تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٣

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

١
٢

٣
٤

٥

تفسير

سورة المائدة

٦

سورة المائدة

فيها سبع وستون أية (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ١](٢)

النزول

روي أن قراب بن حيان العجلي ، قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حتم الجاهلية (٣)؟

فقال : «لعلك تسأل عن حلف يحتم» (٤)؟ قال : نعم ، قال : «لا يزيده الإسلام إلا شدة» وفي الوفاء بالعهود نزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

ثمرات الآية :

الأولى : وجوب الوفاء بالعقود ؛ لأن حقيقة الأمر للوجوب ، ولكن

__________________

(١) ساقط في النسخة أ.

(٢) قال في التهذيب : (النظم ـ قيل : لما ختم سورة النساء بذكر الأحكام افتتح سورة المائدة ببيان الأحكام أيضا ، وأجمل بقوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ثم أتبعه بذكر التفصيل ، وقال الأصم افتتح السورة بكلمة جمع فيه وصاة عباده بجميع ما تعبدهم به وبجميع ما يجب لبعضهم على بعض ، وهو قوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)

(٣) في نسخة أ(أن قراب بن حيان العجلي سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

(٤) الحتم : الخالص ، قلت : الحتم : القضاء ، وإحكام الأمر. قاموس.

٧

اختلف ما أراد بالعقود ، فقيل : هي أوامر الله تعالى ونواهيه ، ويدخل في ذلك النذر واليمين ويكون هذا عاما إلا بمخصص نحو أن يرى أن الحنث أفضل ، فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير» وكذلك إذا نذر بجميع ماله ، فالهادي ـ عليه‌السلام ـ خصص خروج الكل بخبر البيضة ، وبأنه غير قربة (١) ، والمؤيد بالله ومن معه بقوا ذلك على العموم.

وكذلك إذا خرج النذر مخرج اليمين ، فإن في ذلك الخلاف المعروف فمن أوجب الوفاء أخذ بالعموم ، ومن جوز الكفارة خصصه بالخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من نذر نذرا سماه فهو بالخيار إن شاء وفى به ، وإن شاء كفّر كفارة يمين» وقيل : أراد بذلك الإيمان ، وما يتعاهد فيه الناس ، فيدخل عقد الذمة للكفار ، ولا خلاف في لزوم الوفاء بها ، وقد ذكر القاضي جعفر : أن الوفاء بها معلوم بالضرورة من دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن استحل نقضها كفر ، ومن نقضها غير مستحل فسق ، وقيل : أراد بالعقود ما يتعاقده الناس فيما بينهم من الأنكحة والبياعات ، والإجارات ، وقيل : إن ذلك عام في الجميع ، وصححه الحاكم.

الثانية : إباحة بهيمة الأنعام ، وذلك لقوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ). وهل الإباحة لها مشروطة بالوفاء بالعقود أم لا؟

فحكى أبو علي عن قوم : أن الإباحة مشروطة بالوفاء بالعقود ، وصحح خلاف ذكر ذلك ، وأن التقدير : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). ويا أيّها الّذين آمنوا (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ).

وهل الدلالة على المباح منها مجملة أو مبينة؟ فقال أبو الحسين : إنها مجملة ؛ لأنه لم يذكر ما علق به التحليل والتحريم ، وصحح أنها

__________________

(١) المذهب لا يشترط القربة ، وإنما الشرط أن لا يكون معصية.

٨

مبينة ، وأن كل شيء ينصرف إلى المتعارف السابق إلى الأفهام ، فهاهنا أحل الأكل ، والذبح ، والانتفاع ، وفي قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] أي : وطء أمهاتكم.

واختلف ما أريد ببهيمة الأنعام ، فقيل : أراد الأنعام نفسها وهي الإبل ، والبقر ، والغنم ، وهذا محكي عن الحسن ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك ، والسدي ، وهذا من إضافة الشيء إلى نفسه ، كقولك : نفس الإنسان ، ومسجد الجامع ، وصلاة الأولى ، وقيل : الإضافة بمعنى من قولك : خاتم حديد ، ومعناه : البهيمة من الأنعام ؛ لأن البهيمة كل ذات أربع ، فأباح منها الأنعام ، والأنعام الأزواج الثمانية ، وقيل : بهيمة الأنعام الظباء ، وبقر الوحش ، ونحوها ، كأنهم أرادوا (١) ما يدانيها في الاجترار ، وعدم الأنياب ، فأضيفت إلى الأنعام لأجل الشبه ، هذا حكاه جار الله وقيل : إن الظباء ، وبقر الوحش داخل ، وقيل : أراد بهيمة الأنعام أجنة الأنعام ، حكي هذا عن الشعبي ، وابن عباس.

