تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

الإثم مع كونه مثابا لما كان المصلح ينقص من حق الموصي فهو مظنة الإثم ، وإلا فهو مثاب.

وقد دلت الآية على جواز الصلح ، وعلى حسن النصيحة ، والرد إلى الحق ، ولو جهل الفاعل ، قيل : المراد إذا ظهرت أمارات الميل في الوصية ، عند إرادة الإيصاء قبل أن يوصي : هذا معنى ما وري عن مجاهد.

قال الحاكم : ويحتمل إذا أوصى ، ومال عن الحق ، وخاف الوصي ، أو الشاهد أن يستمر أصلحه ليفسخه ، ويوصي على الحق.

وعن قتادة ، وابن عباس : المراد إذا أوصى وحاف ثم مات ، واستقرت الوصية ، وخاف الوصي العدول عن الحق في إيصاء الموصي ، أصلح بين الورثة ليقع العدل.

والجنف (١) : أن يوصي بزيادة على القدر المأذون فيه ، أو ينقص من الواجب ، أو يقدم غير الأحق.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة ١٨٣ ـ ١٨٤]

قيل : ذكر المفسرون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قدم المدينة فرض عليهم صوم عاشوراء ، وثلاثة أيام من كل شهر ، ثم نسخ ذلك ، ونزل صيام رمضان قبل بدر بشهر وأيام.

__________________

(١) في نسخة (والحيف).

٣٢١

وثمرة هذه الآية تظهر في بيان المعنى :

فقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) قد عرف معناه الشرعي : أي : فرض عليكم ،

وقوله تعالى : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) واختلف في وجه التشبيه في قوله تعالى : (كَما) وفي المراد بمن شبه بهم ، ففي الكشاف في معنى الآية : أن الصوم عبادة أصلية قديمة ، ما أخلى الله أمة من افتراضها ، والمعنى : لم يفرض عليكم وحدكم ، بل كتب على الأنبياء والأمم من وقت آدم إلى عهودكم.

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «أولهم آدم» فجعل التشبيه في أيجاب الصوم ، والإشارة إلى الأنبياء قبله ، وقيل : التشبيه في عدد الأيام ، وهي أيام رمضان ، كما كتب على أهل الانجيل ، قيل : فرض عليهم رمضان ، وكان وقوعه في البرد الشديد ، والحر الشديد ، فشق عليهم في أسفارهم ومعاشهم ، فجعلوه بين الشتاء والربيع ، وزادوا عشرين يوما كفارة لتحويله عن وقته ، وأنه الأيام المعدودات ، وقيل : أراد بالمعدودات : عاشوراء ، وثلاثة أيام في كل شهر ، فإنها كتبت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين هاجر ، ثم نسخت بشهر رمضان.

وقيل : التشبيه في صفة الصوم ؛ لأنه كان من العتمة إلى العتمة ، ولا يحل بعد النوم أكل ولا شرب ، ولا نكاح ، والمشار إليهم النصارى ، وقيل : أهل الكتاب جملة ، فكان المسلمون في صدر الإسلام إذا صلوا العشاء ، أو ناموا حرم عليهم الفطر ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) الآية ، وسيأتي سبب نزولها ، فعلى الوجهين الأولين لا نسخ في الآية ، وعلى القولين الآخرين : فيها النسخ ، إما في أيام الصوم ، وإما في صفة الصوم.

٣٢٢

ومذهبنا والحنفية أن صوم عاشوراء كان واجبا ثم نسخ ، وقال الشافعي : لم يكن واجبا.

حجتنا ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (صوم عاشوراء نسخ بصوم رمضان) والنسخ إنما يتناول الوجوب دون جوز الصوم.

وقد دلت الآية على وجوب الصوم جملة ، أو على وجوب صوم رمضان إن فسرت الأيام المعدودات به ، وهو مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وأبي علي وأبي مسلم ، وعليه أكثر المفسرين ، قال القاضي : وهو الأولى ؛ لأن حمله على ما لا نسخ فيه أولى من حمله على المنسوخ.

وقيل : إنه تعالى أوجب الصوم أولا ، ولم يبين عدده ، هل يوم أو يومان ، أو أكثر ، ثم بين أنه أيام ولم يعينها ، ثم عينها بقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ) [البقرة : ١٨٥].

وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي : بالمحافظة على صوم هذه الأيام تكونون أتقياء ، ويكون ذلك لطفا في ترك المعاصي ، وإنما كان الصوم لطفا ؛ لأنه يكسر الشهوات ، ولذلك ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (خصاء أمتي الصوم).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصوم جنة» وقيل : لأنه إذا جاع وعطش ذكر جوع الآخرة ، وعطشها وحاجة أهل النار ـ نعوذ بالله العظيم منها ـ إلى ذلك حتى قالوا : (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) [الأعراف : ٥٠].

وقيل : المعنى لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين ؛ لأن الصوم شعارهم ، أو لما كان الصائم أردع لنفسه من المعاصي ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «[يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع] (١) فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء».

