تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

قوله تعالى

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة ١١ ، ١٢]

ظاهر أقوال المفسرين أنها واردة في المنافقين ، وقيل : في اليهود.

قيل : الفساد بصدهم عن الحق ، ودعائهم إلى الباطل ، وقيل :

بتحريف الكتاب ، وتبديل الملة ، وقيل : لأن في كفرهم توهينا للإسلام ، ونصرة للكافرين ، وسميت المعصية فسادا ؛ لأنها توجب الهلاك (١) ؛ ولأنها تحبس القطر وفي ذلك فساد الأرض

وقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) [البقرة : ١٢] مع حصول الفساد من غيرهم ؛ لأن فعلهم أعظم الفساد.

الثمرة : إن قيل : قد جعلهم الله تعالى مفسدين فهل يكون حدهم حد الساعي في الأرض فسادا الوارد في قوله تعالى في سورة المائدة : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [المائدة : ٣٣]؟

قلنا الظاهر خلاف ذلك لوجهين :

الأول : أن الآية في المنافقين على أظهر ما قيل ، ولم يعرف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم في أحد منهم بحد المحارب.

الثاني : أن حد المحارب متعلق بوصفين :

الأول : المحاربة لله تعالى ، والمراد به لأوليائه.

__________________

(١) الأخروي.

١٠١

الثاني : السعي في الأرض بالفساد ، والمراد فسادا مخصوصا ، فكأن الآية مجملة ، وفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيان لها.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١]

الثمرة من هذه الآية حكمان :

الأول : أن الكفار مخاطبون بالواجبات الشرعية لعموم قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) وذلك عام في كل مكلف ، مع أنه روي عن ابن عباس ، والحسن : أن ما في القرآن من : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) نزل بمكة ، وما فيه من (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نزل بالمدينة.

وهذا القول ذهب إليه أكثر العلماء من أهل البيت عليهم‌السلام ، والمعتزلة ، والشافعي ، ولعموم قوله تعالى في سورة الفرقان بعد ذكر المحرمات : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان : ٦٨] ولقوله تعالى في سورة المدثر : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر : ٤٣] فكان العقاب على ترك الواجب ، وفعل القبيح.

وقالت الحنفية ، ومالك ، وأبو حامد من أصحاب الشافعي : إن الكفار غير مخاطبين بالواجبات الشرعية ، ويجعلون هذه العمومات مخصصة بوجهين :

الأول : أنه قد ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل بعض رسله إلى قوم من المشركين ، وقال ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فإن أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله تعالى

١٠٢

أوجب عليهم خمس صلوات) فجعل الإعلام فرعا بعد الإجابة إلى الإسلام (١).

الوجه الثاني : أن هذا مخصص بدليل عقلي ، وأن القصد بالأمر فعل المأمور به ، وهو لا يصح فعله حال كفره ، فيكون تكليفا بما لا يطاق ، وبعد الإسلام يسقط.

وأجيب بأنهم مخاطبون بالتوصل إلى شرط العبادة كالصلاة في حق المحدث ، ومنهم من فرق بين الواجب والمحظور ، فقال : الواجب يحتاج إلى نية القربة ، وهي غير متأتية منه ، والمحظور ليس إلا الكف ، وهو ممكن ، وقد قيل : لا ثمرة لهذا الخلاف في الدنيا ، إنما ثمرته أخروية ، وهي هل يعاقب أم لا؟.

الحكم الثاني : يتعلق بقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي : خلقكم للتقوى والعبادة (٢) ، فهي نظير قوله تعالى في سورة الذاريات : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] وقد استدل بهذا على أن من قدر على الحقوق الزوجية ، ولم تتق نفسه إلى النكاح ، فالمستحب له أن لا ينكح ؛ لأنه خلق للطاعة والعبادة ، وفي النكاح تحميل لنفسه من الحقوق ما يشغل عن ذلك ، وهذا مذهب الشافعي ، وقد ورد في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (خيركم الخفيف الحاذ) (٣) وقيل : وما الخفيف الحاذ يا رسول الله؟ قال : (الذي لا أهل له ، ولا ولد خفيف المؤنة).

وقال الناصر ، والمنصور بالله ، والحنفية : إنه يستحب لمن هذه

__________________

(١) في ح ص (ويمكن أن يقال : إنما جعل الإعلام فرعا على الإجابة لا لكونهم غير مخاطبين ، بل لأنهم إذا لم يجيبوا إليه فلا ثمرة للإعلام. والله أعلم.

(٢) لأن الترجي من الله قطع. في كل المواضع.

(٣) الحاذ : الظهر ، وحاذ الفرس متنه ، وهو موضع اللبد منه ، وفي الحديث (مؤمن خفيف الحاذ) أي : خفيف الظهر. (صحاح) والمراد : قليل المال والولد.

١٠٣

حاله ، وقد ورد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من أحب فطرتي فليستن بسنني ، ومن سنتي النكاح) ويكون هذا في معنى العبادة ، لأن المعنى من العبادة حصول الثواب.

