون وأصحاب العلم فقالوا له : إنه يولد كذا وكذا غلام يعور ملكك ويفسده ، فقال الملك : والله لا يبقى تلك الليلة غلام إلا قتلته. إلا أنهم أخذوا دانيال فألقوه في أجمة الأسد فبات الأسد ولبؤته يلحسانه ولم يضراه. فجاءت أمه فوجدتهما يلحسانه فنجاه الله بذلك حتى بلغ ما بلغ قال أبو بردة : قال أبو موسى : قال علماء تلك القرية : فنقش دانيال صورته وصورة الأسدين يلحسانه في فص خاتمه لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك.

إسناد حسن.

٤٦٢

وهذا ذكر عمارة بيت المقدس بعد خرابها

واجتماع الملأ من بني إسرائيل بعد تفرقهم في بقاع الأرض وشعابها

قال الله تعالى في كتابه المبين وهو أصدق القائلين : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.)

[٢ / البقرة : ٢٥٩]

قال هشام بن الكلبي : ثم أوحى الله تعالى إلى أرميا عليه‌السلام فيما بلغني : إني عامر بيت المقدس فاخرج إليها فانزلها. فخرج حتى قدمها وهي خراب ، فقال في نفسه : سبحان الله أمرني أن أنزل هذه البلدة وأخبرني أنه عامرها فمتى يعمرها ومتى يحييها الله بعد موتها!

ثم وضع رأسه فنام ومعه حماره وسلة من طعام فمكث في نومه سبعين سنة حتى هلك بختنصر والملك الذي فوقه وهو لهراسب ، وكان ملكه مائة وعشرين سنة وقام بعده ولده بشتاسب بن لهراسب ، وكان موت بختنصر في دولته فبلغه عن بلاد الشام أنها خراب وأن السباع قد كثرت في أرض فلسطين فلم يبق بها من الإنس أحد ، نادى في أرض بابل في بني إسرائيل : أن من شاء أن يرجع إلى الشام فليرجع ، وملك عليهم رجلا من آل داود وأمره أن يعمر بيت المقدس ويبني مسجدها ، فرجعوا فعمرها وفتح الله لأرميا عينيه فنظر إلى المدينة كيف تبنى وكيف تعمر ، ومكث في نومه ذلك حتى تمت له مائة سنة. ثم بعثه الله وهو لا يظن أنه نام أكثر من ساعة وقد عهد المدينة خرابا فلما نظر إليها عامرة آهلة قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير.

قال : فأقام بنو إسرائيل بها ورد الله عليهم أمرهم ، فمكثوا كذلك حتى غلبت عليهم الروم في زمن ملوك الطوائف ، ثم لم يكن لهم جماعة ولا سلطان يعني بعد ظهور النصارى عليهم.

وهكذا حكاه بن جرير في تاريخه عنه (١) وذكر ابن جرير أن لهراسب كان ملكا عادلا سائسا لمملكته قد دانت له العباد والبلاد والملوك والقواد وأنه كان ذا رأي جيد في عمارة الأمصار والأنهار والمعاقل ، ثم لما ضعف (٢) عن تدبير المملكة بعد مائة سنة ونيف نزل عن الملك لولده بشتاسب ، فكان في

__________________

(١) و : عنهم.

(٢) و : عجز.

٤٦٣

زمانه ظهور دين المجوسية وذلك أن رجلا اسمه زردشت (١) كان قد صحب أرميا عليه‌السلام فأغضبه فدعا عليه أرميا عليه‌السلام فبرص زردشت فذهب فلحق بأرض أذربيجان وصحب بشتاسب فلقنه دين المجوسية الذي اخترعه من تلقاء نفسه فقبله منه بشتاسب وحمل الناس عليه وقهرهم وقتل منهم خلقا كثيرا ممن أباه منهم.

ثم كان بعد بشتاسب بهمن بن بشتاسب وهو من ملوك الفرس المشهورين والأبطال المذكورين وقد ناب بختنصر لكل واحد من هؤلاء الثلاثة وعمر دهرا طويلا قبحه الله.

والمقصود أن هذا الذي ذكره ابن جرير من أن هذا المار على هذه القرية هو أرميا عليه‌السلام ، قاله وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمر وغيرهما وهو قوي من حيث السياق المتقدم ، وقد روي عن علي وعبد الله بن سلام وابن عباس والحسن وقتادة والسدي وسليمان بن بردة وغيرهم أنه عزير. وهذا أشهر عند كثير من السلف والخلف والله أعلم.

__________________

(١) و : زرادشت.

٤٦٤

وهذه قصة العزير

قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر : هو عزير بن جروة ، ويقال ابن سوريق بن عديا بن أيوب بن درزنا بن عري بن تقي بن أسبوع بن فنحاص بن العازر بن هارون بن عمران. ويقال عزير بن سروخا جاء في بعض الآثار أن قبره بدمشق. ثم ساق من طريق أبي القاسم البغوي عن داود بن عمرو ، عن حبان بن علي ، عن محمد بن كريب ، عن أبيه ، عن ابن عباس مرفوعا : لا أدري العزير بيع أم لا ولا أدري أكان عزير نبيا أم لا.

ثم رواه من حديث مؤمل بن الحسن ، عن محمد بن إسحاق السجزي عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي ذئب (١) ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة مرفوعا نحوه.

ثم روي من طريق إسحاق بن بشر ، وهو متروك عن جويبر ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس أن عزيرا كان ممن سباه بختنصر وهو غلام حدث ، فلما بلغ أربعين سنة أعطاه الله الحكمة. قال : ولم يكن أحد أحفظ ولا أعلم بالتوراة منه. قال : وكان يذكر مع الأنبياء حتى محى الله اسمه من ذلك حين سأل ربه عن القدر.

