قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

ذكر إسماعيل عليه‌السلام

وقد كان للخليل بنون كما ذكرنا ، ولكن أشهرهم الأخوان النبيان العظيمان الرسولان ، أسنهما وأجلهما : الذي هو الذبيح على الصحيح ـ إسماعيل بكر إبراهيم الخليل من هاجر القبطية المصرية عليها‌السلام من العظيم الجليل.

ومن قال : إن الذبيح هو إسحاق ، فإنما تلقاه من نقلة بني إسرائيل الذين بدلوا وحرفوا وأولوا التوراة والإنجيل ، وخالفوا ما بأيديهم في هذا من التنزيل ، فإن إبراهيم أمر بذبح ولده البكر ، وفي رواية : الوحيد.

وأياما كان فهو إسماعيل بنص الدليل ، ففي نص كتابهم : إن إسماعيل ولد ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة وإنما ولد إسحاق بعد مضي مائة سنة من عمر الخليل ، فإسماعيل هو البكر لا محالة ، وهو الوحيد صورة ومعنى على كل حالة.

أما في الصورة ، فلأنه كان ولده أزيد من ثلاثة عشر سنة ، وأما أنه وحيد في المعنى ، فإنه هو الذي هاجر به أبوه ومعه أمه هاجر ، وكان صغيرا رضيعا ـ فيما قيل ـ فوضعهما في وهاد جبال فاران ، وهي الجبال التي حول مكة نعم المقيل ، وتركهما هنالك ليس معهما من الزاد والماء إلا القليل ، وذلك ثقة بالله وتوكلا عليه. فحاطهما الله تعالى بعنايته وكفايته فنعم الحسيب والكافي والوكيل والكفيل.

فهذا هو الولد الوحيد في الصورة والمعنى. ولكن أين من يتفطن لهذا السر؟ وأين من يحل هذا المحل؟ والمعنى لا يدركه ويحيط بعلمه إلا كل نبيه نبيل!!

وقد أثنى الله تعالى عليه ووصفه بالحلم والصبر وصدق الوعد ، والمحافظة على الصلاة ، والأمر بها لأهله ليقيهم العذاب ، مع ما كان يدعو إليه من عبادة رب الأرباب.

قال الله تعالى : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ* فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.)

[٣٧ / الصافات : ١٠١ ـ ١٠٢]

فطاوع أباه على ما إليه دعاه ، ووعده بأن سيصبر ، فوفى بذلك وصبر على ذلك.

٢٠١

وقال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا* وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا.)

[١٩ / مريم : ٥٤ ـ ٥٥]

وقال تعالى : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ* إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ* وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ* وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ.)

[٣٨ / ص : ٤٥ ـ ٤٨]

وقال تعالى : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ* وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ.)

[٢١ / الأنبياء : ٨٥ ـ ٨٦]

وقال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ.)

[٤ / النساء : ١٦٣]

وقال تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ.)

[٢ / البقرة : ١٢٦]

وقال تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ.)

[٢ / البقرة : ١٤٠]

فذكر الله عنه كل صفة جميلة ، وجعله نبيه ورسوله ، وبرأه من كل ما نسب إليه الجاهلون ، وأمر بأن يؤمن بما أنزل عليه عباده المؤمنون.

وذكر علماء النسب وأيام الناس : أنه أول من ركب الخيل ، وكانت قبل ذلك وحوشا فأنسها وركبها وقد قال سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه : حدثنا شيخ من قريش ، حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اتخذوا الخيل واعتقبوها فإنها ميراث أبيكم إسماعيل».

وكانت هذه العراب وحوشا فدعا لها بدعوته التي كان أعطى فأجابته. وأنه أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة ، وكان قد تعلمها من العرب العاربة الذين نزلوا عندهم بمكة من جرهم والعماليق وأهل اليمن ؛ من الأمم المتقدمين من العرب قبل الخليل.

قال الأموي : حدثني علي بن المغيرة ، حدثنا أبو عبيدة ، مسمع بن مالك ، عن محمد بن علي بن الحسين ، عن آبائه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أول من فتق لسانه بالعربية البينة إسماعيل ، وهو ابن أربع عشرة سنة» ، فقال له يونس : صدقت يا أبا سيار هكذا أبو جرى حدثني.

٢٠٢

وقد قدمنا أنه تزوج لما شب امرأة من العماليق ، وأن أباه أمره بفراقها. ففارقها قال الأموي : هي عمارة بنت سعد بن أسامة بن أكيل العماليقي ثم نكح غيرها فأمره أن يستمر بها ، فاستمر بها ، وهي السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي ، وقيل هذه ثالثة ، فولدت له اثني عشر ولدا ذكرا وقد سماهم محمد بن إسحاق رحمه‌الله وهم : نابت ، وقيذر ، وإزيل ، وميشي ، ومسمع ، وماش ، ودوصا ، وأرر ، ويطور ، ونبش ، وطيما ، وقيذما. وهكذا ذكرهم أهل الكتاب في كتابهم. وعندهم أنهم الاثنا عشر عظيما المبشر بهم ، المتقدم ذكرهم وكذبوا في تأويلهم ذلك.

وكان إسماعيل عليه‌السلام رسولا الى تلك الناحية وما والاها ؛ من قبائل جرهم والعماليق وأهل اليمن ، صلوات الله وسلامه عليه. ولما حضرته الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق ، وزوج ابنته «نسمة» من ابن أخيه «العيص» ابن اسحاق ، فولدت له الروم ، ويقال لهم بنو الأصفر ؛ لصفرة كانت في العيص. وولدت له اليونان في أحد الأقوال. ومن ولد العيص الأسبان قيل منهما أيضا.

وتوقف ابن جرير رحمه‌الله.

ودفن نبي الله إسماعيل بالحجر مع أمه هاجر ، وكان عمره يوم مات مائة وسبعا وثلاثين سنة.

وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال : شكا إسماعيل عليه‌السلام إلى ربه عزوجل حر مكة ، فأوحى الله إليه : إني سأفتح لك بابا إلى الجنة إلى الموضع الذي تدفن فيه. يجري عليك روحها إلى يوم القيامة.

وعرب الحجاز كلهم ينتسبون الى ولديه : نابت ، وقيذار.

٢٠٣

ذكر إسحاق بن إبراهيم الكريم ابن الكريم

عليهما الصلاة والتسليم

قد قدمنا أنه ولد ولأبيه مائة سنة ، بعد أخيه إسماعيل بأربع عشرة سنة. وكان عمر أمه سارة حين بشرت به تسعين سنة.

قال الله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ* وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ.)

[٣٧ / الصفات : ١١٢ ، ١١٣]

وقد ذكره الله تعالى بالثناء عليه في غير ما آية من كتابه العزيز.

وقدمنا في حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».

وذكر أهل الكتاب أن إسحاق لما تزوج «رفقا» بنت بتواييل في حياة أبيه ، كان عمره أربعين سنة ، وأنها كانت عاقرا فدعا الله لها فحملت ، فولدت غلامين توأمين : أولهما اسمه «عيصو» وهو الذي تسميه العرب «العيص» وهو والد الروم. والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه «يعقوب» وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل.

قالوا : وكان إسحاق يحب عيصو أكثر من يعقوب ؛ لأنه بكره. وكانت أمهما «رفقا» تحب يعقوب أكثر ، لأنه الأصغر.

قالوا : فلما كبر إسحاق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاما وأمره أن يذهب فيصطاد له صيدا ويطبخه له ؛ ليبارك عليه ويدعو له. وكان العيص صاحب صيد ، فذهب يبتغي ذلك ، فأمرت «رفقا» ابنها يعقوب أن يذبح جديين من خيار غنمه ، ويصنع منهما طعاما كما اشتهاه أبوه ، ويأتي إليه به قبل أخيه ليدعو له ، فقامت فألبسته ثياب أخيه ، وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين ؛ لأن العيص كان أشعر الجسد ويعقوب ليس كذلك. فلما جاء به وقربه إليه قال :

من أنت؟ قال : ولدك : فضمه إليه وجسه وجعل يقول : أما الصوت فصوت يعقوب ، وأما الحس والثياب فالعيص. فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدرا ، وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده ، وأن يكثر رزقه وولده.

٢٠٤

فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره به والده فقربه إليه ، فقال له : ما هذا يا بني؟

قال : هذا الطعام الذي اشتهيته ، فقال : أما جئتني به قبل الساعة وأكلت منه ودعوت لك؟

فقال : لا والله ، وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك ، فوجد في نفسه عليه وجدا كثيرا. وذكروا أنه تواعده بالقتل إذا مات أبوهما ، وسأل أباه فدعا له بدعوات أخرى ، وأن يجعل لذريته غليظ الأرض ، وأن يكثر أرزاقهم وثمارهم.

فلما سمعت أمهما ما يتواعد به العيص أخاه يعقوب ، أمرت ابنها يعقوب أن يذهب إلى أخيها «لابان» الذي بأرض حران ، وأن يكون عنده إلى حين يسكن غضب أخيه ، وأن يتزوج من بناته.

وقالت لزوجها إسحاق أن يأمره بذلك ويوصيه ويدعو له ، ففعل.

فخرج يعقوب عليه‌السلام من عندهم من آخر ذلك اليوم ، فأدركه المساء في موضع فنام فيه ، وأخذ حجرا فوضعه تحت رأسه ونام ، فرأى في نومه ذلك معراجا منصوبا من السماء إلى الأرض ، وإذا الملائكة يصعدون فيه وينزلون ، والرب تبارك وتعالى يخاطبه ، ويقول له : إني سأبارك عليك وأكثر ذريتك ، وأجعل لك هذه الأرض ولعقبك من بعدك.

فلما هب من نومه فرح بما رأى ، ونذر الله لئن رجع إلى أهله سالما ليبنين في هذا الموضع معبدا لله عزوجل ، وأن جميع ما يرزقه من شيء يكون لله عشره.

ثم عمد الى ذلك الحجر فجعل عليه دهنا يتعرفه به ، وسمى ذلك الموضع : «بيت إيل» أي بيت الله وهو موضع بيت المقدس اليوم الذي بناه يعقوب بعد ذلك كما سيأتي.

قالوا : فلما قدم يعقوب على خاله أرض حران ، إذا له ابنتان : اسم الكبرى : «ليا» واسم الصغرى : «راحيل» وكانت أحسنهما وأجملهما ، فأجابه الى ذلك بشرط أن يرعى غنمه سبع سنين.

فلما مضت المدة على خاله «لابان» صنع طعاما وجمع الناس عليه ، وزف إليه ليلا ابنته الكبرى «ليا» ، وكانت ضعيفة العينين قبيحة المنظر. فلما أصبح يعقوب إذا هي «ليا» ، فقال لخاله :

غدرت بي؟ وأنا إنما خطبت إليك راحيل. فقال : إنه ليس من سنتنا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى ، فإن أحببت أختها فاعمل سبع سنين أخرى وأزوجكها.

فعمل سبع سنين وأدخلها عليه مع أختها. وكان سائغا في ملتهم ثم نسخ في شريعة التوراة.

وهذا وحده دليل كاف على وقوع النسخ لأن فعل يعقوب عليه‌السلام دليل على جواز هذا وإباحته ، لأنه معصوم. ووهب «لابان» لكل واحدة من ابنتيه جارية ؛ فوهب ليا جارية اسمها :

«زلفى» ، ووهب لراحيل جارية اسمها : «بلهى».

