يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥
قال في الثعالبي : وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «من وطىء امرأة وهي حائض فقضي بينهما ولد فأصابه جذام فلا يلومن إلا نفسه ، ومن احتجم يوم السبت أو يوم الأربعاء فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه».
فأما الكفارة فغير واجبة على رأي الأئمة عليهمالسلام ، وأكثر الفقهاء ، وذلك مروي عن علي عليهالسلام ، وما روي من التصدق على من أتى حائضا ، فهو محمول على أنه مستحب ؛ لأن الأخبار اختلفت ، ففي بعضها يتصدق بدينار ، أو نصف دينار ، وفي بعضها إذا أصابها في أول الدم فدينار ، وإن أصابها في انقطاع الدم فنصف ، وفي بعضها «أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر أن يتصدق بخمسي دينار ، روى ذلك أبو داود ، وقديم قولي الشافعي ، وأحمد : أنها واجبة ، وهو مروي عن ابن عباس.
وأما الاستمتاع منها في غير الفرج ، ففوق الإزار جائز وفاقا ، ودون الإزار في غير الفرج منعه أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وأحد قولي الشافعي ، لما روي أن رجلا قال لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال : لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها» ولأن قوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) عام إلا ما خرج بدليل.
وقيل : إنه من باب العام الذي أريد به الخاص بدليل قوله تعالى : (قُلْ هُوَ أَذىً) والأذى إنما يكون في موضع الدم ، وقولنا : إن قوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ) عام مبني على أن الفعل المتعدي عام بالإضافة إلى متعلقاته عند الأكثر ، خلاف لأبي حنيفة ، فلا يستقيم هذا ، وقال أكثر الأئمة عليهمالسلام ، والفقهاء : يجوز (١) وعن عائشة : يجتنب منها شعار الدم ، وكره القاسم عليهالسلام قربها خشية الوقوع في المحظور ، أما مؤاكلتها وتقبيلها فجائز بلا إشكال.
__________________
(١) أي : الاستمتاع فيما دون الإزار.
قال في الثعلبي : قالت عائشة : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يدعوني آكل معه وأنا عارك» والعارك : الحائض. قالت الخنساء :
لن تغسلوا أبدا عارا أظلكم |
|
غسل العوارك حيضا بعد أطهار |
وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يعترق (١) ، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمها عليه ، وهي حائض ، وكذا في الشرب.
الحكم الثاني : في جواز إتيانهن بعد انقطاع الدم ، وغاية التحريم (٢).
فقال أكثر العلماء من الأئمة عليهمالسلام والفقهاء : لا يجوز وطؤها حتى ينقضي الحيض ، وتغتسل إن وجدت الماء ، أو تيمم إن لم تجد ، وأخذوا ذلك من قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) لأن إحدى القراءتين (يطّهّرن) بفتح الطاء والهاء والتشديد ، وذلك لا يحتمل إلا الإغتسال.
وقوله تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) معناه : اغتسلن ، ذكره تعالى لفائدة ، وهو بيان الاتيان لهن ، فلا يقال : إنه تكرار لغير فائدة.
والقراءة الثانية : (حتى يطْهرن) بسكون الطاء ، وضم الهاء إن فسر بانقطاع الدم فهو غاية التحريم ، لكن له شرط آخر ، وهو التطهر لقوله تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) وقد يقال : قد تضمنت الآية نهيا ، وغاية ، وشرطا ، وإباحة.
ونظير هذا قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) [البقرة : ٢٣٠] فقد تضمن تحريما ، وغاية ، وشرطا ، وإباحة.
__________________
(١) الاعتراق : أكل ما على العظم من اللحم. (صحاح). (ح / ص).
(٢) المأخوذة من قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ).
ويجوز أن يحمل قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) على الإغتسال ؛ لأن قوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) قد أفاد اجتنابهن حال الدم ، فلو لم يحمل قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) على الاغتسال لكان تكرارا.
وقال أبو حنيفة ، وهو رواية عن زيد بن علي عليهالسلام : إن انقطع الدم لأكثر الحيض جاز وطؤها من غير غسل ، وإن انقطع لدون ذلك لم يجز حتى تغتسل ، أو يمضي عليها وقت صلاة عند أبي حنيفة ، وجعل بعض أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) أي : ينقطع دمهن لمن انقطع لأكثر مدة الحيض ، وقوله تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) أي : اغتسلن لمن انقطع دمهن لأقل مدة الحيض.
قال المؤيد بالله عليهالسلام : هذا تحكم بغير دليل.
ومنهم من قال : غاية التحريم انقطاع الدم.
وقال عطاء ، وطاووس : إذا توضأت وغسلت فرجها بالماء حل وطؤها.
قال في النهاية : عند الأوزاعي ، وأبي محمد بن حزم : إن غسلت فرجها بالماء جاز وطؤها. وسبب الخلاف : أن الطهر محتمل هل هو انقطاع الدم ، أو الطهر بالماء لجميع الجسد ، أو لموضع الدم ، وأبو حنيفة أيضا قال : قوله تعالى (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) يحمل على انقطاع الدم. قلنا : لفظ تفعّلن ظاهره ينطلق على فعل المكلفين ، قال : بل قد ينطلق على ما لا فعل له ، نحو : تكسر الكوز.
