تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

وقالت الأشعرية : إن إرادة المأمور به غير شرط ؛ لأن الله تعالى أمر الكفار بالإسلام ولم يرده ممن لم يسلم بناء على أصلهم من أن الإرادة من الله سبحانه وتعالى تعلق بالكائنات.

وأما أحكام الأمر : فله أحكام منها :

أن لفظة «افعل» تقتضي الوجوب حقيقة ، وهي مجاز في غيره ، من الندب كقوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ) [النور : ٣٣] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التأديب : (كل مما يليك) والإرشاد إلى منافع الدنيا كقوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا) [البقرة : ٢٨٢] وقوله : (فَاكْتُبُوهُ) [البقرة : ٢٨٢].

والإباحة كقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة : ٦٠] والتهديد كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠](وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) [الإسراء : ٦٤] والإنذار كقوله تعالى (١) : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم : ٣٠] والامتنان كقوله تعالى : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) [المائدة : ٨٨] والإكرام كقوله تعالى : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) [الحجر : ٤٦] والتسخير كقوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥] والتعجيز كقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) [البقرة : ٢٣] والإهانة كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] (٢) والتسوية كقوله تعالى : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) [الطور : ١٦] والتكوين كقوله تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة : ١١٧] والدعاء كقول القائل : اللهم اغفر لي (٣).

وهذا قول كثير من الفقهاء والمتكلمين ، كأبي الحسين ، وابن

__________________

ـ والذي قدمه هل يتم ذلك بجميع الحروف ، أو بآخرها ، أو بأولها ، وفيه كلام قدمه وأجاب عنه ابن الخطيب بما لا يشفي.

(١) في نسخة أ (والانذار كقوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً).

(٢) وفي التلخيص (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً).

(٣) والالتماس ، كقولك لمن يساويك رتبة : افعل ، بدون استعلاء. تلخيص المفتاح.

٦١

الملاحمي ، وأحد قولي أبي علي ، والحاكم أبي سعيد (١) ، وأبي القاسم البلخي (٢) ، وهو قول أبي طالب ، والمنصور بالله ، والقاضي جعفر ،

__________________

(١) المحسن بن محمد بن كرامة ، الجشمي البيهقي الحاكم المتكلم المعتزلي ، ثم الزيدي ، وجشم بلدة من خراسان ، ولد في رمضان سنة ٤١٤ ه‍ وكان علامة في فنون كثيرة ، ومصنفاته اثنان وسبعون كتابا حافلة ، منها في علم الكلام العيون ، وشرحه ، والرد على المجبرة ، ورسالة الشيخ ابليس إلى إخوانه المناحيس ، وكتاب المؤثرات وغيرها ، وفي الحديث : جلاء الأبصار مسند ، وليس بذاك في الحديث ، وتنبيه الغافلين على فضائل الطالبيين ، وليس له نظير في الآيات الواردة في أمير المؤمنين وأولاده وغيرهما ، وفي علم التاريخ كتاب السفينة ، وليس مثله في كتب الأصحاب ، جمع سيرة الأنبياء ، وسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرة الصحابة ، العترة إلى زمانه ، وذكر من اتفق على إمامته ، ومن اختلف فيه ، وفيها فنون أخر ، وهي أربعة مجلدة ، وغيرها في الفن وفي علم التفسير كتاب التهذيب المشهور ، المتميز من بين التفاسير بالترتيب الأنيق ، فإنه يورد الآية كاملة ، ثم يقول : القراءة ، ويذكرها ، ويميز السبع من غيرها ، ثم يقول : اللغة ، ويذكرها ، ثم يقول : الإعراب ، ويذكره ، ثم يقول : النظم ، ويذكره ، ثم يقول : المعنى ، ويذكره ، ويذكر أقوالا متعددة ، وينسب كل قول إلى قائله من المفسرين ، ثم يقول : النزول ، ويذكر سببه ، ثم يقول الأحكام ، ويستنبط أحكاما كثيرة ، من الآية ، وله غير ذلك ، ذكرها القاضي أحمد بن سعد الدين ، عاصر الإمام المرشد بالله ، وكان الإمام أكبر منه بسنتين ، وتوفي قبل الإمام بنحوها ، وله مشائخ عدة ، أكثر في الرواية عن الشيخ أبي حامد محمد بن أحمد ، وارتحل إليه القاضي إسحاق بن عبد الباعث سنة ٤٤١ ه‍ وأخذ عنه ، وهو يروي عن الإمام إبراهيم يطالب بوساطة رجل ، وتفسير الكشاف قيل : من تفسير الحاكم ، بزيادة تعقيد ، والله أعلم ، وكنيته أبو سعد ، ويقال : أبو سعيد ، وقتل في ٣ شهر رجب بمكة سنة ٤٩٤ ه‍ خرج له المنصور بالله ، والفقيه حميد.

(٢) أبو القاسم هو : عبيد الله بن أحمد بن محمود العكي ، أبو القاسم البلخي ، المعتزلي ، إمام معتزلة بغداد ، أخذ الكلام عن أبي الحسين عبد الرحيم بن محمد الخياط ، وروى الحديث قليلا ، وليس بذاك فيه ، له كتاب السند ، وله كتاب الطبقات ، والمقالات ، صحب الإمام محمد بن زيد الداعي ، وكتب له ، وقال : ـ

٦٢

والشيخ الحسن (١) ، وإن اختلفوا هل اقتضاؤه للإيجاب لغة وشرعا ، أو شرعا ، ودليل هؤلاء قوله تعالى : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [طه : ٩٣].

والعصيان يوجب العقاب بدليل : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) [النساء : ١٤] وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) [المرسلات : ٤٨] ذمهم على ترك ما قيل لهم ؛ ولأنهم أجمعوا على أن قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) [الأنعام : ٧٢] اقتضى وجوب الصلاة ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك).