وجبر الله تعالى ضعف «ليا» بأن وهب لها أولادا ، فكان أول من ولدت ليعقوب ، روبيل ، ثم شمعون ، ثم لاوى ، ثم يهوذا. فغارت عند ذلك «راحيل» وكانت لا تحبل ، فوهبت ليعقوب جاريتها «بلهى» فوطئها فحملت ، وولدت له غلاما سمته «دان» ، وحملت وولدت غلاما آخر

٢٠٥

سمته «نيفتالي». فعمدت عند ذلك «ليا» فوهبت جاريتها «زلفى» من يعقوب عليه‌السلام فولدت له : جاد ، وأشير ، غلامين ذكرين ثم حملت «ليا» أيضا فولدت غلاما خامسا منها وسمته «إيساخر» ثم حملت وولدت غلاما سادسا سمته «زابلون. ثم حملت وولدت بنتا سمتها «دينار» فصار لها سبعة من يعقوب.

ثم دعت الله تعالى «راحيل» وسألته أن يهب لها غلاما من يعقوب فسمع الله نداءها وأجاب دعاءها ، فحملت من نبي الله يعقوب ، فولدت له غلاما عظيما شريفا حسنا جميلا سمته «يوسف».

كل هذا وهم مقيمون بأرض حران ، وهو يرعى على خاله غنمه بعد دخوله على البنتين ست سنين أخرى ، فصارت مدة مقامه عشرين سنة.

فطلب يعقوب من خاله «لابان» أن يسرحه ليمر إلى أهله ، فقال له خاله : إني قد بورك لي بسببك فسلني من مالي ما شئت. فقال : تعطيني كل حمل يولد من غنمك هذه السنة أبقع ، وكل حمل ملمع أبيض بسواد ، وكل أملح ببياض ، وكل أجلح أبيض من المعز فقال : نعم.

فعمد بنوه فأبرزوا من غنم أبيهم ما كان على هذه الصفات من التيوس ، لئلا يولد شيء من الحملان على هذه الصفات. وساروا بها مسيرة ثلاثة أيام عن غنم أبيهم.

قالوا : فعمد يعقوب عليه‌السلام إلى قضبان رطبة بيض من لوز ولب ، فكان يقشرها بلقا ، وينصبها في مساقي الغنم من المياه ، لتنظر الغنم اليها فتفزع وتتحرك أولادها في بطونها ، فتصير ألوان حملانها كذلك.

وهذا يكون من باب خوارق العادات ، وينتظم في سلك المعجزات.

فصار ليعقوب عليه‌السلام أغنام كثيرة ودواب وعبيد ، وتغير له وجه خاله وبنيه ، وكأنهم انحصروا منه.

وأوحى الله إلى يعقوب أن يرجع الى بلاد أبيه وقومه ، ووعده بأن يكون معه ، فعرض ذلك على أهله فأجابوه مبادرين إلى طاعته ، فتحمل بأهله وماله ، وسرقت راحيل أصنام أبيها.

فلما جاوزوا وتحيزوا عن بلادهم ، لحقهم «لابان» وقومه ، فلما اجتمع لابان بيعقوب عاتبه في خروجه بغير علمه ، وهلا أعلمه فيخرجهم في فرح ومزاهر وطبول ، وحتى يودع بناته وأولادهن ، ولم أخذوا أصنامه معهم؟

ولم يكن عند يعقوب علم من أصنامه ، فأنكر أن يكونوا أخذوا له أصناما. فدخل بيوت بناته وإمائهن يفتش فلم يجد شيئا ، وكانت راحيل قد جعلتهن في برذعة الجمل وهي تحتها ، فلم تقم ، واعتذرت بأنها طامث. فلم يقدر عليهن.

٢٠٦

فعند ذلك تواثقوا على رابية هناك يقال لها «جلعاد» على أنه لا يهين بناته ، ولا يتزوج عليهن ، ولا يجاوز هذه الرابية إلى بلاد الآخر ، لا لابان ولا يعقوب ، وعملا طعاما وأكل القوم معهم وتودع كل منهما من الآخر. وتفارقوا راجعين إلى بلادهم.

فلما اقترب يعقوب من أرض «ساعير» تلقته الملائكة يبشرونه بالقدوم. وبعث يعقوب البرد إلى أخيه العيص يترفق له ويتواضع له. فرجعت البرد وأخبرت يعقوب بأن العيص قد ركب إليك في أربعمائة راجل.

فخشي يعقوب من ذلك ، ودعا الله عزوجل وصلى له ، وتضرع إليه وتمسكن لديه ، وناشده عهده ووعده الذي وعد به. وسأله أن يكف عنه شر أخيه العيص. وأعد لأخيه هدية عظيمة وهي : مائتا شاة ، وعشرون تيسا ومائتا نعجة ، وعشرون كبشا ، وثلاثون لقحة ، وأربعون بقرة ، وعشرون من الثيران وعشرون أتانا وعشرة من الحمر. وأمر عبيده أن يسوقوا كلا من هذه الأصناف وحده. وليكن بين كل قطيع وقطيع مسافة ، فإذا لقيهم العيص فقال للأول. لمن أنت؟ ولمن هذه معك؟ فليقل :

لعبدك يعقوب ، أهداها لسيدي العيص وليقل الذي بعده كذلك وكذلك الذي بعده وكذلك الذي بعده ، ويقول كل منهم : وهو جاء بعدنا.

وتأخر يعقوب بزوجتيه وأمتيه وبنيه الأحد عشر بعد الكل بليلتين ، وجعل يسير فيهما ليلا ويكمن نهارا. فلما كان وقت الفجر من الليلة الثانية ، تبدى له ملك من الملائكة في صورة رجل ، فظنه يعقوب رجلا من الناس ، فأتاه يعقوب ليصارعه ويغالبه ، فظهر عليه يعقوب فيما يرى ، إلى أن وأصبح يعقوب الملك أصاب وركه فعرج يعقوب فلما أضاء الفجر قال له الملك : ما اسمك؟ قال : يعقوب.