قوله تعالى

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) [البقرة : ٢٢] (١)

الثمرة من ذلك : أن الآية تدل على أن الأصل في الثمرات الإباحة ، إلا ما خصه دليل بالتحريم كالمسكر ، هذا إن جعلنا «من» في قوله تعالى : (مِنَ الثَّمَراتِ) للبيان ، كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] وإن جعلنا «من» للتبعيض ، بمعنى بعض الثمرات فلا دلالة.

قوله تعالى

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٢٣]

الثمرة من ذلك : الاستدلال على جواز المحاجة والمناظرة في الدين ؛ لأنه تعالى أمر نبيئه بذلك. ومنهم من منع ، وسيأتي زيادة على هذا (٢).

قوله تعالى

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [البقرة : ٢٧]

الثمرة من ذلك : أن الله تعالى جعل الخسران لمن هذه صفته ، من نقض العهد ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل ، والفساد في الأرض ..

__________________

(١) في الكشاف ما معناه : أن من للتبعيض ، واحتج له قال : ويجوز أن تكون بيانية ، وانتصاب رزقا على المفعول له إن كانت تبعيضية ، وإلا فمفعول لأخرج. (ح ص).

(٢) في تفسير قوله تعالى (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ).

١٠٤

قال الحاكم : في الآية دلالة على وجوب الوفاء بالعهد ، وقبح نقضه ، فيدخل فيه أوامر الله تعالى ، والأيمان والنذور ، والمعاقدات ، وعلى وجوب صلة الرحم ، وصلة المؤمن ، وقد قيل : أراد بالعهد أوامره ونواهيه ، حكي ذلك عن أبي مسلم

وقيل : ما ركب في عقولهم من أدلة التوحيد.

وقيل : ما قدم إليهم من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ألسنة الرسل.

وأصل العهد الوثاقة ، والذي أمر الله بصلته النبي والمؤمنون ، وقيل :

الأرحام ، وقيل : أمروا بالإيمان بجميع الأنبياء ، والفساد : استدعاؤهم إلى الكفر ، وقيل : ما يحدث بسبب كفرهم من قطع السبل.

قوله تعالى

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩]

الثمرة من ذلك : أن هذه الآية الكريمة تدل بعمومها على أن أصل الأشياء على الإباحة.

واعلم أنه قبل أن يرد الدليل الشرعي اختلف العلماء : هل العقل يقضي بالإباحة ، أو بالحظر فيما ينتفع به من الأشياء الإختيارية ، كأكل الفاكهة ونحوها.

أما الاضطرارية كالتنفس في الهواء فإن العقل يقضي بإباحة ذلك ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق.

وأما الاختيارية فذهبت طائفة من المعتزلة والفقهاء إلى القول

١٠٥

بالإباحة (١) ، والدليل : أنه لو ملك جواد بحرا لا ينزف ، ومملوكه يلهث من العطش ، والمجة

ترويه (٢) ، ومالكه عالم بذلك ، فإن العقل لا يقضي بتحريم الانتفاع بالمجة.

وقال بعض المعتزلة (٣) ، وبعض الفقهاء (٤) : إنها على الحظر ؛ لأن ذلك انتفاع بملك الغير ، وأجيب بأن ذلك مبني على الدليل الشرعي ، وأما من جهة العقل فإنما يكون فيمن يتضرر بذلك ، وأما من جهة الشرع فهذه الآية دالة على الاباحة والانتفاع في جميع الأشياء لعمومها إلا ما ورد تخصيصه ، ولا فرق في ذلك بين الحيوانات وغيرها.

وقد اختار هذا الأمير الحسين بن محمد (٥) ، وهو مروي عن المؤيد بالله ، ومالك.

__________________

(١) واختاره في الكافل ، حيث قال : خاتمة : إذا عدم الدليل الشرعي عمل بدليل العقل ، والمختار أن كلما ينتفع به من غير ضرر عاجل ولا آجل ، فحكمه الاباحة ، عقلا ، وقيل : بل الحضر ، وبعضهم توقف ، لنا : أنا نعلم حسن ما ذلك حاله ، كعلمنا بحسن الانصاف وقبح الظلم ، والله أعلم.

وفي الفصول (ومباح : وهو ما لا يستحق عليه واحد منهما كالتمشي في البراري ، والتظلل تحت الأشجار ، والشرب من الأنهار ، وتناول ما ينتفع به الحي ولا مضرة فيه على أحد كالنابت في غير ملك ، واختلف في ذلك ، فعند أئمتنا والجمهور أنه مباح عقلا حتى يرد حظر شرعي).

(٢) في (ح ص) كان الأولى أن يقال : فإن العقل يقضي بحسن الانتفاع بالمجة. وأما اعتبار اللهث فيقضي العقل بوجوب الانتفاع لا بمطلق الحسن.

(٣) من البغدادية

(٤) من الشافعية ، وابن أبي هريرة. ذكره في الثمرات في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ)

(٥) الحسين بن بدر الدين محمد بن أحمد بن يحي بن يحي ، الحسني ، الأمير الكبير ، الحافظ ، محدث العترة وفقيههم ، صاحب التصانيف البديعة منها : شفاء الأوام ، ـ

١٠٦

ومن الأدلة على ذلك أن الله سبحانه أوحى إلى نوح عليه‌السلام بأن قال : «وجعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك» وشرائع من تقدمنا تلزمنا ما لم تنسخ ، ونهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ، ومخلب من الطير يدل على انه خص المخرج ، وأباح ما عدا ذلك ، هكذا استدلال الأمير الحسين ، لكن الأخذ بمفهوم اللقب ضعيف.