وقال أبو هاشم ، وأحد قولي أبي علي ، وقاضي القضاة (٢) : إن الأمر حقيقة في الندب ، ولا يقتضي الوجوب إلا لقرينة ، وهذا مروي عن الشافعي ، وروي عنه أيضا : أنها للوجوب.

__________________

ـ ما كتبت لأحد إلا استصغرت نفسي إلا محمد بن زيد ، فكأني أكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصحب الناصر ، وأخذ عنه علم الكلام الهادي إلى الحق يحي بن الحسين ، ذكره يحي بن حميد ، توفي ببلخ في أيام المقتدر سنة ٣١٧ ه‍.

(١) الشيخ الحسن هو : الحسن بن محمد بن أبي طاهر الحسن بن أبي بكر أحمد بن إبراهيم الرصاص ، أبو محمد ، وأبو علي ، الإمام المتكلم الحجة ، أحد شيوخ الزيدية المتبحرين ، المحصلين ، شيخ المنصور بالله ، أثنى عليه غيره ، وقال في رسالة : لا أعلم على وجه الأرض أعلم منه ، قرأ الشيخ على أبي جعفر وهو صغير في خمس عشرة سنة ، وله مؤلفات منها : الثلاثين المسألة ، التي شرح عليها ابن حابس ، والكيفية ، والتحصيل ، والفائق ، في أصول الفقه ، والقاطف للوتين ، وغير ذلك ، وكان المنصور بالله يخرج إليه من صنعاء إلى سناع ليلا لمسائل ومشكلات ، وهو المعلل حلول الأعراض بالفاعل ، وكتبت المسألة على لوح قبره ، ولما مات قال رجل : أتفرحون بموت رجل كان يرد على اثنتين وسبعين فرقة ، ولما مات قيل : مات علم الكلام ، وله كتاب المؤثرات ، وفاته سنة ٥٨٤ ه‍.

(٢) قاضي القضاة هو : القاضي عبد الجبار ، تقدمت ترجمته ، وإذا أطلق في كتب العدلية فهو هذا.

٦٣

وقيل : إن لفظة «افعل» مشتركة بين الوجوب والندب.

وقيل : مشتركة بين الوجوب والندب والاباحة.

وقالت الامامية : إنها مشتركة بين هذه وبين التهديد.

ومنهم من توقف كالأشعري ، والباقلاني ، وبعض المعتزلة.

أما لو وردت عقيب حظر فقال أبو الحسين ، وقاضي القضاة ، ومال إليه الشيخ الحسن : إنها للوجوب أيضا (١).

وقال الأكثر : للإباحة ، كقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] وقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١٠].

قال قاضي القضاة : إنما كان هذا للإباحة ؛ لأن الأمة علمت من قصد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة أنها مباحة ، إلا لعروض الإحرام والاشتغال بالصلاة.

ومن أحكام الأمر ـ هل يدل على الفور ، أو التراخي ، وهل يدل على التكرار أم لا؟ وهل الأمر بواحد من أشياء يقتضي جميعها أم لا؟.

وهل يقتضي وجوب ما لا يتم الواجب إلا به؟ وهل يقتضي قبح ما منع من أداء الفعل [الواجب]؟ وهل الأمر بالشيء نهي عن ضده أم لا؟ وهل يبقى الأمر المؤقت بوقت إذا فات الوقت (٢) ، وهل يتعلق الوجوب بأول الوقت ، أو بآخره؟ أو بجميعه (٣)؟ وستظهر فوائد تكشف عن هذه

__________________

(١) ولفظ الفصول ١٣٤ (ويقتضي الأمر الوجوب بعد الحظر العقلي باتفاق ، واختلف فيه بعد الحظر الشرعي ، فعند أئمتنا والمعتزلة ، وبعض الأشعرية ، والفقهاء أنه للوجوب (جمهور الفقهاء) بل للإباحة ، وتوقف الجويني ، وقال الغزالي : إن كان الحظر أصليا فالأمر بعده للوجوب ، وإن كان عارضا فللإباحة ، وعليه يحمل إطلاق الأولين.

(٢) هذه المسألة هي في كون وجوب القضاء بأمر غير أمر الأداء.

(٣) في نسخة ب (وهل يتعلق الوجوب بأول الوقت أم بآخره ، أم بجميعه).

٦٤

الأحكام وغيرها ـ إن شاء الله تعالى ـ وإن كان موضع ذلك الكتب الأصولية ففي هذا إشارة إلى أن المستثمر للحكم من الآية لا ينبغي غفلته عن هذه الأحكام ، بل يلزمه استحضارها.

وأما النهي

فحقيقته : هو قول يقتضي من الغير الكف عن الفعل على جهة الاستعلاء ، وقيل : هو قول القائل لغيره : لا تفعل على جهة الاستعلاء.

وللنهي أحكام منها :

أن النهي يقتضي التحريم للمنهي عنه (١) ، على قول من قال : الأمر للوجوب ، بدليل قوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] والأمر للوجوب.

ومن قال : إن الأمر للاستحباب قال : النهي للكراهة ، ومن قال : الأمر مشترك بين الوجوب والندب قال : النهي مشترك بين التحريم والكراهة ، وقد تقدم ذلك

ومنها : أن النهي يقتضي الدوام والتكرار ، وقد يدعى أن ذلك إجماع ، والدليل على ذلك استدلال العلماء مع اختلاف الأوقات على النهي يقتضي الدوام.

ومنهم من قال : إنه لا يقتضي الدوام ، وإلى هذا ذهب الفخر الرازي ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تصل الحائض ولا تصم) وليس المراد التأبيد ، أما لو كان النهي مقيدا بصفة فالأكثر أنه يقتضي الدوام أيضا ، لأن الصفة لم تغيره.

وعن أبي عبد الله البصري ، والحاكم : أنه لا يقتضي الدوام ، إذا كان معلقا بصفة ، كقول القائل : «لا تشتر لحما سمينا».