وروي أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين ، فأخذ ابن عباس بذنبها وقال : هذا من بهيمة الأنعام.

وكذا عن ابن عمر : أنها أجنة الأنعام ، وأن ذكاته ذكاة أمه ، وهذه المسألة اختلف العلماء فيها : فمذهب الأئمة غير زيد أن الجنين إذا خرج ميتا لم يؤكل لحمه (٢) ، ولو ذكت أمه ؛ لأنه ميت ، وقد قال تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] ولأن موته في بطن أمه خنقا ، فتكون من المنخنقة ، والتي ورد النص بحرمتها وهذا قول أبي حنيفة ، ولم يصح لهم سند الأخبار ، وما صح من قوله عليه‌السلام : «ذكاة الجنين ذكاة أمه» فإنه يروى

__________________

(١) أي : أهل اللغة.

(٢) وقد تقدم هذا في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) [البقرة ١٧٣] الآية.

٩

بالنصب أي : كذكاة أمه ، وهذا كقوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران : ١٣٣] أي : كعرض السماوات والأرض ، وكقول الشاعر :

فعيناك عيناها وجيدك جيدها

ولكن ملؤ الكشح من مي أملح (١)

وقال زيد بن علي ، ومالك ، والشافعي : إنه يؤكل لما ورد من الأخبار ، مثل قوله عليه‌السلام : «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ويروون بالرفع في اللفظين معا.

وقالوا في الحديث ما يمنع التأويل ، وذلك لأن في حديث أبي سعيد الخدري قال : سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن البقرة ، أو الناقة ، والشاة ننحرها ، فنجد في بطنها جنينا ، أنأكله أم نلقيه؟ فقال : «كلوه إن شئتم ، فإن ذكاة الجنين ذكاة أمه» لكن اختلفوا هل من شرطه أن يشعر أم لا؟

فقال زيد ، ومالك : من شرطه الإشعار ؛ لأن التذكية إنما تكون لما فيه حياة ، والحياة لا توجد إلا إذا نبت شعره ، وتم خلقه ، وأيضا فقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه».

قال في النهاية : وعن عبد الله بن كعب بن مالك : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولون : إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه.

وقال الشافعي : لا يشترط الإشعار ، وقد ورد عنه عليه‌السلام : «ذكاة الجنين ذكاة أمه) أشعر أو لم يشعر ، لأنه كالجزء من أمه ، فلا معنى لاشتراط الحياة ، ومع صحة الخبر لا معنى للقياس.

وقوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي : ما يتلى آية تحريمه ، وذلك

__________________

(١) أثبت شطر البيت الثاني في النسخة أهكذا (ولكن عظم الساق منك دقيق). وقد تقدم للقاضي رحمه‌الله ما يخالف هذا ، وأورد البيت حجة للرفع فليحقق.

١٠

قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] الآية ، وقد قضت الآية أن في بهيمة الأنعام حلالا وحراما.

الثالثة : تحريم الصيد على المحرم ، وذلك بقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) وفي تقدير الكلام وجوه :

الأول : أن التقدير أوفوا بالعقود غير محلي الصيد ، وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). أي : إباحة بهيمة الأنعام حال تحريم الصيد ، وتحريمه (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). والمعنى : كيلا يحرج عليكم ، وهذا عن الأخفش.

الثاني : أن التقدير : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد ، وقيل : غير بمعنى إلا ، والتقدير : إلا تحليل الصيد ؛ لأن إباحة بهيمة الأنعام لا يقيد بوقت الأحرام ، والمراد بالصيد المحرّم على المحرم ، هو صيد البر لقوله تعالى في هذه السورة : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً). [المائدة : ٩٦] هذا إذا جعلنا حرما جمع محرم ، وهو الفاعل للإحرام ، وإن جعلناه للداخل في الحرم استوى تحريم البحري والبري ، وذلك حيث يكون في الحرم نهر فيه صيد ، فيحرم لقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] لأنه يقال لمن دخل الحرم : إنه محرم ، كما يقال : أعرق ، وأنجد إذا دخل العراق ونجدا ، قال الراعي :

قتلوا بن عفان الخليفة محرما

فدعا فلم أر مثله مخذولا

أي داخلا في حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو المدينة ، ويكون التحريم في حرم مكة وحرم المدينة ، لما ورد من الأخبار في النهي عن صيد المدينة وأخذ شجرها نحو (المدينة حرم من عير إلى ثور) (١).