وتخريج المؤيد بالله لمذهب الهادي عليه‌السلام أن ما لم يخص بتحليل من الحيوانات فهو محظور.

والوجه : أن إيلام الحيوان محظور عقلا ، والآية مخصوصة بالإجماع ، إذ في الأرض ما هو محرم ، وإذا ثبت أنها مخصوصة ، وأنه قد خرج بعض ما في الأرض كالخمر ، والخنزير ونحو ذلك ، فهذه مسألة أصولية إذا خص العام هل يستدل به فيما عدا المخصوص أو لا؟ وهل هو حقيقة في الباقي أو مجاز؟.

يحكى عن أبي طالب ، والقاضي جعفر ، وكثير من المتكلمين أنه مجاز في الباقي (١) وعن بعض الحنفية ، وبعض الشافعية أنه حقيقة في

__________________

ـ والتقرير شرح التحرير ، أربعة مجلدة ، والمدخل ، والبديعة ، والإرشاد ، وينابيع النصيحة ، والعقد الثمين ، وثمرات الأفكار ، وغيرها ، قال في حواشي الفصول : هو مجتهد ، وفي الترجمان : له كرامات مشهورة ، وكان من أتباع الإمام المهدي أحمد بن الحسين إلى أن مات ، وما قيل في بعض الحواشي أنه بايع ابن وهاس فهو غلط قد تقدم ذكره ، والأمير هذا من أجل العترة ، ومصنفاته شاهدة بفضله وتقدمه ، وتوفي بعد قيام أخيه بخمس سنين سنة ٦٦٢ ه‍ وعمره ثمانون ، وقيل : ستون ، وقبره بهجرة تاج الدين برغافة.

(١) في الفصول (جمهور أئمتنا والمتكلمين) وكل عموم خص فهو مجاز في الباقي مطلقا ، (الحنابلة ، وأكثر الفريقين) حقيقة مطلقا.

١٠٧

الباقي ، وعن أبي الحسن : إن خص بدليل متصل (١) كان حقيقة في الباقي ، وإن خص بدليل منفصل كان مجازا في الباقي.

وقال قاضي القضاة : يكون مجازا إلا أن يخصص بشرط أو صفة إلى غير ذلك من الأقوال التي تضمن التفصيل.

قوله تعالى

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠]

الثمرة من ذلك : أخذ من الآية الكريمة أربعة أحكام.

الأول : أن الله سبحانه أرشد عباده إلى طلب الرأي من الثقات والنصّاح قبل أن يقدموا على الأمور ، وإن كان سبحانه غنيا عن المشاورة ، والاستدلال على هذا الحكم صريح في قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران : ١٥٩].

الحكم الثاني : الاحتياط ، والحذر ، والحفظ للمؤمن عن مواقعة المحذور ؛ لأن أحد تأويلي أهل التفسير أن الله تعالى إنما أخبرهم بذلك ليسألوا ويجابوا ، فيعرفوا حكمته صيانة لهم عن وقوع الشبهة في استخلافه ، ويلزم الاقتداء بالملائكة عليهم‌السلام في السؤال عن حل الشبهة.

الحكم الثالث : جواز إطلاق اسم الخليفة على من يخلف غيره ؛ لأن الملائكة عليهم‌السلام كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذريته ،

__________________

(١) والمتصل : ما يخرج المذكور ، وهو أمران : أحدهما ـ الاستثناء المتصل ، نحو أكرم الناس إلا الجهال ، والثاني : الغاية. ومنه ما يخرج غيره ، أي : غير المذكور ، وهو الشرط ، والصفة ، وبدل البعض.

١٠٨

وقيل : لما خلق الله السموات والأرض والملائكة والجن أسكن الجن الأرض ، والملائكة السموات ، ففسد الجن في الأرض وأساؤا ، فبعث الله تعالى جندا من الملائكة فطردوا الجن عن وجه الأرض وسكنوا الأرض. إلى أن قال ذلك لهم.

وقيل : سمي خليفة ؛ لأنه خليفة الله في أرضه ، لكونه يحكم بالحق.

وقيل : أراد أن آدم وذريته يخلف بعضهم بعضا ، كلما هلكت أمة خلفتها أخرى ، فيجوز أن يقال للإمام : الخليفة ، وخليفة رسول الله.

وأما خليفة الله فقال البغوي ـ من أئمة الحديث (١) : لا يجوز لغير آدم وداود ، فأما هما فجائز ، قال الله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] وقال تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) [ص : ٢٦] وروي أن رجلا قال لأبي بكر : يا خليفة الله؟ فقال : أنا خليفة محمد (٢) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وذكر الماوردي (٣) : أن الناس اختلفوا في جواز قولنا : خليفة الله للإمام ، فمنعه الجمهور ، ونسبوا قائله إلى الفجور ، وجوزه بعضهم لقيامه بحقوق الله تعالى في خلقه ، ولقوله تعالى في سورة الأنعام : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) [الأنعام : ١٦٥] وهذا ظاهر قول الزمخشري : إن

__________________

(١) في ب (المحدثين) والبغوي : هو أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي ، ويلقب بمحي السنة ، فقيه ، محدث ، مفسر ، نسبته إلى (بغى) من قرى خراسان بين هراة ومرو ، له التهذيب في فقه الشافعية ، وشرح السنة في الحديث ، ولباب التأويل في معالم التنزيل في التفسير ، وغير ذلك.

