تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

قال في الكشاف : كان هذا في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ، ولم يتعودوه ، فاشتد عليهم ، فرخص لهم في الإفطار والفدية ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وقد خرج في مسلم عن سلمة بن الأكوع (١) أنه قال : «كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من شاء صام ، ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين (٢) حتى أنزلت هذه الآية : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

وقال الناصر عليه‌السلام في قول ، والشافعي : إن حكمها باق ، وإنها في الحامل والمرضع ، والشيخ الكبير.

وقيل : إن التخيير كان في المسافر والمريض إذا لم يلحقهم جهد ، لا في المقيم والصحيح ، فإن لحق جهد لزم الفطر ، وهذا مروي عن الأصم ، وهو خلاف قول الأكثر.

وحكي عن الحسن ، والأصم ، وأبي مسلم : أن المراد : يطيقون الفدية.

قال الحاكم : وهذا لا يصح ؛ لأنه لم يتقدم ذكر للفدية ؛ ولأن الضمير مذكر.

وفي قراءة ابن عباس ، وهي شاذة (يطوقونه) أي : يكلفونه بجهد ، فعليهم الفدية ، ويقول : لا نسخ في الآية ؛ لأنه يحملها على الحامل ،

__________________

(١) سلمة بن الأكوع هو : سلمة بن عمرو بن سنان ، الأكوع ، السلمي ، صحابي من المبايعين تحت الشجرة ، كان شجاعا بطلا راميا ، عداء ، توفي بالمدينة سنة ٧٤ ه‍ ح / س.

(٢) في النسخة أ (ومن شاء أفطر وافتدى بطعام مسكين حتى نزلت هذه الآية) والتصحيح من مسلم ، والحديث أخرجه مسلم في كتاب الصوم ، باب بيان نسخ قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) ٣ / ١٥٤.

٣٤١

والمرضع ، والشيخ الكبير ، قال في الشرح : وفي قراءة عائشة ، وابن عباس (وعلى الذين لا يطيقونه) ويحمل على الشيخ الهرم ، وقد يحتج لمذهبنا بالآية على الشيخ الهرم ، وتجعل «لا» مقدرة في القراءة الظاهرة ، وهذا قد ذكره الهادي عليه‌السلام في الأحكام : أنها قد تزاد في كلام العرب (١) ، ومنه قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩] والمراد : ليعلم وقوله تعالى في قصة موسى ، وهارون عليهما‌السلام : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) [طه : ٩٢ ، ٩٣] والمراد أن تتبعني ، وقول الشاعر :

بيوم جدود لا فضحتم أباكم

وسالمتم والخيل يدمى

وأراد فضحتم أباكم.

وقد تحذف من الكلام وهي تراد ، ومنه هذه الآية ، وهي قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) معناه : لا يطيقونه ، وقول الشاعر (٢) :

نزلتم منزل الأضياف منا

فجعلنا القرى أن تشتمونا

يريد : أن لا تشتمونا.

وقوله تعالى : (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) قراءة نافع ، وابن عامر : برفع (فديةُ) من غير تنوين ، بل مضافة إلى طعامِ ، وطعامِ مضاف إلى (مساكين) جمعا ، والمراد : لكل يوم طعام مسكين واحد ، والمساكين للأيام ، وأضافوا الفدية إلى الطعام وإن كان واحدا لاختلاف اللفظ ، كقولهم : مسجد الجامع ، وقرأ الباقون (فِدْيَةٌ) منونة و (طَعامُ) مرفوع و (مِسْكِينٍ)

__________________

(١) أنها قد تزاد في كلام العرب ، وهي محذوفة معنى ، وقد تحذف وهي مرادة.

(٢) الشاعر : هو عمر بن كلثوم بن مالك بن عتاب ، من بني تغلب ، شاعر جاهلي ، من الطيقة الأولى ، ولد في شمال جزيرة العرب ، كان من أعز الناس نفسا ، وهو من الفتاك الشجعان ، ساد قومه تغلب وهو فتى ، وعمر طويلا ، وهو الذي قتل الملك عمرو بن هند ، من أشهر شعره معلقته

(ألا هبي بصحنك فاصبحينا)

٣٤٢

موحد مخفوض ، أي : لكل يوم طعام مسكين (١) ، وقوله تعالى : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) قراءة حمزة والكسائي (يطوع) بالياء وتشديد الطاء ، وجزم العين ، وقرأه الباقون بالتاء الفوقانية ، وفتح العين والتخفيف على أنه فعل ماض.

والمراد بالتطوع : أن يتطوع بزيادة الإطعام ، عن ابن عباس ، وأبي علي ، وذلك يكون بوجهين :

الأول : أن يطعم مسكينين ، أو أكثر ، وهذا مروي عن عطاء ، وطاووس ، والسدي.