__________________

(١) ما بين القوسين ثابت في ب ، وساقط في أ.

٣٢٣

ومعنى قوله : (مَعْدُوداتٍ) أي : مؤقتات بعدد معلوم ، أو قلائل ؛ لأن القليل يعد ك (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف : ٢٠] وأما الكثير فيهال ويحثى.

وقوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

في هذه النكتة أحكام :

الأول : هل يكفي لجواز الفطر إطلاق اسم المرض واسم السفر ، أو لا بد من اشتراط أمر زائد ، وهو لحوق المضرة أو التلف؟ قلنا : في ذلك ثلاثة أقوال :

الأول : أن مجرد اسم المرض والسفر مبيح للرخصة ، وهذا مروي عن الحسن ، وابن سيرين.

قال في الكشاف : وروي أنه دخل على ابن سيرين في رمضان ، وهو يأكل فاعتل بوجع اصبعه ، وأنه سئل مالك عن الرجل يصيبه الرمد الشديد ، أو الصداع المضر ، وليس به مرض يضجعه ، فقال : إنه في سعة من الافطار.

وحكى في شرح الإبانة عن إسحاق بن راهويه : أنه كان يبرى قلما فقطع اصبعه فأفطر ؛ لأنه يقول : إذا وجد أدنى مرض فلا بأس أن يفطر ، فهذا القول فيه بقاء على ظاهر الآية الكريمة ، وقد اختاره السيد يحي في الياقوتة.

القول الثاني : إنه لا بد من خشية المضرة من السفر والمرض ، وهذا قول الأصم.

القول الثالث : مذهب أكثر العلماء من الأئمة والفقهاء (١) ، وأهل

__________________

(١) وهو المختار للمذهب.

٣٢٤

التفسير ، ورواه في النهاية عن مالك أنه لا يشترط في السفر حصول مضرة ، بل مجرد السفر.

وأما في المرض فلا بد أن يخشى مضرة من زيادة علة أو حدوثها (١).

إن قيل : لم خرجوا عن دلالة اللفظ في المرض لا في السفر؟ ولم فرقوا بين الأخذ من دلالة المعنى في المرض لا في السفر؟ لأن المعنى المعقول من إجازة الفطر في السفر والمرض إنما هو لدفع المشقة (٢) ، ولهذا قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ففهم من دلالة المعنى أن المبيح للفطر خشية العسر.

[قال سيدنا رحمه‌الله] (٣) : لم أجد الجواب صريحا ، ولعله يقال ـ والله أعلم ـ : إنما فرقنا ورجحنا في لفظ السفر دلالة اللفظ على دلالة المعنى لوجهين :

الأول : أن ذلك كالإجماع ، ولم يرو فيه الخلاف إلا عن الأصم.

الوجه الثاني : أنه قد ورد في ذلك أخبار ظاهرها يفيد جواز الفطر للمسافر من غير اعتبار مضرة ، منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله وضع عن المسافر

__________________

(١) أو استمرارها ، أو بطؤ برئها.

(٢) العلة وهي المشقة غير منضبطة فنيط الحكم بمظنتها ، وهو السفر ، ولا كذلك المرض لتفاوته فنيط الحكم بالمشقة نفسها ، وهي خوف زيادة العلة ، أو حدوثها ، وفيه تأمل. وقد يقال : الحكم منوط بالمظنة فيهما ، وهي المرض والسفر ، والخلاف إنما وقع في الألم اليسير كوجع الاصبع هل يسمى مرضا أو لا؟ فمن يسميه مرضا يترخص ، ومن لا فلا ، والله أعلم.

وهذا كالخلاف في مقدار السفر حيث قيل : بالبريد ، وبالثلاثة الأيام ، وبالأربعة البرد ، وكالخلاف في ابتداء الترخص ، فإنه مبني على أنه هل يسمى مسافرا حال خروجه من عمران البلد ، أو من ميلها.

(٣) ما بين القوسين ثابت في أ ، وساقط في ب.

٣٢٥

الصوم ، ونصف الصلاة» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وسلم لحمزة بن عمرو الأسلمي ، وقد سأله عن الصوم في السفر وكان كثير الصوم «إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر ، والفطر لمن شاء ذلك خير».

وحديث أبي سعيد الخدري : «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة إلى حنين في اثنتي عشرة بقيت من رمضان فصام طائفة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأفطر الآخرون ، ولم يعب».

وقال قوم : «لا يفطر المريض إلا أن يخشى على نفسه الهلاك».

وفي النهاية عن أحمد في المرض المبيح : أنه المرض الغالب.

الحكم الثاني : في قدر السفر المبيح للفطر ، والخلاف فيه بين العلماء كالخلاف في السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، فعند القاسم ، والهادي ، والباقر والصادق ، وأحمد بن عيسى عليهم‌السلام : أنه بريد. وقال زيد ، ومحمد بن

عبد الله (١) ، والأخوان ، والناصر ، وأبو حنيفة : ثلاثة أيام.