(٢) لغة لا شرعا.

(٣) الماوردي هو : علي بن محمد بن حبيب ، أبو الحسن ، الماوردي ، أقضى قضاة عصره من العلماء الباحثين ، له تصانيف كثيرة نافعة ، ولد بالبصرة سنة ٣٦٤ ه‍ وتوفي سنة ٤٥٠ ه‍.

١٠٩

الأنبياء خلفاء الله ، أي : جعلهم خلائف عن غيرهم. وقد ذكر الهادي عليه‌السلام في الأحكام الجواز

وأول من تسمى خليفة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر الصديق (١).

وأول من تسمى بأمير المؤمنين ـ عمر بن الخطاب (٢).

وهذا الاسم جائز اطلاقه لأئمة العدل ، وأما أئمة الجور فينبغي أن يفصل في ذلك ، فإن كان هذا يوهم أنهم على حق لم يجز ؛ لأن ذلك إغراء بالقبيح ، وإن كان لا يوهم ذلك ، فالأولى أن لا يقال ذلك ؛ لأنه عبارة تعظيم ، وأيضا فهو غير مطابق ففي ذلك تعرض للكذب ، وحكى

__________________

(١) أبو بكر الصديق هو : عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمر القرشي ، التيمي ، أبو بكر بن أبي قحافه أول الخلفاء ، بويع له بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت بيعته كما قال عمر : فلتة وقى الله شرها من وقى ، وتخلف عنه جماعة منهم أمير المؤمنين ، وسعد بن عبادة ، والزبير ، هو أول من أسلم بعد علي وخديجة ، ولقبه عتيق ، واستفتح في أيامه مدنا ، وسيرته مشهورة ، توفي بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء لقمان بقين من جمادى الآخرة سنة ١٣ ه‍ وغسلته زوجته أسماء بنت عميس ، ودفن بجنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي المكي ، ثم المدني ، أبو حفص ، أسلم بعد مهاجرة الحبشة ، وكان إسلامه مكملا أربعين ، وكان لإسلامه موقع عند الكفار عظيم ، وصلوا يوم إسلامه في المسجد ، وتزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته حفصة ، بويع له بعد وفاة أبي بكر ، واستفتحت في أيامه مدائن كثيرة ، منها : دمشق ، ثم القادسية ، حتى انتهى الفتح إلى حمص وجلولاء ، والرقة ، إلى ما يكثر تعداده ، وذل لوطأته ملوك فارس والروم ، ودون الدواوين ، وكتب التاريخ ، ومصر الأمصار ، وكان قتله لأربع بقين من ذي الحجة ، سنة ٣٢ ه‍ طعنه غلام المغيرة أبو لؤلؤة ، وقتل معه سبعة ، وجرح نحوهم ، وحمل إلى داره وسقوه اللبن فخرج من جرحه ، ثم جعل الأمر شورى في ستة ، كما هو مسطور في كتب السير ، والله أعلم.

١١٠

الحاكم في السفينة (١) في ذكر مقام طاووس (٢) عند هشام بن عبد الملك : أنه لما دخل عليه ولم يدعه بإمرة المؤمنين ، فقيل له في ذلك ، فقال : ليس كل الناس راضيا بإمرتك ، فخفت أن أكون كاذبا ، وكثير من الفضلاء كأبي حازم ، وعمر بن عبد العزيز (٣) وغيرهما خاطب بأمير المؤمنين لمن واجهه من بني أمية ، وبني العباس ، وتوجيه ذلك أنه كاللقب.

__________________

(١) السفينة : كتاب جليل في سير الأنبياء ، وأهل البيت ، وفنون أخر ، أربعة مجلدة ، للحاكم المحسن بن محمد بن كرامة الجشمي.

(٢) طاووس هو : ذكوان بن كيسان اليماني ، أبو عبد الله ، طاووس الحميري مولاهم ، الفارسي ، يقال : اسمه ذكوان ، وطاووس لقب له ، قال ابن حجر : فقيه ثقة ، فاضل ، من الثالثة ، مات سنة ١٠٦ ه‍ روى عن ابن عباس ، وجابر ، وابن عمر ، وآخرين ، وعنه مجاهد ، والزهري ، وخلق. قال ابن عباس : إني لأظن طاووسا من أهل الجنة ، وقال ابن حبان : حج طاووس أربعين حجة ، وكان مجاب الدعوة ، توفي ببعلبك ، وقبره بها ، وذكر المهدي أنه توفي حاجا ، وما قيل : إن قبره بصنعاء غلط ، وقد غلط أهل الحواشي في اسمه في كتاب الرهن.

