تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

وقد قال أهل الفقه : إذا اختلت صلاة الإمام ، وأراد أن يستخلف لم يستقبلهم بوجهه لئلا يوقعهم في مكروه ، وهو استقبال وجه الصورة ؛ لأنه قد نهي عنه ، وقالوا أيضا : إذا عرف الإمام أن العسكر يخونون في الغنيمة استحب أن يقول : من أخذ شيئا فهو له ، لئلا يقعوا في محظور.

ومنها : أن الواجب يصح ، ولو فعله الإنسان مع الكراهة لمعنى من المعاني الشاقة (١) ، ذكره الحاكم (٢) ؛ لقوله تعالى : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) قال : يعني لما في ذلك من المشاق من كثرة الثمن وغيره (٣).

ومنها : حسن القيام بحق الوالدين ، والولد ؛ لأن القصة «أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح ، له عجلة بثلاثة دنانير ، وكان بارا بوالديه ، فأتى بهذه العجلة الغيضة ، وقال : اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر ، فشبت العجلة ، وكانت من أحسن البقر وأسمنها ، فاشتروها بعد المساومة من اليتيم وأمه بملء مسكها ذهبا ، وقيل : بوزنها عشر مرات ، ولم توجد البقرة الموصوفة إلا مع هذا اليتيم ، وكانوا يطلبونها أربعين سنة.

ومنها : ثبوت الردع عن المعاصي ، وإن كتمت فهذه خمسة عشر حكما.

__________________

(١) لعله يريد البقرة التي لا تدخل تحت التكليف ، فقد يطلق عليها لفظ الكراهة توسعا ، أو يريد كراهة المشقة لا الفعل. (ح / ص).

(٢) قال الحاكم في التهذيب : (وتدل على أن امتثال الأمر يقع موقعه ، وإن وقع من المكلف بكره ، لأنه قد ينكره للمشقة ، ويصح فعله).

(٣) قال الحاكم في تفسيره (أي قبل الذبح كادوا لا يذبحون ، قيل : لغلاء ثمنها ، عن محمد بن كعب ، وقيل : لقلة وجود مثلها ، وقيل : لخوف الفضيحة ، عن وهب والأصم ، وقيل : لهما ، وهذا لا يصح لأن موسى لم يخبرهم أنه يريد ذبح البقرة لإحياء الميت حتى الجئوا ، وكل ذلك كان خطأ منهم ، لأن الواجب المبادرة الى امر الله وإن لم يتمكن من ذلك إلا بالمال الكثير ، والتعب الشديد ، لأن وجوب الشيء يقتضي وجوب ما لا يتم ذلك الواجب إلا به).

١٦١

نكتة أصولية

اختلف أهل التفسير ، هل هذه الصفات كل شيء ناسخ لما قبله ، أو بيان؟

فقيل : ذلك بيان ، وضعف باتفاقهم على أنهم لو ذبحوا أيّ بقرة أجزأ قبل السؤال ، فلو كان بيانا لم يتأخر عن وقت الحاجة.

وقيل : الثاني ناسخ لما قبله ، وهو يجوز النسخ قبل الفعل إذا مضى وقته ، لا إن كان باقيا ، لأنه يشبه البداء ، هذا قول المعتزلة ، والصيرمي (١) ، وعند سائر الأشاعرة : جوازه قبل الفعل مع بقاء وقته.

وقيل : في كل جملة تكليف زائد ، وليس بنسخ (٢).

واختلفوا من وجه آخر : هل هذه الصفات يجب استيفاؤها حتى تكون لا فارض ، ولا بكر ، صفراء ، أو لا يجب إلا الصفة الأخيرة ، هذا خلاف بين المفسرين.

قوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ٧٥]

أي : أتطمعون أن يؤمن هؤلاء من اليهود ، وعن مجاهد : هم علماء السوء.

والثمرة من ذلك حكمان :

الأول : أنه يحسن الدعاء مع الإياس من إيمانهم ، لقدرتهم على الإيمان ،

__________________

(١) وفي نسخة (والصيرفي).

(٢) قوي ، صحيح. (ح / ص).

١٦٢

ذكره الحاكم ، وقد تقدم (١) زيادة.

الثاني : عظم الذنب في التحريف في الأمور الدينية من إظهار بدعة أو حكم أو فتوى.

قوله تعالى

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [البقرة : ٧٨]

لما تقدم ذكر أحبار اليهود ذكر عوامهم المقلدين لهم ـ أنهم لا يعلمون ما في التوراة إلا أماني ، يعني : إلا ما يتمنونه من المغفرة ، أن الله تعالى لا يؤاخذهم ، لكون الأنبياء آباءهم ، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة ، لقول علمائهم لهم بذلك. أو : إلا كذبا من علمائهم.

وقد استثمر من ذلك أمران :

الأول : أنه لا يجوز الأخذ بالظن فيما طريقه العلم.

الثاني : أن العوام تابعون لمن قلدوه في الخطأ ، فتكفر العامة من أهل الملل الكفرية ، وإن لم يعاندوا.

