قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

آخرهم كما يأكل أولهم حتى قيل إنها (١) كان يأكل منها نحو سبعة آلاف.

ثم كانت تنزل يوما بعد يوم ، كما كانت ناقة صالح يشربون لبنها يوما بعد يوم. ثم أمر الله عيسى أن يقصرها على الفقراء والمحاويج دون الأغنياء. فشق ذلك على كثير من الناس وتكلم منافقوهم في ذلك ، فرفعت بالكلية ومسخ الذين تكلموا في ذلك خنازير.

وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا ، حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي ، حدثنا سفيان بن حبيب ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة عن خلاس ، عن عمار بن ياسر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد ، فخانوا وادخروا ورفعوا ، فمسخوا قردة وخنازير» (٢).

ثم رواه ابن جرير عن بندار ، عن ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن خلاس ، عن عمار موقوفا. وهذا أصح. وكذا رواه من طريق سماك ، عن رجل من بني عجل ، عن عمار موقوفا. وهو الصواب والله أعلم.

وخلاس عن عمار منقطع ، فلو صح هذا الحديث مرفوعا لكان فيصلا في هذه القصة ، فإن العلماء اختلفوا في المائدة : هل نزلت أم لا؟ فالجمهور أنها نزلت كما دلت عليه هذه الآثار كما هو المفهوم من ظاهر سياق القرآن ولا سيما قوله : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) كما قرره ابن جرير والله أعلم.

وقد روى ابن جرير بإسناد صحيح إلى مجاهد وإلى الحسن بن أبي الحسن البصري ، أنهما قالا : لم تنزل وإنهم أبوا نزولها حين قال : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ). ولهذا قيل إن النصارى لا يعرفون خبر المائدة وليس مذكورا في كتابهم ، ومع أن خبرها مما تتوافر الدواعي على نقله. والله أعلم (٣).

وقد تقصينا الكلام على ذلك في التفسير فليطلب من هناك ، ومن أراد مراجعته فلينظره من ثم ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) و : إنه.

(٢) رواه الطبراني في تفسيره : ٢ / ١٣٠ ، ثم رواه بنحوه موقوفا على عمار : ٤ / ١٣٠. ورواه الترمذي ٤ / ١٠٢ مرفوعا ، ثم رواه موقوفا. وجزم بأنه أصح ثم قال «ولا نعرف للحديث المرفوع أصلا» وابن كثير في تفسيره (٤ / ٢٦٢ / معارف).

(٣) الحديث رواه ابن كثير في تفسيره (٤ / ٢٦٢ / معارف).

وقال شاكر في تعليقه على الحديث في المصدر السابق : «وهذا المروي عن مجاهد والحسن ـ خطأ منهما ، لم يستندا فيه إلى خبر ثابت ، وإنما هو رأي واستنباط ، أخطأ طريقه. وأما ما زعمه الحافظ ابن كثير هنا ، من أنه قد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا يعرفه النصارى إلى آخر كلامه ـ فإنه كلام ضعيف لا قيمة له ولا حجة فيه. ولا أدري كيف يظن ابن كثير هذا الظن الباطل : وإن كان قد استدرك بعد فرجع القول الصحيح الذي يدل عليه صريح القرآن : أن المائدة نزلت عليهم.

فالإسناد إلى أن خبر المائدة ليس في كتب النصارى ولا يعرفونه ، كلام متهافت باطل ـ لأن القرآن جاء مهيمنا على الكتب السابقة ، فما وافقه فيها كان صحيحا ، وما خالفه كان باطلا فأولى ألا يكون سكوتها عن شيء أمارة نفيه ، إذا ما أثبته القرآن.

ومن زعم أن عدم ذكرها عندهم دليل على نفي وجودها ، مع ذكرها في القرآن فقد جعل هذه الكتب المحرفة غير الثابتة هي المهيمنة على القرآن وحاشا لمسلم أن يزعم ذلك. ثم ليس خبر المائدة وحده هو الثابت في القرآن غير المذكور عندهم. فإن خبر كلام عيسى في المهد ثابت في الكتاب العزيز بأصرح لفظ وأوضحه ولا يعرفه النصارى في كتبهم وأخبارهم مع توافر الدواعي على نقله. فكان ماذا؟ كان أن القرآن حق ، وما خالفه باطل ، دون تردد أو ريب.

٥٢١

فصل

قال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا رجل سقط اسمه ، حدثنا حجاج بن محمد حدثنا أبو هلال بن محمد بن سليمان ، عن بكر بن عبد الله المزني قال : فقد الحواريون نبيهم عيسى فقيل لهم توجه نحو البحر ، فانطلقوا يطلبونه فلما انتهوا إلى البحر إذا هو يمشي على الماء يرفعه الموج مرة ويضعه أخرى ، وعليه كساء مرتد بنصفه ومؤتزر بنصفه ، حتى انتهى إليهم فقال له بعضهم : قال أبو هلال ظننت أنه من أفاضلهم : ألا أجيء إليك يا نبي الله؟ قال : بلى. قال : فوضع إحدى رجليه على الماء ثم ذهب ليضع الآخرى فقال : أوه غرقت يا نبي الله. فقال : أرني يدك يا قصير الإيمان ، لو أن لابن آدم من اليقين قدر شعيرة مشى على الماء!

ورواه أبو سعيد بن الأعرابي ، عن ابراهيم بن أبي الجحيم ، عن سليمان بن حرب ، عن أبي هلال عن بكر بنحوه.

ثم قال ابن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن سفيان (١) ، حدثنا إبراهيم بن الأشعث ، عن الفضيل بن عياض ، قال : قيل لعيسى ابن مريم : يا عيسى بأي شيء تمشي على الماء؟ قال : بالإيمان واليقين. قالوا : فإنا آمنا كما آمنت وأيقنا كما أيقنت. قال : فامشوا إذا.

قال : فمشوا معه في الموج فغرقوا فقال لهم عيسى : ما لكم؟ فقالوا : خفنا الموج قال : ألا خفتم رب الموج! قال : فأخرجهم. ثم ضرب بيده إلى الأرض فقبض بها ثم بسطها. فإذا في إحدى يديه ذهب وفي الأخرى مدر أو حصى فقال : أيهما أحل في قلوبكم؟ قالوا : هذا الذهب. قال :

فإنها عندي سواء!

وقدمنا في قصة يحيى بن زكريا عن بعض السلف أن عيسى عليه‌السلام كان يلبس الشعر ويأكل من ورق الشجر ولا يأوي إلى منزل ولا أهل ولا مال ولا يدخر شيئا لغد. قال بعضهم :

كان يلبس من غزل أمه ، صلوات الله وسلامه عليه.

وروى ابن عساكر عن الشعبي أنه قال : كان عيسى عليه‌السلام إذا ذكرت عنده الساعة صاح ويقول : لا ينبغي لابن مريم أن يذكر عنده الساعة ويسكت.

وعن عبد الملك بن سعيد بن أبجر أن عيسى كان إذا سمع الموعظة صرخ صراخ الثكلى.

«اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ولا أملك نفع ما أرجو ؛ وأصبح الأمر بيد غيري ،

__________________

(١) و : ابن شقيق.