__________________

(١) أئمتنا والجمهور : وهو حقيقة في الحظر مجاز فيما عداه (فصول ١٤٧).

٦٥

وإذا كان مقتضيا للدوام لم يعقل فيه التراخي.

ومن أحكام النهي : اقتضاؤه للفساد ، وقد اختلف في ذلك على أقوال ، فقال بعض أصحاب أبي حنيفة ، وبعض أصحاب الشافعي : إن النهي يقتضي الفساد ، وهذا مذهب أهل الظاهر ، ومعنى الفساد أنه لا يقع موقع الصحيح في أحكامه الشرعية ، من إجزاء أو غيره ، والحجة لهؤلاء : أن الصحابة [عليهم‌السلام] (١) كانت إذا سمعت نهيا عن شيء قضت بفساده ، كما حكمت بفساد بيع درهم بدرهمين ، ونكاح المحرم ، والشغار ، والمتعة ، وبأن المنهي عنه ليس بدين ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).

وقال بعض الحنفية ، وبعض أصحاب الشافعي : إنه لا يدل على الفساد ، وهو اختيار الحاكم ، وبه قال الشيخ أبو عبد الله (٢) ، وقاضي القضاة ، والحجة أن في الشريعة أشياء منهيا عنها مع ثبوت أحكامها ، وهذا مثل غسل النجاسة بالماء المغصوب ، والذبح بالسكين المغصوب ، والوطء في زمن الحيض ، فإنه يوجب المهر ، وغير ذلك.

وقال الشيخ أبو الحسين البصري : إنه يقتضي الفساد في العبادات لا في المعاملات ، وهذا اختيار القاضي شمس الدين (٣) ، والشيخ الحسن ،

__________________

(١) ما بين قوسي الزيادة ثابت في نسخة أ.

(٢) أبو عبد الله هو : الحسين بن عبد الله البصري ، الشيخ أبو عبد الله المرشد المتكلم ، من المعتزلة البهشمية ، من المفضلين لعلي عليه‌السلام ، وله كتاب في تفضيل أمير المؤمنين على غيره ، أخذ عنه علم الكلام قاضي القضاة ، والسيد أبو طالب ، وأبو عبد الله الداعي ، وكان زاهدا متقدما على أقرانه ، وله مؤلفات كثيرة ، توفي سنة سبع وستين وثلاثمائة.

(٣) هو القاضي جعفر بن أحمد بن يحي عبد السلام بن أبي يحي الأبناوي ، البهلولي ، الزيدي ، القاضي شمس الدين ، قال في المستطاب : هو إمام الزيدية ، وعالمها وإمامها ومسندها ، وكان أبوه عالم المطرفية ، وأخوه شاعرهم ، فهداه الله من ـ

٦٦

والرازي (١) ، وأشار إليه ابن الحاجب.

والحجة لهذا أن النهي من الحكيم يقتضي قبح المنهي عنه ، ومن حق العبادة أن تكون حسنة ، ومرادة لله تعالى (٢) ، وليس كذلك ما كان من باب المعاملات ، وهذا إذا كان النهي عن الشيء لعينه كبيع الغرر ،

__________________

ـ بينهم ، ارتحل لطلب العلم إلى العراق ، ولم ينقلب إلا وهو أعلم من هو فيه ، وكان من أعضاد المتوكل أحمد بن سليمان ، وكان له العناية العظمى في إزالة مذهب المطرفية ، قيل : على أهل اليمن نعمتان لرجلين ، الأولى للهادي عليه‌السلام أخرجهم من الجبر ، والثانية للقاضي جعفر لإخراجهم من التطريف ، وفي مطلع البدور : هو شيخ الإسلام ، ناصر الملة ، شمس الدين ، وارث علوم الأئمة ، شيخ الزيدية ، وعالمهم ، ومحدثهم ، طال ما مدحه المنصور بالله فيقول : قال العالم ، وهو الذي أخرج كتب الأئمة الحديثية ، ووصل اليمن بخمسة وعشرين ألف حديث.

من كتبه الكثير في الرد على المطرفية ، وله النكت وشرحها ، وإبانة المناهج نصيحة الخوارج ، ومقاود الإنصاف [في الرد على المطرفية] والبالغة في أصول الفقه ، ومصنفاته إلى أربعين فصاعدا ، وأخذ عليه أمة من السادة ، والعلماء منهم الإمام المتوكل [على الله أحمد بن سليمان] والأميرين بدر الدين ، وشمس الدين ، وغيرهم ، والشيخ الحسن الرصاص ، وسليمان بن ناصر ، ومحي الدين بن الوليد وغيرهم ، ولم يزل مدرسا بسناع حده حتى توفي سنة ٥٧٣ ه‍ وقبره بها مشهور.

(١) الرازي هو : أحمد بن علي الرازي أبو بكر الجصاص ، الحنفي ، قال المنصور بالله : لم يكن قبله ولا بعده في الفقهاء مثله ورعا وتصنيفا ، وزهدا ، وحمل على أن يتولى فأبى من ذلك ، وتهدد فأبى ، وله مصنفات كثيرة ، وشرح كتب محمد بن الحسن ، وكان يأمر غيره بكتب كتب الفقه ، ويكتب كتب الكلام بخطه ، ويقول : أتقرب إلى الله بذلك» ذكره المنصور بالله في طبقات المعتزلة ، توفي سنة سبعين وثلاثمائة.

(٢) في الفصول ١٤٩ (ويدل النهي في الأول على القبح مؤكدا في العقليات ، وعليه وعلى الفساد في الشرعيات).

٦٧

والصلاة في النجس ، أما لو نهي عنه لمعنى ، كالبيع عند النداء لأجل الصلاة ، فالمشهور من أقوال العلماء أنه لا يدل على الفساد (١).

قال الحلي (٢) : ونقل عن مالك (٣) ، .............