والثاني : أن يزيد للمسكين الواحد على قدر الكفاية ، فيزيده على نصف صاع ، وهذا مروي عن مجاهد ، وقد قال في الكشاف : يزيد على مقدار الفدية ، وفي هذا فائدة : وهو أن اختلاط الفرض بالنفل لا يضر ، فلو أخرج عن مائتي درهم ستة دراهم ونواها عن الزكاة لم يضر ، وهذا فرع يذكر في مذاكرة المتأخرين من فقهائنا ، فقال الأمير المؤيد بن أحمد ، والفقيه محمد بن سليمان : إن اختلاط الفرض بالنفل يبطل الفرض ، وأخذا ذلك من قول الهادي عليه‌السلام : لا يشترك المفترض والمتنفل في الهدي.

وقال الفقيهان : محمد بن يحي (٢) ، ويحي بن أحمد : لا يضر ذلك ،

__________________

(١) ومثله في الحاكم ولفظ الحاكم (قرأ ابو جعفر ونافع وابن عامر (فديةُ) بغير تنوين (طعامِ) بالكسر مضاف اليه (مساكين) جمعا ، أضافوا الفدية إلى الطعام ، وإن كان واحدا لاختلاف اللغة ، كقولهم : مسجد الجامع ، وقرأ الباقون (فِدْيَةٌ) منونة (طَعامُ) رفع (مِسْكِينٍ) على الواحد مخفوض ، فمن وحد فمعناه لكل يوم طعام مسكين ، ومن جمع رده إلى الجميع).

(٢) محمد بن يحي بن أحمد حنش الزيدي الزيدي ، الهدوي الفقيه المتكلم ، المحقق ، صاحب التصانيف الفائقة ، منها : ياقوتة الغياصة شرح الخلاصة ، والتمهيد ، والقاطعة في الرد على الباطنية ، وله تعليق على اللمع ، وفي النفحات المسكية له ـ

٣٤٣

وأجابا عن مسألة الهدي ، بأن التمسك يتعلق بالذبح ، وهو فعل واحد لا يتجزأ فلا يوصف بأنه واجب ، وبأنه نفل ، مع أن الاشتراك من المفترض والمتنفل قد جوزه المؤيد بالله.

وقد يحتج لذلك بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أهدى نيفا وستين من البدن ، ولم يكن عليه إلا بدنة واحدة» وروي عن الحسن : أن المراد عمل برا في جميع الدين.

وقيل : صام مع الفدية عن ابن شهاب ، والمعنى : فالتطوع خير له ، أو فالخير خير له.

وقوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : (وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المطيقون ، الذين كان يجوز لكم العدول إلى الفدية ـ (خَيْرٌ لَكُمْ) ـ أي : (وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المطيقون الذين يمسكم الجهد (خَيْرٌ لَكُمْ).

قال الزمخشري : ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر أيضا ، وقد قال الحاكم : الآية تدل على أن الصوم في السفر أفضل.

إن قيل : قد تقدم أن الفطر من المسافر الذي يلحقه الجهد ، ومن المريض الذي يخشى المضرة أفضل من الصوم ، فكيف يكون بناء الآية؟.

قلنا : إن حملنا المرض على ما ينطلق عليه الاسم ، وإن لم يخش مضرة كانت عامة في كل مرض وسفر ، ويدخل فيها ما نسخ من التخيير ،

__________________

ـ شرف العصابة ، وسهم التوفيق والإصابة ، والمحرز من الاجتهاد نصابه ، مولده سنة ٦١٠ ه‍ كان فقيها مجتهدا ، مصنفا ، وأبوه فقيه فقط ، وأشار إليه السيد الهادي في منظومته ، فقال :

وحبر طفال من به شرف الهدى

وراح به مسرود بأكل منهل

توفي رحمه‌الله في خامس ذي القعدة سنة ٧١٧ ه‍ وقبره جنب قبر أبيه بالطفة من جهة اليمن بظفار.

٣٤٤

ثم يخرج المطيق بالنسخ ، ويخصص من لحقته مضرة من مسافر أو مريض بالأثر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس من البر الصيام في السفر» من حيث إنه ورد في من أجهده الصوم ويخرج المريض بالرد إلى صوم الدهر ، وإلى المسافر الذي أجهده السفر.

وأما إذا اشترط في المرض المضرة دون إطلاق الاسم ، فقد يخرج لأبي العباس أن الصوم أفضل من المضرة ، كما قال مثل ذلك في الوضوء ، فيدخل المريض في عموم الآية ، ولا يخصص ، بل يكون الصوم أفضل في حقه إلا أن يخشى الهلاك ، وإن قلنا بالكراهة أخرجنا المريض من عموم الآية بالقياس على المسافر الذي تلحقه المشقة.