(٣) عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ، القرشي الأموي ، أبو حفص ، الخليفة العادل ، والفرد الكامل ، ولي الخلافة بعد سليمان بن عبد الملك ، وكانت ولايته تسعة وعشرون شهرا ، كأبي بكر ، سمع أنس بن مالك ، وصلى أنس خلفه ، والسائب بن يزيد ، وسهل بن سعد ، وخولة بنت حكيم من الصحابة ، وعروة بن الورد ، وابن الزبير ، وابن المسيب ، وخلق من التابعين ، وروى عنه الزهري ، وحميد الطويل وآخرون ، قال مالك بن دينار : لما ولي قالت رعاة الشاء في الجبال : من هذا الخليفة العادل الصالح ، فسئلوا؟ قالوا : لأنها كفت الذئاب والأسد عن الشاء ، وكاتبه الإمام زيد بن علي يعظه ، وقال لعبد الله بن الحسن إذا كان لك حاجة فأرسل إلي فأني أستحي من الله أن أراك على بابي ، وقال له مرة : إن طلبت شيئا تساعدني؟ قال : نعم ، قال : اكشف عن بطنك فكشفه ، فألصق بطنه ببطنه ، وقال : إني لأرجو أن لا يعذبني الله وقد لصقت ببضعة من رسول الله ، قال عمر : كنت أقرأ على شيخ من ولد عتبة بن عبد الله بن مسعود ، فمر بي يوما ، وأنا مع الصبيان نشتم عليا فتبعته ، فأعرض عني ، وقام يصلي حتى أنكرته ، فسألته ، فقال : أنت الذي تشتم عليا ، قلت : قد كان ذلك ، قال : هل ـ

١١١

وأما قول القائل : الإمام فلان للجائر ، فإن كان يوهم غيره أنه محق لم يجز ، أو كان ذلك يوهم بمحبته وموالاته لم يجز ، وإلا جاز ، وقد قال تعالى في سورة التوبة : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [التوبة : ١٢] وقال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) [القصص ٤١] (١).

وأما ملك الملوك فلا يجوز أن يقال ذلك ، ولا يجوز التسمية به ؛

__________________

ـ علمت أن الله سخط على أهل بدر بعد الرضى؟ قلت : وهل كان علي بدريا؟ قال : وهل كانت بدر كلها إلا له ، قال : فهذا أول ما وقع في قلبي ، ثم كان والدي يخطب وهو أفصح الناس ، فإذا وصل إلى شتم علي تعتريه من الفهاهة ما الله عالم به ، فقلت له؟ فقال : يا ولدي لو علمت ما علم أبوك من فضل هذا الرجل لعذرته ، فأضمرت إن توليت لأزيلن ذلك ، فلما ولي الأمر أزال سب أمير المؤمنين ، وأمر بإزالته في جميع البلدان ، حتى وصل صنعاء ، فقام رجل يقال له ابن محفوظ ، فقال : السنة ، فقال : قبحك الله تلك البدعة ، فقال اللعين : لئن أزالها عمر لأضرمن الشام عليه نارا ، فقام فركب بغلا وتبعه الناس فرجموه حتى قتلوه ، وهو يرجم إلى الآن ، فقيل في ذلك :

استراحت من السباب البتول

وبنوها وبعلها والرسول

وأبى ذلك اللعين ابن محفوظ

وبنو الأسود الكلاب البغول

وقال الشريف الرضي :

يا ابن عبد العزيز لو بكت العين

فتى من أمية لبكيتك

أنت نزهتنا عن السب والشتم

فلو أمكن الجزا لجزيتك

دير سمعان لأعدائك عاد

خير ميت من آل مروان ميتك

وفي الإكمال : لما مرض عمر بن عبد العزيز ، قال : أجلسوني ، ثم قال : أنا الذي أمرتني فقصرت ، ونهيتني فعصيت ، ولكن لا إله إلا الله ، ثم أخذ نظره ، فقال : إني لأنظر خضرة ما هم ناس ولا جن ، ثم قبض رحمه‌الله سنة إحدى ومائة ، ومولده سنة مقتل الحسين سنة إحدى وستين ، وتوفي بدير سمعان ، ودفن به ، وأخبار زهده وعدله وعبادته طويلة ، قالت امرأته : ما اغتسل من جماع قط منذ ولي الخلافة ، وكان يبكي ويقول : لو أخذت شاة في أقصى الأرض لخفت أن أسأل عنها.

(١) يمكن أن يقال : إن هذا من المقيد فلا يحتج به على المطلق.

١١٢

لأنه لا يوصف بذلك إلا الله تعالى ، وقد قال النواوي (١) : يحرم تحريما غليظا.

وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إن أخنع (٢) اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك) وهذا لا حق بدلالة الآية.

الحكم الرابع : أن طلب النسل يكون مندوبا إليه ، رجاء أن يكون فيه من يطيع الله تعالى ؛ لأنه قد ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] أن المراد أن يكون من ذريته أنبياء وأولياء وعلماء.

وقد حكى الله تعالى دعاء زكريا عليه‌السلام لربه في هبة الولد في مواضع من القرآن في آل عمران في قوله تعالى : (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) [آل عمران : ٣٨] وفي سورة مريم ، في قوله تعالى : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [مريم : ٥] وفي سورة الأنبياء في قوله تعالى : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) [الأنبياء : ٨٩] وسأل إبراهيم عليه‌السلام كما حكى الله تعالى في الصافات في قوله تعالى : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١٠٠] وجعل تعالى حصول الولد الصالح نعمة ، ولهذا ذكر البشارة به نحو : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) [الصافات : ١٠١](وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١١٢](يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) [مريم : ٧].