وقال الجاحظ ، والعنبري : لا يكفر من لم يعاند ؛ لأنه يلزم تكليف ما لا يطاق ، والإجماع على خلاف قولهم ، وأنهم من أهل النار ، وأنهم كلفوا بالإسلام ، وهم قادرون عليه ، واستدلّ عليهم بالظواهر نحو قوله تعالى في سورة ص : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص : ٢٧] وقوله تعالى في سورة السجدة : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ

__________________

(١) في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) في أول السورة.

١٦٣

أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) [فصلت : ٢٣] لكن نظّر الاحتجاج بهذه الآيات لاحتمالها التخصيص (١) ، فتكون دلالتها ظنية.

قوله تعالى

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة ٧٩]

قيل : هذه الآية نزلت في أحبار اليهود ، الذين غيروا صفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التوراة ، وكان فيها في صفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسمر ربعة ، فكتبوا فيها آدم سبطا طويلا

وقيل : كتبوا آدم أكهل.

الربعة : المربوع الخلق ، لا طويل ولا قصير. وآدم : أي : أسمر. وسبط : أي : اختلط بياض شعره بسواده (٢).

وقيل : إنهم حرفوا الحلال والحرام.

وقيل : إنها نزلت في كاتب كان يكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فغير ما يتلى عليه ، ثم ارتد ، ومات فلفظته الأرض.

والظاهر من أقوال المفسرين : أنها نزلت في علماء اليهود ، قيل : «ويل» واد في جهنم ، يهوي فيه الكافر أربعين خريفا ، قبل أن يبلغ قعره ،

__________________

(١) أي : تخصيص العموم ، يعني : أنه يمكن تخصيصها ، لكن يقال : ذلك في غير العلميات ، فأما العلميات كمسائل الوعد والوعيد ونحوها ، فالعام فيها قطعي الدلالة ، إذ لا يحتمل تخصيصا. (ح / ص).

وفي حاشية للمولى العلامة (مجد الدين المؤيدي) (أما العموم في الأصول فدلالته قطعية على ما حقق في مواضعه. على أن الاستدلال من جهة العموم إنما هو من حيث المؤاخذة مع الظن ، وذلك معلوم من الآيات ، سواء تخصصت أم بقيت على عمومها ، فلا وجه للتنظير ، وإنما هو وهم فتدبر.

(٢) هذا تفسير (الشمط) وأما السبط ، فالظاهر أنه : المسترسل الشعر.

١٦٤

رواه الخدري (١) عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : جبل في جهنم ـ نعوذ بالله تعالى منها ـ وقيل : العذاب. وقيل : إنها للتقبيح ، والسبب في تحريفهم ـ أعني اليهود ـ أنهم خافوا زوال رئاستهم ، فغيروا صفته.

وقيل : كانوا يأخذون من عوامهم الرشا ، فخافوا بطلانها.

وقيل : التحريف على موسى عليه‌السلام أنهم أخبروا عنه أن الساعة لا تقوم إلا على ملته.

والثمرة من هذه الآية الكريمة :

أن المكتسب من وجه محظور حرام ، وقد تقدم (٢) ، وأنه لا يجوز قبول رواية المبتدعة ، والمشبهة ، لجواز افترائهم لرياسة ، أو جر نفع يغيرونه لذلك ، ذكر هذا الحاكم.

وهذه المسألة خلافية بين الأصوليين ، فأكثر الفقهاء ، والقاضي ، وأبو رشيد واختاره المنصور بالله (٣) ، والشيخ الحسن : قبول خبره إن كان

__________________

(١) الخدري هو : سعد بن مالك بن عبيد الأنصاري ، أبو سعيد الخدري ، لأبيه صحبة ، وله كذلك ، شهد ما بعد أحد ، وكان من أجلاء الصحابة وفضلائهم ، وفقهائهم ، وكان يفضل عليا أمير المؤمنين على غيره ، وشهد معه حروبه ، وروى الكثير فهو من رواة الألوف ، مات بالمدينة بضع وستين ، وقيل : ٦٤ ه‍ رضي الله عنه.

(٢) في تفسير قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً).

(٣) وفي التقرير عن المنصور بالله أن شهادته لا تقبل ، (غيث) قال : لأن من أضاف القبيح إلى أحد من المسلمين لم تقبل شهادته ، فبالأولى من أضافه إلى الله تعالى : ذكره في شرح الفتح ، فأما على بعضهم بعضا فتقبل وفاقا ، ذكره في الصعيتري ، والخلاف في الشهادة والخبر واحد.

وفي الفصول ٢٩٢ (واختلف في كافل التأويل ، وهو من أتى من أهل القبلة ما يوجب كفره غير متعمد كالمشبه ، فعند بعض أئمتنا وأبي الحسين ، والرازي ، وجمفهور الفقهاء ، أنه يقبل ، وعند جمهور أئمتنا ، والمعتزلة ، والمحدثين ، والغزالي ، والباقلاني أنه لا يقبل ، وعن القاسم ، والهادي روايتان ، وللمؤيد بالله قولان أظهرهما القبول.

١٦٥

لا يستجيز الكذب ، لا إن استجازه ، كالخطابية (١) ، ويحتج لذلك بإجماع الصحابة ، وقال أبو علي ، وأبو هاشم : لا يقبل خبره.