قال : لا ينبغي أن تدعى بعد اليوم إلا إسرائيل. فقال له يعقوب : ومن أنت؟ وما اسمك؟

فذهب عنه. فعلم أنه ملك من الملائكة ، وأصبح يعقوب وهو يعرج من رجله. فلذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النساء!

ورفع يعقوب عينيه فإذا أخوه العيص قد أقبل في أربعمائة راجل ، فتقدم أمام أهله. فلما رأى أخاه العيص سجد له سبع مرات ، وكانت هذه تحيتهم في ذلك الزمان. وكان مشروعا لهم ؛ كما سجدت الملائكة لآدم تحية له وكما سجد أخوة يوسف وأبوه له كما سيأتي.

فلما رآه العيص تقدم إليه واحتضنه وقبله وبكى ، ورفع العيص عينيه ونظر إلى النساء والصبيان فقال : من أين لك هؤلاء؟ فقال : هؤلاء الذين وهب الله لعبدك ، فدنت الأمتان وبنوهما فسجدوا له. ودنت «ليا» وبنوها فسجدوا له. ودنت «راحيل» وابنها يوسف فخرا سجدا له. وعرض عليه أن يقبل هديته وألح عليه فقبلها.

ورجع العيص فتقدم أمامه ، ولحقه يعقوب بأهله وما معه من الأغنام والمواشي والعبيد قاصدين جبال «ساعير».

٢٠٧

فلما مر بساحور ابتنى له بيتا ، ولدوا به ظلالا ، ثم مر على أورشليم قرية شخيم فنزل قبل القرية ، واشترى مزرعة شخيم بن جمور بمائة نعجة ، فضرب هنالك فسطاطه ، وابتنى ثم مذبحا فسماه «إيل» إله إسرائيل وأمره الله ببنائه ليستعلن له فيه. وهو بيت المقدس اليوم ، الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما‌السلام : وهو مكان الصخرة التي علمها بوضع الدهن عليها قبل ذلك. كما ذكرنا أولا.

وذكر أهل الكتاب هنا قصة «دينا» بنت يعقوب بنت «ليا» وما كان من أمرها مع شخيم بن جمور الذي قهرها على نفسها ، وأدخلها منزله ثم خطبها من أبيها وإخوتها ، فقال إخوتها إلا أن تختتنوا كلكم فنصاهركم وتصاهرونا ، فإنا لا نصاهر قوما غلفا ، فأجابوهم إلى ذلك واختتنوا كلهم. فلما كان اليوم الثالث واشتد وجعهم من ألم الختان ، مال عليهم بنو يعقوب فقتلوهم عن آخرهم ، وقتلوا شخيما وأباه جمور لقبيح ما صنعوا إليهم ، مضافا إلى كفرهم ، وما كانوا يعبدونه من أصنامهم ، فلهذا قتلهم بنو يعقوب وأخذوا أموالهم غنيمة.

ثم حملت راحيل فولدت غلاما هو «بنيامين» إلا أنها جهدت في طلقها به جهدا شديدا وماتت عقيبه ، فدفنها يعقوب في «أفراث». وهي بيت لحم ، وصنع يعقوب على قبرها حجرا ، وهي الحجارة المعروفة بقبر راحيل إلى اليوم. وكان أولاد يعقوب الذكور اثني عشر رجلا .. فمن ليا : روبيل ، وشمعون ، ولاوى ، يهوذا ، وإيساخر ، وزابلون. ومن راحيل : يوسف ، وبنيامين. ومن أمة راحيل : دان ، ونفتالي. ومن أمة ليا : جاد وأشير ، عليهم‌السلام.

وجاء يعقوب إلى أبيه إسحاق فأقام عنده بقرية حبرون التي في أرض كنعان حيث كان يسكن إبراهيم. ثم مرض إسحاق ومات عن مائة وثمانين سنة : ودفنه ابناه : العيص ويعقوب مع أبيه إبراهيم الخليل في المغارة التي اشتراها. كما قدمنا.

٢٠٨

ذكر ما وقع من الأمور العجيبة في حياة إسرائيل فمن ذلك :

قصة يوسف بن راحيل

وقد أنزل الله عزوجل في شأنه وما كان من أمره سورة من القرآن العظيم ، ليتدبر ما فيها من الحكم والمواعظ والآداب والأمر الحكيم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ.) [١٢ / يوسف : ١ ـ ٣]

وقد تكلمنا على الحروف المقطعة في أول تفسير سورة البقرة. فمن أراد تحقيقه فلينظره ثم ، وتكلمنا على هذه السورة مستقصى في موضعها من التفسير. ونحن نذكر هاهنا نبذا مما هناك على وجه الإيجاز والنجاز.

وجملة القول في هذا المقام : أنه تعالى يمدح كتابه العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم ، بلسان عربي فصيح ، بين واضح جلي ، يفهمه كل عاقل ذكي زكي. فهو أشرف كتاب نزل من السماء ، أنزله أشرف الملائكة على أشرف الخلق في أشرف زمان ومكان ، في أصح لغة وأظهر بيان.

فإن كان السياق في الأخبار الماضية أو الآتية ذكر أحسنها وأبينها وأظهر الحق مما اختلف الناس فيه ، ودمغ الباطل وزيفه ورده.

وإن كان في الأوامر والنواهي فأعدل الشرائع وأوضح المناهج ، وأبين حكما وأعدل حكما.

فهو كما قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [٦ / الأنعام : ١١٥]

يعني صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأوامر والنواهي.

ولهذا قال تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) أي بالنسبة إلى ما أوحى إليك فيه.

٢٠٩

كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ.)

[٤٢ / الشورى : ٥٢ ـ ٥٣]

وقال تعالى : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً* مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً* خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً.)

