تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

١
٢

٣
٤

٥

تفسير

من سورة العنكبوت

إلى

سورة الفلق

٦

سورة العنكبوت

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ١ ـ ٣]

قيل : نزلت في عمار بن ياسر كان يعذب في الله : عن ابن جريج.

وقيل : نزلت في أناس بمكة أسلموا فكتب إليهم المهاجرون من المدينة : أنه لا يقبل منكم حتى تهاجروا ، فخرجوا إلى المدينة ، فردهم المشركون فنزلت هذه الآية ، فبعثوا بها إليهم ، فخرجوا فلحقهم المشركون فمنهم من قتل ، ومنهم من سلم ؛ لأنهم قاتلوا : عن الشعبي.

وقيل : نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب ، وهو أول قتيل من المسلمين يوم بدر ، رماه عامر بن الحضرمي فجزع أبواه وزوجته فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيد الشهداء مهجع ، وهو أول من يدعا إلى باب الجنة من هذه الأمة».

والمعنى أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم ، وأظهروا الإيمان أنهم يتركون كذلك غير ممتحنين ، بل يمتحنهم الله بضروب من المحن ، وذلك بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان ، ومجاهدة الأعداء ، وسائر الطاعات الشاقة ، وهجر الشهوات والملاذ ، وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ، وبكيد الكفار وإصرارهم.

٧

ثم قال تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [العنكبوت : ٣]

والمعنى : أن أتباع الأنبياء قد أصابهم من الفتن والمحن نحو ما أصابهم ، وأشد منه فصبروا كما قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [آل عمران : ١٤٦].

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار في رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه» وقد قال تعالى في سورة آل عمران : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران : ١٨٦].

ثمرة ذلك :

أن الصبر على القتل والتعذيب ، وعدم النطق بكلمة الكفر أفضل ، ويجوز النطق لقوله تعالى في سورة النحل : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦] وقد تقدم ذكر ذلك ، وتقسيم الأمور المكره عليها.

قوله تعالى

(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) [العنكبوت : ٦]

المعنى : من جاهد نفسه في منعها ما تأمره به ، أو جاهد الشيطان ، أو جاهد الكفار ، فنفع ذلك عائد إليه ، والله غني عنه ، وإنما كلفه رحمة منه لنفعه.

وثمرة ذلك : الحث على أنواع الجهاد المذكورة.

٨

قوله تعالى

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت : ٨]

النزول

روي أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص الزهري حين أسلم ، قالت له أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس يا سعد بلغني أنك قد صبأت ، فو الله لا يظلني سقف بيت ، وإن الطعام والشراب حرام عليّ حتى تكفر بمحمد ، وكان أحب ولدها إليها ، فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشكا عليه فنزلت هذه الآية ، والتي في لقمان والتي في الأحقاف ، وأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يداريها ، ويترضّاها بالإحسان ، ولا يطعها فيما سألته من الكفر.

وقيل : إنّها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب ، فجاء أخواه لأمه وهما أبو جهل بن هشام ، والحارث بن هشام وقالا له : إن من دين محمد صلة الرحم ، وبر الوالدين ، وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ، ولا تأوي بيتا ، وهي أشد حبا لك منا ، فاخرج معنا وفتلا منه في الذروة والغارب (١) فاستشار عمر فقال : هما يخدعانك ولك عليّ أن أقسم مالي بيني وبينك ، فما زالا منه حتى أطاعهما وعصى عمر ، فقال عمر : أما إذا عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها ، فإن رأيت منهما ريب فارجع ، فلما انتهوا إلى

__________________

(١) الذروة أعلى السنام والغارب مقدمه. وهذا مثل يضرب لمن يعمل الحيلة في الوصول وهو كناية عن المكر والخديعة وأصله أن من أراد أن يؤم البعير النافر وضع يده عليه وأمرها على سنامه وفتل وبره حتى يلين فيزمه تمت.