وأما المجهول في دار الإسلام ، فالأكثر أنه لا يقبل خبره ، خلافا لأبي حنيفة

قوله تعالى

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) [البقرة : ٨٣]

اختلف المفسرون في معنى الميثاق المأخوذ منهم.

فقيل : الميثاق هو الأدلة من جهة العقل والشرع ، وقيل : الوعيد المقرون بالأوامر والنواهي.

وقيل : الميثاق العهد الشديد.

وهو في اللغة : العقد المؤكد بيمين ، أو عهد أخذا من الوثيقة.

وقيل : هو إقرارهم بما جاء به أنبياؤهم.

فإذا قلنا : إنه العقد المؤكد بيمين ففي ذلك دلالة على جواز التحليف على الأمور المستقبلة ، ويدخل فيه الوفاء بحق الله تعالى ، كأن يحلّف الإمام غيره ـ لا أرتكب أمرا محظورا ، أو لأوفين فلانا حقه ، وقد تقدم (٢) أن في ذلك خلافا بين الفقهاء في حق الآدمي.

__________________

(١) الخطابية : أتباع أبي خطاب الأسدي ، قالوا : الأئمة أنبياء ، وأبو الخطاب نبي ، وهؤلاء يستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم ، وقالوا : الجنة نعيم الدنيا ، كذا في التعريفات (حاشية فصول ٢٩٣).

(٢) في قوله (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ).

١٦٦

وأما الكفيل فلا إشكال فيما يصح بذله (١) كالأموال ، وأما كون الحاكم ، والإمام يطلبان كفيلا بأن فلانا لا يغصب فلانا ، ولا يعترضه ، فهذا لا تدل عليه الآية (٢) ، وثبوته من جهة القياس فيه نظر ؛ لأنه لا يصح مطالبة الكفيل بأمر من ذلك (٣) ، بخلاف الكفالة بالمال والنفس.

وقد أخذ من هذه الآية : ثبوت هذه الأمور المذكورة ، من الإخلاص لله تعالى في العبادة ، وثبوت حقوق الوالدين ، ويدخل فيه النفقة ، ولا فرق في ذلك بين كونهما مسلمين ، أو كافرين بالإجماع.

والآية تدل على الإحسان جملة ، وكيفيته وتفصيله موقوف على الدليل.

واختلف المفسرون في قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً).

قيل : أراد به الصدق ، فلا تحرفوا صفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا مروي عن ابن عباس ، ومقاتل ، وسعيد بن جبير ، وابن جريج (٤).

__________________

(١) في نسخة (بدله).

(٢) وسيأتى البحث في ذلك في آخر الممتحنة.

(٣) في الغيث (تنبيه) أما لو طلب إنسان كفيلا من ظالم [أي : يكفل على الظالم بعدم الاعتراض] في ماله ، فذلك غير لازم ، ولا يصح ، وقد يحتاط بعض القضاة ، وفي الكافي عن أبي حنيفة في نظير ذلك أنه ظلم.

(٤) ابن جريج هو : عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، بضم الجيم وفتح الراء مصغرا ، وآخره جيم الأموي ، مولاهم أبو الوليد ، ويقال : أبو خالد أحد العلماء الأثبات ، وجهابذة الحديث والفقه ، ويقال : هو أول من صنف ، روى عن عطاء وغيره ، ونقل عنه الهادي في المنتخب في باب الأوقات ، بواسطة عبد الرزاق وكان ثقة ثبتا حافظا ، ليس فيه مقال ، وهو أقدم شيخ لمحمد بن منصور المرادي ، وروى له سائر الأئمة توفي سنة ١٥٠ ه‍ ـ خمسين ومائة ، وقد نيف على التسعين ، وأصله من الروم ، ثم سكن مكة. (الجنداري).

١٦٧

وقيل : أراد به الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وهذا مروي عن سفيان

وقال جعفر بن مبشر (١) والأصم : المراد به الدعاء إلى الله ، كما قال تعالى في سورة النحل : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) وقيل : أراد حسن القول.

ثم اختلف هؤلاء فقيل : ذلك عام في المسلم والكافر ، وهذا مروي عن محمد بن علي (٢) ، وأبي عبيدة.

__________________

(١) (جعفر بن مبشر) الثقفي المعتزلي البغدادي ، قال المتوكل على الله : هو من شيعة المعتزلة ، وممن يوجب الهجرة من دار الفسق ، ومن المفضلين عليا عليه‌السلام ، ويقال : علم كعلم الجعفرين ، قلت : ليس للجعفرين رواية في الحديث ، ولا ترجمة ، إنما شهرتهما في علم الكلام ، وفاة جعفر بن مبشر سنة ٢٣٤ ه‍.