[٢٠ / طه : ٩٩ ـ ١٠١]

يعني من أعرض عن هذا القرآن واتبع غيره من الكتب فإنه يناله هذا الوعيد. كما قال في الحديث المروي في المسند والترمذي عن أمير المؤمنين علي ، مرفوعا وموقوفا : «من ابتغى الهدى في غيره أضله الله».

وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج بن النعمان ، حدثنا هشام ، أنبأنا خالد عن الشعبي ، عن جابر : أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فغضب وقال : «أتهوكون فيها يا بن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه ، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني».

إسناد صحيح.

ورواه أحمد من وجه آخر عن عمر وفيه : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم انتم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين».

وقد أوردت طرق هذا الحديث وألفاظه في أول سورة يوسف. وفي بعضها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب الناس فقال في خطبته : «أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه ، واختصر لي اختصارا ، وقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ، ولا يغرنكم المتهوكون». ثم أمر بتلك الصحيفة فمحيت حرفا حرفا.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ* قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً ، إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

[١٢ / يوسف : ٣ ـ ٦]

وقد قدمنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولدا ذكرا وسميناهم وإليهم تنسب أسباط

٢١٠

بني إسرائيل كلهم ، وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه‌السلام.

وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره ، وباقي إخوته لم يوح إليهم.

وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول.

ومن استدل على نبوتهم بقوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) وزعم أن هؤلاء هم الأسباط فليس استدلاله بقوي ، لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل وما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين ينزل عليهم الوحي من السماء والله أعلم.

ومما يؤيد أن يوسف عليه‌السلام هو المختص من بين أخوته بالرسالة والنبوة ـ أنه ما نص على واحد من إخوته سواه ، فدل على ما ذكرناه.

ويستأنس بهذا بما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عبد الرحمن ، عن عبد الله ابن دينار ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».

انفرد به البخاري. فرواه عن عبد الله بن محمد وعبدة عن عبد الصمد بن عبد الوارث به وقد ذكرنا طرقه في قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته هنا. ولله الحمد والمنة.

قال المفسرون وغيرهم : رأى يوسف عليه‌السلام وهو صغير قبل أن يحتلم ، كأن أحد عشر كوكبا ، وهم إشارة إلى بقية إخوته ، والشمس والقمر وهما عبارة عن أبويه قد سجدوا له ، فهاله ذلك.

فلما استيقظ قصها على أبيه ، فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية ورفعة عظيمة في الدنيا والآخرة ، بحيث يخضع له أبوه وإخوته فيها. فأمره بكتمانها وأن لا يقصها على إخوته ؛ كيلا يحسدوه ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر.

وهذا يدل على ما ذكرناه.

ولهذا جاء في بعض الآثار «استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها ، فإن كل ذي نعمة محسود».

وعند أهل الكتاب أنه قصها على أبيه وإخوته معا. وهو غلط منهم.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي وأراك هذه الرؤيا العظيمة ، فإذا كتمتها «يجتبيك ربك» أي يخصك بأنواع اللطف والرحمة ، (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي يفهمك من معاني الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمه غيرك.

٢١١

(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي بالوحي إليك (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) أي بسببك ، ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة. (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) أي ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة ، كما أعطاها أباك يعقوب ، وجدك إسحاق ، ووالد جدك إبراهيم الخليل ، (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

لهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سئل : أي الناس أكرم؟ قال : «يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله».

وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما ، وأبو يعلي والبزار في مسنديهما ، من حديث الحكم بن ظهير ـ وقد ضعفه الأئمة ـ عن السدي عن عبد الرحمن بن سابط ، عن جابر قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من اليهود يقال له : بستانة اليهودي ، فقال : يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها؟ قال : فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يجبه بشيء ، ونزل جبريل عليه‌السلام بأسمائها؟ قال : فبعث إليه رسول الله فقال : «هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها؟» قال : نعم. فقال : هي جريان ، والطارق ـ والذيال ، وذو الكتفان ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والضروح ، وذو الفرع. والضياء والنور».

فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها. وعند أبي يعلى ؛ فلما قصها على أبيه قال : هذا أمر مشتت يجمعه الله ، والشمس أبوه والقمر أمه.

* * *

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ* إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ، إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ * قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ : لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ، وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ)

[١٢ / يوسف : ٧ ـ ١٠]

ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم ، والدلالات والمواعظ والبينات. ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولأخيه ـ يعنون شقيقه لأمه بنيامين ـ أكثر منهم ، وهم عصبة أي جماعة يقولون : فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي بتقديمه حبهما علينا.

ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها ، ليخلوا لهم وجه أبيهم أي لتتمحض محبته لهم تتوفر عليهم ، وأضمروا التوبة بعد ذلك.

فلما تمالئوا على ذلك وتوافقوا عليه (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) قال مجاهد : هو شمعون ، وقال السدي : هو يهوذا ، وقال قتادة ومغمد بن إسحاق : هو أكبرهم روبيل : (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ

٢١٢

فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) أي المارة من المسافرين (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ما تقولون لا محالة ، فليكن هذا الذي أقول لكم ، فهو أقرب حالا من قتله ، أو نفيه وتغريبه.

فأجمعوا رأيهم على هذا ، فعند ذلك (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ* أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ* قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ* قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ). طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف ، وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم ، وأن يلعب وينبسط ، وقد أضمروا له ما الله به عليم.

فأجابهم الشيخ ، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم : يا بني يشق على أن أفارقه ساعة من النهار ، ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه ، فيأتي الذئب فيأكله ، ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه.

(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) أي لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا ، أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة ، إنا إذا لخاسرون ، أي عاجزون هالكون.

وعند أهل الكتاب : أنه أرسله وراءهم يتبعهم ، فضل عن طريق حتى أرشده رجل إليهم ، وهذا أيضا من غلطهم وخطئهم في التعريب ؛ فإن يعقوب عليه‌السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم ، فكيف يبعثه وحده.