__________________

(١) محمد بن عبد الله هو : الإمام محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي ، الحسني ، أبو عبد الله النفس الزكية ، الإمام المهدي ، أول من تكنى بالمهدي ، مولده سنة ١٠٠ ه‍ ولبث في بطن أمه أربع سنين ، كان عليه‌السلام أشهر من أن يوصف علما وورعا ، وشجاعة ، بويع له بالخلافة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ١٤٥ ه‍ بايعته الزيدية مع المعتزلة ، وجاهد ، وثاغر حتى قتل شهيدا في شهر رمضان من السنة ، طعنه حميد بن قحطبة ، قال الذهبي : قتل محمد بسيفه سبعين من المسودة في يوم واحد ، وطعنه حميد ، وحز رأسه ، وأرسل به إلى المنصور أبو الدوانيق ، وقيل : قتل في سنة ١٤٦ ه‍ ودفنت جثته بالبقيع ، وقيل : عند باب المدينة ، حدث عن أبي الزناد ، وعن أبيه وغيرهما ، وحدث عنه جماعة ، وروى عنه في كتاب السير محمد بن الحسن الشيباني ، وخرج له أئمتنا والأربعة ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إن النفس الزكية يقتل فيسيل دمه إلى أحجار الزيت ، لقاتله ثلث عذاب أهل النار) وهو مذكور في كتب السير ، أكثر ما ذكر.

٣٢٦

وقال الشافعي : أربعة برد ، وقال داود : في قليل السفر وكثيره.

إن قيل : الآية تتناول كل سفر ، كقول داود ، فلم خرجتم عن ذلك؟

قلنا : خرج ذلك بوجهين : الأول : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يقصر إذا سافر إلى قباء ، وهو فرسخ ، روى ذلك أنس (١) ، والقصر والإفطار قد سوي بينهما في قدر السفر.

الثاني : أن الإجماع قد انعقد على خلاف قول داود ، وقد ورد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسافر المرأة بريدا إلا ومعها زوج أو ذو رحم محرم» رواه أبو هريرة ، فجعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البريد سفرا ، فهذا توجيه كلام الهادي عليه‌السلام.

وحجة زيد ، ومن معه ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم).

قال القاضي زيد : وقد وافقوا في فعل النافلة على الراحلة في السفر القصير ، وكذا جوزت الحنفية التيمم لعدم الماء في السفر القصير.

الحكم الثالث : في سفر المعصية هل يبيح الفطر أم لا؟ قلنا : مذهب القاسم ، والهادي ، والحنفية : أنه مبيح للفطر ؛ لأن الآية لم تفصل ، وقال الناصر : والشافعي : لا يجوز فعل الرخص إذا كان سببها معصية ؛ لأن ذلك يكون إعانة على المعصية ، ولقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ١٧٣] فعلق الإباحة بأن لا يكون باغيا ، ولا عاديا ، وقد تقدم الاختلاف في تفسير الآية بأن المراد «باغيا» في التلذذ ، أو على الإمام.

قالوا : يحمل على الجميع ، وقوله تعالى في سورة المائدة : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) [المائدة : ٣] و «غير» منتصب على

__________________

(١) في ب (روي ذلك عن أنس).

٣٢٧

الحال ، فكأنه تعالى قال : إذا لم يكن عاصيا فلا يحمل على معصية الشبع ؛ لأن ذلك يحصل بعد الأكل ، وقد روي عن علي عليه‌السلام : «أن الساعي في الأرض فسادا لا يقصر» فكذا لا يفطر.

وأجيب : بأن الرواية لم تصح عنه ، قال أبو جعفر : ولا خلاف أنه يترخص إذا تاب عن معصيته ، وأراد الانصراف.

الحكم الرابع : إذا سافر أنسان بعد طلوع الفجر ، فإن له أن يفطر ، على ما خرج للهادي عليه‌السلام ، وهو قول المؤيد بالله ، والناصر ، وأحمد ، والمزني (١) ، لعموم قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحمزة بن عمرو الأسلمي ، وقد سأله فقال : يا رسول الله أصوم في السفر؟ فقال : «إ ، شئت فصم ، وإن شئت فأفطر» وقياسا على من رخص له الإفطار بالمرض ، فإن له أن يفطر إذا طرأ عليه المرض ، وقد أصبح صائما.

وقال أبو حنيفة ، والشافعي : إذا سافر بعد أن أصبح صائما لم يفطر ؛ لأن النية قد بيتت من الليل ، فلم يجز أن يبطل صومه ونيته ، لقوله تعالى في سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) [محمد ٠٣٣] بخلاف المريض فإنه ملجأ إلى الفطر.

قالوا : ولأنه قد تلبس بفرض المقيم ، فلا يفطر ، كما لو دخل في الصلاة بنية الإتمام ، ثم أراد أن يقصر ، وهم منازعون إذا كان في سفينة فسارت.