ولكن إنما يستحب طلبه لصلاح في الدين ، ونفع يعود إلى الوالد ،

__________________

(١) النواوي هو : يحي بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام ، النووي ، الدمشقي ، الشافعي ، أبو زكريا ، محي الدين ، علامة بالفقه والحديث ، مؤلفاته كثيرة ، ولد في نوى ، قاعدة (الجولان) من أرض حوران (سوريا) حاليا ، من أعمال دمشق سنة ٦٣١ ه‍ وتوفي بها سنة ٦٧٦ ه‍.

(٢) أي : أقبح وأذل.

١١٣

أو إلى المصالح العامة ، فمصلحة الوالد : ما يعود إليه من دعاء ولده ، وعود الثواب إليه بتعليمه للخير.

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له بالخير ، وعلم ينتفع به ، وصدقة جارية) (١) وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إن القوم ليبعث الله تعالى عليهم العذاب حتما مقضيا فيقرأ صبي من صبيانهم الحمد لله رب العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم العذاب أربعين سنة) وكذا شفاعة الولد لأبويه إن مات صغيرا ، والمصالح العامة : من كسب العلم ونشره ، ونحو ذلك.

وأما لغير ذلك فيكره ، وقد قال تعالى في سورة المنافقين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [المنافقون : ٩] وقال تعالى في سورة التغابن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن : ١٤] وقال تعالى فيها : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن : ١٥].

وقيل لعيسى عليه‌السلام : هل لك في الولد حاجة؟ فقال : ما حاجتي إلى من عاش كدّني ، وإن مات هدّني.

وفي الحكاية : أن رجلا من مياسير أهل البصرة كان يتمنى ابنا ، وينذر عليه النذور ، فولد له ابن فسر به ، وأحسن تربيته ، وبلغ في الإحسان إليه كل مبلغ ، حتى بلغ الحلم ، فلم يشعر الشيخ ذات يوم إلا وخنجر خالط جوفه من وراء ظهره ، فاستغاث بابنه فلم يجبه ، فالتفت فإذا ابنه صاحب الخنجر.

__________________

(١) أخرج مسلم معناه في كتاب الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته ، والترمذي ٢ / ٤١٨ ، رقم ١٣٩٠ ، وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وأبو داود ٣ / ١١٧ رقم ٢٢٨٠ ، والنسائي ٦ / ٢٥١ ، وأحمد في الفتح الرباني ٩ / ٢٠٤ رقم ٢٤٨.

١١٤

ويحكى أن الفخر الرازي أحسن التربية لولد له ، وكان جافيا عاقا فقال في ذلك :

كم حسرة لي في الحشا

من ولد لي قد نشا

كنا نشاء بره

فما نشا كما نشا

قوله تعالى

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٣٤]

ثمرة هذه الآية الكريمة أحكام :

الأول : أنه ينبغي تعظيم العلماء ؛ لأن الملائكة عليهم‌السلام ، لما أنبأهم آدم بالأسماء ، ورأوا ما معه من العلم ما لم يعلموه عظموه ، وهذا الحكم ظاهر في الكتاب الكريم ، وسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (صحبة العلماء زين ، ومجالستهم كرم ، والنظر إليهم عبادة ، والمشي معهم فخر ، ومخالطتهم غنيمة ، والأكل معهم شفاء ، ينزل عليهم ثلاثون رحمة ، وعلى غيرهم رحمة واحدة ، هم أولياء الله ، طوبى لمن خالطهم ، خلقهم الله شفاء للناس ، فمن حفظهم لم يندم ، ومن خذلهم ندم) رواه الحاكم.

ويقال : سادات الخلق ثلاثة : الملائكة ، والأنبياء والسلاطين ، وكلهم خضعوا للعلم

أمر الملائكة بالسجود لآدم لعلمه ، وأما الأنبياء فما كان من حديث الخضر وموسى ، وأما السلاطين ففي قصة يوسف عليه‌السلام. وقوله : (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف : ٥٤].

١١٥

وقد ذكر بعض المفرعين للمذهب : أن من سب إماما أو عالما فسق (١).

الحكم الثاني في السجود لغير الله تعالى :

وقد حكى الله تعالى هنا أمره للملائكة بالسجود لآدم ، وكذا في سورة الكهف في قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] وورد في سورة يوسف في قوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [يوسف : ١٠٠] وفي سورة (ص) في قوله تعالى : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [ص : ٧١ ـ ٧٤].

وظاهر الدلالة من هذه الآيات أن مجرد السجود تعظيما ليس بكفر ، وأنه جائز ، ولكن الاحتجاج بهذه الآيات يحتاج إلى معرفة صفة السجود لآدم ، وليوسف المذكور في الآيات الكريمة ، وذلك لأن السجود يقع على وجوه :

وهي أن يكون على وجه العبادة للسجود له ، وهذا لا يجوز لغير الله تعالى ؛ لأنه إشراك في العبادة ، قال في المحيط (٢) : الكفر بالجوارح نحو عبادة الأصنام ، فأما ما كان لغير الله تعالى من الملائكة والبشر ، كالسجود لآدم عليه‌السلام ويوسف فليس على وجه العبادة.