قلنا : ذلك مجاز (١) ، والحقيقة أولى ، وأيضا فهو قياس في اللغة ،
__________________
(١) يقال : تكسر ليس بمجاز ، بل هو مطاوع كسر ، تقول : كسرته فتكسر. (ح / ص).
قالوا : إذا فهم من قوله تعالى : (يَطْهُرْنَ) أنه أراد انقطاع الدم حمل (تَطَهَّرْنَ) على انقطاع الدم أيضا ، إذ ليس من عادة العرب أنهم يؤكدون الشيء بغير جنسه ، فلا يقولون : لا تعط فلانا درهما حتى يدخل الدار ، فإذا دخل المسجد فاعطه درهما ، بل إنما يقولون : فإذا دخل الدار فاعطه درهما ، إلا أن يكون هناك تقدير ، وهو : ولا تقربوهن حتى يطهرن ، ويتطهرن ، فإذا تطهرن ، والتقدير : يحتاج إلى دليل ؛ لأن الحذف مجاز ، والحمل على الحقيقة أولى.
قلنا : إن القراءتين كالآيتين ، وقد قري (يطَّهَّرن) بالفتح للطاء والهاء ، والتشديد ، والظاهر منه لفعل المكلف ، وقد ورد الشرط للغاية بجنس آخر ، كما في آية الطلاق ، إن قيل : فمن أين عرف أن التطهر هو الاغتسال لجميع الجسد ، لا غسل الفرج؟
قلنا : التطهر إن حمل على غسل جميع الجسد حصل فيه معنى المبالغة ، من حيث إنه يستباح به الممنوعات ، كالصلاة ، والقراءة ، وغيرهما.
وإن حمل على غسل الفرج لم يحصل معنى المبالغة ؛ لأن ذلك لا يبيح الصلاة (١). فإن قيل : إن الله تعالى جعل علة التحريم الأذى ، فيلزم في المستحاضة أن لا يجوز وطؤها. قلنا : هذا السؤال لا يرد ؛ لأن التعليل لما سألوا عنه وهو المحيض ، فعلل المسئول عنه وخرج الجواب على وفقه.
وجواب آخر : أن ذلك ليس بتعليل ، وإنما هو بيان وجه المصلحة ،
__________________
(١) قال في النيسابوري : (المراد بالتطهر الإغتسال ؛ لأن هذا الحكم عائد إلى ذات المرأة ، فوجب أن يحصل في كل بدنها لا في بعض من أبعاض بدنها) (ح / ص).
فيجوز أن تختلف المصلحة مع وجود الأذى ، كما اختلفت في سائر الأحكام ، هذان الجوابان في التهذيب (١).
الحكم الثالث
في ماهية الحيض ، وذلك يتعلق بصفته حتى تدخل الصفرة والكدرة ، وبوقته حتى تدخل الحامل ، أو تخرج ، وبحده في القلة والكثرة ، والآية الكريمة مجملة ، وبيان إجمالها من جهة السنة على تفاصيل المسائل الفقهية.
وقوله تعالى : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) هذا أمر إباحة ، والمعنى : من الموضع الذي أباحه لكم ، وهو القبل.
وقيل : المراد في حال الطهر دون الحيض. وقيل : المراد بالنكاح لا بالسفاح.
وقيل : المراد لا تأتوهن صائمات ولا محرمات.
وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) يعني مما عسى أن يندر منهم ، مما نهوا عنه (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) قال عطاء ، ومقاتل : يعني المتطهرين بالماء للصلاة ، واختاره القاضي. وقيل : من إتيان النساء في أدبارهن ، عن مجاهد.
وقيل : من الذنوب عن أبي العالية ، وسعيد بن جبير. وقيل : من الشرك.
__________________
(١) الجواب في التهذيب بتقديم وتأخير ، ولفظ التهذيب (ومتى قيل : إذا وجب اجتناب الحيض لأجل الأذى فوجب أن يلزم اجتناب المستحاضة أيضا بالأذى؟ قلنا : ليس ذلك بتعليل ، وإنما هو بيان وجه المصلحة ، ويجوز أن تختلف المصلحة في ذلك وإن كان الأذى موجودا في الحالين كما اختلفت سائر الأحكام ، وعلى ما حمله القاضي يتوجه السؤال ، وقيل : وقع عن الحيض فخرج الجواب على وفقه ، وبين أنه أذى ، ثم بين أحكامه لأجل أنه أذى).
وقيل : المتطهرين من جميع الأقذار ، كمجامعة الحائض ، والطاهر قبل الغسل.
وقيل : (التَّوَّابِينَ) من الكبائر ، و (الْمُتَطَهِّرِينَ) من الصغائر.
قوله تعالى
(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٢٣]
النزول : قيل : إن اليهود كانوا يقولون : من جامع امرأته وهي مجبية مكفوفة كالساجدة من دبرها في قبلها كان ولدها أحول ، فذكر ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : كذبت اليهود ، ونزلت الآية.