٥٢٢

وأصبحت مرتهنا بعملي ، فلا فقير أفقر مني! اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسوء بي صديقي ، ولا تجعل مصيبتي في ديني ولا تسلط علىّ من لا يرحمني».

قال الفضيل بن عياض عن يونس بن عبيد ، كان عيسى يقول لا يصيب أحد (١) حقيقة الإيمان حتى لا يبالي من أكل الدنيا!

قال الفضيل : وكان عيسى يقول : فكرت في الخلق فوجدت من لا يخلق أغبط عندي ممن خلق!

وقال إسحاق بن بشر ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن ، قال : إن عيسى رأس الزاهدين يوم القيامة ، قال : وإن الفرارين بذنوبهم يحشرون يوم القيامة مع عيسى.

قال : وبينما عيسى يوما نائم على حجر قد توسده وقد وجد لذة النوم إذ مر به إبليس فقال :

يا عيسى ألست تزعم أنك لا تريد شيئا من عرض الدنيا؟ فهذا الحجر من عرض الدنيا. قال :

[فقام عيسى](٢) فأخذ الحجر فرمى به إليه وقال : هذا لك مع الدنيا!

وقال معتمر بن سليمان : خرج عيسى على أصحابه وعليه جبة صوف وكساء وتبان حافيا باكيا شعثا مصفر اللون من الجوع يابس الشفتين من العطش فقال : السلام عليكم يا بني إسرائيل ، أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن الله ولا عجب ولا فخر ، أتدرون أين بيتي؟ قالوا : أين بيتك يا روح الله؟ قال : بيتي المساجد ، وطيبي الماء ، وإدامي الجوع ، وسراجي القمر بالليل ، وصلاتي في الشتاء مشارق الشمس ، وريحاني بقول الأرض ، ولباسي الصوف (٣) ، وشعاري خوف رب العزة ، وجلسائي الزمنى والمساكين ، اصبح وليس لي شيء وأمسي وليس لي شيء وأنا طيب النفس غير مكترث فمن أغنى مني وأربح!

رواه ابن عساكر.

وروي في ترجمة محمد بن الوليد بن أبان بن حبان أبي الحسن العقيلي المصري ، حدثنا هانىء ابن المتوكل الإسكندراني ، عن حيوة بن شريح ، حدثني الوليد بن أبي الوليد ، عن شفي بن ماتع (٤) ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أوحى الله تعالى إلى عيسى : أن يا عيسى انتقل من مكان إلى مكان لئلا تعرف فتؤذى ، فوعزتي وجلالي لأزوجنك ألف حوراء ولأولمن عليك أربعمائة عام.

وهذا حديث غريب رفعه ، وقد يكون موقوفا من راوية شفي بن ماتع ، عن كعب الأحبار أو غيره من الإسرائيليين والله أعلم.

وقال عبد الله بن المبارك : عن سفيان بن عيينه ، عن خلف بن حوشب. قال : قال عيسى للحواريين : كما ترك لكم الملوك الحكمة فكذلك فاتركوا لهم الدنيا.

__________________

(١) و : لا نصيب حقيقة الإيمان حتى لا نبالي.

(٢) سقطت من م.

(٣) م : الصون.

(٤) و : سفي بن نافع.

٥٢٣

وقال قتادة : قال عيسى عليه‌السلام : سلوني فإني لين القلب وإني صغير عند نفسي.

وقال إسماعيل بن عياش ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، قال : قال عيسى للحواريين : كلوا خبز الشعير واشربوا الماء القراح واخرجوا من الدنيا سالمين آمنين ، بحقّ ما أقول لكم إن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة ، وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة ، وإن عباد الله ليسوا المتنعّمين ، بحقّ ما أقول لكم إن شركم عالم يؤثر هواه على علمه يودّ أن الناس كلهم مثله.

وروى نحوه أبي هريرة.

قال أبو مصعب عن مالك إنه بلغه أن عيسى كان يقول : يا بني إسرائيل عليكم بالماء القراح والبقل البرير وخبز الشعير (١) ، وإياكم وخبز البر فإنكم لن تقوموا بشكره.

وقال ابن وهب عن سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد قال : كان عيسى يقول اعبروا الدنيا ولا تعمروها ، وكان يقول : حب الدنيا رأس كل خطيئة ، والنظر يزرع في القلب الشهوة.

وحكى وهيب بن الورد مثله وزاد : ورب شهوة أورثت أهلها حزنا طويلا.

وعن عيسى عليه‌السلام : يا بن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت ، وكن في الدنيا ضيفا ، واتخذ المساجد بيتا ، وعلم عينك البكاء وجسدك الصبر وقلبك التفكير ، ولا تهتم برزق غد فإنها خطيئة.

وعنه عليه‌السلام أنه قال كما إنه (٢) لا يستطيع أحدكم أن يتخذ على موج البحر دارا فلا يتخذ الدنيا قرارا.

وفي هذا يقول سابق البربري :

لكم بيوت بمستن السيوف وهل

يبنى على الماء بيت أسه مدر!

وقال سفيان الثوري : قال عيسى ابن مريم؟

لا يستقيم حب الدنيا وحب الآخرة في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء.

وقال إبراهيم الحربي عن داود بن رشيد ، عن أبي عبد الله الصوفي قال : قال عيسى : طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر ، كلما ازداد شربا ازداد عطشا حتى يقتله.

وعن عيسى عليه‌السلام : إن الشيطان مع الدنيا ومكره مع المال (٣) وتزينه مع الهوى ، واستمكانه عند الشهوات.

وقال الأعمش عن خيثمة ، كان عيسى يضع الطعام لأصحابه ويقوم عليهم ويقول : هكذا فاصنعوا بالقرى.

__________________

(١) و : والخبز الشعير.

(٢) ليست في و.

(٣) م : وفكرة من المال.

٥٢٤

وبه قالت امرأة لعيسى عليه‌السلام : طوبى لحجر حملك ولثدي أرضعك. فقال : طوبى لمن قرأ كتاب الله واتبعه.

وعنه : طوبى لمن بكى من ذكر خطيئته وحفظ لسانه ووسعه بيته.

وعنه : طوبى لعين نامت ولم تحدث نفسها بالمعصية وانتبهت إلى غير إثم.

وعن مالك بن دينار ، قال : مر عيسى واصحابه بجيفة فقالوا : ما أنتن ريحها فقال : ما أبيض أسنانها. لينهاهم عن الغيبة.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا الحسين بن عبد الرحمن ، عن زكريا بن عدي قال : قال عيسى ابن مريم : يا معشر الحواريين ارضوا بدني الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدني الدين مع سلامة الدنيا

قال زكريا : وفي ذلك يقول الشاعر :

أرى رجالا بأدنى الدين قد قنعوا

ولا أراهم رضوا في العيش بالدون

فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما

استغنى الملوك بدنياهم عن الدين

وقال أبو مصعب عن مالك قال عيسى ابن مريم عليه‌السلام : «لا تكثروا الحديث بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد عن الله ولكن لا تعلمون ، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب وأنظروا فيها كأنكم عبيد ، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلي فارحموا أهل بلاء الله على العافية».

وقال الثوري : سمعت أبي يقول عن إبراهيم التيمي ، قال : قال عيسى لأصحابه : بحق أقول لكم : من طلب الفردوس فخبز الشعير والنوم في المزابل مع الكلاب كثير.