وهذا ضعيف ومنقطع ومنكر ، والله أعلم.

وقال إسحاق بن بشر ، عن سعيد ، عن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن عبد الله ابن سلام ، أن عزيرا هو العبد الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه.

وقال إسحاق بن بشر : أنبأنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن كعب وسعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ومقاتل وجوبير (٢) ، عن الضحاك ، عن ابن عباس وعبد الله بن إسماعيل السدي عن أبيه ، عن مجاهد ، عن ابن عباس وإدريس ، عن جده وهب بن منبه قال إسحاق :

كل هؤلاء حدثوني عن حديث عزير وزاد بعضهم على بعض قالوا بإسنادهم إن عزيرا كان عبدا صالحا حكيما خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها ، فلما انصرف أتى إلى خربة حين قامت الظهيرة وأصابه الحر ، ودخل الخربة وهو على حماره فنزل عن حماره ومعه سلة فيها تين وسلة فيها عنب ، فنزل في ظل تلك الخربة وأخرج قصعة معه فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة (٣) ثم

__________________

(١) م : عن ابن أبي ذؤيب.

(٢) و : وجويرية.

(٣) و : في السلة.

٤٦٥

أخرج خبزا يابسا معه فألقاه في تلك القصعة في العصر ليبتل ليأكله ، ثم استلقى على قفاه وأسند رجليه إلى الحائط فنظر إلى سقف تلك البيوت ورأى ما فيها وهى قائمة على عروشها وقد باد أهلها ورأى عظاما بالية فقال : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) فلم يشك أن الله يحييها ولكن قالها تعجبا ، فبعث الله ملك الموت فقبض روحه ، فأماته بعد الله مائة عام.

فلما أتت عليه مائة عام ، وكانت فيها بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث ، قال : فبعث الله إلى عزير ملكا فخلق قلبه ليعقل قلبه وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى. ثم ركب خلقه وهو ينظر ، ثم كسى عظامه اللحم والشعر والجلد ثم نفخ فيه الروح ، كل ذلك وهو يرى ويعقل ، فاستوى جالسا فقال له الملك : كم لبثت؟ قال : لبثت يوما أو بعض يوم ، وذلك أنه كان لبث صدر النهار عند الظهيرة وبعث في آخر النهار والشمس لم تغب ، فقال : وبعض يوم ولم يتم لي يوم. فقال له الملك : بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك ، يعني الطعام الخبز اليابس ، وشرابه العصير الذي كان اعتصره في القصعة فإذا هما على حالهما لم يتغير العصير والخبز يابس ، فذلك قوله (لَمْ يَتَسَنَّهْ) يعني لم يتغير ، وكذلك التين والعنب غض لم يتغير شيء من حالهما ، فكأنه أنكر في قلبه فقال له الملك : أنكرت ما قلت لك؟ أنظر إلى حمارك. فنظر إلى حماره قد بليت عظامه وصارت نخرة. فنادى الملك عظام الحمار فأجابته وأقبلت من كل ناحية حتى ركبه الملك وعزير ينظر إليه ثم ألبسها العروق والعصب ، ثم كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر ـ ثم نفخ فيه الملك فقام الحمار رافعا رأسه. وأذنيه إلى السماء ناهقا يظن القيامة قد قامت. فذلك قوله : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) ؛ يعني وأنظر إلى عظام حمارك كيف يركب بعضها بعضا في أوصالها حتى إذا صارت عظاما مصورا حمارا بلا لحم ، ثم أنظر كيف نكسوها لحما (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من إحياء الموتى وغيره.

قال : فركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكر الناس وأنكر منزله فانطلق على وهم منه حتى أتى منزله ، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة لهم ، فخرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة كانت عرفته وعقلته ، فلما أصابها الكبر أصابتها الزمانة ، فقال لها عزير : يا هذه أهذا منزل عزير؟ قالت : نعم هذا منزل عزير. فبكت وقالت : ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة يذكر عزيرا وقد نسيه الناس. قال فإني أنا عزير كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني. قالت سبحان الله! فإن عزيرا قد فقدناه منذ مائة سنة فلم نسمع له بذكر. قال : فإني أنا عزير. قالت : فإن عزيرا رجل مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء ، فأدع الله أن يرد عليّ بصري حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك.

قال : فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال : قومي بإذن الله. فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال ، فنظرت فقالت : أشهد أنك عزير.

وانطلقت إلى محلة بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم ، وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة

٤٦٦

وثماني عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس ، فنادتهم فقالت : هذا عزير قد جاءكم. فكذبوها ، فقالت : أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد عليّ بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله أماته مائة سنة ثم بعثه. قال : فنهض الناس فأقبلوا إليه فنظروا إليه فقال ابنه : كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه.

فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير فقالت بنو اسرائيل : فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير وقد حرق بختنصر التوراة ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال ، فاكتبها لنا ، وكان أبوه سروخا قد دفن التوراة أيام بختنصر في موضع لم يعرفه أحد غير عزير ، فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب.

قال : وجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فجدد لهم التوراة ونزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه. فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل ، فمن ثم قالت اليهود. عزير ابن الله ، للذي كان من أمر الشهابين وتجديده التوراة وقيامه بأمر بني إسرائيل ، وكان جدد لهم التوراة بأرض السواد بدير حزقيل ، والقرية التي مات فيها يقال لها سايراباذ.

قال ابن عباس : فكان كما قال الله تعالى : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) يعني لبني إسرائيل ، وذلك أنه كان يجلس مع بنيه وهم شيوخ وهو شاب لأنه مات وهو ابن أربعين سنة ، فبعثه الله شابا كهيئته يوم مات.

