تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

وقيل : في شراء الرقاب لتعتق ، وقيل : في فك الأسارى ، فيدخل في هذا من لزمه ظالم ، أو حبسه عن سلوك طريق بر ، إلا بفداء ، وإذا كان هذا قربة ، ومعروفا وبرا كان لولي اليتيم أن يفديه بماله إن حبس ، وكان له أن يستفدي بعض المال ببعضه ، وكذا للوديع وللمضارب ونحوهم من أهل الولايات أن يستفدوا بعض المال ببعضه ، وهذا هو الذي يصحح للمذهب. وقد ذكره الشيخ أبو جعفر.

وعن الأستاذ : أن المال الذي استفدي به يكون من مال الولي ، وسيأتي زيادة في تحقيق هذه المسألة إن شاء الله تعالى في سورة الكهف عند أن يذكر خرق السفينة.

وقوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) قال الحاكم : يدخل في ذلك عقود المعاوضات ، والنذور ، والأيمان. قال القاضي : ويدخل في ذلك العهود عند البيعة ، من القيام بالنصرة ، ولا يحمل على ما أوجبه الله تعالى ابتداء ؛ لأنه تعالى أضاف ذلك إليهم.

وقوله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ) يعني : الفقر والشدة (وَالضَّرَّاءِ) المرض والزمانة (وَحِينَ الْبَأْسِ) يعني : وقت القتال ، ولقاء العدو.

واختلف في معنى ذلك ، فقيل : أراد العطف على إيتاء المال ، والمراد : وآتى الصابرين ما يلزم من معونتهم ، وقيل : ليس بعطف بل مدحهم على صبرهم ، وقواه القاضي لعدم الحاجة إلى التقدير.

ونصب (وَالصَّابِرِينَ) على الإختصاص والمدح ؛ إظهارا لفضل الصبر في الشدائد.

قال الحاكم : فيدخل في ذلك الصبر على الطاعة ، وعن المعصية ، والصبر في إظهار الدين ، وأذى المخالفين ، وقرئ في الشاذ : (والموفين) وقرئ أيضا في الشاذ (والصابرون).

٣٠١

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) [البقرة : ١٧٨]

السبب في نزول هذه الآية :

ما روي عن ابن عباس أن حيين من العرب اقتتلوا قبل الإسلام ، فكان بينهم قتلى وجراحات ، ولأحدهما طول على الآخر في الكبر والشرف.

وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهر ، فأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر ، وبالمرأة الرجل منهم ، وبالواحد منا الاثنين ، وجعلوا جراحاتهم ضعفين ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام فرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. هذا هو الظاهر المشهور.

وعن السدي : أنه نزلت في فريقين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحدهما مسلم ، والآخر معاهد ، وقيل : نزلت في حيين من الأنصار.

وأما الأحكام المقتطفة من هذه الآية ، فسنبين المعنى ، وهي تظهر في أثناء ذلك

فقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) هذه العبارة دالة على الوجوب من وجهين ذكرها الحاكم :

الأول : قوله : (كُتِبَ) لأنه يعبر به في الشرع عن الوجوب ، ومن الصلاة المكتوبة ، أي : المفروضة ، وعليه قول الشاعر (١) :

__________________

(١) الشاعر : هو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة ، المخزومي ، القرشي ، أبو الخطاب ، أرق شعراء عصره ، من طبقة جرير والفرزدق ، ولم يكن في قريش أشعر منه ، ولد في الليلة التي قتل فيها عمر بن الخطاب ، فسمي باسمه ، رفع إلى عمر بن عبد العزيز أنه كان يتشبب بالنساء ، فنفاه إلى دهلك ، ثم غزا في البحر فاحترقت به السفينه ، فمات هو ومن معه [٣٣ ـ ٩٣].

٣٠٢

كتب القتل والقتال علينا

وعلى المحصنات جر الذيول

والثاني : قوله تعالى : (عَلَيْكُمُ) فإنه للوجوب ، مثل قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧].

واختلف من المخاطب بالوجوب ، فقيل : المراد به القاتل ، بمعنى : أنه يجب عليه تسليم النفس متى طلب ذلك ولي المقتول ، ولا يجوز له الهرب ؛ لأنه حق لآدمي.

قال الحاكم : بخلاف الزاني والسارق ، فلهما الامتناع والهرب ، وقد قيل : يجب على المحدود الهرب ؛ لأن دفع المضرة عن النفس واجب ، قال المنصور بالله في المهذب : وإذا شهد شاهدان على رجل بقتل آخر ، وهو يعلم خلاف شهادتهما ، فله الهرب والمدافعة ، ما لم يحكم عليه الحاكم ، فمتى حكم عليه لزمه الانقياد لظاهر الحكم ، حفظا للشرع النبوي ، هذا قول المنصور بالله عليه‌السلام.

والصحيح من المذهب خلاف ذلك ، وأنه لا يمكّن من نفسه ، بل يجب عليه الدفاع ؛ لأن حكم الحاكم خطأ في التحقيق (١) ، وقد قالوا إذا علمت المرأة أنه طلقها ثلاثا ، وحلف على عدم الطلاق ، فإنها تدفعه ولو بالقتل ، والمنصور بالله يقول فيها : تمتثل الحكم ، وقد ذكر الفقيه حسن بن محمد النحوي (٢) في التذكرة في امتثال أمر الإمام : أنه لازم إلا في

__________________

(١) وهو الذي بنى عليه الإمام المهدي في مختصره ، حيث قال : إلا في قطعي يخالف مذهب الممتثل ، أو في الباطن. (ح / ص).