وقال مالك بن دينار قال عيسى : إن أكل الشعير مع الرماد والنوم على المزابل مع الكلاب لقليل في طلب الفردوس.

وقال عبد الله بن المبارك : أنبأنا سفيان ، عن منصور ، عن سالم عن ابن الجعد ، قال : قال عيسى : اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم ، انظروا إلى [هذا](١) الطير تغدو وتروح [لا تحصد ولا ولا تحرث](٢) والله يرزقها ، فإن قلتم نحن أعظم بطونا من الطير فانظروا إلى هذه الأباقر (٣) من الوحوش والحمر فإنها تغدوا وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها (٤). [اتقوا فضول الدنيا فإن فضول الدنيا عند الله رجز](٥).

__________________

(١) في م ، و «هذه» محرفة.

(٢) في م ، و «لا تحصد ولا تحرث» محرفة.

(٣) في م ، و «الأباقير» محرفة.

(٤) ساقطة من م ، وقد أثبته من الحديث في الزهد لابن المبارك.

(٥) الحديث رواه ابن المبارك في الزهد (١ / ٢٩١ / ٨٤٨). ومالك في الموطأ (٣ / ١٥٠).

٥٢٥

وقال صفوان بن عمرو : عن شريح بن عبد الله (١) ، عن يزيد بن ميسرة ، قال : قال الحواريون للمسيح : يا مسيح الله انظر إلى مسجد الله ما أحسنه. قال : آمين آمين بحق ما أقول لكم لا يترك الله من هذا المسجد حجرا قائما إلا أهلكه بذنوب أهله ، إن الله لا يصنع بالذهب ولا الفضة ولا بهذه الأحجار التي تعجبكم شيئا إن أحب إلى الله منها القلوب الصالحة وبها يعمر الله الأرض ، وبها يخرب الله الأرض إذا كانت على غير ذلك.

وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخه : أخبرنا أبو منصور بن محمد الصوفي ، أخبرتنا عائشة بنت الحسن بن إبراهيم الوركانية ، قالت : حدثنا أبو محمد عبد الله بن عمر بن عبد الله بن الهيثم إملاء ، حدثنا الوليد بن أبان إملاء ، حدثنا أحمد بن جعفر الرازي ، حدثنا سهيل بن إبراهيم الحنظلي ، حدثنا عبد الوهاب بن عبد العزيز ، عن المعتمر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : مر عيسى عليه‌السلام على مدينة خربة ، فأعجبه البنيان فقال : أي رب مر هذه المدينة أن تجيبني. فأوحى الله إلى المدينة : أيتها المدينة الخربة جاوبي عيسى. قال فنادت المدينة :

عيسى حبيبي وما تريد مني؟ قال : وما فعل أشجارك وما فعل أنهارك وما فعل قصورك وأين سكانك؟ قالت : حبيبي جاء وعد ربك الحق فيبست أشجاري ونشفت أنهاري وخربت قصوري ومات سكاني. قال : فأين أموالهم؟ فقالت : جمعوها من الحلال والحرام موضوعة في بطني ، لله ميراث السموات والأرض. قال : فنادى عيسى عليه‌السلام : تعجبت (٢) من ثلاث أناس : طالب الدنيا والموت يطلبه ، وباني القصور والقبر منزله ، ومن يضحك ملء فيه والنار أمامه! ابن آدم لا بالكثير تشبع ولا بالقليل تقنع ، تجمع مالك لمن لا يحمدك وتقدم على رب لا يعذرك ، إنما أنت عبد بطنك وشهوتك ، وإنما تملأ بطنك إذا دخلت قبرك ، وأنت يا بن آدم ترى حشد مالك في ميزان غيرك.

هذا حديث غريب جدا وفيه موعظة حسنة فكتبناه لذلك.

وقال سفيان الثوري عن أبيه ، عن إبراهيم التيمي ، قال عيسى عليه‌السلام : يا معشر الحواريين اجعلوا كنوزكم في السماء فإن قلب الرجل حيث كنزه.

وقال ثور بن يزيد بن عبد العزيز بن ظبيان قال : قال عيسى ابن مريم عليه‌السلام : من تعلم وعلم وعمل دعي عظيما في ملكوت السماء.

وقال أبو كريب : روي أن عيسى عليه‌السلام قال : لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ويعبر بك النادي.

وروى ابن عساكر بإسناد غريب عن ابن عباس مرفوعا أن عيسى قام في بني إسرائيل فقال :

يا معشر الحواريين لا تحدثوا بالحكم غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ، والأمور ثلاثة : أمر تبين رشده فاتبعوه وأمر تبين غيه فاجتنبوه ، وأمر اختلف عليكم فيه فردوا علمه إلى الله عزوجل.

__________________

(١) و : ابن عبيد الله.

(٢) م : فعجبت.

٥٢٦

وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن رجل ، عن عكرمة قال : قال عيسى : لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنزير فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئا ، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها ، فإن الحكمة خير من اللؤلؤ ومن لا يريدها شر من الخنزير!

وكذا حكي وهب وغيره عنه أنه قال لأصحابه : أنتم ملح الأرض فإذا فسدتم فلا دواء لكم ، وإن فيكم خصلتين من الجهل : الضحك من غير عجب والصبحة من غير سهر.

وعنه أنه قيل له : من أشد الناس فتنة؟ قال : زلة العالم فإن العالم إذا زل يزل (١) بزلته عالم كثير.

وعنه أنه قال : يا علماء السوء جعلتم الدنيا على رؤوسكم والآخرة تحت أقدامكم ، قولكم شفاء وعملكم داء (٢) مثلكم مثل شجرة الدفلى تعجب من رآها وتقتل من أكلها.

وقال وهب : قال عيسى : يا علماء السوء جلستم على أبواب الجنة فلا تدخلونها ولا تدعون المساكين يدخلونها ، إن شر الناس عند الله عالم يطلب الدنيا بعلمه.

وقال مكحول : التقى يحيى وعيسى ، فصافحه عيسى وهو يضحك فقال له يحيى : يا بن خالة ما لي أراك ضاحكا كأنك قد أمنت؟! فقال له عيسى : ما لي أراك عابسا كأنك قد يئست! فأوحى الله إليهما : إن أحبكما إليّ أبشّكما بصاحبه.

وقال وهب بن منبه : وقف عيسى هو وأصحابه على قبر وصاحبه يدلى فيه ، فجعلوا يذكرون القبر وضيقه فقال : قد كنتم فيما هو ضيق منه في أرحام (٣) أمهاتكم ، فإذا أحب (٤) الله أن يوسع وسع.

وقال أبو عمر الضرير : بلغني أن عيسى كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما.

والآثار في مثل هذا كثيرة جدا. وقد ورد الحافظ ابن عساكر منها طرفا صالحا اقتصرنا منها على هذا القدر. والله الموفق للصواب.

__________________

(١) و : زل.

(٢) م : داوه.

(٣) م : من أرحام.

(٤) و : فإذا أراد.

٥٢٧

ذكر رفع عيسى عليه‌السلام إلى السماء

في حفظ الرب ، وبيان كذب اليهود والنصارى في دعوى الصّلب قال الله تعالى :

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ* إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.)