__________________

(١) عير ، وثور : جبلان في المدينة المنورة.

١١

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في المدينة : «لا ينفر صيدها ، ولا يختلي خلاها».

وقال زيد بن علي ، والناصر ، وأبو حنيفة : إطلاق الحرم على المدينة مجاز فيجوز صيده وشجره.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [المائدة : ٢]

النزول

روي عن ابن عباس أن المشركين كانوا يحجون البيت ، ويهدون الهدايا ، ويعظمون المشاعر ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنزلت.

وقيل : كان قريش ، وخزاعة ، وكنانة وعامر بن صعصعة ، يستحلون الغارة في الأشهر الحرم ، ولا يسعون بين الصفا والمروة ، ولا يقفون بعرفات فلما أسلموا أمروا بالسعي والوقوف ، ونهوا عن الغارة في الأشهر الحرم ، فنزلت الآية.

وعن الأصم : أنها نزلت في رجل من بني بكر دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إني داعية قومي فاعرض عليّ ما تدعو إليه ، فعرض عليه الإسلام ، فقال : في أمرك غلظة ، ارجع إلى قومي فأعرض عليهم ، فلما انصرف قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «دخل بوجه كافر ، وخرج بعقبى غادر» وما الرجل بمسلم ، ثم مر على سرح المدينة فاستاقها ، فطلبه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففاتهم ، وحضر الحج ، فأقبل البكري وقد قلد ، وأهدى ، فأراد المسلمون أن يبعثوا إليه ، ويأخذوا ما معه فنزلت.

١٢

قال النيسابوري في روايته : وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان» وقالوا : إنه قلد ما أخذ من سرح المدينة ، وأهداه ، وقيل : جاء يوم الفتح ناس من المشركين يؤمون البيت فقال المسلمون : دعنا يا رسول الله صلّى الله عليك نغير عليهم فنزلت.

ثمرات الآية أحكام :

الأول : النهي عن إحلال الشعائر ، والشهر الحرام ، والهدي ، والقلائد ، وآمين البيت الحرام.

أما إحلال الشعائر فاختلف المفسرون ما أريد بذلك ، فقيل : الشعائر هي معالم الحج ، وهي مناسكه ، فنهوا عن الإحلال بها ، وهذا مروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وأبي مسلم ، وقيل : لا تتركون تعظيم المشاعر ، وهي مواضع الحج ، وقيل : فرائض الله عن عطاء ، والأصم ، واختاره القاضي.

وقيل : دين الله عن الحسن ، وقيل : ما حرم عليكم في حال الإحرام من الصيد ونحوه ، وقيل : هي الأعلام المنصوبة في حدود الحرم ، فنهوا أن يجاوزوها بغير إحرام ، وقيل : أراد به الهدايا التي تعلم بأن يشق في سنامها ، وهذه المسألة قد اختلف فيها العلماء ، فمذهبنا ، والشافعي ، ومالك ، وأبو يوسف ، ومحمد : أن ذلك مسنون. وقال أبو حنيفة : هو مكروه.

حجتنا ما روي من تفسير الآية (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ). أنه أراد بذلك ما أشعر أي : علّم من الهدايا ، وليس في الآية أمر بالإشعار فنقول بوجوبه ، فلهذا قلنا : إنه سنة.

وقال المنصور بالله : إشعار البدنة واجب ، ولعله يؤخذ من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خذوا عني مناسككم» وقد أشعر.

١٣

وروى ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشعر البدن في الجانب الأيمن وكذلك روي عن كثير من الصحابة.

حجة أبي حنيفة : أنه مثلة ، وكان هذا قبل تحريم المثلة ، وقد نهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نتخذ ذا روح غرضا.

وعن عمران بن حصين أنه قال : ما خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد قصة العرنيين إلا ونهى عن المثلة ، وحث على الصدقة.

قلنا : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل ذلك بعد تحريم المثلة ؛ لأنه فعله في حجه بذي الحليفة.

والإشعار : أن يشق في شق سنامها الأيمن عندنا حتى يسيل الدم ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشعر في شق سنامها الأيمن ، وسلت الدم بيده.

قال الإمام يحيى بن حمزة : فيكون سلت الدم باليد مستحبا في الأشعار ، وهذا الخبر رواه ابن عباس ، وقول الشافعي كقولنا : إنه في الجانب الأيمن.