٩

البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي قد كلت فاحملني معك ، فنزل ليوطئ لنفسه وله فأخذاها وشداه وثاقا وجلده كل واحد منهما مائة جلدة ، وذهبا به إلى أمه فقالت : لا يزال في عذاب حتى يرجع عن دين محمد ، فنزلت.

وثمرة ذلك :

وجوب بر الوالدين ؛ لأن الوصية هي الأمر المؤكد ، والمعنى :

ووصيناه بإيتاء والديه حسنا ، وفي بر الوالدين من الأدلة والترغيب والحث ما لا يحصى ، وقد أفرد الحاكم في السفينة لذلك بابا ، وقد عد العلماء ـ رضي الله عنهم ـ عقوق الوالدين من الكبائر.

لكن هنا فروع خفية :

أحدها : هل يحتاج إلى استئذانهما في الحج والجهاد وطلب العلم أم لا؟ ظاهر المذهب أنه لا يستأذنهما ، وفي الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» : وهذا قد ذكره أبو جعفر ، والمنصور بالله ، وقال : إن أبا بكر خرج للجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترك أباه شيخا كبيرا أعمى.

وقال الشافعي ، والأمير الحسين ، والإمام يحيى : إنه يستأذنهما لأخبار وردت :

منها : ما رواه في سنن أبي داود بالإسناد إلى عبد الله بن عمر قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان ، فقال : «ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما» وجاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله أجاهد؟ فقال : «ألك أبوان»؟ قال : نعم ، قال : «ففيهما فجاهد».

وفي السنن أيضا عن أبي سعيد الخدري أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اليمن فقال : «هل لك أحد باليمن». قال : أبواي ، قال : «أذنا

١٠

لك؟» قال : لا ، قال : «ارجع إليهما فاستأذنهما ، فإن أذنا لك فجاهد وإلّا فبرهما».

قال الإمام يحيى : إلا في طلب العلم فإنه مأمون.

الفرع الثاني : هل يجب عليه أن ينفقهما إذا كانا فقيرين مع كفرهما أم لا؟

قال الأئمة : يجب لهذه الآية ، ولقوله تعالى في سورة لقمان : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) ولقوله تعالى في هذه السورة : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) وليس من المعروف أن تشبع ويجوعا ، ولا أن تكتسي ويعريا ، والظاهر من سبب النزول أنه لا يفرق الحال بين الحربي والذمي.

وقال بعض المفرعين للمذهب : هذا إذا كان ذميين لا حربيين ؛ لأن الأحكام بيننا وبينهم منقطعة.

الفرع الثالث : أنه لا يجوز له قتل أبيه الحربي إلا أن يخشى منه مضرة على مسلم.

وقوله تعالى

(إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت : ٨]

قال في الكشاف : في معنى ذلك : أراد أن الجزاء إليّ فلا تحدث نفسك بعقوق والديك ، وجفوتك لهما لشركهما ، ولا تحرمهما برك ومعروفك في الدنيا ، كما إني لا أمنعهما رزقي.

هذا أمر وأمر أحسن : وهو التحذير من متابعتهما على الشرك ، والحث على الثبات.

قوله تعالى

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣]

المعنى : أثقال أنفسهم ، وهي خطاياهم.

١١

وقوله تعالى : (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ)

أثقال خطايا من ضل بسببهم.

وثمرة ذلك :

أن السبب يكون فاعله معاقبا إن كان معصية ، ومثابا إن كان طاعة ، وعلى هذا الحديث وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».

وروى الحسن عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أيما داع دعا إلى الهدى ، واتّبع عليه ، وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه لا ينقص من أجورهم شيء ، وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتّبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه لا ينقص من أوزارهم شيء» ثم قرأ الحسن : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ).

فيتفرع على هذا : أن من أوصى غيره بنوع من الطاعات كان الأجر يتزايد للموصي بتزايد عمل الموصى إليه.

قوله تعالى

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) [العنكبوت : ٢٩].