(٢) الحسن بن محمد النحوي ، الزيدي ، الصنعاني ، عالم الزيدية ، ومفتيها وحاكمها بصنعاء ، علمه غزير ، وفضله شهير ، جمع بين فقه أهل البيت وغيرهم ، فإنه ارتحل إلى زبيد لقراءة الحديث والفقه ، وكانت فتاواه تنفذ في أقاصي البلاد ومكة ، ومصر ، والعراق ، وترد عليه الأسئلة من أهل المذاهب في اليمن الأسفل وتهامة ، وانتفع به عالم من الناس ، ومن مشاهير كتبه (التذكرة الفاخرة) و (كتاب التيسير في ـ

٣٠٣

قطعي كرجم ، وقطع من علم [أن] باطن الأمر بخلافه ، يعني : فلا يمتثل في هذا ؛ لأن الإمام مخطئ في الحقيقة ، وإن رفع عنه الإثم.

وقيل : المخاطب بالوجوب من يتولى أمر القصاص ، وهو الإمام ، ومن يجري مجراه ، فهذا حكم في الوجوب والإمتثال.

وقوله تعالى : (الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) والقصاص مأخوذ من المساواة ، فإن كانت الجناية بالسيف ونحوه من الحاد لم يقتص منه إلا بالسيف ، ومكن الولي إن كان يكمل بالقوة والمعرفة ، وإن ضعف وكّل الوليّ بصيرا (١) ، فإن طلب الوكيل الأجرة كانت من مال المصالح ، فإن لم يوجد قال في مهذب الشافعي : كانت الأجرة على الجاني ، كما تجب الأجرة في كيل المبيع على البائع ؛ لأن عليه الإنفاذ ، ويحتمل للمذهب أنها على المقتص ، كأجرة السجان.

وإن قتل بغير الحاد ، فهل للولي أن يفعل بالقاتل كما فعل أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة ، فقال أصحاب الشافعي ، وأحد تحصيلي أبي طالب : له أن يفعل كما فعل ، لهذه الآية ، ولقوله تعالى في سورة البقرة : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] ولقوله تعالى في سورة النحل : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل : ١٢٦].

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلم : (من حرّق حرّقناه ، ومن غرّق غرّقناه) قال أبو حنيفة ، وأشار إليه المؤيد بالله ، وصححه أبو طالب للهادي عليه‌السلام : إنه لا قود إلا

__________________

ـ التفسير) وكان في الزهد آية ، ولا يأكل إلا من كد يده ، وأخذ على الإمام يحي ، قيل : ولم يسمع الانتصار كاملا على الإمام غيره ، توفي سنة ٧٩١ ه‍ وقبره خارج باب اليمن شرقي مسجد المحاريق ، وهو أحد المذاكرين.

(١) في حضرة الأصل كما هو صريح الأزهار. (ح / ص).

٣٠٤

بالسيف ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا قود إلا بالسيف) (١) ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) (٢) وقد حصلت المماثلة في أخذ النفس بالنفس ، وما زاد على هذا لا يثبت بالمحتمل ، فهذا حكم ثان.

الحكم الثالث : يتعلق بقوله تعالى : (فِي الْقَتْلى) فإنه عم بذلك ، وهو مخصص بالإجماع ، لأنه يخرج من ذلك الخطأ ، وعمد الصبي والمجنون ، وإنما هذا متناول للعمد ، وهل بين العمد والخطأ واسطة ، وهي شبه العمد أم لا؟ مذهب الهادي ، والناصر في قول ، والقاسم ، ومالك : لا واسطة ، وأنه يثبت القصاص بالمثقل.

وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وزيد بن علي ، ورواية عن الناصر : أن ثم واسطة بين العمد والخطأ ، وهي شبه العمد ، فلا قصاص في ذلك ، وتغلّظ الدية ، على تفاصيل بينهم.

وقوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) هذا صريح في ثبوت القصاص مع المجانسة في الحرية ، والرق ، والأنوثية ، فإن اختلف الجنس نظر ، فإن كان القاتل أدنى كالعبد قتل الحر ، والأنثى قتلت الذكر ، ثبت القصاص أيضا من طريق الأولى ؛ لأن الآية إذا أثبتت أن الحر يقتل بالحر ، فأولى وأحرى أن العبد يقتل بالحر ، وإذا أثبتت أن الأنثى تقتل بالأنثى فأولى وأحرى أن تقتل الأنثى بالذكر ، وأما إذا كان القاتل أعلى كأن يقتل الحر عبدا ، والذكر قتل أنثى ، فهاتان المسألتان مختلف فيهما.

أما الأولى : وهي إذا قتل الحر عبدا ففي ذلك ثلاثة أقوال :

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه ٢ / ٨٨٩ ، رقم ٢٦٦٨ ، والرازي في تفسيره ٥ / ٤٩. ح / س.