__________________

(١) ولعل الدليل على ذلك التواتر المعنوي بما ورد في هلاك من فعل ذلك ، والله أعلم ، وإلا فلا دليل صريحا قاطعا بذلك ، فليتأمل.

(٢) المحيط : لعله أراد محيط القاضي عبد الجبار ، وفي حاشية في بعض النسخ (أما صاحب المحيط فهو علي بن الحسين ، من معاصري الإمام أبي طالب ، ولعل النقل من الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ، وشرحها للسيد ما نكديم.

١١٦

ويكون السجود بمعنى التحية ، ويكون بمعنى التعظيم ، وقد ذكر في سجود الملائكة لآدم وجوه :

الأول : أن ذلك على وجه التكرمة والتحية لآدم ، والعبادة لله تعالى وحده لا لآدم ، وهذا مروي عن كثير من المفسرين ، وكان السجود في ذلك الوقت تحيتهم ، وامتد ذلك إلى وقت سجود آخوة يوسف ، وقيل : كان آدم على معنى القبلة ، كما أمرنا بالسجود إلى الكعبة.

وقيل : السجود هاهنا بمعنى الإمالة ، أي : مالوا إلى آدم إكراما له ، وكذا إلى يوسف.

وقيل : العبادة فيه لله تعالى ، وإن اقترن به تعظيم الغير ، كما نعظم الرسول بفعل ما بلغنا أنه فعله (١).

وقيل : المراد بالسجود الخضوع والتواضع ، لا حقيقة السجود.

وقيل : المعنى في قوله تعالى : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [يوسف : ١٠٠] أي : لله تعالى شكرا على النعمة. فعلى هذا السجود لغير الله تعالى على وجوه :

الأول : أن يكون على وجه العبادة ، فذلك كفر بلا إشكال.

الثاني : أن يكون على وجه التحية والإكرام ، غير معتقد أنه يستحق العبادة قال في شرح الإبانة : لا يكفر عند السادة والفقهاء ، وأبي هاشم ، والمرشد (٢) ، والقاضي ، ولكن يكون آثما (٣) ، فعلى هذا القول يكون ما ورد في السجود منسوخا إن حمل على حقيقة السجود والناسخ له

__________________

(١) لأن في التأسي به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعظيما له ، وهو عبادة مقترنة بتعظيمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) لعله يريد أبا عبد الله البصري ، فإنه كان يلقب بالمرشد. وينظر.

(٣) وبنى عليه الإمام المهدي عليه‌السلام في أزهاره ، وشرف الدين في أثماره ، وحكاه حميد عنهم في فتحه ، وكذا في البحر ، حيث لا حامل له على ذلك من إكراه ، أو غرض كانفساخ نكاح ، ونحو ذلك.

١١٧

[قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المراة أن تسجد لزوجها) الخبر] (١) وإن حمل على غير السجود فذلك ظاهر ، وقد يقال : إن سورة يوسف ، والكهف هما مما لا ناسخ فيهما ولا منسوخ

قال : وعند أبي القاسم ، وأبي علي : على أي وجه سجد فقد كفر ، ويحجهما قوله تعالى في سورة النحل : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦].

ويقال : الناطق بكلمة الكفر ـ نطقه أعظم من السجود لغير الله تعالى ، فإذا لم يكفر مع الإكراه فكذا الساجد مع الإكراه.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من تشبه بقوم فهو منهم) (٢) والسجود لغير الله عمل بعض الكفار فذلك دليل على النهي ، لا على نفس الكفر.

وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النهي عن أن ينحني أحد لغيره (٣).

الحكم الثالث : أنه يجوز الإستثناء من غير الجنس ، وذلك شائع كثيرا ، وهذا قول الأكثر : إن إبليس ليس من الملائكة ، وإنما هو من الجن ؛ لقوله تعالى في سورة الكهف : (كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] وعن الحسن : أنه أب الجن ، كما أن آدم أب الإنس ، وعن ابن مسعود (٤) :

__________________

(١) ما بين قوسي الزيادة بياض في الأصل ، ومصحح في النسخة أ. وفيه تصحيح آخر بعد قوله (والناسخ له) [مما يصلح أن يكون ناسخا].

(٢) أخرجه أبو داود ٤ / ٤٤ ، برقم ٤٠٣١ ، وأحمد في مسنده ٢ / ٥٠.

(٣) روى الترمذي ٤ / ١٧٢ رقم ٢٨٧١ عن أنس بن مالك قال قال رجل : يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أو ينحني له؟ قال : لا ، قال : فيلتزمه ويقبله؟ قال : لا ، قال : فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال : نعم. قال الترمذي : حديث حسن.