(٢) محمد بن علي : هو الإمام محمد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، الهاشمي ، الحسيني ، أبو جعفر ، الباقر ، سمي به لتبقره في العلم ، قال الشاعر :

يا باقر العلم لأهل التقى

وخير من يمشي على الأرجل

مولده بالمدينة ثالث صفر سنة ٥٧ ه‍ وكان عمره يوم قتل الحسين ثلاث سنين ، حدث عن أبيه ، وخلق ، وأدرك جابر بن عبد الله ، وروى عنه ، وعنه أولاده ، وجابر الجعفي ، روي عنه سبعين ألف حديث ، وكان يقول في أخيه زيد : لقد أوتي زيد علينا من العلم بسطة ، وفي تاريخ وفاته اختلاف أصحها أنه توفي سنة ١١٨ ه‍ ومات بالجحفة ، ونقل إلى المدينة ، ودفن بالبقيع ، بقبة فاطمة والعباس ، وأبيه علي ، والحسن بن علي ، خرج له أئمتنا جميعهم والمحدثون.

(٣) ومثله في الحاكم ولفظه (واختلفوا في معنى حسنا ، فقيل : يعني صدقا ، حقا في شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن سألكم فاصدقوا وبينوا صفته ، ولا تكتموا أمره عن ابن عباس وابن جريج ، وسعيد بن جبير ، ومقاتل ، وقيل : مروهم بالمعروف ، وانهوهم عن المنكر عن سفيان ، وقيل : الدعاء الى الله تعالى كما قال (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) عن الأصم وجعفر بن مبشر ، وقيل : قولوا لهم قولا حسنا ، ثم اختلف هؤلاء ، ـ

١٦٨

وقيل : هو خاص في المؤمنين (١).

واختلف من قال ذلك عام ، فعن قتادة ، وابن عباس : نسخ ذلك بآية السيف في حق الكفار ، وقال الأكثر : ليست بمنسوخة ؛ لأنه يمكن القتال مع حسن القول.

وإقامة الصلاة : دوامها ، وتمام أركانها.

قيل : وكانت زكاة أموالهم قربانا تنزل نار من السماء فتحرقها ، عن ابن عباس.

قوله تعالى

(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة : ٩٣]

يعني : أحبوه على الظاهر من أقوال المفسرين ، والمراد بالمحبة : الإرادة ، لا الشهوة ؛ لأن الشهوة لا يقدر عليها العباد ، ولا يصح الأمر بها ، ولا النهي عنها.

وعن السدي وابن جريج : لما رجع موسى عليه‌السلام إلى قومه أخذ العجل فحرقه (٢) ، ثم ذراه في اليم ، فلم يبق بحر إلا ووقع فيه شيئ منه ،

__________________

ـ فقيل : هو عام في المؤمنين والكفار عن محمد بن علي ، وأبي عبيدة ، وقيل : خاص في المؤمنين ، ثم اختلف من قال : إنه عام هل هي ثابتة أم منسوخة؟ فقال ابن عباس وقتادة ، نسختها آية السيف ، وقال أكثر اهل العلم : ليست بمنسوخة ، لأنه يمكن قتاله مع حسن القول ، وما هذا حاله فلا ينسخ أحدهما الآخر).

(١) في ب (ثم حرقه).

(٢) أي : علامة ، وقيل : إن من شرب منه وهو يحبه اصفر لونه. (ح / ص).

ولفظ الحاكم في التهذيب ((وأشربوا في قولهم العجل) قيل : حب العجل عن قتادة ، وأكثر أهل العلم ، وقال السدي : لما رجع موسى الى قومه أخذ العجل وحرقه بالمبرد ، ثم ذراه في اليم ، فلم يبق بحر يومئذ إلا وقع فيه شيء منه ، ثم قال لهم موسى : اشربوا منه فشربوا فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب ، فلذلك قوله ـ

١٦٩

ثم قال لهم موسى : اشربوا منه ، فشربوا ، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب ، والأول أظهر.

قوله تعالى

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [البقرة ٩٤ ـ ٩٥]

السبب في نزول هذه الآية : أن اليهود لما ادعت [هذه] (١) الدعاوى الباطلة كقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] وقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) [البقرة : ١١١] وقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] قيل لهم : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٩٤] في هذا ، هذا قول الأكثر.

وقيل : لما جادلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قيل : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) ، أي : ادعوا

__________________

ـ (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) وروي نحوه عن ابن جريج ، والأول الوجه لذكره القلوب! ولأنه لا يقال : أشرب من سقي الشفة ، ولأنه أظهر ، وعليه أكثر العلماء ، فأما معنى (أُشْرِبُوا) قيل : أدخل قلوبهم حبه ، كإشراب اللون لشدة الم زمة ، وقيل : لما داموا على عبادة العجل قيل : (أُشْرِبُوا) لأن الشرب مادة الزرع فلما أمروا بعبادة العجل قيل : اشربوا ، ويقال : من اشرب ذلك قلوبهم؟ قلنا : لم يرد أن غيرهم فعل ذلك بهم ، ولكن لفرط ولوعهم به ، والفهم لعبادته ، اشربوا في قلوبهم حبه ، والزموا ذكره ، ومحبته فذكر على ما لم يسم فاعله ، كما يقال : فلان معجب بنفسه ، وقيل : أشرب من زينه عندهم ، ودعا إليه ، كالسامري ، وابليس وشياطين الإنس والجن ، ولا يجوز أن يقال : إن الله تعالى فعل ذلك! لأنه ذمهم بذلك ووبخهم ، ولو كان ذلك فعله لما صح ذلك ، ولأن تزيين عبادة الصنم قبيح ، وقد نهى عنه ، وأوعد عليه ، ولا يجوز أن يفعله).