قوله تعالى

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة : ١٨٥]

ثمرة هذه الآية الكريمة : وجوب صيام شهر رمضان ، وذلك معلوم من الدين ، وكيفية إدراك الوجوب من الآية على القراءة الظاهرة ، وهي رفع (شَهْرُ) أن يجعل ارتفاعه بدلا من الصيام ، أي : كتب شهر رمضان ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، يدل عليه قوله تعالى : (أَيَّامٍ) كأنه قيل : متى هي؟ فقال : هي شهر رمضان ، وإن جعلته مبتدأ لم يكن رفعه يدل على الوجوب ، بل الذي يدل عليه قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

وأما على ما قرئ في الشاذ ، وهو نصب شَهْرَ وذلك قراءة

٣٤٥

مجاهد ، فإنه انتصب بفعل مقدر ، أي : صوموا ، أو بدل من قوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ).

وقيل : على الظر ، أي : في شهر رمضان عن الأخفش.

وعن أبي عبيدة : على الإغراء ، كأنه قيل : عليكم شهر رمضان ، كقوله : (ناقَةَ اللهِ) [الشمس : ١٣] ويدل على الوجوب قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) أي : حضر ولم يكن مسافرا ، ويكون انتصابه [أي الشهر] على الظرفية ، ليخرج المسافر ، وقيل : (شَهِدَ) بمعنى شاهد ، والأول هو الأظهر.

واتفقوا أن الصبي إذا بلغ ، والكافر إذا أسلم أنه لا يلزمهما إلا صوم ما بقي دون الماضي ، وأما المجنون إذا أفاق في بعض الشهر ، فعند أبي حنيفة : يلزم الجميع.

وعندنا والشافعي : لا يلزم إلا ما بقي ، هذا إذا كان الجنون أصليا ، وأما اليوم الذي بلغ ، أو أسلم فيه فعندنا ، وأبي حنيفة ، والذي صحح للشافعي : أنه لا يجب قضاؤه.

وعند مالك ، وبعض الشافعية : يجب ، واختاره الإمام في الانتصار للتفرقة بوجوب القضاء على الكافر ليوم إسلامه ، لا على الصبي ليوم بلوغه ، والفرق : بأن الكافر كان في أول النهار مكلفا.

وقيل : من حضر أوله صام جميعه (١) ، وذلك مروي عن علي عليه‌السلام.

وقيل : من شهد جميعه ، وهو الأظهر ، فأوجب تعالى الصوم حتما ، ونسخ التخيير ، وإن اتصل به في التلاوة ؛ لأن الاعتبار بالنزول ، ولذلك

__________________

(١) وهو قول أبي حنيفة.

٣٤٦

قال العلماء في عدة المتوفى عنها : المتقدم في التلاوة ناسخ للمتأخر ؛ لأن المتلو أولا متأخر في النزول (١).

وقوله تعالى : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أي : ابتدأ إنزاله فيه ، وأراد في ليلة القدر ، وقيل : أنزل جملة إلى سماء الدنيا ، ثم أنزل منجما.

وقيل : المعنى أنزل في شأنه القرآن ، وهو قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) كما يقال : أنزل في علي كذا وكذا. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنزلت صحف إبراهيم عليه‌السلام أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين».

وقوله تعالى : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) إن قيل : ما وجه إعادة هذا ، وقد تقدم ذكره ، قال الحاكم : وإنما أعيد ؛ لأن أول الآية كان مع التخيير في الحاضر الصحيح ، وبيّن أوّلا حكم المسافر والمريض ، فلما نسخ التخيير في المقيم ، وضيق عليه بحتم الصوم ، كان من الجائز أن يظن أن التضييق يعم الحاضر والمسافر والمريض ، فأعيد ذكر المسافر والمريض لبيان بقاء الرخصة فيهما.

وقوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قال أبو حنيفة : وهو موسع لا وقت لها (٢) ؛ لأن الآية لم تفصل.

وعن الحسن وجماعة : هو مضيق إذا برئ أو صح.

وقال الشافعي : مؤقت بما بين رمضانين ، فإذا دخل رمضان آخر

__________________

(١) ومثل هذا في الحاكم ، ولفظه (فأوجب الصوم حتما ونسخ التخيير ، وإن كان موصولا به في التلاوة ، لأن الإنفصال يعتبر عند الإنزال لا عند التلاوة ، وعلى هذا قال العلماء في عدة المتوفى عنها زوجها أن المقدم ناسخ ، والمتأخر في التلاوة منسوخ إذ لا معتد بالتلاوة والمتلو أولا هو المنزل آخرا).

(٢) وفي نسخة (قال أبو حنيفة لا وقت لها وهو موسع).

٣٤٧

فعليه الفدية ، قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) قيل : يعني في المريض والمسافر ، وقيل : في جميع أموركم [لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جئتكم بالحنيفية السمحة»] (١)

وقوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) دلالة على وجوب القضاء وإكماله ، وقيل : ذلك يعم الحاضر والمسافر ، والصحيح وغيره.