وقال مالك وأبو يوسف ، ومحمد : يكون الشق في سنامها الأيسر ، لما رواه نافع عن ابن عمر ، وهذا الأشعار في البدنة دون البقرة عندنا ، وأبي يوسف ، ومحمد.

وقال الشافعي : تشعر البقرة.

أما الشاة فلا تشعر اتفاقا.

وأما إحلال الشهر فقد اختلفوا ما أراد بالشهر الحرام ، فعن عكرمة : أراد ذا القعدة.

وعن قتادة : الأشهر الحرم ، وقيل : رجب ، واختلفوا ما أراد في النهي عن إحلاله ، فقيل : نهى المسلم عن ترك التعظيم للمشاعر ، والأشهر الحرم ، وهذا ثابت ، وقيل : النهي عن القتال في الشهر الحرام ، عن ابن عباس وغيره.

١٤

لكن اختلف المفسرون هل هذا محكم أو منسوخ؟ فقيل : إنه منسوخ بقوله تعالى في سورة التوبة : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] وبقوله تعالى فيها : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨] وبقوله : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) [التوبة : ١٧] ويقول هذا القائل : لا نسخ في هذه السورة إلا ما كان في هذه الآية ، وقيل : إنها محكمة لأنه لا نسخ في هذه السورة.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأها في خطبة الوداع ، وقال : هي أخر سورة نزلت من القرآن ، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ، وقد قال الحسن : ليس فيها منسوخ ، وعن أبي ميسرة : فيها ثماني عشرة فريضة ، وليس فيها منسوخ.

وقال أبو مسلم : هذا كان في معاهدة الكفارة الذين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما نزل العهد لهم بسورة براءة زال ذلك الحظر ، ووجب ما قال الله تعالى (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا).

وأما الهدى ، والقلائد ، فقد دلت على أن الهدى لا يستباح ، ولا يمنع عن بلوغ محله.

وأما القلائد فاختلف ما أريد بذلك. فقيل : ما يقلد به الهدي من النعال والصوف ، ولحاء الشجر ، أو عروة من أدم ، أو غير ذلك ؛ لأن القربة قد تعلقت بها.

وفي سنن أبي داود عن علي قال : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أقوم على بدنة ، وأقسم جلودها وجلالها.

قال العلماء : دل على أن النسك كان يتعلق بالجلال ، فكذا القلائد.

وعن ابن عباس ، وأبي علي : أراد الهدي المقلد ، فعبر بالقلائد عنه ، لكن يقال : إنه معطوف على الهدي.

١٥

وقيل : أراد القلائد من شجر الحرم لا تستحلوه ، وهذا مروي عن عطاء.

وقيل : أراد المقلدين دوابهم من الناس لتأمن ، عن قتادة ، والأول الذي صححه الحاكم.

والتقليد هو : أن يقلد نعلا أو نعلين (١) ، أو نحو ذلك ، ولا خلاف في استحباب تقليد الإبل ، والبقر ، وأما تقليد الغنم فعند الأئمة ، والشافعي أنها تقلد لحديث عائشة (أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهدى إلى البيت مرة غنما مقلدة) وقال أبو حنيفة ، ومالك : إن الغنم لا تقلد ، حكى كلام مالك في النهاية.

قال الإمام يحيى : يستحب تقليد الغنم بما يخف عليها كالودع ، قال في النهاية : واستحبوا توجيه الهدي إلى القبلة حين يقلد.

وأما قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ) فاختلف ما أراد بذلك ، فقيل : أراد قصد البيت من المسلمين ، وذلك ظاهر ، وقيل : من الكفار ، واختلف فقيل : هي محكمة ، لأنه لا نسخ في هذه السورة ، وقيل : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨]

وقوله تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) قيل : أراد في الآخرة ، فدل ذلك على لزوم النية ، وقيل : فضلا في الدنيا بالتجارة والإجارة فتدل على جواز ذلك في سفر الحج ، وأنه يؤجر نفسه.

الحكم الثاني : جواز الاصطياد بعد الإحلال بصريح اللفظ ، وتحريمه حال الإحرام بفحواه ، والمراد خرجتم من الإحرام بالإحلال ، أو خرجتم من الحرم إلى الحل ، ولا بد منهما ، وفي ذلك دلالة على إباحة

__________________

(١) في شرح ابن بهران (لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلد هدية بنعلين) تمت منه بالمعنى.

١٦

الصيد لغير المحرم ، وهذا أمر إباحة ، مثل (كُلُوا وَاشْرَبُوا) ومثل (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) : قال الحاكم : وقد يجب لدفع الضرورة.