(٢) جزء من حديث أخرجه مسلم في كتاب الصيد ، باب الأمر بإحسان الذبح. والترمذي ٢ / ٤٣١ رقم ١٤٣٠ ، وأبو داود ٣ / ١٠٠ ، والنسائي ٧ / ٢٢٧ ، وابن ماجه ٢ / ١٠٥٨ رقم ٣١٧٠. ح / س.

٣٠٥

الأول : قول عامة أهل البيت عليهم‌السلام ، والشافعي ، ومالك ، وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز ، والحسن البصري ، وعطاء ، وعكرمة : أنه لا يقتل به أخذا بهذه الآية ، ودلالتها من وجهين :

الأول : أن الألف واللام في قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) للجنس ، لا للعهد ، فكأنه تعالى قال : كل الحر يقتل بالحر ، فلا يجوز أن يكون هناك حر يقتل بعبد ، وتقدير الآية أن الأحرار لا يقتلون إلا بالأحرار.

الوجه الثاني : أن العبد لو كان بمنزلة الحر في باب القصاص لم يكن لهذا التخصيص فائدة ، كما لا فائدة أن يقال : أهل الشام بأهل الشام ، وأهل العراق بأهل العراق ، إذا كان الجميع على سواء.

وعن علي عليه‌السلام : (من السنة أن لا يقتل حر بعبد).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا يقتل حر بعبد) لكن رد المخالف الرواية ، ولأنه لا قصاص من أعضاء الحر في أعضاء العبد بالإجماع ، فكذا في النفس.

قال الزمخشري : ويكون هذا مفسرا لما أبهم في قوله تعالى في سورة المائدة : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] ولأن تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها ، وهذه خوطب بها المسلمون ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن الحر يقتل بالعبد ، وهو مروي عن سعيد بن المسيب ، والشعبي ، والنخعي ، والثوري ، وقتادة.

وقال أبو حنيفة : «إلا بعبد نفسه» وقال النخعي : «يقتل بعبد نفسه» وقد أطلق الهادي عليه‌السلام : أنه يقتل بعبد نفسه إذا قتله على وجه التمرد ، وحمل ذلك على من جعل قتل عبيده عادة ، فيقتل ؛ لأن ذلك من السعي في الأرض بالفساد ، ويذكرون في هذه الآية وجوها.

٣٠٦

الأول : ذكره في الكشاف : أن هذه منسوخة بقوله تعالى : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) قيل : وفي قوله تعالى آخر هذه الآية : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة : ٤٥] دليل أن هذا يلزم هذه الأمة.

قلنا : قد قيل : نسخها ما في بني إسرائيل من قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) [الإسراء : ٣٣] وقتل المسلم بالكافر ، والحر بالعبد إسراف (١).

الثاني : أن قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) جملة مستقلة بالفائدة ، يفهم منها المراد ، ثم ذكر ما بعدها ، لا لقصر الحكم عليها ، لكن ليبين أن القصاص خلاف ما كانت الجاهلية عليه من قتل غير القاتل ونحو ذلك.

وقيل : بين ما يثبت القصاص فيه من غير مراجعة ، فأما إذا اختلف الجنس ثبتت المراجعة ، وهذا مروي عن الحسن ، ورواه الطبري عن علي عليه‌السلام ، وضعفت الرواية ، وقد ثبت أن الجماعة تقتل بالواحد من غير تراجع.

وأما الثانية : وهي إذا قتل الذكر امرأة ففي ذلك أقوال :

الأول : قول الهادي عليه‌السلام ، والناصر أن الذكر يقتل بالأنثى ، بشرط التزام أولياء المرأة نصف دية الرجل لتحصل المساواة ، وروي ذلك عن علي عليه‌السلام.

القول الثاني : مروي عن زيد بن علي ، وأحمد بن عيسى ، والمؤيد بالله ، وذكره في مهذب الشافعي ، وهو قول عامة الفقهاء : أن الرجل يقتل بالمرأة ، ولا شيئ لورثته ، لقوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

__________________

(١) ويمكن أن يقال : بعد ورود الشريعة فلا إسراف.

٣٠٧

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين» الخبر ، وفائدة التخصيص في الآية الرد لما كانت الجاهلية عليه.

والذي رواه في الكشاف عن عمر بن عبد العزيز ، والحسن البصري ، وعكرمة ، وعطاء ، ومالك ، والشافعي : «أن الحر لا يقتل بالعبد ، والذكر لا يقتل بالأنثى» أخذا بهذه الآية.

والذي رواه الحاكم عن الحسن ، والطبري عن علي عليه‌السلام : «أن الحر يقتل بالعبد مع التراجع ، والذكر بالأنثى مع التراجع» لكن الرواية مزيفة ، والحكم مضعف ، من كون الجماعة تقتل بالواحد من غير تراجع ، إن قيل : من طرد القول بالمراجعة مع القتل ، أو بعدم القتل ، فقد جعل للتخصيص فائدة.

وأما أهل القولين الآخرين فالمؤيد بالله (١) جعل للتخصيص في مسألة قتل الحر للعبد فائدة ، ولم يجعل له فائدة في مسألة قتل الذكر (٢) للأنثى ، والهادي (٣) عليه‌السلام جعل للتخصيص فائدة في المسألتين ، لكن جعله في مسألة قتل الحر للعبد أنه لا يقتل ، وفي مسألة قتل الذكر للأنثى يثبت القتل مع رد نصف دية الرجل ، وهذا الفرق يحتاج إلى دليل.