واختلفوا في معرفة الشهر ، فالفقهاء كلهم : أنه يعتبر بالرؤية ، وقول الباطنية إنه يعرف بالحساب خلاف الإجماع ، وخلاف ما علم من الدين ضرورة ، وكل من قال بذلك كفر ، هذا كلام الحاكم.

وقد غلّط في شرح الإبانة من روى عن الصادق عليه‌السلام ذلك ، وقال : إنه فرية عليه.

وقوله تعالى : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) حمله الناصر عليه‌السلام على تكبير عيد الفطر من مغرب ليلة الفطر إلى عصر يوم العيد ، واستدل بهذه الآية على الوجوب.

وعند الهادي عليه‌السلام ، والشافعي ، والأكثر : أنه مستحب ، لكن قال الهادي عليه‌السلام : من عند خروج الإمام ، وقال الشافعي : من ليلة الفطر ، لقوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) وإكمال العدة بغروب الشمس من ليلة الفطر ، واختلفوا في آخره ، فقيل : إلى أن يخرج الإمام (٢) ، وقيل : إلى أن يبتدئ بالصلاة.

وعند الهادي عليه‌السلام : من حين يخرج الإمام إلى أن يبتدئ بالخطبة ؛ ولأن في الحديث : «أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخرج يوم الفطر فيكبر حتى يأتي المصلى ، وحتى يقضي الصلاة» وقال أبو حنيفة : لا يكبر يوم الفطر ،

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط في نسخة أ ، وهو ثابت في بعض النسخ.

(٢) أي : إلى الصلاة.

٣٤٨

وحكي عن ابن عباس : أنه كره التكبير يوم الفطر ، وروي ذلك عن النخعي.

وقيل : أراد بالتكبير تعظيم الله تعالى ، والثناء عليه. وقيل : هو التكبير عند رؤية الهلال ، ففي الحديث» أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا رأى الهلال قال : الله أكبر ، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة ، والتوفيق لما تحب وترضى ، ربنا وربك الله

وقوله تعالى : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) قال الحاكم : دل على أن التكليف نعمة لذلك أمرنا بالشكر عليه ، والمعنى : لتشكروا الله.

قال الزمخشري ، قوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) علة الأمر (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) علة ما علم من كيفية القضاء ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة الترخيص ، وهو نوع من اللف والنشر.

قوله تعالى

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة : ١٨٦]

قيل : سبب نزولها : أن أعرابيا سأله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أقريب ربنا فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ وقيل : سأل بعضهم : أين ربنا؟ وقيل : نزلت في قوم قالوا : كيف ندعو؟ وقيل : قالت اليهود كيف يسمع ربك يا محمد دعاءنا؟.

مثّل تعالى حاله في قرب إنجاحه لحاجة الطالب بحال من قرب في سهولة تلبيته ، ونحوه قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هو بينكم وبين أعناق رواحلكم ؛ إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» وكانوا يرفعون أصواتهم.

٣٤٩

وثمرة الآية : أنه يجوز السؤال عن ذات الباري وصفاته ؛ لأنه تعالى لم يبين خطأ السائل ، ولا أنكر عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وتدل الآية على الترغيب في الدعاء ، قيل : من حيث إنه تعالى عقبه بذكر الصوم (١) ، فيحسن في حق الصائم. وقد ورد» أن دعوته لا ترد».

قال أبو علي : وإنما يستجيب تعالى للمؤمنين دون الفاسقين ؛ لأنه كالمدح ، يقال : فلان مجاب الدعوة.

قال الحاكم : وللدعاء شروط ؛ لأجل الإجابة ، وهي معرفة الداعي لربه ، ليصح أن يوجه إليه الدعاء ، ومعرفة حسن ما يدعو ، ومما لا يحسن من ذلك ، ومعرفة حسن الوجه الذي يحسن معه الطلب والدعاء ، فإذا علم تعالى أن الإجابة مصلحة أجاب. وإن علم أن المصلحة التأخير أخر ، ولا تقف المصلحة على اختيار العباد ، والفائدة به التعبد ، أو أن المصلحة تكون مشروطة بالدعاء

وقد روي عن إبراهيم بن أدهم (٢) رحمه‌الله أنه قيل له : ما بالنا ندعو الله فلا يجاب لنا؟ قال : لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه ، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته ، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به ، وأكلتم نعم الله تعالى فلم تشكروه ، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها ، وعرفتم النار فلم تهربوا منها ، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ولم تخالفوه ، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له ، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بها ، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس».

__________________

(١) أي : جعله عاقبا لذكر الصوم ، وتابعا له.

(٢) إبراهيم بن أدهم : هو إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي ، البلخي ، أبو إسحاق ، زاهد مشهور ، كان أبوه من أهل الغنى في بلخ ، أخذ عن كثير من العلماء ، مات سنة ١٦١ ه‍ ح / س

٣٥٠

وقال أبو بكر الإخشيدي : تجوز إجابة دعاء الكافر ، ويكون لطفا له.