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ* قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ، وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ* وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ* وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ).

لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم ، فما كان إلا أن غابوا عن عينيه ، فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال ، وأجمعوا على إلقائه في غيابة الجب ، أي في قعره على راعونته ، وهي الصخرة التي تكون في وسطه يقف عليها الماتح ، وهو الذي ينزل ليملأ الدلاء إذا قل الماء ، والذي يرفعها بالحبل يسمى الماتح.

فلما ألقوه فيه ، أوحى الله إليه : أنه لا بد لك من فرج ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها ، ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا في حال أنت فيها عزيز ، وهم محتاجون إليك خائفون منك ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)

قال مجاهد وقتادة : وهم لا يشعرون بإيحاء الله إليه ذلك ، وعن ابن عباس : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يعرفونك فيها رواه ابن جرير عنه.

٢١٣

فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه ، أخذوا قميصه فلطخوه بشيء من دم ، ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون ، أي على أخيهم. ولهذا قال بعض السلف : لا يغرنك بكاء المتظلم فرب ظالم وهو باك! وذكر بكاء إخوة يوسف وقد جاءوا أباهم عشاء يبكون ، أي في ظلمة الليل ؛ ليكون أمشى لغدرهم لا لعذرهم.

(قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أي ثيابنا (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) أي في غيبتنا عنه في استباقنا. وقولهم (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) أي وما أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له ، ولو كنا غير متهمين عندك. فكيف وأنت تتهمنا في هذا؟ فإنك خشيت أن يأكله الذئب ، وضمنا لك ألا يأكله لكثرتنا حوله ، فصرنا غير مصدقين عندك ، فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه.

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) أي مكذوب مفتعل ؛ لأنهم عمدوا إلى سخلة ذبحوها ، فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه ، ليوهموه أنه أكله الذئب. قالوا : ونسوا أن يخرقوه ، وآفة الكذب النسيان! ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يرج صنيعهم على أبيهم ؛ فإنه كان يفهم عداوتهم له ، وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم ، لما كان يتوسم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره ، لما يريد الله أن يخصه به من نبوته. ولما راودوه عن أخذه فبمجرد أن أخذوه أعدموه ، وغيبوه عن عينيه جاءوا وهم يتباكون ، على ما تمالؤوا يتواطؤون. ولهذا (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ* وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ).

وعند أهل الكتاب : أن روبيل أشار بوضعه في الجب ليأخذه من حيث لا يشعرون ويرده إلى أبيه ، فغافلوه وباعوه لتلك القافلة. فلما جاء روبيل آخر النهار ليخرج يوسف لم يجده ، فصاح وشق ثيابه ، وعمد أولئك إلى جدي فذبحوه ، ولطخوا من دمه جبة يوسف ، فلما علم يعقوب شق ثيابه ، ولبس مئزرا أسود وحزن على ابنه أياما كثيرة.

وهذه الركاكة جاءت من خطئهم في التعبير والتصوير.

* * *

وقال تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ* وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ* وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.)

[١٢ / يوسف : ١٩ ـ ٢٢]

يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب : أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به ،

٢١٤

فجاءت سيارة ، أي مسافرون. قال أهل الكتاب : كانت بضاعتهم من الفستق والصنوبر والبطم قاصدين ديار مصر من الشام ، فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر ، فلما أدلى أحدهم دلوه تعلق فيه يوسف.

فلما رآه ذلك الرجل (قالَ يا بُشْرى) أي يا بشارتي (هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) أي أوهموا أنه معهم غلام من جملة متجرهم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي هو عالم بما تمالأ عليه إخوته ، وبما يسره واجدوه من أنه بضاعة لهم. ومع هذا لا يغيره تعالى ، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة والقدر السابق والرحمة بأهل مصر. بما يجري الله على يدي هذا الغلام الذي يدخلها في صورة أسير رقيق ، ثم بعد هذا يملكه أزمة الأمور وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم ، بما لا يحد ولا يوصف.

ولما استشعر إخوة يوسف بأخذ السيارة له لحقوهم ، وقالوا هذا غلامنا أبق منا ، فاشتروه منهم بثمن بخس ، أي قليل نزر ، وقيل هو الزيف (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)

قال ابن مسعود وابن عباس ونوف البكالي والسدي وقتادة وعطية العوفي : باعوه بعشرين درهما ، اقتسموها درهمين. وقال مجاهد : اثنان وعشرون درهما. وقال عكرمة ومحمد بن إسحاق :

أربعون درهما. والله أعلم.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ) أي أحسني إليه (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ، وهذا من لطف الله به ورحمته وإحسانه إليه ، بما يريد أن يؤهله له ويعطيه من خير الدنيا والآخرة.

قالوا : وكان الذي اشتراه من أهل مصر عزيزها وهو الوزير بها ، الذي الخزائن مسلمة اليه.

قال ابن إسحاق : واسمه إطفير بن روحيب قال : وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد ، رجل من العماليق. قال : واسم امرأة العزيز : «راعيل» بنت رماييل. وقال غيره : كان اسمها «زليخا» والظاهر أنه لقبها. وقيل «فكا» بنت ينوس ، رواه الثعلبي عن ابن هشام الرفاعي.

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن السائب ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : كان اسم الذي باعه بمصر ـ يعني الذي جلبه إليها ـ مالك بن زعر بن نويت بن مديان بن إبراهيم. فالله أعلم.

وقال ابن إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود قال : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر حين قال لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) ، والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) ، وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

ثم قيل : اشتراه العزيز بعشرين دينارا ، وقيل بوزنه مسكا ووزنه حريرا ووزنه ورقا. فالله أعلم.