[٣ / آل عمران : ٥٤ ، ٥٥]

قال تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً* وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً* وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً* وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً.)

[٤ / النساء : ١٥٥ ـ ١٥٩]

فأخبر تعالى أنه رفعه إلى السماء بعد ما توفاه بالنوم على الصحيح المقطوع به ، وخلصه ممن كان أراد أذيته من اليهود الذين وشوا به إلى بعض الملوك الكفرة فى ذلك الزمان.

قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق : كان اسمه داود بن نورا (١) فأمر بقتله وصلبه فحصروه في دار بيت المقدس ، وذلك عشية الجمعة ليلة السبت ، فلما حان وقت دخولهم ألقى شبهه على بعض أصحابه الحاضرين عنده ورفع عيسى من روزنه [من](٢) ذلك البيت إلى السماء ، وأهل البيت ينظرون ، ودخل الشرط فوجدوا ذلك الشاب الذي ألقى عليه شبهه فأخذوه ظانين أنه عيسى فصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه إهانة له ، وسلّم لليهود عامة النصارى الذين لم يشاهدوا ما كان من أمر عيسى أنه صلب وضلوا بسبب ذلك ضلالا مبينا كثيرا فاحشا بعيدا.

وأخبر تعالى بقوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي بعد نزوله إلى الأرض في آخر الزمان قبل قيام الساعة ، فإنه ينزل ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام ، كما بينا ذلك بما ورد فيه من الأحاديث عند تفسير هذه الآية الكريمة من سورة النساء ، كما اوردنا ذلك مستقصى في كتاب الفتن والملاحم عند أخبار المسيح الدجال ، فذكرنا ما ورد في نزول المسيح المهدي عليه‌السلام من ذي الجلال لقتل المسيح الدال الكذاب الداعي إلى الضلال. وهذا ذكر ما ورد في الآثار في صفة رفعه إلى السماء.

__________________

(١) و : بن فودا.

(٢) من و.

٥٢٨

قال ابن أبي حاتم : حدثنا احمد بن سنان. حدثنا أبو معاوية ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا منهم من الحواريين ، يعني فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي ، ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني فيكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له : أجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال : أنا. فقال : أنت هو ذاك. فألقى عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى من روزنه في البيت إلى السماء.

قال : وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد ان آمن به وافترقوا ثلاث فرق ، فقالت طائفة : كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء.

وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية.

وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء المسلمون ، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن عباس : وذلك قوله تعالى : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ)(١).

وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس على شرط مسلم ، ورواه النسائي عن أبي كريب ، عن أبي معاوية به نحوه ، ورواه ابن جرير عن مسلم بن جنادة عن أبي معاوية.

وهكذا ذكر غير واحد من السلف ، وممن ذكر ذلك مطولا محمد بن إسحاق بن يسار (٢).

قال : وجعل عيسى عليه‌السلام يدعو الله عزوجل أن يؤخر أجله ، يعني ليبلغ الرسالة ويكمل الدعوة ويكثر الناس الدخول في دين الله قيل : وكان عنده من الحواريين اثنا عشر رجلا :

بطرس ويعقوب بن زبدا ويحنس أخو يعقوب ، وأندراوس ، وفليبس ، وابرثلما ، ومتى ، وتوماس ، ويعقوب بن حلقيا ، وتداوس ، وفتاتيا ، ويودس كريايوطا ، وهذا هو الذي دل اليهود على عيسى.

قال ابن إسحاق : وكان فيهم رجل آخر اسمه سرجس كتمته النصارى وهو الذي ألقي شبه المسيح عليه فصلب عنه. قال : وبعض النصارى يزعم أن الذي صلب عن المسيح وألقي عليه شبهه هو يودس بن كريايوطا والله أعلم.

وقال الضحّاك عن ابن عباس : استخلف عيسى شمعون وقتلت اليهود يودس الذي القي

__________________

(١) الحديث رواه ابن كثير في التفسير (٤ / ٣١ / عمدة التفاسير). وقال محققه الشيخ أحمد شاكر : «القصة التي رواها ابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ذكرها السيوطي (٢ / ٢٣٨). ونسبها لعبد بن حميد وابن مردويه. وصيغتها وسياقها تضعها موضع الشك في صحة نسبتها لابن عباس وإن كان إسنادها إليه صحيحا. وليس عليها ضوء كلام ذلك العصر الزاهر ، عصر الصحابة. ولعلها من أوهام المنهال بن عمرو الأسدي ، راويها عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. بل إنها لا ترتفع إلى مرتبة الإسرائيليات التي تنسب إلى اليهود ، فإن اليهود لعنهم الله ـ يقولون غير ذلك. أ. ه.

(٢) م : ابن بشار.

٥٢٩

عليه الشبه.

وقال أحمد بن مروان : حدثنا محمد بن الجهم ، قال : سمعت الفراء يقول في قوله :

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ، وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) قال : إن عيسى غاب عن خالته زمانا فأتاها ، فقام رأس الجالوت اليهودي فضرب على عيسى حتى اجتمعوا على باب داره فكسروا الباب ودخل رأس جالوت ليأخذ عيسى فطمس الله عينيه عن عيسى ، ثم خرج إلى أصحابه فقال لم أره. ومعه سيف مسلول. فقالوا : أنت عيسى وألقى الله شبه عيسى عليه فأخذوه فقتلوه وصلبوه ، فقال جل ذكره : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي ، عن هارون بن عنترة ، عن وهب بن منبه ، قال : أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم ، فلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم : سحرتمونا لتبرزن إلينا عيسى أو لنقتلنكم جميعا.

فقال عيسى لأصحابه. من يشتري منكم اليوم نفسه بالجنة (١) فقال رجل : أنا. فخرج إليهم فقال : أنا عيسى. وقد صوره الله على صورة عيسى ، فأخذوه فقتلوه وصلبوه فمن ثم شبه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ، فظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.

قال ابن جرير (٢) : وحدثنا المثني ، حدثنا إسحاق ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، حدثني عبد الصمد بن معقل ، أنه سمع وهبا يقول : إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت وشق عليه ، فدعا الحواريين وصنع لهم طعاما فقال : أحضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة. فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم ، فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ويمسح أيديهم بثيابه ، فتعاظموا ذلك وتكارهوه فقال : من رد عليّ شيئا الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه. فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال : أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم (٣) على الطعام وغسلت أيديكم بيدي فليكن لكم بي أسوة ، فإنكم ترون أني خيركم فلا يتعظم بعضكم على بعض ، وليبذل بعضكم لبعض نفسه ، كما بذلت نفسي لكم ، وأما حاجتي التي استعنتكم عليها فتدعون الله [لي](٤) وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي.

فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء ، فجعل يوقظهم ويقول : سبحان الله أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها؟ فقالوا : والله ما ندري ، ما لنا ، والله لقد كنا نسمر فنكثر السمر وما نطيق الليلة سمرا ، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه فقال : يذهب بالراعي وتتفرق الغنم! وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعي به نفسه.

__________________

(١) و : من يرى اليوم الجنة.

(٢) تاريخ الطبري (١ / ٦٠١ ، ٦٠٢ / معارف).

(٣) و : مما حدثتكم.

(٤) من و.