__________________

(١) لا لغة ولا شرعا ، لا في العبادات ولا في غيرها عند (أبي حنيفة ، ومحمد ، والشيخين ، وأبي عبد الله ، والكرخي ، والقاضي ، والحاكم ، والقفال ، وبعض الأشعرية) (فصول ١٤٩).

(٢) الحلي هو : الحسن ـ ويقال : الحسين ـ بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي ، جمال الدين ، ويعرف بالعلامة ، من أئمة الشيعة الإمامية ، نسبته إلى الحلة في العراق ، ولد ومات فيها [٦٤٨ ـ ٧٢٦ ه‍] ـ.

(٣) مالك بن أنس بن مالك بن أبي عمرو بن الحارث الأصبحي ، أبو عبد الله المدني ، صاحب الموطأ ، أحد الأعلام ، وإمام دار الهجرة ، روى عن جعفر الصادق ، ونافع والزهري ، وخلق ، وعنه ابن جريج ، وشعبة ، والثوري ، وابن مهدي ، وأمم ، قال الشافعي : مالك حجة اله على خلقه ، وقال أبو حاتم : ما ضعفه أحد ، ضرب بالسياط مائة وسبعين سوطا ، وسببه أنه قيل : إنه لا يرى بيعة الظلمة ، وبعدها لزم بيته عشرين سنة ، وترك الجمعة والجماعة ، قال سفيان : ما كان أشد انتقاد مالك للرجال ، وقدم وكيع فجعل يقول : حدثني الثبت ، فسئل عنه؟ فقال : مالك. وقال أبو حاتم : مالك ثقة إمام أهل الحجاز ، وهو أثبت أصحاب الزهري ، ومالك نقي الرجال ، نقي الحديث ، وحكوا له كرامات كثيرة ، وقيل فيه :

ألا إن فقد العلم من فقد مالك

فلا زال فينا صالح الحال مالك

يقيم طريق الحق والحق واضح

ويهدي كما تهدي النجوم السوالك

ورأى ابن أبي كثير قارئ المدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالسا ، والناس حوله يقولون : يا رسول الله اعطنا ، يا رسول الله من لنا؟ فقال لهم : إني قد كنزت كنزا تحت المنبر ، وأمرت مالكا أن يقسمه فيكم ، اذهبوا إلى مالك ، وسأل إسماعيل بن أبي أوس لما مرض مالك بعض أهله ما قال مالك عند موته ، فقال : شهد ، ثم قال (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) وتوفي صبيحة أربع عشرة من ربيع الأول سنة ١٧٩ ه‍ وقيل : في صفر تلك السنة ، قال الواقدي : مات وهو ابن سبعين سنة ، وحمل به في البطن ثلاث سنين ، روى له الأئمة والجماعة.

٦٨

وأحمد (١) ، والطوسي : إنه يدل على الفساد.

واختلف من قال : النهي يدل على الفساد ، فقال الأكثر : [إنه] لا يدل على الصحة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (دعي الصلاة أيام أقرائك) وحكي عن أبي حنيفة ، ومحمد : أنه يدل على الصحة ؛ لأنه لو لم يصح لما نهي عنه ؛ لأن الذي لا يقدر عليه لا ينهى عنه ، واحتجا على أن النذر بصوم يومي العيد لا يدل على فساده.

وأما الناسخ والمنسوخ

فالكلام في حقيقة النسخ وأحكامه.

أما حقيقته : ففي اللغة ـ الإزالة ، يقال : نسخت الريح آثار بني فلان ، والنقل : يقال : نسخت الكتاب.

واختلف هل هو مشترك بينهما ، أو حقيقة في الإزالة ، مجاز في النقل ، أو العكس.

وأما في الاصطلاح فهو : إزالة مثل الحكم الشرعي بطريق شرعي

__________________

(١) أحمد هو : أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الذهلي الشيباني ، المروزي ، ثم البغدادي ، أبو عبد الله الحافظ إمام أهل الأثر ، ولد سنة ١٦٤ ه‍ وسمع من خلائق لا يحصون ، وروى عنه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وأمم ، قال ولده عبد الله «سمعت أبا زرعة يقول : كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث ، ذاكرته الأبواب ، وقال ابن معين : أرادوا أن أكون مثل أحمد ، والله لا أكون مثله أبدا ، وكان الشافعي يزوره ويعظمه ، وهو أكبر منه ، وسئل عن ذلك فقال :

قالوا يزورك أحمد أو تزوره

قلت الفضائل كلها في منزله

إن زارني فبفضله أو زرته

فلفضله فالفضل في الحالين له

قال الإمام المهدي عليه‌السلام في الغايات : وقد روى الشهرستاني عن أحمد أنه لا يقول بالتجسيم ، خلاف ما قال عنه الحاكم ، وهذه الرواية أصح من رواية الحاكم ، وأقرب إلى الحمل على السلامة ، ونقل صاحب العواصم عن أحمد بن حنبل أنه يكفر من يقول بالتجسيم ، توفي سنة ٢٤١ ه‍ وله سبع وسبعون سنة ، ودفن ببغداد.

٦٩

متأخر (١) ، قلنا : مثل الحكم ، ولم نقل : [عين] الحكم ؛ لأن ذلك بدا ، والبدا على الحكيم غير جائز ، وقلنا : الشرعي ؛ لأن إزالة العقلي لا يكون نسخا.

وقلنا : بطريق شرعي (٢) ؛ لأن زوال الأحكام بطريق العقل لا يكون نسخا ، كزوالها بالعجز ، والموت ، والنوم ، وقلنا : بطريق شرعي ، ولم نقل : بدليل ؛ لتدخل الأمارة كأخبار الآحاد بنسخ بعضها بعضا ، قلنا : متأخر ؛ ليخرج التخصيص.

وأما الناسخ : فقد يطلق على الناصب للدليل ، يقال : نسخ الله التوجه إلى بيت المقدس ، ويطلق على الحكم ، يقال : نسخ وجوب صوم رمضان وجوب يوم عاشوراء ، ويطلق على المعتقد ، يقال : فلان ينسخ الكتاب بالسنة إذا اعتقد ذلك ، ويطلق على الطريق ، يقال : الكتاب ينسخ السنة.