٢١٥

وقوله : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي وكما قيضنا هذا العزيز وامرأته يحسنان إليه ويعتنيان به مكنا له في أرض مصر (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي فهمها ، وتعبير الرؤيا من ذلك. (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي إذا أراد شيئا فإنه يقيض له أسبابا وأمورا لا يهتدي إليها العباد. ولهذا قال تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). فذل على أن هذا كله كان وهو قبل بلوغ الأشد ، وهو حد الأربعين الذي يوحى الله فيه الى عباده النبيين ، عليهم الصلاة والسلام من رب العالمين.

وقد اختلفوا في مدة العمر الذي هو بلوغ الأشد : فقال مالك وربيعة وزيد بن أسلم والشعبي : هو الحلم. وقال سعيد بن جبير : ثماني عشرة سنة. وقال الضحاك : عشرون سنة.

وقال عكرمة : خمس وعشرون سنة. وقال السدي : ثلاثون سنة. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة :

ثلاث وثلاثون سنة. وقال الحسن : أربعون سنة ، ويشهد له قوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً).

(وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ، وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون* ولقد همت به وهم بها لو لا أن رأى برهان ربه ، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين* واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر ، وألفيا سيدها لدى الباب ، قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم* قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها : إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين* وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين* فلما رأى قميصه قد من دبر ، قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم* يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين)

[١٢ / يوسف ٢٣ ـ ٢٩]

يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه‌السلام عن نفسه وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه ، وهي في غاية الجمال والمال. والمنصب والشباب. وكيف غلقت الأبواب عليها وعليه ، وتهيأت له وتصنعت ـ ولبست أحسن ثيابها وأفخر لباسها ، وهي مع هذا كله امرأة الوزير.

قال إبن إسحاق : وبنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر.

وهذا كله مع أن يوسف عليه‌السلام شاب بديع الجمال والبهاء ، إلا أنه نبي من سلالة الأنبياء ، فعصمه ربه من الفحشاء ، وحماه عن مكر النساء ، فهو سيد السادة النجباء ، السبعة الأتقياء ، المذكورين في الصحيحين عن خاتم الأنبياء ، في قوله عليه الصلاة والسلام من رب الأرض والسماء : «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ؛ ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، وشاب

٢١٦

نشأ في عبادة الله ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله» (١).

والمقصود أنها دعته إليها وحرصت على ذلك أشد الحرص ، فقال : (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي) يعني زوجها صاحب المنزل سيدي «أحسن مثواي» أي أحسن إليّ وأكرم مقامي عنده (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وقد تكلمنا عن قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) بما فيه كفاية ومقنع في التفسير.

وأكثر أقوال المفسرين هاهنا متلقى من كتب أهل الكتاب ، فالإعراض عنه أولى بنا.

والذي يجب أن يعتقد : أن الله تعالى عصمه وبرأه ، ونزهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها ، ولهذا قال تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ).

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي هرب منها طالبا الباب ليخرج منه فرارا منها فاتبعته في أثره (وَأَلْفَيا) أي وجدا (سَيِّدَها) أي زوجها لدى الباب ، فبدرته بالكلام وحرضته عليه ، (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) اتهمته وهي المتهمة ، وبرأت عرضها ونزهت ساحتها. فلهذا قال يوسف عليه‌السلام : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) ، احتاج إلى أن يقول الحق عند الحاجة.

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها). قيل كان صغيرا في المهد. قاله ابن عباس وروي عن أبي هريرة وهلال بن يساف والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك. واختاره ابن جرير ، وروى فيه حديثا مرفوعا عن ابن عباس ، ووقفه غيره عنه.

وقيل كان رجلا قريبا إلى «قطفير» بعلها ، وقيل قريبا إليها. وممن قال إنه كان رجلا : ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وزيد بن أسلم.

فقال : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي لأنه يكون قد راودها فدافعته حتى قدت مقدم قميصه (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي لأنه يكون قد هرب منها فاتبعته وتعلقت فيه فانشق قميصه لذلك ، وكذلك كان. ولهذا قال تعالى : (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) أي هذا الذي جرى من مكركن ، أنت (٢) راودتيه عن نفسه ، ثم اتهمتيه بالباطل.

ثم أضرب بعلها عن هذا صفحا فقال : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) أي لا تذكره لأحد ، لأن كتمان مثل هذه الأمور هو الأليق والأحسن وأمرها بالاستغفار لذنبها الذي صدر منها ، والتوبة إلى ربها ، فإن العبد الذى إذا تاب إلى الله تاب الله عليه.

__________________

(١) الحديث رواه البخاري في صحيحه (١٠ / ٣٦ / ٦٦٠ ـ فتح). كما رواه أيضا في (٢٤ / ١٦) ، (٨١ / ٢٤) ، (٨٦ / ١٩). ورواه مسلم في صحيحه (١٢ / ٣٠ / ٩١). ورواه الترمذي في سننه (٣٧ / ٥٣ / ٢٣٩١). ورواه النسائي (٤٩ / ٢). ورواه مالك في الموطأ (٥١ / ١٤). ورواه أحمد في مسنده (٢ / ٤٣٩ / حلبي).

(٢) و : أنت الذي.

٢١٧

وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الأصنام ، إلا أنهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له في ذلك. ولهذا قال لها بعلها ، وعذرها من بعض الوجوه ؛ لأنها رأت مالا صبر لها على مثله ، إلا أنه عفيف نزيه (١) بريء العرض سليم الناحية فقال : (اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ).

* * *

قال تعالى :

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ* قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ* قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ* فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.)