(١) ما بين القوسين زيادة في النسخة أ.

١٧٠

بالموت على الكاذب من الفريقين ، فلم يفعلوا ذلك ، وكان دعاء إلى المباهلة ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه ، فما بقي على وجه الأرض يهودي).

والثمرة المطلوبة من ذلك :

أن يقال : قد بين الله تعالى أن الصارف من التمني للموت هو ما فعلوه من المعاصي ، فيفهم أن من قدم الأعمال الصالحة ، فإنه لا يكره له التمني للموت

والجواب : أنه غير واثق بقبول العمل ، فلا يأمن أن يكون مقصرا فيما يلزمه فيما مر ، ويحصل في البقاء التلافي ، فلا يكون في الآية دلالة.

وهذه المسألة فيها إطلاقان وتفصيلان.

الأول : أن تمني الموت لا يجوز إلا بشرط المصلحة (١) ، وأن العلة في كراهة التمني أنه لا يعلم المصلحة ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، ولكن ليقل : اللهم أحيني إن كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إن كانت الوفاة خيرا لي) (٢).

ولأن ذلك يدل على الجزع ، وقلة التفويض إلى الله ، والصبر ، واختار هذا الحاكم ، والإطلاق الثاني : أنه يجوز مطلقا ، وعن أبي الدرداء : ما من مؤمن ولا كافر إلا والموت خير له ، ومن لم يصدقني فإن الله تعالى يقول : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) وقال تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً).

__________________

(١) وكذلك الرزق وغيره. (ح / ص).

(٢) متفق عليه. البخاري في كتاب المرضى ، باب تمني المريض الموت وفي كتاب الدعوات ، باب الدعاء بالموت والحياة ، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء ، باب : كراهة تمني الموت ، قريب من هذا اللفظ.

١٧١

القول الثالث : اختاره قاضي القضاة أنه إذا كان على ثقة جاز أن يتمنى الموت ؛ لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها ، وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم ، والتخلص من دار الشوائب ، وهذا كلام الزمخشري ، قال : كما روي عن المبشرين بالجنة ، وعن علي عليه‌السلام : «أنه كان يطوف بين الصفين في غلالة (١) ، قال له الحسن عليه‌السلام : ما هذا بزي المحاربين؟ فقال : يا بني لا يبالي أبوك على الموت سقط ، أم سقط عليه الموت» (٢).

وعن حذيفة (٣) أنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال : «حبيب جاء على فاقة ، لا أفلح من ندم» يعني : على التمني. ونحوه عن معاذ (٤) لما نزل الطاعون

__________________

(١) الغلالة : هي الرقيق من اللباس.

(٢) ليس هنا تمني للموت فيؤخذ منه الحكم ، وله عليه‌السلام في نهج البلاغة كلام معروف. (ح / ص).

(٣) حذيفة هو : حذيفة بن اليمان ، العبسي ـ بالموحدة من تحت ـ الأنصاري ، حليفهم ، أصله من اليمن ، أسلم رضي الله عنه هو وأبوه ، وهاجرا ، وشهدا أحدا ، وقتل والده بأيدي المسلمين غلطا ، فصاح حذيفة : يا مسلمون أبي ، فلما قتل ، قال : غفر الله لكم ، ووهبت دمه ، وأسلمت أمه وهاجرت وكان أحد النجباء ، وأحد الفقهاء أهل الفتوى ، وصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنافقين ، والمختص بأخبار الفتن ، وسئل علي عليه‌السلام عنه ، فقال : أسر إليه علم المنافقين ، وله مقامات محمودة في الجهاد أعظمها ليلة الأحزاب ، وخبره فيها مشهور ، وافتتح مدنا ، توفي رحمه‌الله تعالى سنة ٣٦ ه‍ عند خروج أمير المؤمنين علي عليه‌السلام لحرب الجمل ، وكان يحث على اللحاق ، ويقول : الحقوا بأمير المؤمنين ، وسيد المسلمين ، وكان وفاته بالمدائن.

(٤) معاذ بن جبل بن عمرو الأنصاري ، الخزرجي ، السلمي ، المدني ، كان من أعيان الصحابة ، وأفرادهم ، وإليه المنتهى في العلم والفتوى ، والحفظ للقرآن ، قال ابن مسعود : كنا نشبهه بإبراهيم (أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) ، أسلم وهو ابن ثماني عشرة ، وشهد العقبة الأخيرة وبدرا ، وما بعدها ، وبعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليمن وأبا موسى يعلمان الناس ، وقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله يا معاذ إني لأحبك ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أعلمهم بالحلال ـ

١٧٢

وقال عمار (١) بصفين :

اليوم ألقى الأحبة

محمدا وحزبه

وكان كل واحد من العشرة يحب الموت ، ويحن إليه.

القول الرابع : التفصيل (٢) ، وهو أنه إن خشي فتنة على دينه فلا كراهة في تمني الموت ، وإلا كره ، إذا تمنى الموت لضر نزل به.

قال النواوي : وهذا قاله العلماء من أصحابنا وغيرهم.