قلنا : أما على قول المؤيد بالله ، ومن معه فقد جعلوا للتخصيص فائدة في الحر والعبد ، وأما الذكر والأنثى فأبطلوا التخصيص بحديث عمرو بن حزم (٤) : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه

__________________

(١) ومن معه.

(٢) في ب (الرجل للأنثى).

(٣) ومن معه.

(٤) عمرو بن حزم : هو عمر بن زيد بن لوذان الأنصاري ، أبو الضحاك ، وهو من الصحابة ، شهد الخندق وما بعدها ، واستعمله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نجران ، وكتب له عهدا مطولا ، وفيه توجيه ، وتشريع ، توفي سنة ٥٣ ه‍. وقد روي حديثه في المغني ٧ / ٦٧٩ ، وفي مهذب الشافعية ٢ / ١٧٣.

٣٠٨

الفرائض والسنن ، وفيه أن الرجل يقتل بالمرأة» قالوا : ولأن المرأة كالرجل في حد القذف ، فكانت مثله في القصاص.

وأما قول الهادي : إنه يقتص من الرجل بالمرأة (١) ، مع الرد لزائد الدية ؛ لتحصل المساواة ، ولم يقل بذلك في قتل الحر بالعبد مع حصول التخصيص فيهما ، وإن كان في ذكر الحر والعبد زيادة ؛ لأنه قال تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) ولم يقل : الذكر بالذكر ؛ لأن العبد ناقص عن الحر من حيث أنه مال ، وأن قاذفه لا يحد ، وأنه لا يقتص له في الأعضاء من الحر وفاقا.

وأما كون الوالد لا يقاد بولده فخرج بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يقاد والد بولده» (٢).

وأما كون المسلم لا يقتل بالكافر فخرج بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يقتل مؤمن بكافر» (٣).

وقوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) اختلف المفسرون في رد الضمير في أخيه إلى من يعود ، فقيل : إنه يرجع إلى القاتل ، والمراد عفو ولي المقتول للقاتل ، وجعله أخا له لما يحصل من الملابسة من حيث أنه الذي يطالبه ، كما تقول للرجل : قل لصاحبك ، وهذا هو الذي ذكره الزمخشري (٤) ، وهو مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والربيع ، وأبي علي ، وأبي القاسم ، وغيرهم.

__________________

(١) في ب (إنه يقتل الرجل بالمرأة).

(٢) أخرج نحوه ابن ماجه ٢ / ٨٨٨ رقم ٢٦٦١. وأحمد في الفتح الرباني ١٦ / ٣٦ رقم ١٠٦.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب الديات ، باب لا يقتل المسلم بالكافر عن الإمام علي عليه‌السلام ، وأبو داود ٤ / ١٨٠ ، وابن ماجه ٢ / ٨٨٧ ، ٨٨٨ ، وأحمد في الفتح الرباني ١٦ / ٣٣.

(٤) ولفظ الزمخشري (وأخوه : هو وليّ المقتول ، وقيل له أخوه ، لأنه لابسه ، من قبل أنه ولي الدم ومطالبه به ، كما تقول للرجل : قل لصاحبك كذا ، لمن بينه وبينه أدنى ملابسة ، أو ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية).

٣٠٩

وقيل : الضمير يرجع إلى ولي المقتول ، والأخ هنا المقتول ، أي فمن أعطي له الدية عن أخيه الذي هو المقتول ، وهذا مروي عن مالك ، وعلي بن موسى القمي (١) ، ويكون العفو هنا بمعنى الإعطاء.

وقيل : إن المراد : فمن عفا له ولي الدم ، أي : أعطى بقية ما يجب مع القود ، وهذا مروي عن السدي ، وهو بناء على قول أهل التراجع مع القصاص بين الرجل والمرأة ، فيكون الضمير في أخيه إلى وارث المقتول الثاني ، وهو ضعيف كما تقدم.

قال القاضي : والأول أولى ؛ لأن ظاهر العفو السقوط (٢) ، وهو قول أكثر المفسرين ، جعل القاتل أخا مع فسقه ؛ إما لأنه أراد أخوة النسب ، كقوله تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) [الأعراف : ٦٥] أو لأن القاتل قد يتوب فغلّبه على غير التائب ، أو سماه بما كان عليه قبل القتل ، و «من» للتبعيض ، أي : فمن عفي له من أخيه بعض شيء ، قال الزمخشري (٣) : وفي ذلك إشارة إلى أنه إذا عفي بعض العفو ، والعفو إما من بعض الورثة ، أو عن بعض الدم ـ تم العفو في سقوط القود.

ويحتمل أن «من» لابتداء الغاية ، أي : من جهة أخيه.

وقوله تعالى : (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) قال الزمخشري : هذا توصية للمعفو عنه ، والعافي جميعا ، يعني : فليتبع الولي القاتل

__________________

(١) علي بن موسى بن داود القمي ، فقيه حنفي ، له عدة كتب منها (إثبات القياس ، وأحكام القرآن) وتوفي سنة ٣٠٥ ه‍. ح / س.

(٢) السقوط للقود فقط.