قال ابن عباس : بعث بعد بختنصر وكذلك قال الحسن.

وقد أنشد أبو حاتم السجستاني في معنى ما قاله ابن عباس :

وأسود رأس شاب من قبله ابنه

ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر

يرى ابنه شيخا يدبّ على عصا

ولحيته سوداء والرأس أشقر

وما لأبنه حيل ولا فضل قوة

يقوم كما يمشي الصبيّ فيعثر

يعدّ ابنه في الناس تسعين حجة

وعشرين لا يجري ولا يتبختر

وعمر أبيه أربعون أمرّها

لابن ابنه تسعون في الناس غبّر

فما هو في المعقول إن كنت داريا

وإن كنت لا تدري فبالجهل تعذر

٤٦٧

فصل

المشهور أن عزيرا نبي من أنبياء بني إسرائيل وأنه كان فيما بين داود وسليمان وبين زكريا ويحيى ، وأنه لما لم يبق في بني إسرائيل من يحفظ التوراة ألهمه الله حفظها فسردها على بني إسرائيل ، كما قال وهب بن منبه : أمر الله ملكا فنزل بمغرفة من نور فقذفها في عزير فنسخ التوراة حرفا بحرف حتى فرغ منها.

وروى ابن عساكر عن ابن عباس أنه سأل عبد الله بن سلام عن قول الله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) لم قالوا ذلك؟ فذكر له ابن سلام ما كان من كتبه لبني إسرائيل التوراة من حفظه ، وقول بني إسرائيل : لم يستطع موسى أن يأتينا بالتوراة إلا في كتاب وإن عزيرا قد جاءنا بها من غير كتاب. فرماه طوائف منهم وقالوا عزير ابن الله.

ولهذا يقول كثير من العلماء : إن تواتر التوراة انقطع في زمن العزير.

وهذا متجه جدا إذا كان العزير غير نبي كما (١) قاله عطاء بن أبي رباح والحسن والبصري.

وفيما رواه إسحاق بن بشر عن مقاتل بن سليمان ، عن عطاء ، وعن عثمان بن عطاء الخرساني عن أبيه ، ومقاتل عن عطاء بن أبي رباح قال : كان في الفترة تسعة أشياء : بختنصر وجنة صنعاء وجنة سبأ وأصحاب الأخدود وأمر حاصورا وأصحاب الكهف وأصحاب الفيل ومدينة أنطاكية وأمر تبع.

وقال إسحاق بن بشر : أنبأنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال كان أمر عزير وبختنصر في الفترة.

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنا أولى الناس بابن مريم [الأنبياء أولاد علات] وليس بيني وبينه نبي» (٢).

وقد روى ابن عساكر عن أنس بن مالك وعطاء بن السائب أن عزيرا كان في زمن موسى بن

__________________

(١) و : كذا قاله.

(٢) الحديث رواه مسلم في صحيحه (٤٣ / ٤٠ / ١٤٣ ، ١٤٤) ،. ورواه برواية أخرى (٤٣ / ٤٠ / ١٤٥) ونصها «قال رسول الله ـ ص ـ أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم. في الأولى والآخرة» قالوا : كيف؟ يا رسول الله؟ قال : «الأنبياء أخوة من علات. وأمهاتهم شتى. ودينهم واحد. فليس بيننا نبي.» أ. ه. وما بين الأقواس ساقطة من المطبوعة والمخطوطة.

٤٦٨

عمران ، وأنه أستأذن عليه فلم يأذن له ، يعني لما كان من سؤاله عن القدر وأنه انصرف وهو يقول : مائة موتة أهون من ذل ساعة.

وفي معنى قول عزير مائة موتة أهون من ذل ساعة قول بعض الشعراء :

قد يصبر الحرّ على السيف

ويأنف الصبر على الحيف

ويؤثر الموت على حالة

يعجز فيها عن قرى الضيف

فأما ما روى ابن عساكر وغيره عن ابن عباس ونوف البكالي وسفيان الثوري وغيرهم ، من أنه سأل عن القدر فمحي اسمه من ذكر الأنبياء ، فهو منكر وفي صحته نظر ، وكأنه مأخوذ عن الإسرائيليات.

وقد روى عبد الرزاق وقتيبة بن سعيد ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران الجوني ، عن نوف البكالي قال : قال عزير فيما يناجي ربه : يا رب تخلق خلقا تضل من تشاء وتهدي من تشاء؟ فقيل له : أعرض عن هذا. فعاد فقيل له : لتعرضن عن هذا أو لأمحون أسمك من الأنبياء إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. وهذا يقتضي وقوع ما توعد عليه لو عاد فما محيا.

وقد روى الجماعة سوى الترمذي من حديث يونس بن يزيد ، عن سعيد وأبي سلمة ، عن أبي هريرة ، وكذلك رواه شعيب عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ثم أمر بها فأحرقت بالنار فأوحى الله إليه فهلا نملة واحدة (١) فروى إسحاق بن بشر عن ابن جريج ، عن عبد الوهاب بن مجاهد ، عن أبيه أنه عزير ، وكذا روى عن ابن عباس والحسن البصري أنه عزير ، فالله أعلم.

__________________

(١) الحديث رواه مسلم في صحيحه (٣٩ / ٣٩ / ١٤٨ ، ١٤٩ ، ١٥٠). ورواه البخاري في صحيحه (٥٩ / ١٦ / ٣٣١٩ / فتح). ورواه أبو داود في سننه (٤٠ / ١٦٤). ورواه النسائي في سننه (٤٢ / ٤٨) ورواه أحمد في مسنده (٢ / ٣١٣ / ٤٤٩ / حلبي).