٥٣٠

ثم قال : الحق ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات ، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني.

فخرجوا وتفرقوا ، وكانت اليهود تطلبه فأخذوا شمعون أحد الحواريين فقالوا : هذا من أصحابه. فجحد وقال : ما أنا بصاحبه. فتركوه. ثم أخذه آخرون فجحد كذلك ، ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه.

فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال : ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟

فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه ، وكان شبه عليهم قبل ذلك فأخذوه واستوثقوا منه وربطوه بالحبل وجعلوا يقودونه ويقولون : أنت كنت تحيي الموتى وتنتهر الشيطان وتبرىء المجنون ، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل؟! ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها فرفعه الله إليه وصلبوا ما شبهه لهم فمكث سبعا.

ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون جاءتا تبكيان حيث كان المصلوب فجاءهم عيسى فقال : علام تبكيان؟ قالتا عليك. فقال : إني قد رفعني الله إليه ولم يصبني إلا خير ، وإن هذا شيء شبه لهم. فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا. فلافاه إلى ذلك المكان أحد عشر وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود ، فسأل عنه أصحابه فقالوا أنه ندم على ما صنع فاختنق وقتل نفسه ، فقال : لو تاب لتاب الله عليه. ثم سألهم عن غلام [كان](١) يتبعهم يقال له يحيى فقال : هو معكم فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم.

وهذا إسناد غريب عجيب ، وهو أصح مما ذكره النصارى لعنهم الله من أن المسيح جاء إلى مريم وهي جالسة تبكي عند جذعة فأراها مكان المسامير من جسده ، وأخبرها أن روحه رفعت وأن جسده صلب.

وهذا بهت وكذب واختلاق وتحريف وتبديل وزيادة باطلة في الإنجيل على خلاف الحق ومقتضى الدليل (٢).

وحكى الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن حبيب ، فيما بلغه ، أن مريم سألت من بيت الملك بعد ما صلب المصلوب بسبعة أيام ، وهي تحسب أنه أبنها ، أن ينزل جسده ، فأجابهم إلى ذلك ودفن هنالك ، فقالت مريم لأم يحيى : ألا تذهبين بنا نزور قبر المسيح؟ فذهبتا فلما دنتا من القبر قالت مريم لأم يحيى : ألا تستترين؟ قالت : وممن أستتر؟ فقالت من هذا الرجل الذي هو عند القبر. فقالت أم يحيى : إني لا أرى أحدا فرجت مريم أن يكون جبريل ، وكانت قد بعد عهدها به ، فاستوقفت أم يحيى وذهبت نحو القبر فلما دنت من القبر قال لها جبريل ، وعرفته : يا

__________________

(١) من و.

(٢) م : ومقتضى النقل.

٥٣١

مريم أين تريدين (١)؟! فقالت : أزور قبر المسيح فأسلم عليه وأحدث عهدا به. فقال : يا مريم إن هذا ليس المسيح ، إن الله قد رفع المسيح وطهره من الذين كفروا. ولكن هذا الفتى الذي ألقى شبهه عليه وصلب وقتل مكانه ، وعلامة ذلك أن أهله قد فقدوه فلا يدرون ما فعل به فهم يبكون عليه فإذا كان يوم كذا وكذا فأت غيضة كذا وكذا فإنك تلقين المسيح.

قال : وصعد جبريل فرجعت إلى أختها فأخبرتها عن جبريل وما قال لها من أمر الغيضة ، فلما كان ذلك اليوم ذهبت فوجدت عيسى في الغيضة فلما رآها أسرع إليها وأكب عليها فقبل رأسها وجعل يدعو لها كما كان يفعل ، وقال يا أمه إن القوم لم يقتلوني ولكن الله رفعني إليه وأذن لي في لقائك والموت يأتيك قريبا فاصبري واذكري الله كثيرا. ثم صعد عيسى فلم تلقه إلا تلك المرة حتى ماتت.

قال : وبلغني أن مريم بقيت بعد عيسى خمس سنين وماتت ولها ثلاث وخمسون سنة. رضي الله عنها وأرضاها.

وقال الحسن البصري : كان عمر عيسى عليه‌السلام يوم رفع أربعا وثلاثين سنة. وفي الحديث : «إن أهل الجنة يدخلونها جردا مردا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين». وفي الحديث الآخر :

«على ميلاد عيسى وحسن يوسف». وكذا قال حماد بن سلمة عن علي بن يزيد ، عن سعيد بن المسيب ، أنه قال : رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.

فأما الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه ويعقوب بن سفيان الفسوي في تاريخه ، عن سعيد بن أبي مريم ، عن نافع بن يزيد ، عن عمارة بن غزية ، عن محمد بن عبد الله بن عمرو ابن عثمان ، أن أمه فاطمة بنت الحسين حدثته أن عائشة كانت تقول : أخبرتني فاطمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرها أنه لم يكن نبي كان بعده نبي إلا عاش الذي بعده نصف عمر الذي كان قبله ، وأنه أخبرني أن عيسى بن مريم عاش عشرين ومائة سنة فلا أراني إلا ذاهب على رأس ستين. هذا لفظ الفسوي. فهو حديث غريب.

قال الحافظ ابن عساكر : والصحيح أن عيسى لم يبلغ هذا العمر ، وإنما أراد به مدة مقامه في أمته ، كما روى سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة ، قال قالت فاطمة : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن عيسى بن مريم مكث في بني إسرائيل أربعين سنة وهذا منقطع.

وقال جرير والثوري عن الأعمش ، عن إبراهيم : مكث عيسى في قومه أربعين عاما.

ويروى عن أمير المؤمنين علي أن عيسى عليه‌السلام رفع ليلة الثاني والعشرين من رمضان وتلك الليلة في مثلها توفي علي بعد طعنه بخمسة أيام.

وقد روى الضحاك عن ابن عباس أن عيسى لما رفع إلى السماء جاءته سحابة فدنت منه حتى جلس عليها وجاءته مريم فودعته وبكت ثم رفع وهي تنظر وألقى إليها عيسى برداء له وقال : هذا علامة ما بيني وبينك يوم القيامة وألقى عمامته على شمعون ، وجعلت أمه تودعه بإصبعها تشير بها

__________________

(١) و : أين تريدون.

٥٣٢

إليه حتى غاب عنها ، وكانت تحبه حبا شديدا ، لأنه توفر عليها حبه من جهتي الوالدين إذ لا أب له ، وكانت لا تفارقه سفرا ولا حضرا وكانت كما قال بعض الشعراء :

وكنت أرى كالموت من بين ساعة

فكيف ببين كان موعده الحشر

وذكر إسحاق بن بشر ، عن مجاهد بن جبير أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل شبه لهم وهم يحسبونه المسيح وسلّم لهم أكثر النصارى بجهلهم ذلك ، تسلطوا على أصحابه بالقتل والضرب والحبس فبلغ أمرهم إلى صاحب الروم وهو ملك دمشق في ذلك الزمان ، فقيل له إن اليهود تسلطوا على أصحاب رجل كان يذكر لهم أنه رسول الله وكان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويفعل العجائب ، فعدوا عليه فقتلوه وأهانوا أصحابه وحبسوهم فبعث فجيء بهم وفيهم يحيى بن زكريا وشمعون وجماعة ، فسألهم عن أمر المسيح فأخبروه عنه ، فبايعهم في دينهم وأعلى كلمتهم وظهر الحق على اليهود وعلت كلمة النصارى عليهم ، وبعث إلى المصلوب فوضع عن جذعه وجيء بالجذع الذي صلب عليه ذلك الرجل فعظمه فمن ثم عظمت النصارى الصليب ، ومن هاهنا دخل دين النصرانية في الروم.