ثمرة ذلك : وجوب النظر والتفكر ؛ لأنه يستدل بذلك أن للعالم صانعا حيا ، عالما قادرا ، موجودا.

قوله تعالى

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) [العنكبوت : ٢٦]

قال في الكشاف : أول من آمن بإبراهيم عليه‌السلام لوط ، لما رأى النار

١٢

لم تحرقه وهو ابن أخته ، والذي قال (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) إبراهيم ، والمعنى إلى حيث أمر ربي ، وهاجر من كوثى وهو من سواد الكوفة إلى حران الشام ، ثم منها إلى فلسطين ، ومن ثم قالوا : لكل نبي هجرة ، ولإبراهيم هجرتان.

ثمرة ذلك :

أن الهجرة لازمة في شريعتهم كما هي ثابتة في شريعتنا.

قوله تعالى

(وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) [العنكبوت : ٢٧]

قال في الكشاف : هو الثناء الحسن ، والصلاة عليه إلى آخر الدهر ، والذرية الطيبة ، والنبوة ، وأن أهل الملل كلهم يتولونه.

قال الحاكم : دلت الآية على أن بعض الثواب يجوز تعجيله في الدنيا لا كله.

يستثمر من ذلك : جواز إرادة الثناء الحسن في الدنيا (١).

قوله تعالى

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٨٠]

دلت الآية على تحريم ذلك ، وهو معلوم من الدين ضرورة.

وفي الإتيان في دبر المرأة الزوجة ، أو الأمة : ما تقدم.

__________________

(١) إنما يؤخذ من قوله تعالى : وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ لما سيأتي لا من هذه الآية.

١٣

قوله تعالى

(وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) [العنكبوت : ٢٩]

اختلف المفسرون في ذلك ، فقيل : كانوا يقطعون الطرق لأخذ الأموال.

وقيل : للعمل الخبيث ؛ لأنهم كانوا يطلبون الغرباء ، وقيل : يقطعون السبيل الولد بإتيان الذكور ، والجميع محرم.

قوله تعالى

(وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت : ٢٩]

يعني في مجالسكم.

اختلف ما أريد بالمنكر :

فعن ابن عباس ، ومحمد بن القاسم : أنه الضراط في مجالسهم من غير حشمة ولا حياء.

وقيل : كانوا يخذفون من مر بهم سخرية : عن السدي ، وروي مرفوعا ، وقيل : يأتون الذكور في مجالسهم : عن مجاهد.

وقيل : يخذفون من مر بهم فأيهم أصابه كان أولى به ، وروي مرفوعا.

وقيل : كانت مجالسهم تشتمل على أنواع القبائح من الشتم والقمار ، وضرب المعازف والمزامير ، وكشف العورات واللواط.

وقيل : الخذف بالحصى ، والرمي بالبنادق ، والفرقعة ، ومضغ العلك ، والسواك بين الناس ، وحل الإزار ، وإظهار القبائح أقبح من إخفائها ، ولهذا جاء في الحديث : «من خرق جلباب الحياء فلا غيبة له» وروي : «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له».

١٤

وثمرة ذلك : قبح أفعالهم وتحريمها. أما إتيان الذكور وقطع الطرق ، وكشف العورات والحباق (١) فذلك ظاهر.

وأما مضغ العلك ، والسواك : فذلك لأنهم قصدوا للرغبة في القبيح ، كما تحسن المرأة وتطيب لغير زوجها بل للفجور.

قوله تعالى

(إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) [العنكبوت : ٣٣]

يعني : الباقين في العذاب ، وفي ذلك دلالة على جواز نكاح المسلم للكافرة ، لكن ذلك منسوخ إجماعا في الحربية ، لقوله تعالى في سورة البقرة : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١].

وفي ذلك دليل على أن الدال مشارك في المعصية ؛ لأنها دلت على أضيافه.