__________________

(١) المزني هو : إسماعيل بن يحي المزني ، الشافعي ، أبو إبراهيم البصري ، قال في الطبقات : ولد سنة ١٧٥ ه‍ أخذ عن الشافعي ، وعنه الطحاوي أو لا كما تقدم ، وكان معظما في الشافعية ، صنف كتبا كثيرة ، وله مذهب مستقل ، وتوفي في رمضان سنة ٢٦٤ ه‍ وصلى عليه الربيع ، ودفن بالقرب من قبر الشافعي ، وهو منسوب إلى مزينة ، خرج له المرشد بالله ، وهو أكبر أصحاب الشافعي رحمه‌الله.

٣٢٨

الحكم الخامس : إذا صام بعض رمضان في الحضر ، ثم أنشأ سفرا هل أن يفطر فيه أم لا؟ مذهب جماهير العلماء : له ذلك.

قال في نهاية المالكي : وعند عبيدة السلماني ، وسويد بن غفلة ، وأبي مخلد (١) أن من سافر فيه لا يجوز له أن يفطر.

وشبهتهم أنهم فهموا من قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) أن من شهد بعضه صام جميعه ، والجمهور يقولون : من شهد بعضه صام ذلك البعض ، ويؤيد تأويل الجمهور إنشاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السفر في رمضان ، وأنه أفطر.

قال الناصر عليه‌السلام : ويكره السفر في رمضان ، إلا سفرا واجبا ، كالحج والجهاد ، والهجرة ؛ لأنه ينتقص عليه من شيئ من أعمال العبادة ، قال أبو جعفر : ولا خلاف في ذلك.

الحكم السادس : متى يفطر المسافر إذا خرج من بلده قبل طلوع الفجر؟ أو بعده؟ والكلام في هذه كالكلام في قصر الصلاة ، فعند الهادي ، والناصر : إذا خرج من ميل بلده ، وعند المؤيد بالله ، والشافعي ، وأبي حنيفة إذا خرج من البيوت.

وقال عطاء : إذا نوى السفر جاز له القصر والفطر ، وعند مجاهد : إن سافر نهارا لم يجز القصر حتى يمسي ، وإن سافر ليلا لم يجز حتى يصبح ، ويأتي الفطر على قول الهادي ، والمؤيد بالله كالقصر.

إن قيل : كيف يعقل هذا الحكم من هذه الآية؟ قلنا : قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) يفيد أنه متى صار مسافرا أبيح له

__________________

(١) في بعض النسخ (مجلز) بالزاي ، وهو كمنبر ، واسمه لاحد بن حميد ، تابعي ، وأما من قال : مخلد ، بالدال فلا يعرف في الصحابة والتابعين مخلد ، وإنما ذلك غلط. (ح / ص).

٣٢٩

الفطر ، وهو لا يسمى مسافرا ، وهو في البلد ، فبطل قول عطاء ، وخرج الميل على قول الهادي ، لأن ساحة البلد معدودة من البلد ، والميل في حكم الساحة للبلد عرفا.

والشافعي ، والمؤيد بالله ، وأبو حنيفة يتعلقون بقوله تعالى في سورة النساء : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) [النساء : ١٠١].

فعلق حكم القصر بالضرب فدخل الميل فيما زاد عليه ، وبطل قول مجاهد بهذه الآية ، وبما روى أبو سعيد الخدري أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا خرج من المدينة سار فرسخا ، ثم قصر. وعن أنس : «صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظهر بالمدينة أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين».

وخرج أبو داود عن أبي بصرة الغفاري (١) أنه لما تجاوز البيوت دعا بالسفرة ، قال جعفر ـ راوي الحديث ـ فقلت : ألست ترى البيوت؟ فقال : أترغب عن سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال جعفر : «فأكل» وهذا حجة للمؤيد بالله ، ومن معه.

الحكم السابع : إذا زال سبب الرخصة فصح المريض ، وقدم المسافر هل يستصحب حكم السبب المبيح ، فيحل له الافطار إن لم يفطر ، أو الاستمرار عليه إن تقدم منه الفطر؟ وهل يدرك من الآية الكريمة حكم في ذلك؟.

قلنا : للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب ، مذهب القاسم ، والهادي ، والناصر : التفصيل ، وهو أن يقال : إن كانا قد أفطرا جاز الاستمرار على

__________________

(١) أبو بصرة : بفتح الباء وسكون الصاد المهملة حميد بن بصرة الغفاري ، وهو بضم الحاء ، وفتح الميم ، وسكون المثناة من تحت ، ذكره في جامع الأصول (ح / ص).

٣٣٠

الفطر ، واستحب الامساك لئلا يتهم بأنه متهتك ، وإن لم يفطرا لزم الامساك (١).