٤٦٩

قصة زكريا ويحيى عليهما‌السلام

قال الله تعالى في كتابه العزيز :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كهيعص* ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا* إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا* قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا* يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا* قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا* قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً* قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا* فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا* يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا* وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا* وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا* وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا.)

[١٩ / مريم : ١ ـ ١٥]

وقال تعالى : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ* هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ* فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ* قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ* قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ.)

[٣ / آل عمران : ٣٧ ـ ٤١]

وقال تعالى : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ.)

[٢١ / الأنبياء : ٨٩ ، ٩٠]

٤٧٠

وقال تعالى : (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ.)

[٦ / الأنعام : ٨٥]

قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في كتابه التاريخ المشهور الحافل : زكريا بن برخيا (١) ويقال زكريا بن دان ، ويقال زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان (٢) بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخيا بن بلعطة بن ناحور بن شلوم بن بهفاشاط بن إينامن بن رحيعام (٣) بن سليمان بن داود ، أبو يحيى النبي عليه‌السلام من بني إسرائيل.

دخل البثنة من أعمال دمشق في طلب ابنه يحيى. وقيل إنه كان بدمشق حين قتل ابنه يحيى والله أعلم. وقد قيل غير ذلك في نسبه. ويقال فيه زكريا بالمد والقصر. ويقال زكري أيضا.

والمقصود أن الله تعالى أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقص على الناس خبر زكريا عليه‌السلام وما كان من أمره حين وهبه الله ولدا على الكبر وكانت أمرأته [مع ذلك](٤) عاقرا في حال شبيبتها وقد أسنت أيضا حتى لا ييأس أحد من فضل الله ورحمته ولا يقنط من فضله تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا* إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا). قال قتادة عند تفسيرها : إن الله يعلم القلب النقي ويسمع الصوت الخفي. وقال بعض السلف : قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضرا عنده مخافته فقال : يا رب يا رب يا رب. فقال الله : لبيك لبيك لبيك. (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي ضعف وخار من الكبر (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) استعارة من اشتعال النار في الحطب أي غلب على سواد الشعر شيبه كما قال ابن دريد في مقصورته :

أما ترى رأسي حاكى لونه

طرّة صبح تحت أذيال الدّجا

واشتعل المبيضّ في مسودّه

مثل اشتعال النار في جمر الغضا

وآض عودا للهم يبسا ذوايا

من بعد ما قد كان مجّاج الثّرى

يذكر أن الضعف قد استحوذ عليه باطنا وظاهرا. وهكذا قال زكريا عليه‌السلام : (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)

[١٩ / مريم : ٤]

وقوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي ما عودتني فيما أسألك إلا الإجابة ، وكان الباعث له على هذه المسألة أنه لما كفل مريم بنت عمران بن ماثان ، وكان كلما دخل عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير أوانها (٥) ولا في أوانها وهذه من كرامات الأولياء. فعلم أن الرازق للشيء في غير أوانه قادر على أن يرزقه ولدا وإن كان قد طعن في سنه (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ). وقوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي

__________________

(١) زكريا بن صياد. كذا في تاريخ ابن عساكر (٥ / ٣٨١ / تهذيب).

(٢) و : ابن حنشبان.

(٣) و : رخيعم.

(٤) من و.

(٥) و : إبانها.

٤٧١

عاقِراً) قيل المراد بالموالي العصبة ، وكأنه خاف من تصرفهم بعده في بني إسرائيل بما لا يوافق شرع الله وطاعته فسأل وجود ولد من صلبه يكون برا تقيا مريا ولهذا قال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) أي من عندك بحولك وقوتك (وَلِيًّا يَرِثُنِي) أي في النبوة والحكم في بني إسرائيل (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) يعني كما كان آباؤه وأسلافه من ذرية يعقوب أنبياء فاجعله مثلهم في الكرامة التي أكرمتهم بها من النبوة والوحي ، وليس المراد هاهنا وراثة المال كما زعم ذلك من زعمه من الشيعة ووافقهم ابن جرير هاهنا وحكاه عن أبي صالح من السلف ، لوجوه :

أحدها : ما قدمناه عند قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي في النبوة والملك كما ذكرنا في الحديث المتفق عليه بين علماء المروى في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من طرق عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : : «لا نورث ما تركنا فهو صدقة» (١) فهذا نص على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يورث ، ولهذا منع الصديق أن يصرف ما كان يختص به في حياته إلى أحد من وراثه الذين لو لا هذا النص لصرف إليهم ، وهم ابنته فاطمة وأزواجه التسع وعمه العباس رضي الله عنهم ، واحتج عليهم الصديق في منعه إياهم بهذا الحديث ، وقد وافقه على روايته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وأبو هريرة وآخرون رضي الله عنهم.

والثاني : أن الترمذي رواه بلفظ يعم سائر الأنبياء : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وصححه (٢).

الثالث : أن الدنيا كانت أحقر عند الأنبياء من أن يكنزوا لها أو يلتفتوا إليها أو يهمهم أمرها حتى يسألوا الأولاد ليحوزوها بعدهم ، فإن من لا يصل إلى قريب من منازلهم في الزهادة لا يهتم بهذا المقدار أن يسأل ولدا يكون وارثا له فيها.

الرابع : أن زكريا عليه‌السلام كان نجارا يعمل بيده ويأكل من كسبها ، كما كان داود عليه‌السلام يأكل من كسب يده ، والغالب ولا سيما من مثل حال الأنبياء أنه لا يجهد نفسه في العمل إجهادا يستفضل منه مالا يكون ذخيرة له يخلفه من بعده. وهذا أمر بين واضح لكل من تأمله وتدبره وتفهمه إن شاء الله.

قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، يعني ابن هارون ، أنبأنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كان زكريا نجارا (٣) وهكذا رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه ، عن حماد بن سلمة به.

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٨٥ / ٣ / ٦٧٢٧ ، ٦٧٢٨ ، / فتح). ورواه مسلم في صحيحه (٣٢ / ١٦ / ٤٩). ومالك في الموطأ (٥٦ / ١٢ / ٢٧). والترمذي في سننه (٢٢ / ٤٤ / ١٦١٠). والنسائي في سننه (٣٨ / ٩ / ١٣). وأحمد في مسنده (١ / ٤ ، ٦ ، ٩ ، ١٠ ، ٢٥) ، (٢ / ٤٦٣) ، (٦ ـ ١٤٥ ، ٢٦٢).

(٢) لم أجد في الترمذي هذه الرواية أما الرواية التي في الترمذي فنصها «لا نورث ما تركنا من صدقة» من طريق أنس بن مالك» (٢٢ / ٤ ذ ٤ / ١٦١٠).

(٣) الحديث رواه مسلم في صحيحه (٤٣ / ٤٥ / ١٦٥).

٤٧٢

وقوله تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا.)

[١٩ / مريم : ٧]

وهذا مفسر بقوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.)

[٣ / آل عمران : ٣٩]

فلما بشر بالولد وتحقق البشارة شرع يستعلم على وجه التعجب وجود الولد له والحالة هذه (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي كيف يوجد ولد من شيخ كبير ، قيل كان عمره إذ ذاك سبعا وسبعين سنة ، والأشبه والله أعلم أنه كان أسن من ذلك (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) يعني وقد كانت امرأتي في حال شبيبتها عاقرا لا تلد. والله أعلم.

كما قال الخليل : (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) وقالت سارة : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ؟ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).

وهكذا أجيب زكريا عليه‌السلام قال له الملك الذي يوحى إليه بأمر ربه : (كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي هذا سهل يسير عليه (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أي قدرته ، أوجدتك بعد أن لم تكن شيئا مذكورا أفلا يوجد منك ولدا وإن كنت شيخا؟!».

وقال تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) ومعنى إصلاح زوجته أنها كانت لا تحيض فحاضت وقيل كان في لسانها شيء ، أي بذاءة.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة على وقت تعلق مني المرأة بهذا الولد المبشر به ، (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) يقول علامة ذلك أن يعتريك سكت لا تنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزا وأنت في ذلك سوي الخلق صحيح المزاج معتدل البنية. وأمر بكثرة الذكر في هذه الحال بالقلب واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والإبكار ، فلما بشر بهذه البشارة خرج مسرورا بها على قومه من محرابه (١) (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) والوحي هاهنا هو الأمر الخفي إما بكتابة ، كما قال مجاهد والسدي ، أو إشارة كما قاله مجاهد أيضا ووهب وقتادة قال مجاهد وعكرمة ووهب والسدي وقتادة ، اعتقل لسانه من غير مرض وقال ابن زيد : كان يقرأ أو يسبح ولكن لا يستطيع كلام أحد.

* * *

وقوله تعالى : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) يخبر تعالى عن وجود الولد وفق

__________________

(١) و : المحراب.

٤٧٣

البشارة الإلهية لأبيه زكريا عليه‌السلام وأن الله علمه الكتاب والحكمة وهو صغير في حال صباه.

قال عبد الله بن المبارك : قال معمر : قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب.

فقال : ما للعب خلقنا. قال : وذلك قوله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا).

وأما قوله : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) فروى ابن جرير عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : «لا أدري ما الحنان. وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) أي رحمة من عندنا رحمنا بها زكريا فوهبنا له هذا الولد. وعن عكرمة : (وَحَناناً) أي محبة عليه ويحتمل أن يكون ذلك صفة لتحنن يحيى على الناس ولا سيما على أبويه ، وهو محبتهما والشفقة عليهما وبره بهما.

وأما الزكاة فهي طهارة الخلق وسلامته من النقائص والرذائل. والتقوى طاعة الله بامتثال أوامره وترك زواجره.

ثم ذكر بره بوالديه وطاعته لهما أمرا ونهيا وترك عقوقهما قولا وفعلا فقال : (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا). ثم قال : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) هذه الأوقات الثلاثة أشد ما تكون على الإنسان ، فإنه ينتقل في كل منها من عالم إلى عالم آخر فيفقد الأول بعد ما كان ألفه وعرفه ويصير إلى الآخر ولا يدري ما بين يديه ، ولهذا يستهل صارخا إذا خرج من بين الأحشاء وفارق لينها وضمها وينتقل إلى هذه الدار ليكابد همومها وغمها!

وكذلك إذا فارق هذه الدار وانتقل إلى عالم البرزخ بينها وبين دار القرار ، وصار بعد الدور والقصور إلى عرة الأموات سكان القبور ، وانتظر هناك النفخة في الصور ليوم البعث والنشور ، فمن مسرور ومحبور ومن محزون ومثبور ، وما بين جبير وكسير وفريق في الجنة وفريق في السعير! ولقد أحسن بعض الشعراء حيث يقول :

ولدتك أمك باكيا مستصرخا

والناس حولك يضحكون سرورا

فاحرص لنفسك أن تكون إذا بكوا

في يوم موتك ضاحكا مسرورا

ولما كانت هذه المواطن الثلاثة أشق ما يكون على ابن آدم سلّم الله على يحيى في كل موطن منها فقال : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا).

وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة أن الحسن قال : إن يحيى وعيسى التقيا ، فقال له عيسى : استغفر لي أنت خير مني. فقال له الآخر : استغفر لي أنت خير مني فقال له عيسى : أنت خير مني سلمت على نفسي وسلم الله عليك. فعرف والله فضلهما.

وأما قوله في الآية الأخرى : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) فقيل المراد بالحصور الذي لا يأتي النساء ، وقيل غير ذلك ، وهو أشبه لقوله : (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً).

٤٧٤

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، أنبأنا علي بن زيد (١) ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا ، وما ينبغي لأحد يقول أنا خير من يونس بن متى».

علي بن زيد بن جدعان تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، وهو منكر الحديث. وقد رواه ابن خزيمة والدارقطني من طريق أبي عاصم العباداني ، عن علي بن زيد بن جدعان بن مطولا. ثم قال ابن خزيمة : وليس على شرطنا.

وقال ابن وهب : حدثني ابن لهيعة ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه يوما وهم يتذاكرون فضل الأنبياء فقال قائل : موسى كليم الله. وقال قائل :

عيسى روح الله وكلمته. وقال قائل : ابراهيم خليل الله [وهم يذكرون ذلك](٢) فقال : «أين الشهيد ابن الشهيد ، يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب»! قال ابن وهب : يريد يحيى بن زكريا.

وقد رواه محمد بن إسحاق وهو مدلس ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب ، حدثني ابن العاص ، أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا».

فهذا من رواية ابن إسحاق وهو من المدلسين وقد عنعن هاهنا.

ثم قال عبد الرزاق : عن معمر ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب مرسلا.

ثم رأيت ابن عساكر ساقه من طريق أبي أسامة ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، ثم رواه ابن عساكر من طريق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني خطيب دمشق ، حدثنا محمد بن الأصبهاني ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو قال :

«ما أحد إلا يلقى الله بذنب إلا يحيى بن زكريا. ثم تلا (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) ثم رفع شيئا من الأرض فقال : ما كان معه إلا مثل هذا ، ثم ذبح ذبحا!

وهذا موقوف من هذا الطريق وكونه موقوفا أصح من رفعه والله أعلم. : وأورده ابن عساكر من طرق عن معمر : من ذلك ما أورده من حديث إسحاق بن بشر ، وهو ضعيف ، عن عثمان بن ساج (٣) ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن معاذ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه.

وروي من طريق أبي داود الطيالسي وغيره ، عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعيم ، عن أبيه ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني

__________________

(١) علي بن زيد بن جدعان ، قال حماد بن زيد «كان يقلب الأحاديث» وذكر شعبة أنه اختلط. وقال أحمد «ليس بشيء».

وقال أبو زري : «ليس بقوي يهم ويخطىء» وقال أبو حاتم : لا يحتج به. وقال الدارقطني : «لا يزال عندي فيه لين».

المغني في الضعفاء للذهبي (٢ / ٤٤٧ / ٤٢٦٥).

(٢) سقطت من م وأثبته من و.

(٣) ابن سباح.

٤٧٥

الخالة يحيى وعيسى عليهما‌السلام».

وقال أبو نعيم الحافظ الأصبهاني : حدثنا إسحاق بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، سمعت أبا سليمان يقول : خرج عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا يتماشيان ، فصدم يحيى امرأة فقال له عيسى : يا بن خالة لقد أصبت اليوم خطيئة ما أظن أنه يغفر لك أبدا. قال : وما هي يا بن خالة؟ قال امرأة صدمتها. قال : والله ما شعرت بها قال سبحان الله بدنك معي فأين روحك؟ قال : معلق بالعرش ولو أن قلبي أطمأن إلى جبريل لظننت أني ما عرفت الله طرفة عين.

فيه غرابة وهو من الإسرائيليات.

وقال إسرائيل عن أبي حصين ، عن خيثمة ، قال : كان عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابني خالة وكان عيسى يلبس الصوف ، وكان يحيى يلبس الوبر ولم يكن لواحد منهما دينار ولا درهم ولا عبد ولا أمة ولا مأوى يأويان إليه ، أين ما جنهما الليل أويا ، فلما أرادا أن يتفرقا قال يحيى :

أوصني. قال : لا تغضب. قال : لا أستطيع إلا أن أغضب. قال : لا (١) تقتن مالا. قال : أما هذه فعسى.

* * *

وقد اختلفت الرواية عن وهب بن منبه : هل مات زكريا عليه‌السلام موتا أو قتل قتلا؟ على روايتين فروى عبد المنعم بن إدريس بن سنان ، عن أبيه ، عن وهب بن منبه ، أنه قال : هرب من قومه فدخل شجرة فجاءوا فوضعوا المنشار عليهما ، فلما وصل المنشار إلى أضلاعه أن فأوحى الله إليه : لئن لم يسكن أنينك لأقلبن الأرض ومن عليها. فسكن أنينه حتى قطع باثنتين.

وقد روى (٢) هذا في حديث مرفوع سنورده بعد إن شاء الله.

وروى إسحق بن بشر ، عن إدريس بن سنان ، عن وهب أنه قال : الذي انصدعت له الشجرة هو شعيا ، فأما زكريا فمات موتا فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، أنبأنا أبو خلف موسى بن خلف ، وكان يعد من البدلاء ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن الحارث الأشعري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، وكاد أن يبطىء فقال له عيسى عليه‌السلام : إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن. فقال : يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي. قال : فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله عزوجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن

__________________

(١) و : فلا.

(٢) و : وقد ورد.

٤٧٦

وآمركم أن تعملوا بهن. وأولهن أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا ، فإن مثل ذلك مثل من اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده ، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك ، وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا.

وآمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه قبل عبده ما لم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفتوا.

وآمركم بالصيام فإن الله مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك ، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.

وآمركم بالصدقة ، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال : هل لكم أن أفتدي نفسي منكم فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه.

وآمركم بذكر الله عزوجل كثيرا ، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في إثره فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه ، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عزوجل.

قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن : بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله ، فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثا جهنم قال : يا رسول الله وإن صام وصلى؟

قال وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ، ادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عزوجل المسلمين المؤمنين عباد الله عزوجل (١).

وهكذا رواه أبو يعلي عن هدبة بن خالد ، عن أبان بن زيد ، عن يحيى بن أبي كثير به.

وكذلك رواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي وموسى بن إسماعيل ، كلاهما عن أبان بن يزيد العطار به ورواه ابن ماجة عن هشام بن عمار ، عن محمد بن شعيب بن سابور ، عن معاوية ابن سلام عن أخيه زيد بن سلام ، عن أبي سلام ، عن الحارث الأشعري به ورواه الحاكم من طريق مروان بن محمد الطاطري ، عن معاوية بن سلام ، عن أخيه به ثم قال : تفرد به مروان الطاطري ، عن معاوية بن سلام.

قلت : وليس كما قال. ورواه الطبراني عن محمد بن عبده ، عن أبي توبة الربيع بن نافع ، عن معاوية بن سلام ، عن أبي سلام ، عن الحارث الأشعري ، فذكر نحوه فسقط ذكر زيد بن سلام ، عن أبي سلام ، عن الحارث الأشعري فذكر نحو هذه الرواية.

ثم روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، عن أبيه ، عن الربيع ابن أنس ، قال : ذكر لنا عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما سمعوه من علماء بني إسرائيل أن يحيى بن زكريا أرسل بخمس كلمات وذكر نحو ما تقدم.

__________________

(١) الحديث رواه أحمد في مسنده (٤٠ / ٢٠٢ / حلبي). ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده (١١٦١).

٤٧٧

وقد ذكروا أن يحيى عليه‌السلام كان كثير الانفراد من الناس ، إنما كان يأنس إلى البراري ويأكل من ورق الأشجار ويرد ماء الأنهار ويتغذى بالجراد في بعض الأحيان ، ويقول : من أنعم منك يا يحيى!

وروى ابن عساكر أن أبويه خرجا في تطلبه فوجداه عند بحيرة الأردن فلما اجتمعا به أبكاهما بكاء شديدا لما هو فيه من العبادة والخوف من الله عزوجل.

وقال ابن وهب عن مالك ، عن حميد بن قيس عن مجاهد قال : كان طعام يحيى بن زكريا العشب ، وأنه كان ليبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه.

وقال محمد بن يحيى الذهلي : حدثنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : جلست يوما إلى أبي إدريس الخولاني وهو يقص فقال : ألا أخبركم بمن كان أطيب الناس طعاما؟ فلما رأى الناس قد نظروا إليه قال : إن يحيى بن زكريا كان أطيب الناس طعاما؟ إنما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس في معايشهم.

وقال ابن المبارك عن وهيب بن الورد : قال : فقد زكريا ابنه يحيى ثلاثة أيام فخرج يلتمسه في البرية فإذا هو قد احتفر قبرا وأقام فيه يبكي على نفسه ، فقال يا بني أنا أطلبك من ثلاثة أيام وأنت في قبر قد احتفرته قائم تبكي فيه؟ فقال : يا أبت ألست أنت أخبرتني أن بين الجنة والنار مفازة لا تقطع إلا بدموع البكائين. فقال له : ابك يا بني. فبكيا جميعا.

وهكذا حكاه وهب بن منبه ومجاهد بنحوه.

وروى ابن عساكر عنه أنه قال : إن أهل الجنة لا ينامون للذة ما هم فيه من النعيم ، فكذا ينبغي للصديقين ألا يناموا لما في قلوبهم من نعيم المحبة لله عزوجل ثم قال : كم بين النعيمين وكم بينهما؟

وذكروا أنه كان كثير البكاء حتى أثر البكاء في خديه من كثرة دموعه.

بيان سبب قتل يحيى عليه‌السلام

وذكروا في قتله أسبابا من أشهرها أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه أو من لا يحل له تزويجها ، فنهاه يحيى عليه‌السلام عن ذلك فبقي في نفسها منه. فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها استوهبت منه دم يحيى ، فوهبه لها فبعثت إليه من قتله وجاء برأسه ودمه في طست إلى عندها فيقال أنها هلكت من فورها وساعتها.

وقيل بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها ، فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك ، فتمنع عليها الملك ثم أجابها إلى ذلك فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طست.

٤٧٨

وقد ورد معناه في حديث رواه إسحاق بن بشر في كتابه المبتدأ حيث قال : أنبأنا يعقوب الكوفي ، عن عمرو بن ميمون ، عن أبيه عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به ، رأى زكريا في السماء فسلم عليه وقال له : يا أبا يحيى خبرني من قتلك كيف كان ولم قتلك بنو إسرائيل؟

قال : يا محمد أخبرك أن يحيى كان خير أهل زمانه ، وكان أجملهم وأصبحهم وجها ، وكان كما قال الله تعالى (سَيِّداً وَحَصُوراً) وكان لا يحتاج إلى النساء فهويته أمرأة ملك بني إسرائيل ، وكانت بغية ، فأرسلت إليه وعصمه الله وامتنع يحيى وأبى عليها فأجمعت على قتل يحيى ولهم عيد يجتمعون في كل عام ، وكانت سنة الملك أن يعد ولا يخلف ولا يكذب.