قوله تعالى

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت : ٤٥]

المعنى قيل : المراد اتل ما أوحي إليك من القرآن بنفسك ، واعمل به ، وبلغ به إلى غيرك ليؤمن به ، ويعمل بموجبه ، وهذا واجب عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأن التبليغ واجب ، وكذا يجب على غيره ، لكنه فرض كفاية كسائر ما لا يتعين من العلوم.

وقوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) [هود : ١١٤]

__________________

(١) والحباق الضراط تمت لسان العرب.

١٥

وفي ذلك أقوال للمفسرين :

الأول : عن أبي مسلم أنه أراد بالصلاة الدعاء إلى ما شرع من الدين ؛ لأن الصلاة في اللغة الدعاء.

الثاني : أنه أراد بالصلاة القراءة بدليل قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) [الإسراء : ١١٠] أراد بقراءتك.

الثالث : الذي عليه أكثر المفسرين وصححه الحاكم : أنه أراد الصلاة المشتملة على الركوع والسجود ، ولأن ما ورد عن الله وعن رسوله إذا كان له معنى في اللغة ومعنى في الشرع حمل على المعنى الشرعي ، لكن الدلالة مجملة ، وبيانها بفعله عليه‌السلام.

وقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥]

قيل : أراد بالمنكر : ما ينكره العقل والشرع.

وهاهنا نكتة : وهي أن يقال : كم من مصل يرتكب الفحشاء والمنكر ولا تنهاه صلاته؟ جواب ذلك من وجوه :

الأول : أنه أراد بالصلاة الدعاء إلى الحق.

الثاني : مروي عن ابن عباس ، وابن مسعود : أن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

قيل : لأن ذلك بمنزلة النهي بالقول ؛ لأن فيها التكبير والتسبيح ، والقراءة ، والوقوف لله ، وكل ذلك يدعو إلى ترك الفحشاء ، فصار كالداعي وهو كقوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١]

وقول الشاعر :

امتلأ الحوض وقال قطني

 [مهلا قليلا قد ملأت بظني]

وقيل إنها نهي ما دام فيها.

١٦

وقيل : القراءة التي يقرأ فيها.

وقيل : في ذلك تقديم وتأخير ، تقديره أقم الصلاة ، واتل ما أوحي إليك فهو ينهى عن الفحشاء والمنكر.

وقيل : هي لطف في ترك الفحشاء والمنكر ، فمن قبل اللطف نهته ، ومن لم فقد أتى من جهة نفسه.

وقال في الكشاف : أراد الصلاة التي هي صلاة عند الله المستحق بها الثواب ، وهو أن يدخل فيها مقدما للتوبة النصوح ، متقيا لقوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧] ويصليها خاشعا بالقلب والجوارح.

فقد روي عن حاتم الأصم : كأن رجلي على الصراط ، والجنة عن يميني ، والنار عن يساري ، وملك الموت من فوقي ، وأصلي بين الخوف والرجاء.

ثم يحوطها بعد أن يصليها فلا يحبطها فهذه الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر

وقد جاء في الحديث عنه عليه‌السلام : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا» وروي معنى هذا عن ابن عباس ، والحسن.

وقيل : من كان مراعيا للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يوما ما فقد روى أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل ، فقال : «إن صلاته هذه لتردعه».

وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ولا يدع شيئا من الفواحش إلّا ركبه ، فوصف له فقال : «إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث أن تاب.

وقيل : المراعي للصلاة لا بد أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لم يراعها.

١٧

وقيل : أريد بعض المصلين لا جميعهم ، كما يقال : إن زيدا ينهى عن المنكر ، وليس غرضك كل منكر.

وقيل : ينبغي أن تنهاه صلاته ، كقوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] فهو خبر يراد به الأمر.

وقوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ).

في معنى ذلك وجوه :

الأول : أن المراد ولذكر الله بالصلاة أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر الله تعالى كما قال تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩].