قال في السفينة : وعن ابن مهدي قال : «كنت كثيرا ما أسمع سفيان يتمنى الموت. فقلت له : يا أبا عبد الله أما بلغك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، ولكن ليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) قال : بلى ، ولكن هؤلاء القوم أحب أن أموت على السلامة منهم.

__________________

ـ والحرام معاذ بن جبل) وأقره على الاجتهاد لما قال له : أجتهد رأيي. قال جابر : كان معاذ من أسمحهم كفا ، وأجملهم خلقا ، ومناقبه واسعة ، مات رضي الله عنه في طاعون عمواس بالأردن سنة ١٨ ه‍ عن ثمان ، وقيل : ثلاث وثلاثين سنة.

(١) عمار هو : عمار بن ياسر بن عامر بن مالك العنسي ـ بالنون ـ ثم المدحجي ، القحطاني نسبا ، المخزومي حلفا ، وولاء كان هو وأبوه وأمه سمية ، وأخواه من السابقين الأولين المعذبين في الله ، وكانت سمية أول شهيدة في الإسلام ، شهد عمار جميع المشاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان مخصوصا بالبشارة والترحيب ، وكان أحد الأربعة الذين تشتاق إليهم الجنة ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (اهتدوا بهدي عمار) وقال (تقتلك الفئة الباغية) وولاه عمر على الكوفة ، وشهد مع أمير المؤمنين صفين ، واستشهد بها ، ولقتله اتضع للأغمار جانب الحق ، وكان آخر زاده من الدنيا شربة من لبن ، كما أخبر الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان رضي الله عنه طوالا آدم لا يغير شيبه ، وكان أخوه من المهاجرين سعد بن أبي وقاص.

(٢) وسيأتي في سورة يوسف في قوله تعالى : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) الإشارة إلى ما هنا ، وسيأتي في أول سورة الجمعة طرف مما هنا.

١٧٣

وعن عيسى الغفاري : أنه لما تمنى الموت روي له الخبر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به) إلى آخره. فقال : «أخاف أشياء ، سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتخوفهن على أمته».

وعن أبي هريرة (١) : والذي نفس محمد بيده ليأتين على الناس زمان يكون الموت أحب إلى العلماء من الذهب الأحمر ، حتى يأتي الرجل قبر أخيه فيقول : يا ليتني [كنت] (٢) مكانك).

وعن الثوري : كنت أرى مشائخنا يحبون الموت ، فكنت أعجب منهم ، حتى صرت الآن أعجب ممن لا يحب الموت.

ثم اختلف العلماء في التمني ، فقال أبو علي ، واختاره الحاكم ، والزمخشري وحكاه الحاكم عن أهل اللغة ، والنحو : أنه من قبيل الأقوال ، وقال أبو هاشم : إنه معنى في القلب ، فيلزم على القول الأول ، وهو قول الأكثر أنه لو أحب الموت ، وأراده بقلبه ، ولم يتمن بلسانه أنه لا يكره.

وقد ورد في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الموت تحفة المؤمن) (٣) أنشد في النهاية لابن الأثير (٤) :

__________________

(١) أبو هريرة هو : عمرو بن صخر ، أبو هريرة الدوسي ، اختلف في اسمه اختلافا كثيرا طويلا ، أشهرها ما ذكر ، أسلم عام خيبر ، سنة سبع ، وكان عريف مساكن الصفة ، وكان يلازم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملازمة كثيرة ، قالوا : فلهذا كان أكثر الصحابة رواية ، قال الشافعي : أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره ، قال المنصور بالله : وكان كثير الرواية في فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وتولى إمارة المدينة مدة ، أيام معاوية ، توفي سنة سبع ، أو تسع وستين ، عن ثمان وسبعين سنة ، بالعقيق ، وقيل : بالمدينة.

(٢) ما بين القوسين ساقط في أ ، وثابت في ب.

(٣) روي في جامع الأحاديث ضمن الحديث رقم ٢٣٧٣٦. ٦ / ٧١٦ عن جابر.

(٤) النهاية : كتاب لابن الأثير ، والشاعر : هو ابن الرومي ، ويروى البيت الأخير (فيه أمان لقائه بلقائه .. الخ) وابن الرومي : هو علي بن العباس بن جريج ، أو جورجيس الرومي ، شاعر كبير ، من طبقة بشار ، والمتنبي ، رومي الأصل ، كان جده من موالي بني العباس ، ولد ونشأ ببغداد ، ومات فيها مسموما ٢٢١ ـ ٢٨٣ ه‍.

١٧٤

قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا

في الموت ألف فضيلة لا تعرف

منها أمان عذابه بلقائه

وفراق كل معاشر لا ينصف

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) (١).

وقد فسر ذلك تفسيرا مأثورا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن هذا حالة الاحتضار ، فإن المؤمن يرى ما يشتاق إليه فيحب الموت ، والكافر يرى ما يكره فيكره الموت.