(٣) لفظ الزمخشري (فإن قلت؟ : لم قيل : شيء من العفو؟ قلت : للإشعار بأنه إذا عفى له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى بعض الدم. أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم تجب إلا الدية) اه فتبين هنا أن الزمخشري أخذ البعضية من تنكير شيء لا من لفظ (من)

٣١٠

بالمعروف ؛ بأن لا يعنف به ، ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة ، وليؤد القاتل بدل الدم أداء بإحسان فلا يمطله ، ولا يبخسه ، وقيل : الإتباع بالمعروف ، والأداء بالإحسان يرجعان إلى المعفو عنه ، واختلف العلماء في الأداء المذكور في الآية ، وهو تسليم الدية هل ذلك على طريقة الوجوب على القاتل إذا عفي عنه عن القود ، أو على سبيل التراضي؟ فقال القاسم ، والهادي ، وأحد قولي الناصر ، والشافعي : إن ذلك على سبيل الوجوب ، لظاهر الآية ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قتل له قتيل ، فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية».

وقال زيد بن علي ، وأبو علي ، وأبو عبد الله الداعي (١) ، وأبو حنيفة ، والمنصور بالله ، والثوري : إن تسليم الدية لا يكون إلا مع التراضي ، فلو عفا عنه عن القود ، فلا دية عليه ، ولو مات القاتل فلا شيئ في ماله ، وحملوا الآية على أن المراد إذا عفا بعض أولياء الدم وجب الأداء إلى الذي لم يعف.

قلنا : هذا يحتاج إلى دليل ، مع أنه يمكن الحمل عليهما معا.

__________________

(١) محمد بن الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي ، الحسني ، الإمام المهدي ، أبو عبد الله الداعي ، هو الإمام البارع في العلوم ، حائز منطوقها والمفهوم ، قال المنصور بالله عليه‌السلام : مؤلفاته كثيرة أصولا وفروعا ، وهو من المجمع على إمامتهم ، بويع له بالإمامة بهوسم ، ثم كاتبه أهل الديلم فوصل إليهم سنة ٣٥٣ ه‍ ثم قصد هوسم فاستولى عليه بعد محاصرة كثيرة ، وأسر مرارا ، وهو الذي أظهر في الديلم بأن كل مجتهد مصيب ، وكانت القاسمية تخطى الناصرية ، والعكس فرجعوا إلى قوله بعد مناظرات كثيرة ، ولم يزل مجاهدا ناعشا للإسلام حتى قبضه الله بهوسم مسموما سنة ستين وثلاثمائة ، وقيل : سنة ٣٥٩ ه‍ ومن مشائخه في الفقه أبو الحسن الكرخي المار ، وفي علم الكلام أبو عبد الله البصري ، ومشهده بهوسم مشهور مزور.

٣١١

وقيل : المراد بالعفو : أن يبذل الدية ، وإن لم يجب عليه ، كقوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) [الأعراف : ١٩٩] فهذا حكم من أحكام الآية.

وقوله تعالى : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) أي : الحكم المذكور من العفو ، وأخذ الدية ؛ لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة ، وحرم العفو ، وأخذ الدية ، وعلى أهل الإنجيل : العفو ، وحرم القصاص ، وأخذ الدية (١) ، وخيرت هذه الأمة بين القصاص والدية ، والعفو توسعة عليهم.

وقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : بعد ذلك التخفيف من قتل غير القاتل ، أو قتل القاتل بعد أخذ الدية ، كما كان الولي في الجاهلية يؤمن القاتل بأخذ الدية ، فإذا ظفر به قتله (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : شديد في الآخرة.

وعن قتادة : العذاب الأليم أن يقتل بكل حال ، ولا تقبل منه دية ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية» (٢) وهذا مروي عن الحسن ، وسعيد بن جبير ، والأول : قول أكثر المفسرين ، وصححه الحاكم ؛ لأنه المفهوم من إطلاق الآية.

__________________

(١) (وأخذ الدية) معطوف على القصاص ، كما في الحاكم ، والكشاف ومعناه أنه حرم عليهم القصاص وأخذ الدية ، وفيه إشكال هنا ، لأنه سيأتي في تفسير قوله تعالى في المائدة : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) الآية أنه كتب على أهل الإنجيل أخذ الدية ، وهو يخالف هذا ، كما ترى ، وكذا في النيسابوري في هذه الآية أعني آية البقرة ، أنه كتب على أهل الانجيل أخذ الدية ، فيمكن أن يكون تقدير الكلام هنا ، وعلى أهل الانجيل العفو ، وأخذ الدية ، ويحرم القصاص.

ولفظ الفصول (وكان القصاص في النفس والجراح مما قد حتما في التوراة على اليهود ، ولم يكن لهم أخذ الدية ، ومما كان في شرع النصارى : الدية ولم يكن لهم القصاص). (ح / ص).

(٢) أخرجه أبو داود ٤ / ١٧٣ ، رقم ٤٥٠٧ ، وأحمد في الفتح الرباني ١٦ / ٣٢ رقم ٩٩ ح / س.

٣١٢

قوله تعالى

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة ١٧٩]

«لعل» ترد للشك ، وهو لا يجوز على الله تعالى ، فقيل : معناه معنى اللام ، أي : لتتقوا.

وقيل : المراد الرجاء من المخاطبين ، أي على رجائكم التقوى.

وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) عن ابن عباس رضي الله عنه ، والحسن ، والأصم ، وابن زيد : المراد : تتقون القتل خوف القصاص.

وقال أبو علي ، والقاضي : تتقون ربكم باجتناب معاصيه.

وهو يستثمر من الآية : وجوب القصاص.

قال الحاكم : ويدخل فيه القصاص في الأعضاء ، يعني التي يؤمن فيها السراية ، ويمكن الوقوف على القدر.

وتدل على أن الجماعة تقتل بالواحد ، إذ لو لم يقتلوا لم يؤمن أن يستعين من طلب القتل بشريك (١) لئلا يقاد ، وهذه المسألة خلافية بين الفقهاء.

فعند زيد بن علي ، وأحمد بن عيسى ، والقاسمية (٢) ، والفريقين : تقتل الجماعة بالواحد ، وهذا مروي عن علي عليه‌السلام ، وابن عباس ، وابن عمر ، وابن المسيب.

وحكى في شرح الإبانة عن الناصر ، والصادق ، والباقر ، والامامية ، ومالك : أن الجماعة لا تقتل بالواحد ، قال الناصر : يختار ولي الدم واحدا يقتله ، ويكون لورثته من الباقين قسطهم من الدية.

__________________

(١) في نسخة (شريكا).

(٢) من انتسب إلى القاسم بن إبراهيم من العترة ، ممن يقول بالعدل والتوحيد ، وهو مشهور ، دخل أهل البيت إلا الناصر ، ولعله أراد من بعد القاسم والله أعلم.

٣١٣

احتج الأولون بهذه الآية ، وبقوله تعالى في سورة المائدة : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢] وشرائعهم تلزمنا ، ما لم تنسخ ، على حسب الخلاف.

ووجه الاستدلال من هذه الآية : أنه تعالى جعل حكم قاتل الواحد حكم قاتل الناس جميعا ، في أنه يقتل به كما يقتل بالجماعة ، فإذا قتلت الجماعة واحدا وجب أن يكون كل واحد منهم كمن قتل الناس جميعا ، فيستحق على كل واحد منهم القود

ولا يقال : المراد في الإثم ، إذا لا يصح أن يكون عقاب قاتل الواحد كعقاب قاتل الجماعة.

وقوله تعالى في سورة بني إسرائيل : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) [الإسراء : ٣٣] أي : سلطانا على القاتل بالاقتصاص منه بلا خلاف ، وعموم ذلك يوجب القود على الجميع ، ومن الحجة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو أنتم يا خزاعة قتلتم هذا القتيل أنا والله قاتلكم» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية» والخبر ورد في جماعة قتلوا واحدا ، مع أن لفظ «من» للعموم. وروي أن عليا عليه‌السلام قتل ثلاثة بواحد.

وأن عمر قتل سبعة بواحد ، وقال : «لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به».

وقال ابن عباس : تقتل المائة بالواحد.

وحجة الناصر قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] فإذا زاد دخل في الاسراف ، وخرج عن القصاص ، الذي معناه

٣١٤

المماثلة والمساواة ، ويروون ما قالوا عن علي عليه‌السلام ، وابن الزبير ، والمشهور عن علي عليه‌السلام ما تقدم

قوله تعالى

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة ١٨٠ ـ ١٨١]

سبب النزول :

قيل : إن الجاهلية كانوا يوصون للأبعد طلبا للفخر ، ويعدلون عن الأقربين ، فنزلت الآية هذه بخلاف ذلك ، روي هذا عن الأصم ، وقيل : كان الخيار للموصي في ماله فنزلت.

والثمرة من هذه الآية :

أن ظاهرها وجوب الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا ، وإنما قلنا : ظاهرها الوجوب لقوله تعالى : (كُتِبَ) وهو بمعنى : فرض ، ولقوله تعالى : (عَلَيْكُمْ) وهو للوجوب ، نحو قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] ولقوله تعالى : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) فهذه الألفاظ تقضي بالوجوب ، ثم إن الظاهر أن هذه الوصية التي أمر بها أمر زائد على الميراث ، ونحن نذكر كلام العلماء في معنى الآية ، وبقائها ونسخها.

قال الحاكم : الظاهر في هذه الآية الوجوب ، وقيل : أراد الندب.

واختلفوا بعد ذلك ، فقيل : الظاهر أن الوصية المذكورة بشيئ مغاير للميراث ، وقيل : هي أمر بالعدل في الميراث ، وأن يعطى المحتضر الوالدين والأقربين ما أثبته الله لهم ، ويوصي بأن لا يحاف عليهم ، وإذا قلنا : إنها بأمر زائد ، فاختلف العلماء هل هي باقية؟ أم منسوخة؟.

٣١٥

يقول الأكثر : إنها منسوخة ، وإن الوصية لا تجب الآن لمن ذكر ، وهذا مروي عن علي عليه‌السلام ، وعائشة ، وابن عمر ، وعكرمة ، ومجاهد ، والسدي

وهذا قول أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وأبو حنيفة ، والشافعي.

قال في شرح الإبانة : وعند أبي علي الجبائي ، ومجاهد ، والزهري (١) ، وداود : إنها واجبة ، وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وطاووس ، والضحاك ، وابن جبير ، وإذا قلنا : إنها منسوخة فاختلفوا ما الناسخ لها؟ فقيل : نسخت بآية المواريث ، وهي قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١].