قال : فخرج الملك إلى العيد فقامت امرأته فشيعته ، وكان بها معجبا ولم تكن تفعله فيما مضى ، فلما أن شيعته قال الملك سليني ، فما سألتني شيئا إلا أعطيتك. قالت : أريد دم يحيى بن زكريا. قال لها : سليني غيره. قالت : هو ذاك. قال : هو لك. قال : فبعثت جلاوزتها إلى يحيى وهو في محرابه يصلي وأنا إلى جانبه أصلي ، قال : فذبح في طست وحمل رأسه ودمه إليها ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فما بلغ من صبرك؟ قال : ما انفتلت من صلاتي.

قال : فلما حمل رأسه إليها ووضع بين يديها فلما أمسوا خسف الله بالملك وأهل بيته وحشمه ، فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل : قد غضب إله زكريا لزكريا ، فتعالوا حتى نغضب لملكنا فنقتل زكريا. قال : فخرجوا في طلبي ليقتلوني وجاءني النذير ، فهربت منهم وإبليس أمامهم يدلهم عليّ فلما تخوفت ألا أعجزهم عرضت لي شجرة فنادتني وقالت إليّ إليّ وانصدعت لي ودخلت فيها.

قال : وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي خارجا من الشجرة ، وجاءت بنو إسرائيل فقال إبليس : أما رأيتموه دخل هذه الشجرة ، هذا طرف ردائه دخلها بسحره. فقالوا : نحرق هذه الشجرة. فقال إبليس : شقوه بالمنشار شقا. قال : فشققت مع الشجرة بالمنشار.

قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل وجدت له مسا أو وجعا؟ قال : لا إنما وجدت ذلك الشجرة التي جعل الله روحي فيها.

هذا سياق (١) غريب جدا وحديث عجيب ورفعه منكر ، وفيه ما ينكر على كل حال ، ولم ير في شيء من أحاديث الإسراء ذكر زكريا عليه‌السلام إلا في هذا الحديث وإنما المحفوظ في بعض ألفاظ الصحيح في حديث الإسراء : فمررت بابني الخالة يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة [فجاء](٢) على قول الجمهور كما هو ظاهر الحديث. فإن أم يحيى أشياع بنت عمران أخت مريم بنت عمران.

وقيل بل أشياع وهي امرأة زكريا. أم يحيى هي أخت حنة امرأة عمران أم مريم ، فيكون يحيى ابن خالة مريم فالله أعلم.

ثم اختلف في مقتل يحيى بن زكريا هل كان في المسجد الأقصى أم بغيره (٣) على قولين : فقال

__________________

(١) و : إسناد.

(٢) من و.

(٣) و : أو.

٤٧٩

الثوري عن الأعمش عن شملة بن عطية قال : قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبيا ، منهم يحيى بن زكريا عليه‌السلام.

وقال أبو عبيدة القاسم بن سلام : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : قدم بختنصر دمشق فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي ، فسأل عنه فأخبروه ، فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن. وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب وهو يقتضي أنه قتل بدمشق وأن قصة بختنصر كانت (١) بعد المسيح كما قاله عطاء والحسن البصري.

فالله أعلم.

وروى الحافظ ابن عساكر من طريق الوليد بن مسلم ، عن زيد بن واقد ، قال : رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبلة الذي يلي المحراب مما يلي الشرق ، فكانت البشرة والشعر على حالهما لم يتغير ، وفي رواية : كأنما قتل الساعة.

وذكر في بناء مسجد دمشق أنه جعل تحت العمود المعروف بعمود السكاسكة. فالله أعلم.

وقد روى الحافظ ابن عساكر في المستقصى في فضائل الأقصى ، من طريق العباس بن صبح ، عن مروان ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن قاسم مولى معاوية ، قال : كان ملك هذه المدينة يعني دمشق هداد بن هدار ، وكان قد زوج ابنه بابنة أخيه أريل ملكة صيدا ، وقد كان من جملة أملاكها سوق الملوك بدمشق وهو الصاغة العتيقة ، قال : وكان قد حلف بطلاقها ثلاثا. ثم إنه أراد مراجعتها فاستفتى يحيى بن زكريا فقال لا تحل لك حتى تنكح زوجا غيرك ، فحقدت عليه وسألت من الملك رأس يحيى بن زكريا ، وذلك بإشارة أمها. فأبى عليها ثم أجابها إلى ذلك وبعث إليه وهو قائم يصلي بمسجد جبرون من أتاه برأسه في صينية ، فجعل الرأس يقول له : لا تحل حتى تنكح زوجا غيره ـ فأخذت المرأة الطبق فحملته على رأسها وأتت به أمها وهو يقول كذلك ، فلما تمثلت بين يدي أمها خسف بها إلى قدميها ثم إلى حقويها ، وجعلت أمها تولول والجواري يصرخن ويلطمن وجوههن ، ثم خسف بها إلى منكبيها فأمرت أمها السياف أن يضرب عنقها لتتسلى برأسها ، ففعل فلفظت الأرض جثتها عند ذلك ، ووقعوا في الذل والفناء ، ولم يزل دم يحيى يفور حتى قدم بختنصر فقتل عليه خمسة وسبعين ألفا.

قال سعيد بن عبد العزيز : وهي دم كل نبي. ولم يزل يفور حتى وقف عنده أرميا عليه‌السلام فقال : أيها الدم أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن الله ، فسكن فرفع السيف وهرب من هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس ، فتبعهم إليها فقتل خلقا كثيرا لا يحصون كثرة وسبى منهم ثم رجع عنهم.

__________________

(١) و : وأن بختنصر كان بعد المسيح.

٤٨٠