وحقيقة الطريق الناسخ هو : ما أفاد شرعا أن مثل الحكم الثابت بطريق شرعي غير ثابت وكان متراخيا عنه ، وقد عرف المنسوخ بهذا.

وأما البداء : فهو إزالة الحكم ، وهو يختص بشروط ستة ، وهو اتحاد الآمر والمأمور ، والمأمور به ، والوجه ، والزمان ، والمكان.

وحكم النسخ : أنه جائز (٣) وفاقا بين المسلمين ، وخالف بعض

__________________

(١) في الفصول ٢٢٧ (بيان انتهاء الحكم الشرعي بطريق شرعي واجبة التراخي عن وقت إمكان العمل. فهو بيان لا رافع عند إئمتنا ، والمعتزلة ، والجويني ، والرازي ، والاسفراييني ، وعكس الغزالي ، والباقلاني وغيرهما.

وللإمام المهدي عليه‌السلام في ضابطه (إزالة لمثل حكم شرعي مع تراخ بدليل سمع.

(٢) ولم يقل (بدليل)

(٣) لا مانع منه عقلا.

٧٠

اليهود ، وواقع وفاقا ، وخلاف أبي مسلم الأصفهاني ساقط (١).

والنسخ قد يكون للتلاوة والحكم معا ، ولأحدهما ، ويجوز النسخ لا إلى بدل عند الجمهور خلافا لبعضهم ، وهذا كنسخ وجوب الصدقة بين يدي النجوى ، ونسخ الاعتداد بالحول بأربعة أشهر وعشر ، فالزائد منه نسخ لا إلى بدل.

وأما قوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [البقرة ١٠٦] فذلك راجع إلى نسخ الآية ، وإن حمل على الحكم ، فقد يكون نفي الحكم خيرا من ثبوته في المصلحة عند الله تعالى.

ويجوز [النسخ] (٢) إلى بدل أشق ، كنسخ التخيير بين الفدية والصوم إلى لزوم الصوم ، ونسخ الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم.

ومن أهل الظاهر من منع لقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] وأجيب بأنه عبارة عن التخفيف في التكليف جملة.

ويجوز نسخ السنة بالكتاب عند الأكثر ، ومنعه الشافعي.

ويجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة عند الأكثر أيضا ، ومنعه الشافعي ، وأما بالآحاد فلا يجوز ، وكذلك نسخ المتواتر من السنة بالآحاد [منها] لا يجوز خلافا لأصحاب الظاهر.

ويجوز نسخ القول بالفعل والتقرير ، وأما نسخ الفعل بالفعل فمنعه

__________________

(١) في الفصول ٢٢٨ (خلافا لشذوذ مطلقا ، وللأصفهاني في القرآن) قال في المعيار : (وقد أنكره طوائف من أهل القبلة كغلاة الروافض ، وفرق التناسخية).

قوله (خلافا لشذوذ) فقالوا : نسخ الشرائع لا يجوز ، والشرائع المتي يذكر فيها أنها منسوخة كانت مؤقتة بأوقات ، ترتفع عند انقضاء تلك الأوقات ، وسواء ورد ناسخ أو لم يرد.

(٢) ما بين القوسين غير موجود في النسخة أ ، وثابت في ب.

٧١

القاضي (١) ، وهو المذهب لأن التعارض في الأفعال لا يصح ؛ لأنه لا ظاهر لها ، وجوزه أبو رشيد (٢) ، والمنصور بالله.

ولا ينسخ الكتاب ، ولا السنة بالقياس ، عند الأكثر ، وجوزه بعض أصحاب الشافعي.

ويجوز النسخ قبل الفعل مع إمكان فعله ، وأما قبل إمكان فعله ، وهو نسخه قبل وقته فمنع من ذلك المعتزلة ، وأبو طالب ، والمنصور بالله ، وبعض الحنفية ، وبعض الشافعية ، وجوزه البعض منهم.

واختلف العلماء في الزيادة على النص ، والنقصان منه ، أما الزيادة فقال أبو علي محمد بن عبد الوهاب ، وولده أبو هاشم عبد السلام بن محمد : إن ذلك ليس بنسخ

__________________

(١) القاضي هو : عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجليل بن عبد الله الاستراباذي المعتزلي ، أبو الحسن ، قاضي القضاة ، إذا أطلق القاضي في كتب العدلية فهو هذا ، وفي كتب الأشاعرة الباقلاني ، حدث عن أبي الحسن القطان ، والزبير بن عبد الواحد ، وآخرين ، وأخذ علم الكلام عن أبي عبد الله البصري ، وحدث عنه عبد السلام القزويني ، والموفق بالله الجرجاني ، وأخذ عنه علم الكلام الإمام المؤيد بالله ، وأبو عبد الله الحاكم ، والصاحب ، وآخرون ، قال في تاريخ قزوين ، وله أمالي كبيرة سمع منها بعضها في الري ، وبعضها بقزوين سنة ٤٠٩ ه‍ ـ صنف الكثير في التفسير والكلام ، وغيرهما ، قال الخليل الحافظ : كتبت عنه ، وكان في حديثه ثقة ، لكنه داع إلى البدعة ، يحي الاعتزال ، وقال المهدي عليه‌السلام : انتهت مؤلفاته إلى أربع مائة الف ورقة ، منها : المحيط اثنان وعشرون ، والمغني ثلاثة عشر ، ومختصر الحسنى عشرة ، والأصول الخمسة ، والعمد نيف وعشرون ، وقال ابن كثير : من أجل مصنفاته كتاب دلائل النبوة أبان فيه عن علم وبصيرة ، وقد طال عمره وارتحل الناس إليه من الأقطار ، واستفادوا منه ، وقال الحاكم الجشمي : ليس عندي عبارة بقدر محله من العلم ، توفي بالري سنة ٤١٥ ه‍ ، قال أحمد بن سعد الدين حضر جنازته كثير من الأئمة.