وعن الحسن : «أنكرت اليهود إتيان المرأة قائمة ، وباركة فنزلت».
وقيل : كان الأنصار يقتدون باليهود ، وكان من شأنهم أنهم لا يأتوا النساء إلا على حرف ، وذلك أيسر ما يكون على الامرأة ، هكذا في الثعلبي ، وكانت قريش يتلذذون بالنساء مقبلات ومدبرات ، ومستلقيات ، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع ذلك فأنكرته ، وسرى أمرهما حتى بلغ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فنزلت.
وقيل : إن عمر جاء إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا رسول الله هلكت؟ قال : «فما الذي أهلكك؟ قال : حولت رحلي البارحة (١) ، فلم يردّ عليه شيئا (٢) ، فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ).
__________________
(١) كانت العرب قبل الإسلام إذا حولت رحلها أي : باب الرحل وهو الخباء جعلته طلاقا ، فكنى هنا أنه خالف الطريق إلى الباب فأتى الباب وهو موضع الحرث من موضع آخر ، وعلى كيفية أخرى ، فتخوف أن يكون ذلك طلاقا كما كان في الجاهلية.
(٢) وفي نسخة (ولم يرد عليه شيئا).
تفسير الآية : (حَرْثٌ لَكُمْ) أي : موضع حرث ؛ لأن الحرث الزرع ، قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) [الواقعة : ٦٣] وهذا من الكنايات المستحسنة في كتاب الله.
قال الزمخشري : وعلى المؤمنين أن يتأدبوا بها في محاوراتهم ، ومكاتباتهم ، حيث شبه النساء بالمحارث ، والنطفة بالبذرة ، والولد بالزرع.
وقيل : أراد كحرث لكم ، فحذف كاف التشبيه ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) [الكهف : ٩٦] وقيل : إن العرب تسمي النساء حرثا ، قال الشاعر :
إذا أكل الجراد حروث قوم |
|
فحرثي همه أكل الجراد |
يريد امرأتي ، وقال آخر :
إنما الأرحام أرضون |
|
لنا محترثات |
فعلينا الزرع فيها |
|
وعلى الله النبات |
وقوله تعالى : (أَنَّى شِئْتُمْ :) كيف شئتم ، من أمام أو خلف ، بعد أن يكون المأتي واحدا ، وهو موضع الحرث.
عن سعيد بن المسيب : المعنى إن شئتم فاعزلوا ، وإن شئتم لا تعزلوا ، واستدل على هذا التأويل بما روي عن ابن عباس أنه سئل عن العزل ، فقال : حرثك فإن شئت فأعطش ، وإن شئت فارو ، وقد اختار هذا الإمام يحي عليهالسلام.
وعن عبد الله (١) : «تستأمر الحرة لا الأمة» وهذا مذهب الأكثر ؛ لأن بإذنها ترتفع المضارة.
__________________
(١) هو عبد الله بن مسعود ، وقد تقدم أنه إذا أطلق هنا ، فالمراد به ابن مسعود.
ومنعه بعضهم مطلقا ، وقال : إنه الوأدة الصغرى.
وقوله تعالى : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) قيل : امثال ما أمرتم به ، واجتناب ما نهيتم عنه ، وقيل : طلب الولد.
وقيل : التزوج بالعفائف. وقيل : التسمية على الوطىء.
وفي البخاري ، ومسلم عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : (لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فقضي بينهما ولد لم يضره الشيطان)
قال في الانتصار في آداب الضيافة : ويستحب أن لا يصلى على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عند الأكل لما روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : (موطنان لا أذكر فيهما وإن ذكر الله تعالى عند الأكل ، وعند الجماع).
وذكر الهادي عليهالسلام في الأحكام : ينبغي لمن أتى أهله أن يذكر اسم الله تعالى قبل أن يغشاها ، ويصلي على محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ويسأل الله أن يجعله إتيانا مباركا ، وإن رزقه ولدا أن يجعله تقيا زكيا ، مباركا سويا» هذا لفظه.
قال في الثعلبي : وقيل : هو تقديم الأفراط ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحلة القسم ، فقالوا : يا رسول الله واثنان؟ قال : واثنان» فظننا أنه لو قيل له : واحد. لقال : واحد.
الثمرات المقتطفة من الآية ، وهي تدل على أحكام :
الأول : جواز إتيان المرأة في قبلها ، من أمام أو خلف ، وبطلان مقالة اليهود.
الحكم الثاني : تحريم إتيانهن في أدبارهن ؛ لأنه تعالى شبه ذلك بموضع النبات ؛ ولأنه لا يفارقه الأذى ، وقد وردت السنة بتحريمه ، ففي الحديث عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : (لا تأتوا النساء في أدبارهن).
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم (إن الله (لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) لا تأتوا النساء في محاشهن).
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم (من أتى حائضا أو امرأة في دبرها ، أو صدق كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد).
وروى أبو داود عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم (ملعون من أتى امرأته في دبرها).