ولعل في قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) بمعنى اللام.

قوله تعالى

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة ١٨٧]

السبب في نزول قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) الآية أنه لما كان في الصوم الأول ، حل الأكل والجماع من غروب الشمس إلى أن يناموا ، أو يصلوا العشاء ، فإذا حصل أحدهما حرم ذلك إلى الغروب من اليوم الثاني ، فجاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : عملت في النخل نهاري أجمع ، فأتيت أهلي لتطعمني فأبطأت فنمت فأيقظتني ، وقد حرم علي الأكل ، وقد أجهدني الصوم ، قال في البخاري : لما انتصف النهار غشي عليه ، وذكر أن اسمه قيس بن صرمة.

[وفي أحكام الهادي عليه‌السلام : هو رجل يقال له : أبو قيس ، واسمه صرمة بن أنس] (١) وقيل في اسمه غير ذلك ، فنزلت الآية.

وفي الكشاف أن عمر بن الخطاب واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة ، فلما اغتسل أخذ يبكي ، ويلوم نفسه ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إني

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من النسخة أ ، وثابت في النسخة ب.

٣٥١

أعتذر إلى الله تعالى ، وآليت من نفسي هذه الخاطئة ، وأخبره بما فعل ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما كنت جديرا بذلك يا عمر» فقام رجال فاعترفوا بما كانوا يصنعون بعد العشاء ، فنزلت.

ولما نزل قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) قال عدي بن حاتم (١) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني أجعل تحت وسادتي عقالين ، عقالا أبيض ، وعقالا أسود ، وأعرف الليل من النهار ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن وسادك لعريض» هكذا في مسلم ، وفي البخاري.

وقيل : لما أصبح غدا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره ، فضحك وقال : «إنك لعريض القفا ، إنما ذلك بياض النهار ، وسواد الليل ، وهذه غفلة ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنك لعريض القفا» وذلك مما يستدل به على بلاهة الرجل ، أنشد بدوي :

عريض القفا ميزانه في شماله

قد انحص من حسب القراريط شاربه

قال في البخاري : عن سهل بن سعد : نزلت : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ولم ينزل : (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض ، والخيط

__________________

(١) عدي بن حاتم هو : عدي بن حاتم بن عبيد الله بن سعد القحطاني الطائي ، الجواد بن الجواد ، كان مجوسيا ، ولما سمع بخيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطئت أطراف بلادهم فر فلحق بالروم ، وترك اخته ، فسبيت مع كثير من قومها ، ولما وصلت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت : يا محمد إني ابنت أسرة قومي ، كان أبي يفك العاني ، ويطعم الجائع ، أنا ابنة حاتم الطائي ، فمن عليها ومن معها ، فكتبت إلى عدي تلومه ، فوصل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأكرمه ، وفرح بإسلامه ، وكان إسلامه سنة ٩ ، وشهد مع علي عليه‌السلام حروبه ، وفقئت عينه يوم الجمل ، وقتل ابنه ، وكان إذا ركب تخط رجلاه في الأرض ، وتوفي رضي الله عنه تقريبا سنة ٨٨ ه‍ عن مائة وعشرين سنة ، ويكنى أبا طريف رحمه‌الله.

٣٥٢

الأسود ، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى : (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنه يعني الليل والنهار (١).

قال الزمخشري : من لم يجوز تأخير البيان ، وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين ، وهو مذهب أبي علي ، وأبي هاشم ـ لم يصح لهم هذا الحديث (٢).

ومن جوز تأخير البيان ، فيقول : المخاطب يستفيد العزم على فعله إذا استوضح فلا يجعله عبثا.

ونزل قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) الآية حين كان ناس من الصحابة يعتكفون في المسجد ، فإذا عرضت لأحدهم حاجة إلى أهله خرج وجامعها ، ثم اغتسل وعاد إلى المسجد ، فنهوا عن ذلك ، ونزلت الآية ، عن ابن عباس ، وقتادة ، ومقاتل.

الثمرات المجتناة من هذه الجملة ، وهي مسائل :

الأولى : حل الجماع في جميع الليل ، وكذلك سائر المفطرات التي كانت محرمة بعد النوم ، أو بعد العشاء في أول الإسلام عند أكثر المفسرين ، وورد ذلك في سبب نزول الآية.

وأما أبو مسلم فقال : التحريم كان في شريعة النصارى ، لما أنكر النسخ في القرآن ألجئ إلى التعسف.

__________________

(١) قال الحازمي : هذا حديث صحيح متفق عليه ، أخرجه البخاري في كتابه عن سعيد بن أبي مريم ، ورواه مسلم عن ابن عسكر ، والصنعاني عن أبن أبي مريم أعني حديث سهل.