[١٢ / يوسف : ٣٠ ـ ٣٤]

يذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة ، من نساء الأمراء وبنات الكبراء في الطعن على امرأة العزيز وعيبها ، والتشنيع عليها في مراودتها فتاها ، وحبها الشديد له ، وهو لا يساوي هذا ؛ لأنه مولى من الموالي وليس مثله أهلا لهذا. ولهذا قلن : (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في وضعها الشيء في غير محله.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) أي بتشنيعهن عليها والتنقص لها ، والإشارة إليها بالعيب والمذلة بحب مولاها وعشق فتاها ، فأظهرن ذما وهي معذورة في نفس الأمر ، فلهذا أحب أن تبسط عذرها عندهن ، وتبين أن هذا الفتى ليس كما حسبن ، ولا من قبيل ما لديهن. فأرسلت إليهن فجمعتهن في منزلها ، وأعتدت لهن ضيافة مثلهن ، وأحضرت من جملة ذلك شيئا مما يقطع بالسكاكين ، كالأترج ونحوه ، وآتت كل واحدة منهن سكينا ، وكانت قد هيأت يوسف عليه‌السلام ، وألبسته أحسن الثياب وهو في غاية طراوة الشباب (٢) وأمرته بالخروج عليهن بهذه (٣) الحالة ، فخرج وهو أحسن من البدر على محالة.

(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أي أعظمنه وأجللنه وهبنه ، وما ظنن أن يكون مثل هذا في بني آدم ،

__________________

(١) و : وكان في غاية طراوة الشباب.

(٢) و : نزه.

(٣) و : في هذه.

٢١٨

وبهرهن حسنه حتى اشتغلن عن أنفسهن ، وجعلن يحززن في أيديهن بتلك السكاكين ولا يشعرن بالجراح ، وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم.

وقد جاء في حديث الإسراء : «فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن».

قال السهيلي وغيره من الأئمة : معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه‌السلام ، لأن الله تعالى خلق آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه ، فكان في غاية نهاية الحسن البشري. ولهذا يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم وحسنه. ويوسف كان على النصف من حسن آدم. ولم يكن بينهما أحسن منهما ؛ كما أنه لم تكن أنثى بعد حواء أشبه بها من سارة امرأة الخليل عليه‌السلام.

قال ابن مسعود : وكان وجه يوسف مثل البرق ، وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطى وجهه.

وقال غيره : كان في الغالب مبرقعا لئلا يراه الناس. ولهذا لما قام عذرن (١) امرأة العزيز في محبتها لهذا المعنى المذكور ، وجرى لهن وعليهن ما جرى ؛ من تقطيع أيديهن بجراح السكاكين ، وما ركبهن من المهابة والدهش عند رؤيته ومعاينته.

(قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) ثم مدحته بالعفة (٢) التامة فقالت : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي امتنع (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ).

وكان بقية النساء حرضنه على السمع والطاعة لسيدته ، فأبى أشد الإباء ، ونأى لأنه من سلالة الأنبياء ، ودعا فقال في دعائه لرب العالمين : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) يعني إن وكلتني إلى نفسي ، فليس لي من نفسي إلا العجز والضعف ، ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله. فأنا ضعيف إلا ما قويتني وعصمتني وحفظتني ، وحطتني بحولك وقوتك.

ولهذا قال تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ* وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ* يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ* ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ

__________________

(١) م : عذر.

(٢) م : بالعصمة.

٢١٩

الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ.)

[١٢ / يوسف : ٣٤ ـ ٤١]

يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم ، أي ظهر لهم من الرأي (١) بعدما علموا براءة يوسف أن يسجنوه إلى وقت ؛ ليكون ذلك أقل لكلام الناس في تلك القضية ، وأحمد لأمرها ، وليظهروا أنه راودها عن نفسها فسجن بسببها ، فسجنوه ظلما وعدوانا.

وكان هذا مما قدر الله له ، ومن جملة ما عصمه به ؛ فإنه أبعد له عن معاشرتهم ومخالطتهم.

ومن هنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعي : أن من العصمة أن لا تجد!.

قال الله : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ). قيل : كان أحدهما ساقي الملك واسمه فيما قيل «نبوا» والآخر ـ خبازه ، يعني الذي يلي طعامه ، وهو الذي يقول له الترك : «الجاشنكير» واسمه فيما قيل : «مجلث» وكان الملك قد اتهمهما في بعض الأمور فسجنهما. فلما رأيا يوسف في السجن أعجبهما سمته (٢) وهديه ، ودله وطريقته ، وقوله وفعله ، وكثرة عبادته ربه ، وإحسانه إلى خلقه ، فرأى كل واحد منهما رؤيا تناسبه.

قال أهل التفسير : رأيا في ليلة واحدة. أما الساقي فرأى كأن ثلاث قضبان من حبلة وقد أورقت وأينعت عناقيد العنب ، فأخذها فاعتصرها في كأس الملك وسقاه. ورأى الخباز على رأسه ثلاث سلال من خبز ، وضواري الطيور تأكل (٣) من السل الأعلى.

فقصاها عليه وطلبا منه أن يعبرها لهما وقالا : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). فأخبرهما أنه عليم بتعبيرها خبير بأمرها ، (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما). قيل :

معناه مهما رأيتما من حلم فإني أعبره لكما قبل وقوعه فيكون كما أقول. وقيل : معناه أني أخبركما بما يأتيكما من الطعام قبل مجيئه حلوا وحامضا ، كما قال عيسى : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ).

وقال لهما : إن هذا من تعليم الله إياي ، لأني مؤمن به موحد له ، متبع ملة آبائي الكرام :

إبراهيم الخليل ، وإسحاق ويعقوب. (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ، ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) أي بأن هدانا لهذا ، (وَعَلَى النَّاسِ) أي بأن أمرنا أن ندعوهم إليه ونرشدهم وندلهم عليه وهو في فطرهم مركوز ، وفي جبلتهم مغروز (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).

ثم دعاهم الى التوحيد وذم عبادة ما سوى الله عزوجل ، وصغر أمر الأوثان وحقرها ، وضعف أمرها فقال :

__________________

(١) و : المرائي.

(٢) و : سميته.

(٣) و : تأخذ.

٢٢٠