وقد روي جواز ذلك عن مالك ، وابن عمر ، والامامية ، لكن غلّطت الرواية عن مالك ، والرواية عن ابن عمر.
وشبهتهم قوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي : كيف شئتم (١) ، وقد عرف بطلانه من حيث إن الله سبحانه شبه ذلك بموضع الحرث.
الحكم الثالث : استحباب محاسن العبارات ، ولطيف الكنايات ، كما تقدم.
الحكم الرابع : العزل ، على ما ذكر فيه ، وقد تقدم طرف من ذلك ، وقد ذكر أبو داود أخبارا في إباحة العزل منها :
أن رجلا من الأنصار قال للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم «إن لي جارية أطوف عليها ، وأنا أكره أن تحمل؟ فقال : اعزل عنها إن شئت ، فإنه سيأتيها ما قدر لها ، قال : فلبث الرجل ، ثم أتاه فقال : إن الجارية قد حملت ، قال : قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها» قيل : لأنه قد يسبق من الماء ما يسبق.
قال الأئمة عليهمالسلام : لكن يشترط في الحرة إذنها ؛ لترتفع المضارة ، والإمام يحي لم يشترط الإذن ، قال : كما لو استمتع منها في غير الفرج.
الحكم الخامس : التقدمة لما ذكر من طلب العفة ، والولد ، والتسمية ، والرضاء بنفع الفرط.
__________________
(١) صوابه (أين شئتم). أما تفسيرها بكيف شئتم فهو تفسير المانعين من الجواز في الدبر ، لأن كيف للحالة ، وليس للموضع.
قوله تعالى
(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٢٤]
سبب النزول
قيل : إن عبد الله بن رواحة حلف لا يدخل على ختنه (١)) بشير بن النعمان ، ولا يكلمه ، ولا يصلح بينه وبين خصم له ، لشيء كان بينهما ، وكان يقول : حلفت بالله لا أفعل .. فنزلت الآية.
وقيل : نزلت في أبي بكر حين حلف لا يصل ابنه عبد الرحمن حتى يسلم.
وقيل : نزلت في أبي بكر حين حلف لا ينفق على مسطح بن أثاثة ، حين خاض في حديث الإفك.
المعنى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً) أي : علة مانعة ، والعرضة (٢) : مأخوذ من العرض ، وهو المنع ، ومنه : عرض العود على الإناء ، أي جعله مانعا.
__________________
(١) الأختان من قبيل المرأة ، والأصهار من قبيل الرجل والمرأة ، والأحماء من قبيل الرجل.
(٢) قال الحاكم في التهذيب : (والعرضة أصلها القوة والشدة ، ومنه سمي الدابة المعدة للسفر عرضة ، ثم قيل : لكل ما صلح لشيء : هو عرضة له ، يقال : هذا عرضة لك أي عدة تبتذله قال الشاعر :
فهذي لأيام الحروب وهذه |
|
للهوي وهذي عرضة لا رتحاليا |
وقال ابو العباس : العرضة الإعتراض في الخير والشر ، وقيل : الإعتراض المنع ، وكل شيء منعك فقد اعترض عليك ، والعرضة المانعة من البر عن الأزهري ، وبر وحنث في اليمين على التعاقب).
وقيل : عدة مبتذلة لكل حق وباطل ، وكل ما أعد للشيء قيل له : عرضة ، قال الشاعر (١) :
فهذي لأيام الحروب وهذه |
|
للهوي وهذي عرضة لارتحاليا |
والمعنى على الأول : لا تجعلوا اليمين مانعة عن فعل الخير ، وعلى الثاني : لا تجعلوا اليمين عدّة في أموركم.
وقوله تعالى : (لِأَيْمانِكُمْ) أي : للشيء الذي يحلف عليه ، وسمي المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين ، ولهذا قال صلىاللهعليهوآلهوسلم لعبد الرحمن بن سمرة : (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها ، فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك).
وقوله تعالى : (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) فيه وجوه :
الأول : أن قوله : (أَنْ تَبَرُّوا) عطف بيان (لِأَيْمانِكُمْ) أي : الأمور المحلوف عليها هي (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ).
الثاني : أن التقدير أن لا تبروا فحذف لا كما ورد حذفها في قول امرؤ القيس :
فقلت يمين الله أبرح قاعدا |
|
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي |
الثالث : أن التقدير لترك البر ، فحذف المضاف (٢) ، فالمعنى : لا تحلفوا على ترك البر والتقوى. هذا قول أبي العباس (٣) ، والثاني لأبي عبيدة.
الرابع : أن التقدير الاثبات ، أي : لتبروا ، معنى (تَبَرُّوا) يعني تبروا
__________________
(١) نسبه في القرطبي لعبد الله بن الزبير ، ولم ينسبه إلى أحد في الحاكم ، ولا في مجمع البيان.
(٢) أي : ترك ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهو أن تبروا لأنه في معنى البر.