وقال أبو حنيفة : لا يجوز الأكل ، ويلزم الإمساك أكل أم لا ، كمن أصبح يوم الشك آكلا ، أو مفطرا ، فاستثبت أنه من رمضان ، وأجيب : بأنه أفطر للجهل في يوم الشك ، بخلاف ما نحن فيه ، فإن مع السفر والمرض يباح الفطر ظاهرا وباطنا ، وقال أبو علي بن أبي هريرة (٢) من أصحاب الشافعي : يجوز الفطر أكل أم لا ؛ لأن الإباحة لا تتبعض ، وقد أبيح الفطر أول النهار ، فكذا آخره ، وخالفه أبو إسحاق فقال بقولنا.

وأما هل يدرك من الآية حكم في هذه المسألة؟ فلقائل أن يقول : إن الله تعالى جعل له أن يصوم في أيام أخر ، مقيدا بأن يكون مريضا أو على سفر ، حيث أفطر مع المرض ، أو السفر ؛ لأنه قد ثبت أن التقدير : فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر ، وإذا زال المرض أو السفر من غير فطر فليس ممن أبيح له أن يصوم في أيام أخر ، وهذه حجة على ابن أبي هريرة.

وأما إذا قدم المسافر ، وصح المريض بعد الأكل ، فقد علل ذلك بأن قيل : من أبيح له الفطر أول النهار (٣) أبيح له آخره كما لو بقي على سفره ،

__________________

(١) وهو المذهب المختار. (ح / ص).

(٢) في بعض النسخ أبو علي ، وابن أبي هريرة) وقد عد سهوا من الكاتب فإن أبا علي هو ابن أبي هريرة. وابن أبي هريرة هو : الحسن بن الحسين الشافعي ، المعروف بابن أبي هريرة ، العلامة الفقيه المحقق ، المحدث ، أخذ الفقه عن ابن سريج ، والمروزي ، وتصدر ببغداد للتدريس ، وتخرج عليه خلق كثير ، توفي في رجب سنة ٣٤٥ ه‍.

(٣) من أبيح له الفطر أول النهار وأفطر.

٣٣١

وكذا عندنا في الحائض لكن لا فرق بين أن تأكل أم لا ؛ لأن الحيض ينافي الصوم.

وأبو حنيفة أوجب عليها الإمساك.

قال الإمام يحي بن حمزة عليه‌السلام : ولو قدم المسافر وقد أكل ، ووجد امرأته قد طهرت في يوم من رمضان جاز له وطؤها ، كما لو كانا مسافرين خلافا للأوزاعي

الحكم الثامن :

إذا أراد القضاء هل يجب عليه أن يتابع أم لا؟ وهذا فيه أقوال للعلماء ، فالذي خرج للهادي ، وهو قول القاسم ، والفريقين ، ورواية لمالك : أنه يقضي كيف شاء متتابعا ، أو متفرقا سواء فات مجتمعا أو متفرقا ، وهذا مروي عن جماعة من الصحابة ، وهم علي عليه‌السلام وابن عباس ، وأنس ، وأبو هريرة ، ومعاذ بن جبل ، لكن التتابع مستحب ، والحجة على ذلك قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ولم يشترط اجتماعا.

قال جار الله الزمخشري رضي الله عنه : لما لم يعرّف الأيام ، ولم يقل : «فعدتها من أيام أخر» علم أنه لا يؤثر عدد على عدد (١) ، يفهم من كلام الزمخشري أنه لو عرف العدة بالإضافة ، وقال : عدتها ـ دل على

__________________

(١) قال في (ح / ص) : (هذا هو الحق فإنه لم يرد بما ذكر إلا أنه حذف المضاف إليه للعلم ، وذلك لأنه لما كان عدة بمعنى المعدود ، والأمر بصيام أيام معدودة مكان المتروك علم أنه لا يؤثر عدد على عدد المتروك ، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة ، وأما ما ذكر من فهم التتابع من التعريف بالإضافة فبمراحل عن مراد صاحب الكشاف ، وهو ظاهر للمتأمل ، ولو كان في العدة معنى الهيئة ، لكانت الهيئة الثانية مذهب داود الذي يجيء ، فيكون هو المفهوم لا التتابع ، وهو ظاهر البطلان. (ح / ص).

٣٣٢

التتابع ، وقد أجاب السيد جمال الدين علي بن محمد (١) لما قيل له : من أين يدرك التتابع لو قال : «فعدتها» بأن قال : لم يصرح الزمخشري بأن ذلك يلزم منه التتابع ، وهو يمكن أن يقال : يدرك منه التتابع ، من حيث أن عدتها فيها معنى الهيئة ، فأشبه لو قال : ركبت ركبة الأمير ، ولبست لبسة الوزير ، فإنه يفهم المشابهة في الصفة.

وخبر محمد بن المنكدر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عمن يقطّع قضاء رمضان ، فقال : «ذلك إليه ، أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ، ألم يكن قد قضى ، فالله أحق أن يعفو ويغفر» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فالله أحق أن يعفو ويغفر» دلالة على الكراهة.