(٢) يستفاد من كلام الزمخشري أن أكثر الفقهاء والمتكلمين ومن ذكر من العلماء لم يعتبروا كل ما في الصحيحين صحيحا كما يزعم الكثير اليوم ، وأنهم نقدوا البخاري ومسلما كما نقدوا غيرهما من كتب الحديث ، وهذا هو الحق ، لا التعصب للباطل اتباعا للهوى ، نعوذ بالله منه.

٣٥٣

و (الرَّفَثُ) الجماع ، ويطلق على الفحش في القول ، والمراد في الآية : الجماع ، عن ابن عباس ، وأكثر المفسرين ، وعن الأصم : أنها كلمة جامعة لحاجات الرجال إلى نسائهم ، وفي القراءة الشاذة ، وهي قراءة عبد الله «الرفوث» قال الزمخشري رضي الله عنه : وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، كلفظ «النيك» ويعبر بالرفث عن الجماع ؛ لأنه لا يكاد الجماع يخلو عن شيئ من ذلك ومن هذا يؤخذ جواز المرافثة بين الزوجين.

وقد قيل : في قوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) إنما وصفهن باللباس ؛ لأن الرجل يسكن إليها ، ويستتر بها عن الأمور التي تنفر عنها النفس ، كما يستتر بلباسه عن كشف ما ينفر الطبع من كشفه ، وقد ذكر بعضهم : أنه يجوز بين الزوجين أن يتشبه أحدهما لصاحبه بغير جنسه ، فتشبه المرأة بالرجل ، والعكس في الكلام واللباس والمشية. ولا يجوز ذلك في غير هذه الحال.

المسألة الثانية : أنه يستحب طلب الولد ، وطلب ليلة القدر ، وتحريم العزل لأنه قد فسر قوله تعالى : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) بذلك ، فعن ابن عباس ، والحسن ، وأنس ، ومجاهد ، والضحاك ، وأبي علي : أنه تعالى أراد بذلك الولد ، ورجحه الحاكم ، أي : لا تباشروهن لقضاء الشهوة وحدها ، ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل.

وعن ابن عباس أيضا ، ومعاذ «ابتغوا ليلة القدر» وأن في ذلك أمرا بالعبادة ، وطلب ليلة القدر ، لكن قال الزمخشري : هذا من بدع التفاسير.

وقيل : ذلك نهي عن العزل ؛ لأنه في الحرائر ، وسيأتي الكلام على هذه المسألة إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) [التكوير : ٨].

وقيل : المراد ابتغاء الرخصة ، وقيل : ابتغاء المحل الذي هو حلال ، وهو القبل ، دون المحرم وهو الدبر ، وسيأتي الكلام على هذه أيضا إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٢٣].

٣٥٤

وقيل : الآية تضمن النهي عن صوم الوصال ، وقد نهى عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان يواصل ، فلما قيل له في ذلك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني لست كهيئتكم ، إني أطعم وأسقى» ذكر في الانتصار وجوها ثلاثة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أطعم وأسقى».

الأول : أن ذلك من طعام الجنة وشرابها ، والإفطار إنما يقع بطعام الدنيا ، واختار هذا الإمام ليبقى الظاهر.

الثاني : أن معناه : أني أعطى قوة الطاعمين الشاربين.

الثالث : أن معناه : أن محبة الله تعالى تشغلني عن الطعام والشراب ، وهذه رواية أبي داود.

وفي الشرح : أنه لما قيل : إنك تواصل؟ فقال : «إني لست كأحدكم ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني».

قال أبو طالب : الوصال المحظور أن يستتم الصيام بنيته (١) ، وقيل :

هو مواصل وإن لم ينو ؛ لأن الأدلة لم تفرق ، ولأن العلة خشية الضرر.

قال الشافعي : النهي للتحريم ؛ لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنكره ، وقال بعض أصحاب الشافعي : للكراهة ، واختاره في الانتصار ؛ لأن النهي لأجل المشقة ، ولو أنه واصل صح صومه.

المسألة الثالثة :

تتعلق بقوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).

__________________

(١) أي : يبتدأ. وقوله (قيل : هو مواصل وإن لم ينو) هذا هو الذي اختاره الإمام المهدي في مختصره.

٣٥٥

قد أخذ من ذلك أحكام :

الأول : أن من طلع الفجر وهو مخالط ، أو في فيه طعام ، فترك الأكل وألقى الطعام من فيه ، وتنحى عن الجماع ، فإن صومه لا يفسد.

هذا مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وقال أبو يوسف ، وزفر (١) ، والمزني : يفسد صومه.

وجه الأول : أن الله تعالى أباح له الأكل حتى يتبين له ، وذلك غاية الإباحة ، فيلزم أن يكون الترك بعد التبين ، وسبب الخلاف أنا لا نعد الإخراج جماعا ، وعدوه جماعا.