(٤) عبد الله بن مسعود بن غافلة ـ بالغين والفاء معجمتين ـ الهذلي نسبا ، الزهري حلفا ، الكوفي موئلا ، كان عبد الله من أهل السوابق ، وكان سادسا ، أو سابعا في الإسلام ، وهاجر قديما ، وأمه أيضا ، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ

١١٨

كانت الملائكة تقاتل الجن ، فسبوا إبليس وهو صغير ، فكان مع الملائكة يعبد الله ، فلما أمروا بالسجود أمر معهم (١) ، ودليل أمره بالسجود قوله تعالى في سورة الأعراف : (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : ١٢] وقد قال تعالى في صفة الملائكة عليهم‌السلام : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) [التحريم : ٦] والملائكة لا نسل لهم ، ولإبليس نسل ، قال تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ) [الكهف : ٥٠] وإبليس خلق من النار ، وأما الملائكة فعن الحسن : من النور ، وعن أبي علي : من الريح ، والملائكة قد جعلهم الله تعالى رسلا ، قال تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) [فاطر : ١] ورسل الله معصومون. وقيل : إنه كان من الملائكة ، وإن الاستثناء متصل ، قال الحاكم : والأول الوجه ، لقوله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠].

وقال الزمخشري : يجوز أن يكون الاستثناء متصلا ، وإن كان من الجن ؛ لأنه كان مغمورا بين الملائكة ، لكونه واحدا من ألوف فغلبوا في قوله : (فَسَجَدُوا) ثم استثناه استثناء واحد منهم ، ويجوز أن يجعل منقطعا.

الحكم الرابع : أنه من رد أمر الله اعتقادا أنه ليس بحكمة ، أو ترك

__________________

ـ ولازمه ملازمة خدمة ، وكان قصيرا نحيفا في قامة يساوي الجالس ، وكان من جبال العلم ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا فليقرأه على ابن أم عبد) وكانت كنيته وسئل عنه علي عليه‌السلام ، فقال : «قرأ القرآن ووقف عنده ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه».

وهو الذي زرع الفقه ، وتلقاه علقمة ، ثم إبراهيم ، ثم أبو حنيفة ، مات رضي الله عنه سنة ٣٢ ه‍ أو سنة ٣٣ ه‍ وهو ابن بضع وستين سنة ، وصلى عليه عثمان ، وقيل : الزبير ، وقيل : عمار رضي الله عنه ودفن بالبقيع. (تراجم الجنداري).

(١) يقال : هنا مأمور لدخوله في ضمن المأمورين ، وما في سورة الأعراف تصريح ، وهو ينبي عن دخوله هنا والله أعلم.

١١٩

الإمتثال تكبرا أو استخفافا بالنبي يكفر ، لأن إبليس جمع هذه الأشياء من الاستكبار ، وفي ذلك استخفاف ، ورد للحكمة ، لقوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢] وأما مجرد الامتناع من السجود ؛ فإنه لا يوجب الكفر ، وإن أمر به وأوجب عليه ، ولهذا من ترك الصلاة غير مستخف ولا مستحل لا يكفر عند جماهير العلماء ، خلافا لما حكي عن أحمد ، وإسحاق (١) ، والنخعي (٢) ، وعبد الله بن المبارك (٣) ، وأبي أيوب

__________________

(١) إسحاق : إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن مخلد الحنظي ، أبو محمد بن راهوية المروزي الحافظ الإمام في الحديث ، وراهويه ، قال في المغني : براء ، وهاء ، وواو مفتوحتين ، وسكون ياء ، وكسر هاء ثانية على الأشهر ، ويقال : بضم هاء ، وفتح تحتية ، سمي به لأنه ولد في طريق مكة.» قال في التقريب : ثقة ، حافظ ، مجتهد ، قرين أحمد بن حنبل ، ذكر أبو داود أنه تغير قبل موته بيسير ، مات سنة ثمان وثلاثين ومائتين ، وله اثنان وسبعون سنة ، قال إسحاق : أنا أحفظ سبعين ألف حديث ، وأذاكر في مائة ألف حديث ، وما سمعت شيئا إلا حفظته ، ولا حفظت شيئا فنسيته ، ولد سنة ١٦١ ه‍ ومات ليلة النصف من شعبان سنة ٢٣٨ (الجنداري).

(٢) إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي ، التابعي ، أبو عمران الفقيه ، أدخل على عائشة وهو صبي ، وأرسل عن علي عليه‌السلام ، ولد سنة خمس وأربعين ، قال الأعمش :» كان صيرفيا ـ أي : نقادا ـ في الحديث ، وقال الشعبي لما بلغه موت إبراهيم : «ما خلف بعده مثله» توفي سنة خمس وتسعين ، كهلا ، خرج له الجماعة ، وأئمتنا عليهم‌السلام. ولد سنة ٤٦ ه‍ وتوفي سنة ٩٦ ه‍ وقيل : ٩٥ ه‍ (تراجم شرح الأزهار).

(٣) عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي ، مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي الحافظ ، روى عن هشام ، وسلمان التيمي ، وخلق ، وعنه سفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، ومحمد بن الحسن ، وأمم ، وهو حافظ زمانه في الحديث ، ونقد الرجال ، أحد علماء الجرح والتعديل ، حج سنين متعددة ، وله زهد مشهور ، اتفقوا على ثقته وجلالته ، ووثقه المؤيد بالله ، وصنف كتبا كثيرة ، مولده سنة ١١٨ ه‍ ومات سنة مائة وإحدى وثمانين ، خرج له الجماعة ، وأئمتنا الأربعة.

(الجنداري).

١٢٠