وفي هذا نظر من وجوه :

أحدها : أن يحيى بن زكريا نبي لا يقر على أن المصلوب عيسى ، فإنه معصوم يعلم ما وقع على جهة الحق.

الثاني : أن الروم لم يدخلوا في دين المسيح إلا بعد ثلاثمائة سنة ، وذلك في زمان قسطنطين ابن قسطن باني المدينة المنسوبة إليه على ما سنذكره.

الثالث : أن اليهود ـ صلبوا ذلك الرجل ثم ألقوه بخشبته جعلوا مكانه مطرحا للقمامة والنجاسة وجيف الميتات والقاذورات ، فلم يزل كذلك حتى كان في زمان قسطنطين المذكور فعمدت أمه هيلانة الحرانية الفندقانية فاستخرجته من هنالك معتقدة أنه المسيح ، ووجدوا الخشبة التي صلب عليها المصلوب ، فذكروا أنه ما مسها ذو عاهة إلا عوفي. فالله أعلم أكان هذا أم لا ، وهل كان هذا لأن ذلك الرجل الذي بذل نفسه كان رجلا صالحا أو كان هذا محنة وفتنة لأمة النصارى في ذلك اليوم ، حتى عظموا تلك الخشبة وغشوها بالذهب واللآلىء ، ومن هذا اتخذوا الصلبانات وتبركوا بشكلها وقبلوها ، وأمرت أم الملك هيلانة فأزيلت تلك القمامة وبني مكانها كنيسة هائلة مزخرفة بأنواع الزينة ، فهي هذه المشهورة اليوم ببلدة بيت المقدس التي يقال لها القمامة باعتبار ما كان عندها ، ويسمونها القيامة يعنون التي يقوم جسد المسيح منها. ثم أمرت هيلانة بأن توضع قمامة البلد وكناسته وقاذوراته على الصخرة التي هي قبلة اليهود فلم تزل كذلك حتى فتح عمر بن الخطاب بيت المقدس ، فكنس عنها القمامة بردائه وطهرها من الأخباث والأنجاس ، ولم يضع المسجد وراءها ولكن أمامها حيث صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء به وهو المسجد الأقصى.

٥٣٣

ذكر صفة عيسى عليه‌السلام وشمائله وفضائله

قال الله تعالى (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ.)

قيل سمي المسيح لمسحه الأرض وهو سياحته فيها وفراره بدينه من الفتن في ذلك الزمان ، لشدة تكذيب اليهود له وافترائهم عليه وعلى أمه عليهما‌السلام. وقيل لأنه كان ممسوح القدمين.

وقال تعالى : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) فيه هدى ونور وقال تعالى : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) والآيات في ذلك كثيرة جدا.

وقد تقدم ما ثبت في الصحيحين : «ما من مولود إلا والشيطان يطعن في خاصرته حين يولد فيستهل صارخا إلا مريم وابنها ، ذهب يطعن فطعن في الحجاب» وتقدم حديث عمير بن هانىء [عن جنادة ، عن عبادة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال] «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبد الله ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل». رواه البخاري وهذا لفظه ، ومسلم.

وروى البخاري ومسلم من حديث الشعبي ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، قال :

قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أدب الرجل أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها كان له أجران ، وإذا آمن بعيسى ابن مريم ثم آمن بي فله أجران ، والعبد إذا اتقى ربه وأطاع مواليه فله أجران». هذا لفظ البخاري.

وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا هشام ، عن معمر (ح) وحدثني محمود حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال :

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليلة أسري بي لقيت موسى. قال : فنعته فإذا رجل حسبته قال مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة. قال ولقيت عيسى فنعته النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ربعة أحمر وكأنما خرج من ديماس ، يعني الحمام ، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به» الحديث.

وقد تقدم في قصتي إبراهيم وموسى.

ثم قال : حدثنا محمد بن كثير ، أنبأنا إسرائيل ، عن عثمان بن المغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت عيسى وموسى وإبراهيم. فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر. أما موسى فآدم جسيم سبط كأنه من رجال الزط». تفرد به البخاري.

وحدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا أبو ضمرة ، حدثنا موسى بن عقبة ، عن نافع ، قال : قال عبد الله بن عمر : ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال : إن الله ليس بأعور

٥٣٤

إلا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية ، وأراني الليلة عند الكعبة في المنام فإذا رجل آدم كأحسن ما يرى من آدم الرجال ترب لمته بين منكبيه رجل الشعر يقطر رأسه ماء واضعا يديه على منكبي رجلين ، وهو يطوف بالبيت فقلت من هذا؟ فقالوا : المسيح ابن مريم.

ثم رأيت رجلا وراءه جعدا قططا أعور عين اليمنى كأشبه من رأيت بابن قطن. واضعا يده على منكبي رجل يطوف بالبيت فقلت من هذا؟ فقالوا : هذا المسيح الدجال.

ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة. ثم قال البخاري : تابعه عبد الله بن نافع. ثم ساقه من طريق الزهري عن سالم بن عمر قال الزهري : وابن قطن رجل من خزاعة هلك في الجاهلية.

فبين صلوات الله وسلامه عليه صفة المسيحين : مسيح الهدى ومسيح الضلال ، ليعرف هذا إذا نزل فيؤمن به المؤمنون ويعرف الآخر فيحذره الموحدون.

وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رأى عيسى ابن مريم رجلا يسرق فقال له : أسرقت؟

قال : كلا والذي لا إله إلا هو. فقال عيسى : آمنت بالله وكذبت عيسى» وكذا رواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق.

وقال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حميد الطويل ، عن الحسن وغيره ، عن أبي هريرة قال : ولا أعلمه إلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رأى عيسى رجلا يسرق فقال : يا فلان أسرقت؟ فقال : لا والله ما سرقت. فقال : آمنت بالله وكذبت بصري»

وهذا يدل على سجية طاهرة ، حيث قدم خلف ذلك الرجل فظن أن أحدا لا يحلف بعظمة الله كاذبا على ما شهده منه عيانا ، فقبل عذره ورجع على نفسه فقال : آمنت بالله. أي صدقتك وكذبت بصري لأجل حلفك.

وقال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد ابن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحشرون حفاة عراة غرلا ثم قرأ : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) فأول الخلق يكسى إبراهيم ، ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال فأقول أصحابي فيقال إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح عيسى ابن مريم : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١). تفرد به دون مسلم من هذا الوجه.

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (٨١ / ٤٥) ومسلم في صحيحه (٥١ / ٥٨٠٥٦) ورواه الترمذي (٣٥ / ٣) ، (٤٤ / ١٧ ـ ح ٧). ورواه النسائي (٢١ / ١١٧ ، ١١٨). ورواه ابن ماجة (٣٧ / ٣٣). ورواه الداري في سننه (٣٠ / ٨٢). ورواه أحمد في مسنده (١ / ٢٢٠ ، ٢٢٣ ، ٢٢٩) ، ٣ / ٤٩٥) ورواه الطيالسي في مسنده رقم (٢٦٣٨).