(٣) أبي العباس هو : المبرد
في اليمين ، وقيل : من البر الذي هو التقوى ، وهو الظاهر ، أي : لا تجعلوا اليمين مانعة من هذه الأشياء ، أو لا تتعرضوا لكثرة الأيمان ، ليحصل منكم البر في الأيمان ، والتقوى ، والإصلاح بين الناس ؛ لأنكم عرفتم بقلة الأيمان صلحتم لهذه الخلال ، وقد دلت الآية على أحكام وهي ثمراتها :
الأول
أن اعتياد الأيمان ، وجعلها مبتذلة منهي عنه ، وقد ذم الله تعالى بذلك من أنزلت فيه آية القلم (١) ، وهي قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) [القلم : ١٠] لأن لفظ (حَلَّافٍ) للمبالغة كشتام ، وضراب ؛ لأن الحلاف مجترئ على الله تعالى غير معظم له ، فلا يكون برا تقيا مصلحا بين الناس ؛ لأنهم لا يثقون به
الحكم الثاني
النهي عن اليمين على ترك الطاعات للسبب الواردة [هي] (٢) عليه ، وعلى تفسير أن العرضة مفسرة بالمنع من البر.
الحكم الثالث
أن من حلف ليترك طاعة فإنه يشرع له الحنث وجوبا إن كانت واجبة ، أو مستحبا إن كانت مستحبة ، وعليه حديث عبد الرحمن بن سمرة.
قال في الثعلبي : وسأل سنان بن حبيب سعيد بن جبير ، قال : إني غضبت على مولاة لي كان مسكنها معي ، فحلفت أن لا تساكنني ، فقال :
__________________
(١) هو الوليد بن المغيره لعنه الله.
(٢) ما بين القوسين موجود في النسخة ب ومحذوف في النسخة أ ، وقد صححة حاشية ، وقال : (وكان عليه إبراز الضمير لجري الصفة على غير من هي له).
هذا من عمل الشيطان ، كفر عن يمينك ، وأسكنها ، ثم قرأ (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) الآية.
وقد وردت أحاديث في بعضها تقديم الكفارة على الحنث ، وبذلك أخذ الشافعي (١) ، وفي بعضها تأخير الكفارة ، وبهذه أخذنا ، وروي عن الناصر عليهالسلام قول : أنه إذا كان الحنث أقرب إلى الله فلا كفارة ؛ لأن في بعض الأخبار (وذلك كفارته) وهذا رواه في التهذيب عن الشافعي ، والمشهور عنه إيجابها.
وفي الثعلبي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم (من حلف على قطيعة رحم ، أو معصية فبرّه أن يحنث فيها ، ويرجع عن يمينه).
وفي سنن أبي داود أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لما أخبره أبو بكر أنه أكل مع ضيفه ، وقد حلف لا أكل ليلته ، [وقد] (٢) حلفوا لا طعموه حتى يطعمه فأكل ، فلما أخبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «بل أنت أبرهم وأصدقهم».
وقد يجمع بين الخبرين : بأن الأمر بالتكفير مستحب ، وعدم الأمر بالكفارة لكونها غير واجبة ، والأشهر ما ورد من إيجاب الكفارة ، فلا يقال : النهي يقتضي فساد المنهي عنه فتسقط الكفارة للتصريح بإيجابها في الحديث.
الحكم الرابع
جواز اليمين فيما لا يمنع من البر من مباح أو معصية ، وذلك مأخوذ من تقييد النهي باليمين المانعة من البر.
__________________
(١) عند الشافعي جواز التكفير قبل الحنث إذا كان بغير الصيام ، لا بالصوم فيوافقنا ، وكذا إذا كان الحنث معصية.
(٢) ما بين القوسين محذوف في أ ، والضمير في (حلفوا) للضيوف.
قوله تعالى
(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة : ٢٢٥] دلت هذه الآية على أن اللغو لا مؤاخذة فيه ، فلا إثم ولا كفارة.
لكن اختلف في تفسير اللغو ، فالذي عليه أكثر الأئمة عليهمالسلام ، وهو قول أبي حنيفة ، قال في التهذيب : وهو مروي عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وإبراهيم ، والزهري ، وقتادة : أن اللغو هو أن يحلف ويظن أنه صادق فانكشف كاذبا (١).
وقال الشافعي : هو ما يقصد به التأكيد للكلام من غير قصد إلى اليمين ، من قولهم لا والله ، وبلى والله ، وروي هذا عن عائشة ، والشعبي ، وعكرمة ، وأبي مسلم. وعن ابن عباس : يمين الغضبان. وعن الشعبي ، والأصم ، ومسروق : اليمين في المعصية (٢) ، وكل يمين لا يكون له الوفاء بها فهي لغو لا كفارة فيها.
وقيل : اللغو اليمين المكفرة ؛ لأن التكفير يسقط الإثم.
وقيل : هي أن يحلف ثم يحنث ناسيا (٣).
__________________
(١) هذا هو المختار للمذهب ، وقال الناصر ، ومحمد بن المطهر : اللغو هو ما قلنا ، وما قاله الشافعي جميعا.
(٢) المتبينة.