(٢) أبو رشيد هو : أبو رشيد النيسابوري ...

٧٢

وقالت الحنفية : إن الزيادة إذا اقتضت تغير الحكم المزيد عليه كانت نسخا ، وإلا فلا ، ومثلوا ما يكون نسخا بزيادة التغريب في حد القاذف (١) ، وتغير الحكم أن الشهادة كانت غير مقبولة بعد الثمانين ز وبعد الزيادة كانت (٢) مقبولة.

وقال قاضي القضاة ، والحاكم ، واختاره الإمام أبو طالب : إن غيرت حال المزيد عليه في الإجزاء ، فذلك نسخ ، كزيادة ركعة على ركعتين ، وإلا لم تكن نسخا كزيادة التغريب.

وقال الشيخ أبو الحسين البصري ، واختاره الشيخ الحسن ، والمنصور بالله : إن أزالت الزيادة حكما شرعيا فنسخ ، وإلا فلا.

ومثل ذلك بما لو أوجب الله تعالى ركعة زائدة على الركعتين قبل التحلل ؛ لأن ذلك يزيل وجوب التسليم (٣).

وأما النقصان : فلا خلاف أن ذلك نسخ لما نقّص ، وأما لجملة العبادة فقال الكرخي (٤) ، وأبو عبد الله ، وأبو الحسين ، واختاره الشيخ الحسن : إن ذلك لا يكون نسخا ، وذهب بعضهم إلى أنه نسخ.

وقال قاضي القضاة ، واختاره أبو طالب : إن المنقوص إن كان شرطا

__________________

(١) صوابه في حد الزاني.

(٢) أي : صارت. وذلك لأن الحد قد تم. أي : أنها تقبل بعد الثمانين وقبل التغريب.

(٣) وهو حكم شرعي.

(٤) الكرخي هو : عبيد الله بن الحسن بن دلال الكرخي ، الحنفي ، الفقيه ، قال في طبقات الحنفية : كان رئيس الحنفية ببغداد ، وكان صواما قواما ، زاهدا ، أصيب آخر عمره برياح الفالج ، وقال المنصور بالله : هو ممن قال بالعدل والتوحيد ، وكان من أهل العلم والزهد ، وكان لا يدخل بيتا فيه مصحف إذا كان على غير طهارة تعظيما له ، توفي سنة ٣٤٠ ه‍ وحضر جنازته الأشراف ، على طبقاتهم ، وفيهم جماعة من العترة ، كأبي عبد الله بن الداعي ، تلميذ أبي الحسن ، وفي هذه السنة ولد الإمام أبو طالب ، وفهيا توفي علي بن العباس الصنعاني.

٧٣

منفصلا عن العبادة لم يكن نسخا ، كنسخ الوضوء ، وأن كان بعضا من أبعاضها كان نسخا.

ويجوز نسخ ما قيد بالتأبيد على ما ذهب إليه أكثر الفقهاء والمتكلمين ، واختاره الإمامان أبو طالب ، والمنصور بالله ، ومنع ذلك بعض العلماء مطلقا ، وبعضهم يجوزه متى حصل الإشعار بالنسخ ، وإليه ذهب أبو الحسين البصري ، واختاره الشيخ الحسن ، فهذه نكتة تنبه الناظر على مطالعة تفاصيلها (١) في مواضعها.

الفصل الثاني

في كيفية دلالة الألفاظ على المراد منها :

واعلم أن جمهور العلماء قالوا : ليس بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية ، إذ لو كان كذلك لاهتدى جميع الناس إلى كل لغة ؛ ولأنا نقطع على صحة اللفظ للشيء ونقيضه ، وضده كالقرء ، والجون ، ولو كان كذلك لما اختلفت اللغات بالنواحي

وقال عباد بن سليمان : إن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية ، وشبهته أنه لو لم يكن كذلك لم يكن لتخصيص الأسود بما فيه السواد وجه ، بل يكون نسبته إليه كنسبته إلى ما فيه البياض ، وأجيب بأنه يختص بإرادة الواضع ، ثم اختلف العلماء بعد ذلك فقالت البهاشمة : إن وضع الألفاظ للمعاني باصطلاح (٢) ، وقالت الأشعرية : ذلك توقيف وتعليم من الله

__________________

(١) تفصيلها. نخ

(٢) وفي الفصول ٩٩ (واختلف في واضع اللغات فعند (جمهور أئمتنا والبهشمية) واضعها البشر واحد أو جماعة ، ويحصل تعريفها بالاشارة والقرائن كالأطفال.

وعند المرتضى وأبي مضر والبغدادية وأكثر الأشعرية توقيفية (الأشعري) وذلك بالوحي أو بعلم ضروري ، أو بخلق الأصوات إما أن يخلق في كل شيء إسماع اسمه أو في بعض الأشياء له ولغيره (أبو علي ، والاسفراييني) القدر المحتاج إليه في التعريف توقيف ، وغيره محتمل لهما ، وحكي عن بعض المعتزلة عكسه.

٧٤

تعالى إما بوحي على بعض الأنبياء ، أو بخلق الأصوات في بعض الأجسام ، أو بعلم ضروري خلقه الله تعالى لبعض الناس في دلالة الألفاظ على المعاني.

وقال الأستاذ أبو إسحاق (١) : القدر المحتاج إليه في التعريف توقيف ، والباقي محتمل

وقال القاضي الباقلاني : الجميع محتمل (٢).

ثم إن دلالة اللفظ على المعنى على وجوه ثلاثة :

الأولى : دلالة مطابقة (٣) ، وهي دلالة اللفظ على كمال معناه ، كدلالة قولنا : انسان ، على الحيوان الناطق.