قال في شرح الإبانة : لأصحابنا ، وبعض الحنفية نسخت بقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) [النساء : ١١]. وظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم تكن وصية أن المال مصروف إلى الورثة ، ولو كانت واجبة لم تسقط لعدم الإيصاء.

وقال أكثر الحنيفية ، وقاضي القضاة : نسخ وجوبها بالسنة ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين نزلت آية المواريث : «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ،

__________________

(١) الزهري هو : محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث القرشي ، الزهري ، أحد الفقهاء ، أبو بكر ، رأى عشرة من الصحابة ، وروى عنه مالك وابن عيينة ، والثوري ، وقال مكحول : هو أعلم من رأيت ، وروى عنه الزهري ، عن زين العابدين ، وقال : هو أفضل من رأيت كان مع عبد الملك ، ثم مع هشام بن عبد الملك ، وكان مخالطا لهم مدة عمره ، وشبنع عليه أبو حازم الأعرج وغيره ، ويقال : إنه كان على حرسة خشبة زيد بن علي ، وقيل : لم يكن هناك ، مولده سنة ٥١ ه‍ وتوفي لسبع عشر خلت من رمضان سنة ١٢٤ ه‍ وقيل : غير ذلك ، على اختلاف في مولده ، ووفاته ، وقد ضعفه الإمام المؤيد بالله وغيره ، واحتج به أكثر الأئمة لتبحره في السنة ، وحفظه ، أخرج له أئمتنا والجماعة وغيرهم. (الجنداري).

٣١٦

فلا وصية لوارث» (١) ونسخ الكتاب بالسنة [المتواترة] (٢) جائز خلافا للشافعي.

قال أبو جعفر : نسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز ، وقال الزمخشري : هذا الخبر مما تلقته الأمة بالقبول ، وإن كان من الآحاد ، فلحق بالمتواتر.

وإذا قلنا : بأنها منسوخة ، فمذهب ، الهادي ، والناصر ، والمرتضى ، وأبي العباس ، وأبي طالب : نسخ الوجوب ، وبقي الجواز.

__________________

(١) في شرح الجواهر للإمام المهدي عليه‌السلام ، وفي بهجة المحافل للعامري (ومن ذلك ما روى ابن إسحاق وغيره ، ومعناه في الصحيحين عن عمر بن خارجة قال : بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حاجة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقف بعرفة فبلغته ، ثم وقفت تحت ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لعابها ليقع على رأسي ، وسمعته وهو يقول : (أيها الناس إن الله قد أدى إلى كل ذي حق حقه ، وإنه لا تجوز وصية لوارث ، والولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، ومن ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا).

(ح / ص).

وفي حاشية في النسخة ج (أخرجه الترمذي وحسنه ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وأحمد وحسنه ، وقواه ابن خزيمة ، وابن الجارود ، من حديث إبي أمامة ، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس ، وزاد في آخره إلا أن يشاء الورثة ، وإسناده حسن ، قلت ، وفي حديث ابن عباس فائدة جليلة ، وهي أنه إذا نسخ الوجوب هنا لم يبق الجواز بجعله ذلك حقا للورثة ، وأن الورثة إذا أجازوا صحت ، والنفي في معنى النهي ، والله أعلم ، فإن قيل : إن حكمنا بتلقي الأمة الخبر بالقبول فلا إشكال إذا قلنا : إنه من نسخ الكتاب بالسنة ، وإلا فإن قلنا : إنه يجوز نسخ المتواتر ، أو الكتاب بالآحاد فلا إشكال أيضا ، وإلا ففيه إشكال ، وحله أن الناسخ هو الكتاب ، وهو آية المواريث ، والسنة تثبت النسخ ، فإن قلت : هل يكون بيان النسخ كالنسخ؟ قلت : الخبر مثير ومبين لوجه النسخ ، بأن في آية المواريث ذكر كل حق لكل ذي حق ، فلو أمعنا النظر لقضينا بذلك من دون الحديث.

(٢) ما بين القوسين ثابت في النسخة أ ، وساقط في ب.

٣١٧

وقال زيد بن علي ، والمؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي : نسخ الجواز أيضا.

قلنا : قوله عليه‌السلام : «لا وصية لوارث» ينصرف إلى ما كان في صدر الإسلام من وجوب الوصية للوارث ، ونسخ أحد الحكمين ، وهو الوجوب لا يقتضي نسخ الحكم الآخر ، وهو الجواز.

أو يكون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا وصية لوارث» فيما زاد على الثلث (١) ، وخص الوارث ؛ لأنه قد يفضل بعض الورثة للميل إليه ، فنهي كيلا يؤدي إلى الوحشة ، وإذا قلنا : إنه لا يصح للوارث ، وأجاز سائر الورثة ، فعند زيد بن علي ، والمؤيد بالله ، وأبي حنيفة : يصح ، وأحد قولي الشافعي : لا يصح ، ولو أجاز سائر الورثة ، والعبرة بكونه وارثا ، أو غير وارث عند الموت ، لا عند الوصية.