[وروي عن ابن عباس] (٢) وعن أبي عبيدة بن الجراح : «أن الله تعالى لم يرخص لكم في فطره ، ويريد أن يشق عليكم في قضائه ، إن شئت فواتر ، وإن شئت ففرق».

وقال الناصر ، والنخعي : يجب عليه التتابع ، قال في شرح الإبانة للناصر : سواء فاته مجتمعا أو متفرقا ، ولا يفرق إلا لعلة.

قال في الكشاف : وعن علي ، وابن عمر ، والشعبي : يقضي كما فات متتابعا ، وهذا رواية عن مالك ، واحتجوا بما روي عن علي عليه‌السلام وضعّفت الحكاية واحتجوا بقراءة أبي : (فعدة من أيام أخر متتابعات) قالوا : وهذه التلاوة قد نسخت وبقي حكمها ، كما أن ابن مسعود كان يقرأ

__________________

(١) علي بن محمد هو : علي بن محمد بن أبي القاسم ، صاحب تجريد الكشاف ، ترجمته في المصابيح الجزء الأول من تحقيقنا.

(٢) في نسخة ب (روي عن ابن عباس ، وعن أبي عبيدة بن الجراح .. الخ) والرواية عن ابن عباس ذكرها الحاكم ، ولفظ الحاكم (واختلفوا في العدة فقيل : التتابع شرط فيه عن ك ، وقيل : ليس بشرط عن ابن عباس ومعاذ ، وعليه أكثر الفقهاء).

٣٣٣

في كفارة اليمين (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فنسخت التلاوة ، وبقي الحكم.

وقال داود : يقضي كما فات ، اليوم الأول من شهر القضاء بدل أول يوم من رمضان ، والثاني بدل الثاني ، ونحو ذلك ؛ لأن القضاء يكون مثل المقضي قلنا : هذه الأمور كلها لا حكم لها مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ذلك إليه).

الحكم التاسع :

في حكم الصوم في السفر والفطر ، هل الفطر حتم ، أو فضيلة ، أو رخصة؟ وفي هذا مذاهب أربعة.

الأول : مذهبنا وهو رأي أبي حنيفة وأصحابه ، والشافعي ، ومالك ، وجمهور الفقهاء : أن الصوم في السفر أفضل ، قال القاسم : لا صوم النفل ، فيكره لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس من البر الصيام في السفر» فحمله القاسم على النفل.

وفيه تأويل آخر ذكره القاضي زيد في الشرح ، وذكره في مهذب الشافعي : أنه إذا كان يضر به ؛ لأن في رواية جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مر برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء ، فقال : ما بال هذا؟ فقالوا : صائم ، فقال : ليس من البر الصيام في السفر.

وقالت الامامية ، وبعض أهل الظاهر : يجب الفطر على المسافر ، ولا يصح صومه في السفر ، وقال أحمد ، وابن عمر : الفطر أفضل ، قال في النهاية : وقوم خيّروا.

يقال : كيف يدرك الحكم من الآية؟ قلنا : ترتيبها على ما نذهب إليه ، ومعناها : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) فأفطر ، (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ، فيقدر : فأفطر ، كما قدر ذلك ، في قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً

٣٣٤

أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) [البقرة : ١٩٦] أي : فحلق فعليه فدية ، وإنما قدرنا محذوفا ، وذلك يحتاج إلى دليل ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صام في سفره.

وعن أبي الدرداء «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض غزواته ، في حر شديد ، ما فينا صائم إلا رسول الله».

وعن أبي سعيد الخدري : «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة إلى حنين في اثنتي عشرة بقيت من رمضان ، فصام طائفة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأفطر الآخرون ، ولم يعب» فهذا دليل على جواز الفطر.

وأما كون الصوم أفضل ، فلقوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) على أحد التأويلات (١) ، ولأنه إذا أفطر عرض الصوم للنسيان ، وحوادث الزمان ، وعن أنس أنه قال في السفر : إن أفطرت فرخصة ، وإن صمت فهو أفضل».

وعن عثمان بن أبي العاص أنه قال : «الصوم أحب إلي» قلنا : إلا أن يجهده السفر ، فيكون الفطر أفضل ؛ لأنه ورد فيه : «ليس من البر الصيام في السفر» ويكره الصوم من المريض إذا أضر به ، كما يكره صوم الدهر ، وأما إذا خشي الهلاك فلا يجزيه الصوم ، ويكون آثما ، ذكره المؤيد بالله ؛ لأنه عاص ، والمعصية لا تكون قربة ، ولقوله تعالى في سورة النساء : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] وقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] (٢).

وجه قول الامامية الأخذ بظاهر الآية ، وهي قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وهذا أمر ، وقد قرئ في الشاذ بالنصب (فعدةً) بمعنى : فليصم عدة.

__________________

(١) والتأويل الثاني (عوضا عن الفدية).

(٢) وإن لم يهلك جاء على قول الإبتداء والإنتهاء. (ح / ص).