__________________

(١) وأبو علي. وأبو إسحاق هو الاسفرائيني

(٢) وهو اختيار الامام يحي وابن أبي الخير ، واختاره شيخنا عليه‌السلام في غاية السؤل.

قال في حاشية في الأصل (والأولى التوقف لعدم إفادة شيء مما ذكر من أدلة المذاهب القطع ، وإن أريد الظهور والرجحان فالظاهر قول الأشعري ، ومن معه من العلماء. تمت كاتبة).

وفي حاشية أيضا في الأصل (وطريق معرفتها التواتر فيما لا يقبل التشكيك ، كالأرض والسماء ، والحر والبرد ، والآحاد في غيره ، هكذا لفظ المنتهى. قال الشارح ابن أبي الخير رحمه‌الله تعالى : اعلم أن الفخر الرازي تكلم في محصوله على أهل اللغة ، وقدح فيهم ، وبالغ في ضعف الاستدلال بالسمع ، وأنكر التحسين والتقبيح العقليين ، فصار كما يقال : لا عقل ولا قرآن ، فكفى بابن الحاجب في الرد عليه في اللغات ، فقال : منها ما لا يمكن إنكاره فهو ضروري ، وأصله التواتر كغيره ، ومنها ما هو بالآحاد ويكون ابتناء الأحكام عليه كابتنائها على الخبر الآحادي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله سلم ، ويمكن زيادة قسم ثالث ، وهو ما يتوقف على الفحص والتفتيش ، وقد يعلم بعد ذلك ضرورة كما في كثير من غزوات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعجزاته ، وتكون الأحكام المبنية عليه عند من عمله معلومة ، وهم العلماء المجتهدون ، نفع الله بهم ، فإذا بطل كلام الرازي ، وتشكيكه ، والله سبحانه أعلم.

(٣) لتطابق اللفظ والمعنى الموضوع له.

٧٥

الثاني : دلالة تضمن ، وهو دلالة اللفظ على جزء المعنى ، كدلالة قولنا : إنسان ، على الحيوان وحده ، أو على الناطق وحده.

الثالث : دلالة التزام ، وهو دلالة اللفظ على أمر خارج عنه ، كدلالة قولنا : إنسان ، على الحيوان القابل لصنعة الكتابة (١).

ثم إن اللفظ في دلالته على ضربين ، دلالة منطوق ، ودلالة مفهوم ، فدلالة المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق (٢) ، وهو ينقسم إلى قسمين :

الأول : يدل بصريحه (٣) ووضعه (٤). والثاني : يدل بفحواه وإشارته.

وما يدل بصريحه ينقسم إلى : النص مثل : (أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٧٥](وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] ودلالته قطعية.

وإلى الظاهر ، ودلالته ظنية ، وذلك نحو الأمر ظاهره للوجوب ، ويحتمل الندب ، والنهي ظاهره الحظر ، والكراهة محتملة.

والثاني : دلالة اللزوم ، وقد تسمى دلالة الفحوى ، وهي تنقسم إلى وجوه :

الأول : أن تكون دلالته دلالة اقتضاء ، وذلك ما توقف عليه الصدق ، أو الصحة العقلية ، أو الصحة الشرعية ، فالصدق مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (رفع عن

__________________

(١) قال في حاشية الأصل (وهو مالم يدل عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن ، وإنما يدل عليه باللزوم ، ذكر معناه في الفصول.

ولفظ الفصول ٧٠ (ودلالة المفرد على ما وضع له مطابقة ، كدلالة عشرة على خمستين ، وعلى جزئه تضمن كدلالتها على خمسة ، وعلى لازمه : التزام ، كدلالتها على كونه زوجا.

(٢) وهو اللفظ ، أي : يكون حكما من أحكامه ، وحالا من أحواله.

(٣) في الفصول ٢١٦ (هو ما وضع له اللفظ بالمطابقة والتضمن).

(٤) أي : وضعه الصريح.

٧٦

أمتي الخطأ والنسيان) (١) فظاهره يدل على رفع حصول الخطأ والنسيان ، والمقصود رفع حكمها لا وجودهما (٢).

وأما الصحة العقلية : فمثل قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

والمراد : واسأل أهل القرية ، وكذلك قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] فلا بد من تقدير لفظ الوطء ، فيكون المعنى : حرم عليكم وطء أمهاتكم ، وإنما كان كذلك لأن الأمهات عبارة عن الأعيان ، والأحكام لا يعقل تعلقها بالأعيان ، إنما تعلق بأفعال المكلفين ، فاقتضى اللفظ فعلا ، وصار ذلك الفعل هو الوطء من بين سائر الأفعال ، لعرف الإستعمال ، وكذلك قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] و (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) [المائدة : ١] أي الأكل (٣).

وأما الصحة الشرعية : فكقول القائل لغيره : اعتق عبدك عني على ألف ، فإن العتق فرع على الملك ، وكذا لو حلف ليعتقن عبدا ، وذلك العبد لغيره ، فإن البر يستلزم تملكه ثم يعتقه ، ومثل قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٤] تقديره فأفطر ، وقوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة : ١٩٦] تقديره : فحلق.

قال الغزالي : ويجوز أن يلقب هذا بالإضمار ، ومن هذا قوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] معناه :

__________________

(١) الحديث معروف مشهور بلفظ (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان) أخرجه ابن ماجه ١ / ٦٥٩ ، والدارقطني ٤ / ١٧٠ ، وابن حبان ١٦ / ٢٠٢ ، والحاكم ٢ / ٢١٦ ، والطبراني في الصغير ٢ / ٥٢. (حاشية الفصول ٢٠٠).

(٢) في نسخة (لوجودهما).

(٣) في حاشية الأصول (الأولى أن يقال : التناول).

٧٧

فضرب فانفلق ، وقوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ٥٤] معناه : فتبتم فتاب عليكم.