٥٣٥

وقال أيضا : حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي ، حدثنا سفيان ، سمعت الزهري يقول :

أخبرني عبد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس سمع عمر يقول على المنبر سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله».

وقال البخاري : حدثنا إبراهيم حدثنا جرير بن حازم ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج يصلي إذ جاءته أمه فدعته فقال أجيبها أو أصلي؟ فقالت : اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات ، وكان جريج في صومعة فعرضت له امرأة وكلمته فأبى فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فولدت غلاما فقيل لها ممن؟ فقالت : من جريج فأتوه وكسروا صومعته فأنزلوه وسبوه فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال : من أبوك يا غلام؟ قال : فلان الراعي. قالوا : أنبني صومعتك من ذهب؟

قال : لا إلا من طين. وكانت امرأة ترضع ابنا لها في بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة فقالت : اللهم اجعل ابني مثله ، فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال : اللهم لا تجعلني مثله. ثم أقبل على ثديها يمصه. قال أبو هريرة : كأني أنظر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمص إصبعه ، ثم مرت بأمة فقالت :

اللهم لا تجعل ابني مثل هذه. فترك ثديها فقال : اللهم اجعلني مثلها. فقالت : لم ذلك فقال :

الراكب جبار من الجبابرة ، وهذه الأمة يقولون سرقت وزنت. ولم تفعل».

وقال البخاري : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة ، أن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أنا أولى الناس بابن مريم ، والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي». تفرد به البخاري من هذا الوجه.

ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي داود الحفري ، عن الثوري عن أبي الزناد ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة.

وقال أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان هو الثوري ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أولى الناس بعيسى عليه‌السلام والأنبياء أخوة أولاد علات ، وليس بيني وبين عيسى نبي».

وهذا إسناد صحيح على شرطهما ولم يخرجوه من هذا الوجه : وأخرجه أحمد عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، وأخرجه ابن حبان من حديث عبد الرزاق نحوه.

قال أحمد : حدثنا يحيى ، عن أبي عروبة ، حدثنا قتادة ، عن عبد الرحمن بن آدم ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الأنبياء إخوة لعلات» ودينهم واحد وأمهاتهم شتى ، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه ، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل بين مخصرتين ، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويعطل الملل حتى تهلك في زمانه كلها غير الإسلام ، ويهلك الله في زمانه

٥٣٦

المسيح الدجال الكذاب ، وتقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الإبل مع الأسد جميعا والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضا فيمكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه.

ثم رواه أحمد عن عفان ، عن همام ، عن قتادة ، عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة فذكر نحوه. وقال : فيمكث أربعين سنة ، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ، ورواه أبو داود عن هدبة بن خالد ، عن همام بن يحيى به نحوه.

وروى هشام بن عروة ، عن صالح مولى أبي هريرة عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فيمكث في الأرض أربعين سنة» وقد بينا نزوله عليه‌السلام في آخر الزمان في كتاب الملاحم. كما بسطنا ذلك أيضا في التفسير عند قوله تعالى في سورة النساء :

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً.)

[٤ / النساء : ١٥٩]

وقوله : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) الآية وأنه ينزل على المنارة البيضاء بدمشق وقد أقيمت صلاة الصبح فيقول له إمام المسلمين : تقدم يا روح الله فصل. فيقول : لا بعضكم على بعض أمراء مكرمة الله هذه الأمة. وفي رواية فيقول له عيسى : إنما أقيمت الصلاة لك. فيصلي خلفه. ثم يركب ومعه المسلمون في طلب المسيح الدجال فيلحقه عند باب لد فيقتله بيده الكريمة.

وذكرنا أنه قوي الرجاء حين بنيت هذه المنارة الشرقية بدمشق التي هي من حجارة بيض ، وقد بنيت أيضا من أموال النصارى حين حرقوا التي هدمت وما حولها فينزل عليها عيسى ابن مريم عليه‌السلام فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ولا يقبل من أحد إلا الإسلام ، وأنه يخرج من فج الروحاء حاجا أو معتمرا أو لثنتيهما ، ويقيم أربعين سنة ، ثم يموت فيدفن فيما قيل في الحجرة النبوية عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه (١).

وقد ورد في ذلك حديث ذكره ابن عساكر في آخر ترجمة المسيح عليه‌السلام في كتابه عن عائشة مرفوعا ، أنه يدفن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر في الحجرة النبوية ولكن لا يصح إسناده.

وقال أبو عيسى الترمذي ، حدثنا زيد بن أخزم الطائي ، حدثنا أبو قتيبة مسلم بن قتيبة ،

__________________

(١) الحديث رواه أحمد في مسنده رقم (٧٢٧١ / معارف). ورواه مسلم في صحيحه (١ / ٣٥٦ / ٣٥٧) من طريق سفيان ابن عيينة بنفسه إسناد أحمد. ورواه أيضا من طريق الليث ، وطريق يونس كلاهما عن الزهري مثله.

وفي رجال أحمد حنظلة الأسلمي : هو حنظلة بن علي بن الأسقع الأسلمي المدني ، وهو تابعي ثقة ، وثقه النسائي وغيره وترجم البخاري في الكبير (٢ / ـ ١ / ٣٥ ـ ٣٦). وابن أبي حاتم في الحرج والتعديل (١ / ٢ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠). وابن سعد في الطبقات (٥ / ١٨٦).

٥٣٧

حدثني أبو مودود المدني ، حدثني عثمان بن الضحاك ، عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام ، عن أبيه ، عن جده ، قال : مكتوب في التوراة : صفة محمد وعيسى ابن مريم عليهم‌السلام يدفن معه. قال أبو مودود : وقد بقي من البيت موضع قبر.

ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن. كذا قال. والصواب : الضحاك بن عثمان المدني.

وقال البخاري : هذا الحديث لا يصح عندي ولا يتابع عليه.

وروى البخاري عن يحيى بن حماد ، عن أبي عوانة ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان ، قال : الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستمائة سنة وعن قتادة خمسمائة وستون سنة ، وقيل خمسمائة وأربعون سنة وعن الضحاك أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. والمشهور ستمائة سنة. منهم من يقول ستمائة وعشرون سنة بالقمرية ، لتكون ستمائة بالشمسية. والله أعلم.

وقال ابن حبان في صحيحه : «ذكر المدة التي بقيت فيها أمة عيسى على هديه» : حدثنا أبو يعلي ، حدثنا أبو همام ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الهيثم بن حميد ، عن الوضين بن عطاء ، عن نصر بن علقمة ، عن جبير بن نفير ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد قبض الله داود من بين أصحابه فما فتنوا ولا دلوا ولقد مكث أصحاب المسيح على سنته ودينه مائتي سنة». وهذا حديث غريب جدا ، وإن صححه ابن حبان.