وأما تعليل القاضي بعدم الأمان من التقصير ، فهذا محتمل أنه يكره التمني باللسان ، والإرادة بالقلب ، حكي عن الإمام المؤيد بالله يحي بن حمزة عليه‌السلام أنه قال في مرض وفاته : «والله إني مشتاق إلى لقاء ربي ، اللهم إنا نسألك الثبات على طاعتك ، والسلامة من الفتن ، والهداية إلى سبيل الرشاد ، واستعداد المبلّغ من الزاد ليوم يقوم فيه الأشهاد ، إنك ملك جواد ، والصلاة على محمد سراج العباد وآله خير العباد وسلم».

قوله تعالى

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ١٠٠]

قال ابن عباس : لما ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عهد إليهم في التوراة في أمره والإيمان به ، قال مالك بن الصيف ، والله ما عهد إلينا في محمد عهد ولا ميثاق (٢) ، فنزلت هذه الآية ، وقيل : عاهد اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يعينوا الكفار عليه ، ثم نقضوا يوم الخندق ، وأعانوا قريشا ، وأرادوا أن يلقوا عليه حجرا ، فأخبره الله بذلك.

__________________

(١) أخرجه البخاري بأكثر من طريق ، وأخرجه مسلم عن عبادة بن الصامت ، وعائشة ، وأبي هريرة ، وأبي موسى.

(٢) في نسخة ب (والله ما عهد الينا في محمد عهدا ولا ميثاقا).

١٧٥

دل ذلك أن كتمان العلم لغرض دنيوي لا يجوز ؛ لأنهم كتموا ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأغراض دنيوية ، ومثل ذلك ما كان من (١) علماء السوء في وقت بني أمية ، وبني العباس ، من ميلهم إلى الظلمة ، وترك العترة المكرمة لأغراض دنيوية ، وقد أفرد الحاكم في كتاب السفينة بابا في علماء السوء ، قال فيه : روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لكعب بن عجرة : (يا كعب أعاذك الله تعالى من إمارة السفهاء ، أمراء يؤمرون فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ، ولست منه ، ولن يرد علي الحوض يوم القيامة).

ويدل ذلك على أن نقض العهد لا يجوز ، قال القاضي جعفر رحمه‌الله تعالى : «تحريمه معلوم بالضرورة من الدين ، فمن نقضه مستحلا كفر ، ومن نقضه غير مستحل فسق».

قوله تعالى

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٠١]

دل على أن الذنب مع العلم أعظم.

وقوله : (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) قال الشعبي (٢) : هو عبارة عن ترك العمل به.

__________________

(١) في أ (ما كان في علماء السوء).

(٢) الشعبي هو : عامر بن شراحيل الشعبي ـ بفتح الشين ، منسوب إلى شعب همدان ، أبو عمروا الكوفي ، ولد لست سنين من خلافة عمر ، روى عن أمير المؤمنين علي ، وجرير ، وغيرهما ، وعنه قتادة ، والأعمش ، وآخرون ، قال في التقريب : ثقة من الثالثة ، قال مكحول : ما رأيت أفقه منه ، وعده السيد صارم الدين في ثقات محدثي الشيعة ، توفي سنة ١٠٥ ه‍ وله اثنان وثمانون سنة.

١٧٦

وعن سفيان أدرجوه في الديباج والحرير ، وحلّوه بالذهب ، ولم يحلّوا حلاله ، ولم يحرموا حرامه ، وقد قال المنصور بالله : إن نسيان القرآن هو اطراح أحكامه.

قوله تعالى

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٠٢]

قيل : السبب في نزول هذه الآية أن اليهود كانوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زمانا عن أمور التوراة فيخبرهم ، فقالوا : هذا أعلم بما أنزل علينا منا ، فسألوه عن السحر ، فنزلت الآية.

وذلك عطف على (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [البقرة : ١٠١].

وقال ابن إسحاق إن جماعة من أحبار اليهود قالوا : ألا تعجبون من محمد يزعم أني سليمان كان نبيا ، وما كان إلا ساحرا ، وهذا معنى جواب المرتضى (١) عليه‌السلام ، فإنه قال : كانوا يزعمون أن ملك سليمان عليه‌السلام كان من السحر ، فبرأه الله تعالى.

__________________

(١) محمد بن يحي الهادي بن الحسين بن القاسم الرسي بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الإمام المرتضى المسمى جبريل أهل الأرض ، ولد سنة ٢٧٨ ه‍ وأخذ عن والده مؤلفاته وغيرها ، وكان ـ

١٧٧

ثم اختلف بعد ذلك في سبب إضافة اليهود السحر إلى سليمان ، فقيل : ذلك قالوه عداوة وكذبا.

وقيل : قالوه تكذيبا لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أخبر بنبوة سليمان عليه‌السلام.

واختلف بعد ذلك في لبستهم التي زوروها ، وكذبوها على سليمان عليه‌السلام ، فقيل : كانت الشياطين تسترق السمع ، فإذا سمعت كلمة حق كذبت معها مائة كذبة ، لتشتر بها قلوب الناس ، وجاؤا بها إلى الكهنة ، فأطلع الله تعالى سليمان على ذلك ، فجمع كتب السحر ، ودفنها تحت كرسيه ، وروي في خزانته ، ومنع الناس من العمل به (١) ، فلما مات وظهر ذلك قالت الشياطين : بهذا كان يتم ملكه ، وشاع في اليهود وقبلوه لعداوتهم سليمان عليه‌السلام.