قال الحاكم : وقيل : نسخت في حق الوارث من الأقربين ، لا في حق من لم يرث

وإذا قلنا : إن الوجوب باق ، فقال الزهري : تجب في القليل والكثير ، والأكثر : أن ذلك لا يجب عموما ؛ لأن من ترك درهما لا يقال : ترك خيرا.

واختلفوا في قدره ، فقال قتادة : ألف درهم ، وقال النخعي : من خمسمائة إلى ألف ، وعن ابن عباس ثمانمائة ، وروي في تفسير الخير المذكور : أنه أربعة آلاف درهم عن علي عليه‌السلام وروي أن مولى له أراد أن يوصي ، وله سبع مائة فمنعه ، وقال : قال الله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) والخير هو المال ، وليس لك مال.

وعن عائشة : اربعمائة دينار قليل ، وأنها سئلت في رجل أراد الوصية ، وله عيال وأربعمائة دينار ، فقالت : ما أرى فيه صلاحا.

__________________

(١) وأما الوجوب فقد نسخ في الجميع. (ح / ص).

٣١٨

وأراد آخر أن يوصي فسألته : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف ، قالت : فكم عيالك؟ قال : أربعة. قالت : إنما قال الله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإن هذا الشيئ يسير فاتركه لعيالك. ذكر هذا في الكشاف.

وقيل : إنه على قدر حال الرجل ، وقدر عوله ، وصححه القاضي ؛ لأن شخصا قد يوصف بأنه غني بقدر من المال ، ولا يوصف به آخر لكثرة الإنفاق

قال الحسن ، وعمرو بن عبيد : يكون للأقرب إليه ، وإن كان غنيا ، وعن ابن مسعود ، وواصل بن عطاء : للأحوج ، وقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) أي : فرض ، وقوله تعالى : (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) يعني : أسباب الموت ، من مرض ونحوه ، عن أكثر العلماء.

وقال الأصم : فرض عليكم الوصية في حال الصحة ، أن تقولوا إذا حضرنا فافعلوا كذا ، واستحسنه الأمير بدر الدين محمد بن الهادي (١).

وقوله تعالى : (لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أبو حنيفة يحتج بهذا وشبهه على أن الوالدين لا يدخلان في إطلاق القرابة ، من حيث أن المعطوف غير

__________________

(١) الأمير بدر الدين هو : محمد بن أحمد بن يحي بن يحي ، الأمير بدر الدين الهدوي ، الإمام العلامة ، كان هو وأخوه ممن يؤهل للإمامة ، وكان المنصور بالله يحثهما على القيام ، وكتب إليه :

يابن علي بن أبي طالب

قم فانصر الحق على الباطل

وكان الأمير بدر الدين أصغر من أخيه يحي ، حدث عن القاضي جعفر ، وقرأ عليه هو وأخوه يحي جميع العلوم ، وعنهما الشيخ محي الدين ، وغيره ، وكانا أفضل أهل زمانهما علما وعملا ، روي أن المنصور بالله قال لهما : اعمرا لأولادكما ، فقالا : لا نلقى الله بعمارة قلعة يصبح اولادنا يظلمون الناس ، فقال : اعمرا ولكما قصدكما ، وعليهم فعلهم ، فأبيا فعمره المنصور بالله ، مات الأمير بدر الدين يوم الخميس في نصف رجب سنة ٦٠٦ ه‍ بهجرة قطابر ، وقبره مشهور مزور ، وعمره ٨٥ سنة ، وله كرامات حكاها ولده الأمير الحافظ.

٣١٩

المعطوف عليه ، فلو وقف ، أو أوصى للقرابة لم يدخل الأبوان ، وعند الأكثر هما من القرابة ، ولكن أفردا تفخيما ، وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة ، والمراد : قرابة الميت الأقرب فالأقرب.

وقوله تعالى : (بِالْمَعْرُوفِ) أي : بالعدل ؛ بأن لا يتجاوز الثلث ، ولا يخص الغني دون الفقير.

وقوله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي : من غيّر الوصية من شاهد ، أو وصي بعد علمه ، فالإثم عليه دون غيره ، فلو لم يعلم فلا إثم عليه.

قال الحاكم وتدل على وجوب التنفيذ على الوصي من دون حكم.

والقاتل : إذا تقدمت الوصية له على الجراحة مخصص من العموم بكونه غير وارث ، فكذلك لا يملك بالوصية ، ويفترق الحال بين العمد والخطأ كالميراث ، وهذا مذهب المؤيد بالله ، وتخريجه ، وهو قول الناصر ، وتخريج أبي طالب ، وأبي العباس ، وهو قول أبي حنيفة.

وأحد قولي الشافعي : لا تصح لقاتل عمدا كان قتله أو خطأ.

وروي عن علي عليه‌السلام : «ليس لقاتل وصية» ، وذلك محمول عند الأولين على قاتل العمد.

قال الحاكم : وملك الوارث من جهة الله تعالى ، لا من جهة الميت.

قوله تعالى

(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٨٢]

قوله تعالى : (جَنَفاً) أي : ميلا ، وفي قراءة علي حيفا بالحاء والياء ، وقد تؤول على أنه تفسير ، وقوله : (أَوْ إِثْماً) يعني : حيث يكون متعمدا ، والجنف مع الخطأ ، وقوله تعالى : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) إنما جاء بنفي

٣٢٠