٣٣٥

ووجه قول من قال : الفطر رخصة والصوم أفضل عموم قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ولأن المعقول من الإباحة إنما هو الرخصة والتوسعة (١).

وقد حكى في الكشاف الخلاف في المريض والمسافر ، فقال : وقيل : مكتوب عليهما أن يفطرا ، ويصوما عدة من أيام أخر.

الحجة على أهل الظاهر : إجماعهم أن المريض إن صام أجزأه ، وحجة من قال : إن الفطر والصوم سواء : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لحمزة بن عمرو الأسلمي :

«إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر».

أما إذا كان الصوم يضعفه عن الجهاد فالفطر أفضل مع السفر ، قال في الترمذي ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أمر بالفطر في غزوة غزاها».

وروي عن عمر بن الخطاب نحو هذا (٢) ، إلا أنه رخص في الإفطار عند لقاء العدو ، وبه يقول بعض أهل العلم.

وقال في مسلم عن أنس : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السفر ، فمنا الصائم ، ومنا المفطر ، فنزلنا منزلا في يوم حار ، فسقط الصوام ، وقام المفطرون ، فضربوا الأبنية ، وسقوا الرّكاب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ذهب المفطرون بالأجر».

__________________

(١) وما عداها جانب الأفضلية. (ح / ص).

(٢) ذكره الحاكم ولفظه في التهذيب (واتفق الفقهاء أن الفطر في السفر رخصة ، وإن صام جاز صومه إلا أن يبلغ الجهد ، وعن عمر وابن عباس أن الفطر عزيمة ، ثم اختلفوا فالأكثر على أن الصوم أفضل من الفطر ، وعن بعضهم الفطر أفضل فأما المريض فقد بينا ما قيل : فيه ، والصحيح أن كل مريض يؤثر الصوم فيه فله أن يفطر ، وسواء كان وجعا وحمى وغيره).

٣٣٦

الحكم العاشر :

إذا فات الصوم لسفر أو مرض ، ولم يقض الفائت حتى دخل رمضان الآخر ، هل يجزيه القضاء من غير فدية؟ أو لا بد من الفدية؟ وفي ذلك أقوال :

الأول : قول زيد بن علي عليه‌السلام وأحد قولي الناصر الذي صححه أبو جعفر ، وهو قول الحنفية : أن عليه القضاء من غير فدية ، لقوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فلم يوجب فيه إلا القضاء ، والقياس في الكفارات لا يصح ، فلا يقاس على تأخير الحج بعد الدخول فيه ، حيث يفوت ، وهذا القول هو قول المنتخب ، لكنه أجاب عمن أفطر لعذر.

القول الثاني : وهو قول الأحكام ، وهو مروي عن الحسن بن علي (١) عليهما‌السلام ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وأحمد ، وابن حي (٢) : أن عليه الفدية مع القضاء ، قال في الأحكام : ولو أفطر لعذر.

__________________

(١) الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، وابن أمير المؤمنين ، أبو محمد ، سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وريحانته ، الإمام قام أو قعد ، حفظ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتوفي شهيدا بالسم سنة ٤٩ ه‍ وقيل : بل مات سنة خمسين ، وقيل : بعدها ، رضي الله عنه ، وهو أشهر من أن يعرف.

(٢) ابن حي : هو الحسن بن صالح بن حي الهمداني ، الزيدي ، قال في المستطاب : العالم المبرز في كل فن ، ولد سنة ١٠٠ ه‍ ، قال أبو نعيم : كتب عن ثمانمائة ، ما رأيت أفضل منه ، وقال : ما رأيت إلا من يغلط إلا الحسن ، ووثقه أحمد بن حنبل ، وكان الحسن لا يحضر جمعة الظلمة ، ويرى الخروج عليهم ، وكان صهره عيسى بن زيد وصاحبه ، وله قصص معه ، وكان عابدا ، قال الذهبي : كان الحسن وأخوه علي وأمهما يقسمون الليل أثلاثا ، فلما مات أمهما اقتسماه فيما نصفين ، فلما مات علي قام الحسن الليل كله ، وإليه تنسب الصالحية من الزيدية ، توفي سنة ١٦٦ ه‍ (تراجم شرح الأزهار).

٣٣٧

ووجهه قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) فاقتضى العموم وجوب الفدية على كل مفطر ، إلا ما خصه الدليل من سقوطها على من قضى قبل أن يحول رمضان ؛ فإن الإجماع أنها لا تجب إلا في قول للناصر عليه‌السلام مرجوع عنه.

قال أبو طالب : ونسخ التخيير بين الصوم والفدية لا يوجب نسخ الفدية ، وخبر أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : (من أفطر رمضان لمرض فصح ، ولم يصمه حتى أدركه رمضان آخر ، فليصم ما أدركه ، وليقض ما فاته ، وليطعم عن كل يوم مسكينا) قالوا : إن صح الخبر حمل على الاستحباب.