وقيل : إن الشياطين كتبوا السحر على لسان أصف ، ودفنوه تحت كرسي سليمان ، وكان لا يعلم الغيب ، فلما مات أخرجوه ، وخدعوا الناس ، وقالوا : بهذا كان يتم ملكه.

وقيل : إن سليمان عليه‌السلام كان أودع تحت كرسيه شيئا من علومه كيلا يضيع ، فاستخرجوه ، وكتبوا بين أثناء أسطرها بخط يشبه المكتوب فيه أشياء من السحر والكهانة ، ثم عرضوها على الناس ، وأضافوها إلى سليمان.

وقيل : كان سليمان لا يصبح يوما إلا ونبت في محرابه شجرة ،

__________________

ـ عالما بالفقه وأصول الدين ، وله من المؤلفات في الفقه كتاب الايضاح والنوازل وغيرهما ، وله في علم الكلام مؤلفات ، وكان زاهدا ، ورعا ، قام بالإمامة بعد أبيه ، ثم تنحى عنها لأخيه الناصر ، ومدة انتصابه ستة أشهر ، بعد اعتزاله أغلق على نفسه الباب ، واشتغل بالعلم والعبادة ، حتى توفي في شهر المحرم سنة ٣١٠ ه‍ رحمه‌الله.

(١) في ب (من العمل بها).

١٧٨

فتذكر اسمها ولأي شيئ تصلح ، من ضر أو نفع ، حتى جمع الطب فنبت في آخر الأمر شجرة ، فقال : ما اسمك ، فقالت : أنا الخرنوب ، فقال : الآن أذن الله في خراب هذا المسجد ، وانقطاع هذا الملك.

وروي أنه قال للشجرة : لأي شيء أنت؟ فقالت : لخراب مسجدك ، فقال : بئس الشجرة أنت ، ولم يلبث أن مات ، فقال الناس بعد ذلك : لو كان لنا مثل سليمان ، يريدون في مداواته المرضى ، فكتبت الشياطين السحر ، ودفنوه تحت مصلاه ، ودلوا عليه ، وقالوا : هذا الذي كان سليمان يداوي به المرضى ، فرد الله تعالى عليهم بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال تعالى : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) يعني : بالسحر (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).

قيل : أراد الله تعالى كفروا بتعليم السحر ، وقيل : كفروا بغيره ، ومع ذلك (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).

وقوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) القراءة الظاهرة بفتح اللام ، واختلف بعد ذلك ، فقيل : إن ما بمعنى الذي ، أي : والذي أنزل على الملكين ، وهما ملكان أنزلهما الله تعالى على صورة بني آدم ، لما كثر السحر ليبينا بطلانه ، وأنه لا حقيقة له.

وقيل : هما جبريل وميكائيل عليهما‌السلام ، وأن ذلك في زمن إدريس ، ليكون معجزة له.

وقيل : إن «ما» نافية بمعنى : أنه لم ينزل السحر على الملكين ؛ لأن الذي ينزل على الملائكة يضاف إلى الله تعالى ، والسحر لا يضاف إليه.

وقراءة الحسن الملكين بكسر اللام ، وذلك مروي عن ابن عباس ، والضحاك ، وأنهما رجلان ، وليسا من الملائكة عليهم‌السلام ، بل هما علجان أغلفان ، ضالان ، وعلى قولنا : إنهما من الملائكة أخذ عليهما

١٧٩

النصيحة ، فيقولان : لا تكفر بتعلمه معتقدا أنه حق ، وإذا قلنا : إنهما رجلان ضالان ، فالمعنى في قولهما : (فَلا تَكْفُرْ) أي : إنما نحن كفار ضلال فلا تكفر.

وقوله تعالى : (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) قيل : بما يحصل من التميمة ونحوها مما يبغض ، وقيل : بما يلقيه الله تعالى من الفرك (١).

ابتلاء واختبارا عند ذلك.

وقيل : لأن من تعلّمه معتقدا ارتد ، فعند ذلك يفرّق بينه وبين زوجته.

وقوله تعالى : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) قيل : اراد بعلم الله ، ونظيره (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ).

وقيل : بفعل الله ؛ لأنه تعالى ربما أحدث فعلا ، وربما لم يحدث.

وقيل : بالأمراض التي من جهة الله تعالى ، وتحصل عند شرب السموم.

وقوله تعالى : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) يعني : ما يصيرون به إلى العذاب.

يؤخذ من جملة ذلك أحكام : الأول : أن النصيحة من المعلم للمتعلم واجبة لذلك قال الملكان : (فَلا تَكْفُرْ) بتعلمه معتقدا للصحة (٢).

الثاني : أن تعليمه وتعلمه ، ليعرف بطلانه جائز ، لذلك علماه

__________________

(١) الفرك ـ بكسر الفاء ـ البغضة عامة ، وقيل : الفرك : بغضة الرجل امرأته ، أو بغض امرأته له ، وهو أشهر. لسان العرب. وقد استعير لغير المرأة ، ومنه الحديث (الحب من الله ، والفرك من الشيطان).

(٢) في ب (لصحته).

١٨٠