قال في الانتصار : فإن جامع قبل طلوع الفجر ، ثم أمنى بعد طلوعه ، ففي الفساد وجهان :

الأول : أنه لا يفسد ؛ لأن الإمناء تولد عن فعل مباح ، واختاره الإمام (٢).

الثاني : أن ذلك يفسد لأن السبب في حكم المقارن لمسببه ، وإنما يكون هذا لمن يشاهد طلوع الفجر ، أما إذا أذن المؤذن ، فترك الأكل ، وتنحى عن الجماع ، فإن ذلك يفسد ؛ لأنه قد واقع بعد طلوع الفجر.

وقال أبو حنيفة ولا كفارة إن استمر ؛ لأن الصوم لم ينعقد.

وقال الشافعي : تجب الكفارة ، أما لو لبث على حاله ، فسد صومه بلا لبس ، وأما الحديث الذي رواه في سنن أبي داود ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا سمع أحدكم النداء والإناء في يده فلا يضعه حتى يقضي

__________________

(١) زفر هو : زفر بن الهذيل بن قيس العنبري ، أبو الهذيل الحنفي ، أحد الفقهاء والعباد ، وقال في الطبقات : ذكره محمد بن منصور في ذكر أصحاب أبي حنيفة ، وقال المنصور بالله : هو ممن قال بالعدل والتوحيد ، وذكر في طبقات الحنفية ، فقال : كان من أصحاب أبي حنيفة ، وكان يفضله ، ويقول : هو أقيس أصحابي ، وقال : هو إمام من أئمة المسلمين ، وقال في الميزان : صدوق ، وثقه ابن معين ، وغير واحد ، توفي سنة ١٥٨ ه‍.

(٢) يحي ، وهو المختار للمذهب. (ح / ص).

٣٥٦

حاجته منه» قال الخطابي : أراد بهذا أذان بلال ؛ لأنه يؤذن ليلا ، أو عند الشك ، حيث تكون السماء مغيمة.

الحكم الثاني :

إذا أصبح جنبا ، واغتسل بعد طلوع الفجر ، فإن ذلك لا يفسد صومه ، سواء كان عامدا ، أو ناسيا ، هذا مذهب عامة أهل البيت عليهم‌السلام ، وعامة الفقهاء ؛ لأن قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) حد لإباحة الأكل ، وإباحة الجماع ، فإذا كان حد ذلك الفجر ، فمن لازمه أن يطلع الفجر وهو جنب.

وعن الحسن البصري : أنه يتم صومه ويقضي ، ولم يفصل في الجنابة ، هل من جماع؟ أو من احتلام؟.

وعن الامامية ، والحسن بن صالح : أن ذلك يفسد صومه إذا كان عن جماع

وقد تظاهرت الأخبار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصبح جنبا في شهر رمضان. قال في النهاية : وعن النخعي ، وعروة بن الزبير ، وطاووس : إن تعمد ذلك فسد صومه ، لعله يعني : ترك الاغتسال قبل الفجر عن جماع.

وفي سنن أبي داود : «أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إني أصبح جنبا ، وأنا أريد الصيام ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأنا أصبح جنبا ، وأنا أريد الصيام ، وأغتسل وأصوم. فقال الرجل : يا رسول الله إنك لست مثلنا ، قد غفر الله ما تقدم من ذنبك ، وما تأخر ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله تعالى ، وأعلمكم بما أتبع».

قال أبو طالب ، والمنصور بالله ، والشافعي (١) ، وكذا يأتي في الحائض إذا انقطع دمها قبل الفجر ، ولم تغتسل إلا بعده».

__________________

(١) وفي نسخة (وقال أبو طالب ، وأصحاب الشافعي).

٣٥٧

وقال ابن الماجشون من أصحاب مالك : يومها يوم فطر.

وأما حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم «يقضي من أدركه الفجر جنبا» فإن عائشة ، وأم سلمة لما قالتا : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصبح جنبا من غير حلم ، ثم يصوم» قال : هما أعلم ، وقال أبو هريرة : سمعت ذلك من الفضل بن العباس ، ولم أسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الحكم الثالث :

أن النية لا يجب تبييتها في صوم رمضان ، وأنها تصح من النهار ، وقد جعل الحاكم هذا دليلا على ذلك ، قال : لأن «ثم» للتعقيب ، وهذه المسألة خلافية بين الفقهاء ، فقال الناصر ، وأحد قولي المؤيد بالله ، والشافعي ، ومالك : لا تصح النية إلا من الليل ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) وعموم الحديث يدخل فيه أداء رمضان وقضاؤه.