الوجه الثاني (١) : أن تكون دلالة تنبيه وإيماء ، وذلك مثل أن يقترن النص (٢) بحكم لو لم يكن (٣) للتعليل كان بعيدا ، كقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] وقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢].

وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (اعتق رقبة) لما قال له الأعرابي : وقعت على أهلي في نهار رمضان ، فإنه يفهم أن علة العتق المواقعة في نهار رمضان ، وعلة القطع السرقة ، وعلى الجلد الزنا ، وقد يسمى فهم التعليل ، ويسمى فحوى الكلام ولحنه.

قال الغزالي : وإليك الخيرة في التسمية بعد معرفة معناه.

الوجه الثالث : أن تكون دلالته دلالة إشارة ، وذلك ما يتبع اللفظ ، ولم يقصد إليه ، ومثله الاستدلال على أن أقل الحمل ستة أشهر بقوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] مع قوله تعالى : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) [لقمان : ١٤] وكذلك الاستدلال على أن من وطىء ليلا ثم أصبح جنبا فإن صومه لا يفسد بقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [البقرة : ١٨٧] وذلك لأن آخر جزء من الليل يصدق عليه أنه من الليل ، فجاز الرفث فيه ، وكقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة ١٨٧] فمد الغاية للجواز إلى

__________________

(١) أي : من أوجه دلالة اللزوم.

(٢) صوابه (الوصف سواء كان نصا أو غيره ، وهو كذلك في الكتب الأصولية ، وليس البحث إلا عن الوصف الصالح للتعليل ، والحكم ، وهو واضح للمتأمل ، والله الموفق (مجد الدين المؤيدي).

(٣) أي : الاقتران.

٧٨

طلوع الفجر ، فلو لم يجز الإصباح على الجنابة لوجب تحريم الوطء قبل الفجر بمقدار ما يغتسل فيه.

ومن هذا ما استدل به الشافعي على أن أكثر الحيض ، وأقل الطهر خمسة عشر يوما لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النساء : (إنهن ناقصات عقل ودين) قيل : وما نقصان دينهن؟ قال : (تمكث إحداهن في قعر بيتها شطر دهرها لا تصوم ولا تصلي) فهذا حصل به (١) إشارة إلى أكثر الحيض ، ولم يقصد إلى تقدير الحيض.

وأما القسم الثاني من أصل التقسيم ، وهو دلالة المفهوم ، وهو ما دل عليه اللفظ في غير محل النطق ، فالمفهوم على ضربين ، مفهوم موافقة ، ومفهوم مخالفة.

فالأول : أن يكون المسكوت عنه موافقا في الحكم ، ويسمى فحوى الخطاب ، ولحن الخطاب (٢) ، وهو الاستدلال بالأدنى على الأعلى ، وهو الأخذ بالأولى ، وهذا كدلالة تحريم التأفيف على تحريم ضرب الوالدين ، وقتلهما ، وشتمهما ، وذلك لأن الآية سيقت لتعظيم الوالدين ، واحترامهما.

وتخوفهم إحراق مال اليتيم وإهلاكه من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] وفهم الجزاء بما فوق مثقال الذرة من قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [الزلزلة : ٧] وقوله تعالى : (٣) :

__________________

(١) في نسخة (فهذا حصل فيه).

(٢) وفرق بينهما في الكافل ، فجعل فحوى الخطاب لما فيه معنى الأولى ، كقوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) ولحن الخطاب للمساوي ، نحو (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ).

(٣) هو عبد الله بن سلام ، استودعه رجل من قريش ألفا ومأتي أوقية ذهبا ، فأداه إليه ، وقوله (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) هو فنحاص بن عازور استودعه رجل من قريش دينارا فجحده ، وخانه ، وقيل : المأمونون على القنطار النصارى لغلبة الأمانة عليهم ، والخائنون في القليل هم اليهود لغلبة الخيانة عليهم. (كشاف).

٧٩

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آل عمران : ٧٥] فإنه يفهم من الأول تأدية ما دون القنطار ، ويفهم من الثاني عدم تأدية ما زاد على الدينار ، وهذا يعرف بمعرفة المقصود ، وأنه أشد مناسبة في المسكوت.

واختلفوا في تسمية هذا فقال قاضي القضاة ، والغزالي ، وابن الحاجب : ليس بقياس ، وقال أبو الحسين وغيره : إنه قياس جلي ، وكان جليا لما كان الحكم في المسكوت أولى من المنطوق.

واحتج الأولون بمعرفة ذلك لغة قبل ثبوت القياس ، ومن ثم قال بهذا النافون للقياس.

ثم إن دلالة هذا على ضربين : قطعية كالأمثلة المتقدمة ، وظنية كاستدلال من أوجب الكفارة في قتل العمد من إيجابها في قتل الخطأ ، واستدلال من أوجبها في اليمين الغموس من إيجابها في غير الغموس ، وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه وإنما كانت الدلالة هنا ظنية ؛ لأن العمد وإن كان أولى بالمؤاخذة فيجب فيه الكفارة ؛ لكنا لا نعلم أن العلة لوجوبها المؤاخذة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) والمراد رفع المؤاخذة ، بل وجبت على الخاطئ لإسقاط ذنب التقصير (١) ، وجناية العمد فوق هذا فلا يلزم من إيجابها لأخف الذنبين إيجابها لأغلظهما (٢).

فأما مفهوم المخالفة فهو أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق به ، ويسمى دليل الخطاب ، وإنما سمي مفهوما ؛ لأنه تجرد عن دلالة النطق.

__________________

(١) ولو قال : إن الكفارة في الخطأ وجبت تعبدا كان أحسن وأسلم من الايراد.

(٢) لقائل أن يقول : هذه مؤاخذة من حيث قوبل به ذنب التقصير.

وعلل أصحابنا في كتب الفروع بأن لا يجتمع عليه غرمان في المال والبدن ، وفيه نظر ، لأنه يلزم أن تسقط الكفارة مع سقوط غرم البدن.

٨٠