(٣) هذا هو الفظ في أ ، ولفظ النسخة ب (هي أن يحلف ثم يحنث ناسيا) وعليه تعليقة في الأصل ، أما الحلف ناسيا فهو عندنا وعند القائل ، والحنث ناسيا عند القائل ، وليس للمذهب [وذلك لأنه جعل (ناسيا) متعلقا بالحلف ، وبالحنث ، وليس كذلك ، بل هو متعلق بالحنث فقط ، فلا يرد الإشكال. وانظر لفظ الحاكم ، ولفظه (قيل : اللغو أن يحلف ، وهو يرى أنه صادق ، ثم تبين أنه كاذب عن ابن عباس والحسن ومجاهد وابراهيم والزهري وسليمان بن يسار وقتادة والربيع والسدي ـ
وقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) قيل : يعني فيما عرفتم فيه الكذب ، فيحصل به الإثم والمؤاخذة ، وقيل : فيما أردتم به اليمين فتؤاخذون فيه بالكفارة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة ، وبيان الدليل على تفسير ماهية اللغو (١).
قوله تعالى
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٢٦ ـ ٢٢٧]
__________________
ـ ومكحول ، وهو قول ح وأصحابه ، وقيل : ما يصله بكلامه من غير قصد كقوله : والله وبلى والله عن عائشة والشعبي وعكرمة والشافعي ، وأبي مسلم ، وقيل : هو يمين الغضبان عن ابن عباس وطاووس ، وروي نحوه عن علي عليهالسلام وسعيد بن جبير ، غير أنه قال يحنث ويكفر ، وطاووس قال لا يؤاخذكم بالحنث ، وقيل : هو اليمين في المعصية عن الشعبي والأصم قال مسروق : كل يمين ليس له الوفاء بها فهي لغو ولا يجب فيها كفارة ، وقيل : اليمين المكفرة تسمى لغوا ، لأن الكفارة أسقطت الإثم ، كأنه قيل : لا يؤاخذكم الله باليمين إذا كفرتم عن الضحاك ، وقيل : هو أن يحلف ثم يحنث ناسيا ، فلا يؤاخذ به عن إبراهيم).
(١) وقال الحاكم في التهذيب (وقد قال أصحابنا [يريد الحنفية] الأيمان ثلاث اللغو ، وقد بينا ، ولا إثم فيه ، ولا كفارة ، والثاني الغموس ، وهو أن يتعمد بالحلف كاذبا ، وفيه التوبة ولا كفارة ، وقال ش الكفارة أيضا ، وهذان يقعان في الماضي ، والثالث المنعقد على المستقبل أن يفعل أو يفعل ، فإذا حنث ففيه الكفارة ، وهذا قول الحسن وجماعة من الفقهاء ، ثم اليمين المنعقدة ثلاث على طاعة فيجب الوفاء بها ، فإن حنث فعليه الكفارة ، وعلى معصية فيجب ان لا يأتي ، فإن أتى عصى الله وكفر عن يمينه ، وعند الشافعي لا كفارة ، ويمين على مباح فيخير بين الحنث والبر ، فإن حنث فعليه الكفارة. والأيمان على ضربين ـ يمين بالله ، أو صفة من صفات ذاته ، وفيه الكفارة ، كقولك : وقدرة الله. والثاني ـ بغير الله فهو على ضربين ـ إن لم يكن شرطا وجزاء فليس بيمين كقولهم ، والقرآن والقبلة ، فإن كان شرطا وجزاء يعد يمينا في عرف الشرع ، كما لو قال لعبده : إن دخلت الدار فأنت حر ونحوها
النزول : قال قتادة : كان الإيلاء طلاق الجاهلية ، وفي ابتداء الإسلام إذا كانوا لا يريدون المرأة ، ويكرهون أن يتزوجها الغير يحلف الرجل أن لا أقربها ، فيتركها لا أيّما ، ولا ذات بعل.
وروي : أن الجاهلية كانوا يؤلون السنة والسنتين ، قال في الانتصار : وقد آلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من نسائه ، والذي في مسلم «حلف لا قربهن شهرا ، وبر في يمينه فأنزل الله حكم الإيلاء ، وجعل الأجل أربعة أشهر» وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) أي : يحلفون من وطء نسائهم ، فحذف لدلالة الحال عليه
واعلم أنه يتعلق بهذه الآية أحكام :
الأول : أن حكم الإيلاء وهو الفيء أو الطلاق ثابت بصريح الآية ، لمن حلف لا وطىء زوجته بالشروط المذكورة (١) ؛ لا إن حلف من أمر غير ذلك.
وقال سعيد بن المسيب : إذا حلف لا كلمها كان موليا (٢) ، وقد سقط خلافه
فأما لو لم يحلف ، بل عزم على ترك الوطء فإنه لا يلزمه هذا الحكم بعزمه عند جمهور العلماء ، لعدم الدلالة ، واستصحاب الحال.
وقال مالك : إذا عزم على ذلك قاصدا لضرارها لزمه حكم الإيلاء ؛ لأن الضرار بذلك هو الموجب ، فسواء شدده باليمين أم لا ، حكاه عنه في النهاية.