الثاني : أن المراد (وَلَذِكْرُ اللهِ) وذكر نهيه عند فعل الفحشاء (أَكْبَرُ) في النهي من الصلاة.

الثالث : مروي عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وسلمان ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة. وروي مرفوعا أن المراد (وَلَذِكْرُ اللهِ) إياكم برحمته (أَكْبَرُ) من ذكركم إياه بطاعته ؛ لأن ذكره تعالى مع الاستغناء وذكركم مع الافتقار ، ولأن ذكره لا يفنى ، وذكركم لا يدوم.

وعن ذي النون : لأنك لا تذكره إلا بعد ذكره إياك.

وعن أبي بكر الوراق : لأن ذكره تعالى أطلق لسان العبد بذكره ، وأنطقه بشكره.

وقيل : لأن ذكر الله لكم بالتوفيق والثواب ، والمغفرة أكبر من ذكركم بالطاعة.

وقيل : المراد ذكر الله أكبر من كل شيء ، وقد قال الحاكم : هذا دليل أنه ينبغي أن يديم العبد ذكر الله.

وقيل : أكبر من أن تحويه أفهامكم وعقولكم.

١٨

وقيل : أكبر من أن تبقى معه المعصية.

اللهم اذكرنا برحمتك ومغفرتك ، واجعلنا ذاكرين لك بشكرك وطاعتك.

قوله تعالى

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [العنكبوت : ٤٦]

اختلف المفسرون من المراد بأهل الكتاب :

فقيل : هم اليهود ، والنصارى. وقيل : نصارى نجران.

وقيل : هم الذين أدوا الجزية من أهل الكتاب.

وقيل : هم الذين أسلموا منهم.

ثم اختلفوا أيضا في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).

فقيل : هم الذين أفرطوا في العناد فلم يقبلوا النصح ، ولم ينفع فيهم الرفق ، فاغلظوا عليهم.

وقيل : هم الذين لم يقبلوا الذمة ولم يؤدوا الجزية.

وقيل : هم الذي أثبتوا الولد والشريك ، وقالوا : يد الله مغلولة.

وقيل : هم الذين آذوا رسول الله ، فهذه الثلاث التأويلات بناء على أنه لا نسخ في الآية.

وعن قتادة ، ومقاتل : أنها منسوخة بآية السيف ، وبقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩] ولا مجادلة أشد من السيف ،

١٩

والمعنى بقوله تعالى : (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الانعام : ١٥٢] أي بالخصلة التي هي أحسن ، وهي مقابلة الخشونة باللين ، والغضب بالكظم ، والسورة بالأناة كما قال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [المؤمنون : ٩٦].

وثمرة ذلك :

أن الواجب في إزالة المنكر والأمر بالمعروف الدعاء بأحسن الوجوه ، وألطفها لأنه يكون أقرب إلى القبول ؛ ولهذا قال تعالى في سورة طه : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] فلا يتجاوز إلى الخشن إذا أثر اللين ، ثم بعد ذلك القول اللين بالقول الخشن ، ثم إذا لم يؤثر فبالدفع ، ثم بالضرب.

وإذا أمر باللين مع الكافر فاللين مع من كان من أهل الملة أولى.

وفي ملاطفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوامره ونواهيه ، ومكارم أخلاقه دليل ظاهر على هذا ، ولقد كان الفضل بن العباس رديفا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظر إلى امرأة فميل وجهه عنها وقال : «شاب وشابة ، خشينا أن يفتن الشيطان بينهما» ولم يفزعه ولا وبخه ، وقد ذكر فيما تقدم (١) أن الجدال ينقسم.

قوله تعالى

(وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) [العنكبوت : ٤٦]

هذا بيان الجدال بالأحسن ، والمراد أنهم لا يكذبون.

قال في الكشاف : وفي الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وبكتبه ورسله ، فإن كان باطلا لم تصدقوهم وإن كان حقا لم تكذبوهم».

__________________

(١) في سورة الكهف في تفسير قوله تعالى : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) تمت.

٢٠