وذكر ابن جرير عن محمد بن إسحاق ، أن عيسى عليه‌السلام قبل أن يرفع اوصى الحواريين بأن يدعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له وعين كل واحد منهم إلى طائفة من الناس في إقليم من الأقاليم من الشام والمشرق وبلاد المغرب ، فذكروا أنه أصبح كل إنسان منهم يتكلم بلغة الذين أرسله المسيح إليهم.

وذكر غير واحد أن الإنجيل نقله عنه أربعة : لوقا ومتى ومرقس ويوحنا ، وبين هذه الأناجيل الأربعة تفاوت كثير بالنسبة إلى كل نسخة ونسخة ، وزيادات كثيرة ونقص بالنسبة إلى الأخرى ، وهؤلاء الأربعة منهم اثنان ممن أدرك المسيح ورآه وهما متى ويوحنا ، ومنهم اثنان من أصحابه (١) وهما مرقس ولوقا.

__________________

(١) من هنا إلى آخر الكتاب ساقط من المخطوطة (و) ومخطوطة تيمور المشار اليها في المقدمة. ووجد بها بدل هذا السقوط ما نصه : «وقد أنشد الشيخ شهاب الدين القرافي في كتابه الرد على النصارى لبعضهم يرد عليهم في قولهم بصلب المسيح وتسليمهم ذلك لليهود مع دعواهم أنه ابن الله ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا :

عجبا للمسيح بين النصارى

وإلى الله ولدا نسبوه

أسلموه إلى اليهود وقالوا

إنهم بعد قتله صلبوه

فإن كان ما تقولون حقا

وصحيحا فأين كان أبوه

حين خلى ابنه رهين الأعادي

أتراهم أرضوه أم أغضبوه

فإن كان راضيا بأذاهم

فأعذروهم لأنهم رافقوه

ولئن كان ساخطا فاتركوه

وأعبدوهم لأنهم غلبوه

وما أثبته كان من المطبوعة (٢ / ١٠٠ / السعادة).

٥٣٨

وكان ممن آمن بالمسيح وصدقه من أهل دمشق رجل يقال له ضينا ، كان مختفيا في مغارة داخل الباب الشرقي قريبا من الكنيسة المصلبة خوفا من بولس اليهودي ، وكان ظالما غاشما مبغضا للمسيح ولما جاء به. وكان قد حلق رأس ابن أخيه حين آمن بالمسيح وطاف به في البلد ثم رجمه حتى مات رحمه‌الله.

ولما سمع بولس أن المسيح عليه‌السلام قد توجه نحو دمشق جهز بغاله وخرج ليقتله ، فتلقاه عند كوكبا ، فلما واجه أصحاب المسيح جاء إليه ملك فضرب وجهه بطرف جناحه فأعماه ، فلما رأى ذلك وقع في نفسه تصديق المسيح فجاء إليه واعتذر مما صنع ، وآمن به فقبل منه وسأله أن يمسح عينيه ليرد الله عليه بصره ، فقال اذهب إلى ضينا عندك بدمشق في طرف السوق المستطيل من المشرق فهو يدعو لك فجاء إليه فدعا فرد عليه بصره وحسن إيمان بولس بالمسيح عليه‌السلام أنه عبد الله ورسوله وبنيت له كنيسته باسمه فهي كنيسة بولس المشهورة بدمشق من زمن فتحها الصحابة رضي الله عنهم حتى خربت.

فصل

اختلف أصحاب المسيح عليه‌السلام بعد رفعه إلى السماء فيه على أقوال ، كما قاله ابن عباس وغيره من أئمة السلف كما أوردناه عند قوله : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ).

قال ابن عباس وغيره : قال قائلون منهم : كان فينا عبد الله ورسوله فرفع إلى السماء وقال آخرون : هو الله. وقال آخرون : هو ابن الله.

فالأول هو الحق والقولان الآخران كفر عظيم ، كما قال : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

وقد اختلفوا في نقل الأناجيل على أربعة أقاويل ما بين زيادة ونقصان وتحريف وتبديل.

ثم بعد المسيح بثلاثمائة سنة حدثت فيه الطامة العظمى والبلية الكبرى إذ اختلف البطاركة الأربعة وجميع الأساقفة والقساوسة والشمامسة والرهبان في المسيح على أقوال متعددة لا تنحصر ولا تنضبط ، واجتمعوا وتحاكموا إلى الملك قسطنطين باني القسطنطينية وهم المجمع الأول ، فصار الملك إلى قول أكثر فرقة اتفقت على قول من تلك المقالات ، فسموا الملكية ودحض من عداهم وأبعدهم ، وتفردت الفرقة التابعة لعبد الله بن أريوس الذي أثبت على أن عيسى عبد من عباد الله ورسول من رسله فسكنوا البراري والبوادي وبنوا الصوامع والديارات والقلايات ، وقنعوا بالعيش الزهيد ولم يخالطوا أولئك الملل والنحل وبنت الملكية الكنائس الهائلة ، وعمدوا إلى ما كان من بناء اليونان فحولوا محاريبها إلى الشرق وقد كانت إلى الشمال إلى الجدي.

٥٣٩

بيان بناء بيت لحم والقمامة

وبنى الملك قسطنطين بيت لحم على محل مولد المسيح ، وبنت أمه هيلانة القمامة ، يعني على قبر المصلوب وهم يسلمون لليهود أنه المسيح.

وقد كفر هؤلاء وهؤلاء ووضعوا القوانين والأحكام. ومنها مخالف للعتيقة التي هي التوراة ، وأحلوا أشياء هي حرام بنص التوراة ومن ذلك الخنزير ، وصلوا إلى الشرق ولم يكن المسيح صلى إلا إلى صخرة بيت المقدس ، وكذلك جميع الأنبياء بعد موسى ، ومحمد خاتم النبيين صلى إليها بعد هجرته إلى المدينة ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ثم حول إلى الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل.

وصوروا الكنائس ولم تكن مصورة قبل ذلك ، ووضعوا العقيدة التي يحفظها أطفالهم ونساؤهم ورجالهم التي يسمونها بالأمانة ، وهي في الحقيقة أكبر الكفر والخيانة.

وجميع الملكية والنسطورية أصحاب نسطورس أهل المجمع الثاني ، واليعقوبية أصحاب يعقوب البراذعي أصحاب المجمع الثالث ، يعتقدون هذه العقيدة ويختلفون في تفسيرها.

وها أنا ذا أحكيها وحاكي الكفر ليس بكافر لابث ، على ما فيها من ركة الألفاظ وكثرة الكفر والخيال المفضي بصاحبه إلى النار ذات الشواظ فيقولون :

«نؤمن بإله واحد ضابط الكل خالق السموات والأرض كل ما يرى وكل ما لا يرى ، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل الدهور ونور من نور إله حق من إله حق ، مولود غير مخلوق مساو للأب في الجوهر الذي كان به كل شيء من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء وتأنس وصلب على عهد ملاطس النبطي وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس على يمين الأب ، وأيضا فسيأتي بجسده ليدبر الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه ، وروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب مع الأب ، والأبن مسجود له وبمجد الناطق في الأنبياء كنيسة واحدة جامعة مقدسة يهولية ، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا وأنه حي قيامة الموتى وحياة الدهر العتيد كونه آمين».

* * *

وإلى هنا ينتهي كتاب قصص الأنبياء للإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير ،

والحمد لله على نعمته.

٥٤٠