وقالت الهدوية : تجوز النية إذا صادفت جزءا من النهار ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل إلى أهل العوالي يوم عاشوراء : «من أكل فليمسك ، ومن لم يأكل فليصم» فصحح الصوم من النهار ، وكان صومه واجبا ، ونسخ الوجوب لا يقتضي نسخ سائر الأحكام. والشافعي يقول : لم يكن واجبا ، وقال أبو حنيفة : تصح نية أداء رمضان قبل الزوال لا بعده ؛ لأن بعده قد فات الأكثر ، واستدلالهم بالآية محتمل ؛ لأنها لم تنف النية من الليل.

واختلف أصحاب الشافعي إذا نوى حالة طلوع الفجر ، أو في النصف الأول ، أو إذا نوى ، ثم أكل بعد نيته هل تبطل النية؟ صححوا أن الأكل ونحوه لا يبطلها ؛ لأن الآية أباحته إلى الفجر.

وأما صوم النفل : فإن النية تجوز من النهار قبل الزوال ، وبعده وجهان ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما طلب من عائشة طعاما فلم يجده ، قال : «إني إذا صائم».

٣٥٨

ولهم وجهان إذا نوى في التطوع من النهار ، هل يثاب على جميعه ، أو من وقت النية؟

اختار في الانتصار : أنه يثاب على اليوم كله ، كما لو أدرك الإمام في آخر ركعة

وكلام الهادي عليه‌السلام ومن معه في استدلالهم بخبر أهل العوالي ، أنه مخصص لعموم كثير من الأدلة ، نحو قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة : ٥] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأعمال بالنيات».

الحكم الرابع :

إذا تسحر وهو شاك في طلوع الفجر ، فإن ذلك لا يبطل صومه ، لأنه غير متبين لطلوعه ، وقد أبيح له الأكل ونحوه حتى يتبين ، وهذا مذهبنا ، وهو قول جماهير العلماء. وقال مالك : يفسد صومه ، وعليه القضاء.

ولو تبين له أن أكله كان بعد طلوع الفجر فسد صومه ؛ لأن حد الإباحة متعلق بالطلوع ، وهذا نص عليه القاسم ، وهو قول الجمهور.

وقال الحسن ، وعطاء ، وداود : لا قضاء عليه ، وقالوا فيمن أكل شاكا في غروب الشمس : لا قضاء عليه.

عن مجاهد : إن أكل قبل الغروب وهو لا يعلم ، ثم علم ـ فعليه القضاء ، وإن أكل بعد طلوع الفجر ، وهو لا يعلم ، ثم علم فلا قضاء عليه (١).

إن قيل : كيف يدرك فساد الصوم إن أكل بعد طلوع الفجر ، وهو لا يعلم ، ثم علم؟ قلنا : نشأ الخلاف من جهة الإجمال في قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) هل أراد بالتبين ، الذي يرجع إلى المخاطب ، وهو العلم ، أو الظن ،

__________________

(١) لأن الأصل جواز الأكل في الثاني ، ووجوب الإمساك في الأول. (ح / ص).

٣٥٩

كما هو حقيقة اللفظ ، أو أراد بالتبين الشيء المتبين ؛ لأن العرب تجوز ، فتجعل لا حق الشيء بدل الشيئ على وجه الاستعارة ، كتسمية المرض الشديد بالموت.

فالحسن ، وعطاء ، وداود : حملوا على الحقيقة ، وأكثر العلماء حملوا على المجاز ، إن قيل : فما الموجب للعدول عن الحقيقة إلى المجاز؟.

قلنا : أمران : ـ الأول : أنه ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإشارة إلى أن الحد هو نفس الطلوع ، لا التبين له ، وذلك لأنه روي في البخاري أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن بلالا يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» فجعل العلة في المنع الطلوع نفسه.

وفي صحيح مسلم ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا ، حتى يستطير هكذا» قال حماد (١) : يعني : معترضا. وفي حديث آخر : «حتى يبدو الفجر» أو قال : «حتى ينفجر الفجر» فأشار إلى ما ذكرنا.

الأمر الثاني : القياس على سائر الحدود بالأوقات ، فإنها تتعلق بنفس الوقت ، كالزوال ، وقد ورد في الغروب حديث أسماء بنت عميس ، قالت : «أفطرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم غيم ، ثم طلعت الشمس ، فأمرنا بقضاء يوم مكانه

__________________

(١) حماد هو : حماد بن سليمان بن مسلم الأشعري ، مولاهم ، أبو إسماعيل الكوفي ، قال في التقرير : ثقة صدوق ، له أوهام من الخامسة ، رمي بالإرجاء ، مات سنة عشرين ومائة ، أو قبلها ، وهو صاحب إبراهيم النخعي ، وشيخ أبي حنيفة ، روى عن أنس ، وابن المسيب ، قال الإمام المرشد بالله : كان حمادا يفطر في كل يوم من رمضان خمسمائة إنسان ، فإذا كان يوم الفطر كساهم ثوبا ثوبا ، وكذا ذكر ذلك غيره رحمه‌الله تعالى.

٣٦٠