__________________
(١) والشروط المذكورة هي : أن يكون قسما ، والحالف مكلفا ، مختارا ، مسلما ، غير أخرس ، لا وطء زوجة تحته كيف كانت ، مصرحا أو كانيا ، ناويا ، مطلقا أو موقتا بأربعة أشهر فصاعدا ، أو بما يعلم تأخره عنها ، أو بموت أيهما.
(٢) في ب (يحلف الرجل أن لا أقربها). (حلف لا أقربهن شهرا). (لا يوطي زوجته) (إذا حلف لا أكلمها).
الحكم الثاني : في ماهية اليمين الذي يثبت بها هذا الحكم ، فقال مالك ، وأبو حنيفة ، وقديم قولي الشافعي : يكون موليا بكل يمين ؛ لأن ذلك داخل في إطلاق الآية ، وأن الحالف به يسمى موليا ، قال أبو حنيفة :
إلا أن يحلف بالصلاة ، ومذهبنا ، وأخير قولي الشافعي : أنه لا يلزمه حكم الإيلاء إلا بما يلزم به الكفارة ؛ لأن كل واحدة من اليمينين يترتب عليها حكم شرعي ، فوجب أن تكون أحداهما هي الأخرى.
الحكم الثالث : في مدة الإيلاء ، فقال الأكثر : لا يكون موليا بدون أربعة أشهر ؛ لأن هذا مروي عن علي عليهالسلام ، وابن عباس ، وهو اجماع الآن.
وحكي عن ابن مسعود ، والحسن ، وابن سيرين ، وابن أبي ليلى ، وقتادة ، وإبراهيم ، وحماد : أنه يكون موليا بدونها ؛ لأنه ينطلق عليه أنه مول وحالف.
وحكي عن ابن عباس أنه لا يكون موليا حتى يحلف لا جامعها أبدا ؛ لأن الآية لم تقيد زمن الحلف ، وإنما قيدت زمن التربص ، وأما لو أبهم المدة كان موليا ؛ لدخوله في إطلاق اسم الإيلاء ، وعدم الدلالة المخرجة له ، وهذا قول القاسم ، والأحكام ، وأكثر الفقهاء خلافا للمنتخب ، وأبي العباس (١) ، ويحمل على هذا إذا قيد بموت أحدهما ، أو بأمر لا يحصل إلا بعد الأربعة في العادة (٢).
الحكم الرابع : هل المرأة تطلق بمضي الأربعة الأشهر حيث لم يف ، أو لا تطلق إلا بالتطليق؟
__________________
(١) الخلاف المذكور جعله في الغيث مع الإطلاق والتقييد بالموت.
(٢) كحتى تطلع الشمس من المغرب ، أو حتى ينزل المسيح.
فقال علماء أهل البيت عليهمالسلام : لا تطلق إلا بتطليق (١) ، وهو مروي عن علي عليهالسلام ، وابن عباس ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وعن سليمان بن يسار أنه قد قال : «أدركت أربعة عشر من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقولون بذلك» وبه قال مالك ، والشافعي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، وابن مسعود ، وعثمان ، ومروي أيضا عن علي عليهالسلام ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، أن بمضي أربعة أشهر تقع عليها طلقة بائنة ، ورواه في الكافي عن زيد بن علي ، ومحمد بن الحنفية.
وسبب الخلاف أن أهل القول الأول فهموا أن المراد بقوله تعالى : (فَإِنْ فاؤُ) إلى آخره أنه بعد مدة التربص لا فيها ، ومن ثمّ قال مالك ، والشافعي : لا بد أن تكون مدة الإيلاء أربعة أشهر ، ووقت يمكن المرافعة فيه ، لأن المرافعة لا تكون إلا بعد التربص ، لكن اشتراطهم للزيادة من هنا غير لازم ، وأهل القول الثاني فهموا أن الفيء في مدة التربص ، والعزم على الطلاق أن لا يفيء حتى تمر مدة التربص ، واستدل أبو حنيفة بقراءة عبد الله (فإن فاؤا فيهن) وهي شاذة.
نصرة القول الأول من وجوه :
الأول : أن الله تعالى جعل مدة التربص حقا للزوج لا للزوجة ، فأشبهت مدة الأجل في الدين المؤجل ، فيلزم أن تكون المطالبة بعد المدة ، ولا تطلق بها ، هذا وجه.
الوجه الثاني : أن الله تعالى أضاف الطلاق إلى فعله ، وعلى القول الثاني هو لا يقع من فعله إلا مجازا ، والمجاز لا يذهب إليه مع مخالفته الظاهر إلا لدلالة.
__________________
(١) في ب (بالتطليق).
الثالث : أنه تعالى قال : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وهذا يقتضي أن يكون الطلاق على وجه يسمع ، وهو وقوعه باللفظ لا بانقضاء المدة ، وقد قال الزمخشري : العازم على الطلاق لا يخلو من مقاولة ، وحديث نفس ، وحديث النفس لا يسمعه إلا الله تعالى ، كما يسمع وسوسة الشيطان.