القول الثالث : قول الشافعي : إن ترك القضاء لعلة فلا فدية عليه ، وإن تركه لغير علة فعلية الفدية.

وهل تكرر الفدية بتكرر الأعوام الحائلة ، فيه وجهان : رجح أنها لا تكرر [وهو المختار] (١) لأن الوقت فات بدخول رمضان الحائل ، سواء تكررت الأعوام أم لا.

أما إذا دام المرض أو السفر إلى أن مات ، فقال الحاكم : لا قضاء عليه بالإجماع.

وقد علله في مهذب الشافعي في دوام المرض إلى الموت : بأنه لم يتمكن منه ، فأشبه الحج إذا مات قبل أن يتمكن منه.

قال في النهاية : وشذ قوم فقالوا : إذا اتصل مرض المريض حتى يدخل رمضان آخر فلا قضاء إليه ، وهو مخالف للنص ، وظاهر قول المؤيد بالله [والشافعي] (٢) ومروي عن القاسمية : أن من عجز عن القضاء

__________________

(١) ما بين القوسين ثابت في أ ، وساقط في ب.

(٢) ما بين القوسين ثابت في بعض النسخ ، ولفظ ب (وهو مروي عن القاسمية).

٣٣٨

والأداء لم يسقط عنه وجوب الإيصاء ، وهو يلزم أن يوصي بكفارة الصوم ، وفدية إن حال عليه رمضان وهو مريض (١).

الحكم الحادي عشر :

في المرضع والحامل ، هل يدخلان في حكم المريض للزوم (٢) القضاء ، دون الكفارة أم لهما حكم آخر؟ قلنا : مذهب زيد بن علي ، والقاسمية ، والحنفية وهو أحد قولي الناصر : أنهما كالمريض سواء خافتا على أنفسهما ، أو على ولدهما ؛ لأن الحامل إذا قرب حملها لحقها التألم ، والخوف عذر كالمرض ، وقال الشافعي ، وأحمد : إن خافتا على أنفسهما فقط ، فعليهما القضاء من غير فدية كالمريض ، وإن خافتا على ولدهما فعليهما القضاء والفدية معا ، وأحد قولي الناصر : عليهما القضاء والفدية معا ، وقال الشافعي في البويطي (٣) : على الحامل القضاء فقط ؛ لأن عذرها في نفسها ، فأشبهت المريض.

وعلى المرضع القضاء والكفارة ، وهذا كقول (٤) مالك.

وعن ابن عباس ، وابن عمر : عليهما الفدية ، ولا قضاء.

حجة من أوجب القضاء فقط ، قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وهما لاحقتان بالمريض ؛ لأنهما أفطرتا لعذر غير مأيوس ، وللخبر الوارد : أنهما لما سألتا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصوم ، قال لكل واحدة : «انطلقي فأفطري ، فإذا أطقت فصومي» ولم يذكر الفدية.

__________________

(١) فائدة في ذكر الفدية (وعن القاضي عامر أنه إذا ترك الأداء والقضاء لعذر مأيوس ، فإن استمر عليه لزمه كفارة عن كل يوم ، ولا فدية عليه. فيحقق. (ح / ص).

(٢) في نسخة (في لزوم القضاء).

(٣) هو كتاب المختصر من فقه الشافعي ، للعلامة البويطي.

(٤) في نسخة (وهذا قول مالك).

٣٣٩

حجة من أوجب الفدية مع القضاء قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) فأوجبت الآية على كل مطيق الفدية ، إلا ما خصه الإجماع ، ويلزم القضاء بقوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قلنا : الفدية منسوخة ؛ لأن في بدء الإسلام كان المطيق مخيرا بين الصوم والفدية ، فنسخ التخيير بقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

الحكم الثاني عشر :

هل يدخل الجنون والإغماء في المرض ، فيلحق حكمه به (١)؟ قلنا : عند الناصر ، والشافعي : أن الجنون لا يلحق بالمرض ، فلا يلزم المجنون أن يقضي ما جن فيه ، سواء كان أصليا ، أو طارئا بعد البلوغ ، ويؤيد ذلك الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع القلم عن ثلاثة» الخبر. وخرج النائم في أنه يجب عليه الصوم بالإجماع ، فأما المغمى عليه فيدخل في حكم المريض.

وعن الهادي ، وأبي حنيفة : أنه إذا كان الجنون طارئا وجب القضاء ؛ لأنه من جنس المرض ، وإن كان أصليا لم يجب ، قال أبو حنيفة : إلا أن يفيق في بعض الشهر ، قضى ما فات.

قال الناصر ، والشافعي الإغماء مرض بدليل أنه يأخذ الأنبياء عليهم‌السلام

قالت عائشة : أغمي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر مرضه ، وقال تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم : ٢] فنفى عنه الجنون.

قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) اختلف العلماء في حكم هذه الآية هل هو باق أم منسوخ؟ فقال أكثر المفسرين : إن التخيير منسوخ

__________________

(١) في ب (فيلحق بحكمه).

٣٤٠