الرابع : أن الفاء للتعقيب في قوله تعالى بعد أن ذكر التربص (فَإِنْ فاؤُ) وقد قال الزمخشري (١) : ليست للتعقيب المذكور ، وإنما هي لتفصيل قوله (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ) ثم فصل بقوله : (فَإِنْ فاؤُ وَإِنْ عَزَمُوا) والحنفية شبهوا مدة التربص بالعدة في الرجعي ، لأنها إنما شرعت لعدم الندم.
الحكم الخامس : إذا امتنع الزوج من الطلاق على قولنا : إنه لا يقع الطلاق بمضي المدة ، ماذا يكون الحكم؟ فمذهبنا ، والشافعي في القديم : أنه يحبس ولا يطلق عنه الحاكم ؛ لأن الآية قد قضت بتخيير الزوج. فلو قلنا : يطلق الحاكم بطل خياره ، وكما لا يطلق إذا ضارر الزوج وتمرد عن الإنفاق على قولنا.
وقال مالك ، وأحد قولي الشافعي : يطلق عنه الحاكم لدفع الضرر.
واعلم أن مخالفة الأصل للمصلحة العامة لا يقول به أكثر الفقهاء ، وهو الذي يعرف بالقياس المرسل ، والمنقول عن مالك العمل به ، وقد
__________________
(١) ولفظ الزمخشري (فإن قلت : كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدّة التربص؟ قلت : موقع صحيح لأن قوله (فَإِنْ فاؤُ) ، (وَإِنْ عَزَمُوا) تفصيل لقوله (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) والتفصيل يعقب المفصل ، كما تقول : أنا نزيلكم هذا الشهر ، فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره ، وإلا لم أقم إلا ريثما أتحوّل).
ذكر الأزرقي (١) في مسألة الوليين إذا زوجا المرأة ووقع اللبس أن الحاكم يجبرهما على الطلاق.
وقال الحقيني (٢) عليهالسلام ، والأستاذ ، وأبو مضر : يفسخه الحاكم.
والنكاح في مسألة المولي آكد فهو محتمل للفرق (٣).
__________________
(١) الأزرقي : أحمد بن محمد الأزرقي ، السيد الإمام الهدوي ، هذا السيد ممن له اليد الطولى في الفقه ، وتخريج المذهب ، قال في المستطاب : هو اليمني صاحب جامع الخلاف ، شيخ مطهر بن كثير ، واعترض عليه ، بأن هذا ليس ذاك ، وأن الأزرقي من أئمة الجيل والديلم ، قام وادعى ، وتلقب بالمنتقم لله ، فينظر. شرح الأزهار ١ / ٦.
(٢) الحقيني هو : علي بن جعفر بن الحسن بن عبيد الله بن علي بن الحسين بن الحسن بن علي بن أحمد الحقيني ، وهو الذي سكن قرية يقال لها : حقينة بالقرب من المدينة ـ ابن علي بن الحسين الأصغر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي الحسيني ، أبو الحسن الإمام الهادي ، المعروف بالحقيني الصغير ، والكبير والده ، قال حميد الشهيد : أجمع أهل عصره على أن سبع علمه آلة للإمامة ، قام في بلد الاستندارية من أرض الديلم ، بعد وفاة الناصر الصغير سنة ٤٧٢ ه وكان الحقيني مشتغلا بالأمر في بلاد ديلمان ، وكان أبو الرضا محتسبا في بلاد جيلان ، كان الحقيني فقيها متكلما ، له المقالات في العوم ، والتأليف من أهل البصيرة التامة ، ولم يزل قائما بأمر الله إلى أن حضر يوما ببلدة كجوه من بلاد الاستندارية فوثب عليه رجل حشيشي في المسجد فقتله ، رضوان الله عليه في يوم الاثنين في رجب سنة ٤٩٠ ه ونقل إلى بكار ودفن بقرية قفشكين ، قال الشيخ محي الدين الجيلاني : هبت ريح بعد نحو مائة سنة من موته فكشفت قبره ، حتى رؤي كما دفن ، حتى شعر لحيته ، هذا هو المراد بالحقيني ، ذكره المنصور بالله ، وحميد الشهيد ، والإمام الحسن ، والإمام المهدي ، والحاكم ، ومحي الدين الجيلاني ، وهو أعرف به ، وثمة حاشية في الشرح من هامش الهداية ، أنه يحي بن الحسين ، وأنه الكبير ، ولا أصل لها ، بل هي سهو ، ولم يوجد ذلك في غيرها ، فليعلم.
(٣) لعل الفارق بينهما ـ والله أعلم ـ أن المولى منها زوجة ، وحقوقها ثابتة على الزوج فلا ضرر عليها ، كما قالوا في امرأة المعسر : إنه لا فسخ لهذة العلة بخلاف مسألة الوليين ، فالنفقة ساقطة مطلقا عند من يقول بالوقف ، ومن يقول بالبطلان ، لأنه لا تحويل على من عليه الحق ـ والله أعلم ـ وهذا على الخلاف ، والمذهب أن اللبس مبطل. والله أعلم. (ح / ص).