الحكم الثالث : أن المضارة ممنوعة ، ومثله قوله عليه‌السلام : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (١).

وقوله عليه‌السلام : «أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك» وذلك لقوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) أي : لا يحملنكم ، أو يكسبنكم ، أو لا يدعونكم بغاضة قوم ؛ لكونهم صدوكم عن المسجد الحرام (أَنْ تَعْتَدُوا) أي : على العدوان ، وذلك أن المشركين صدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه عام الحديبية.

الحكم الرابع : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) وله شروط نأخذها من غير هذه الآية.

الحكم الخامس : أنه لا يجوز إعانة متعد ولا عاص ، ويدخل في ذلك تكثير سواد الظلمة بوجه من قول أو فعل ، أو أخذ ولاية ، أو مساكنة ، ويكون هذا عاما ، وقيل : هو وارد في المعاونة على العفو ، والإغضاء ، وقوله تعالى : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) يريد على الانتقام والتشفي ؛ لأنه ورد في عدم مجازاة أهل مكة بكونهم صدوا المسلمين عن العمرة عام الحديبية ، فيكون هذا حكما سادسا في والترغيب في العفو وترك التشفي.

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الأوسط مرفوعا ، وأحمد ١ / ٣١٣ ، ٥ / ٣٢٧ ، وابن ماجه ، والحاكم ، وابن أبي شيبة.

١٧

قوله تعالى

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : ٣]

ثمرات هذا الكلام الكريم : تحريم ما ذكر ، وإباحة ما أباحه من ذلك ، وقد تضمنت من الأمور المحرمة أحد عشر نوعا ، ومن المباح نوعين :

المحرمات : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، وهذه الأربعة تقدم الكلام عليها في سورة البقرة في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) وكانت الجاهلية تستبيح هذه المحرمات ، فالميتة ما فارقها الروح من غير جناية ، وقد خص من ذلك السمك ، والجراد.

وبالسنة وذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أحل لكم ميتتان ودمان ، السمك ، والجراد والكبد ، والطحال».

(وَالدَّمُ) أريد به : المسفوح ؛ لأنه أجمل هنا ، وفصل في قوله تعالى في سورة الأنعام : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) والكبد والطحال ليسا بمسفوحين ، وكانت العرب في الجاهلية يجعلون الدم في الأمعاء ، ويشوونه ويأكلونه ، فحرم ذلك. والخنزير : قد تقدم الكلام عليه.

(وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) يعني : ذكر عليه اسم غير الله من الأوثان ، وقد تقدم الكلام على ذلك.

١٨

(وَالْمُنْخَنِقَةُ) هي : التي تنخنق بحبل الصائد أو غيره حتى تموت ، عن الحسن ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك.

قال ابن عباس : كانت الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها.

(وَالْمَوْقُوذَةُ) : المضروبة بخشب أو غيره حتى تموت ، عن ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك.

قال قتادة : كانت الجاهلية يضربونها بالعصا ، حتى إذا ماتت أكلوها.

(وَالْمُتَرَدِّيَةُ) هي : الساقطة من رأس جبل ، أو في بئر فتموت ، عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك.

(وَالنَّطِيحَةُ) هي : المنطوحة حتى تموت عن هؤلاء.

قال الحاكم : وقيل : هي الناطحة ، وفعيل بمعنى : فاعل أي : مات من نطاحة.

قال : والأول أظهر.

(وَما أَكَلَ السَّبُعُ) يعني : ما أكل منه السبع ، فحذف منه لدلالة الكلام عليه ، وكانت الجاهلية يأكلون بقية ما أكل السبع عن قتادة ، وأراد : السبع غير المعلم.

فأما السبع المعلم إذا أكل بعض الصيد فاختلف العلماء هل يحل الباقي أم لا؟ فمذهبنا ، ومالك ، والليث ، والأوزاعي ، وأحد قولي الشافعي ، وهو مروي عن عدة من الصحابة ، وهم أمير المؤمنين ، وسلمان الفارسي ، وابن عمر ، وسعد بن أبي وقاص : جواز ذلك.

وقال أبو حنيفة ، وصاحباه ، والشافعي في قوله : المشهور : إنه لا يحل إذا أكل.

قال أبو حنيفة : ويتبين إنما صاده قبل ذلك حرام.

١٩

وقال صاحباه والشافعي : لا يحرم المتقدم.

وحكى في النهاية : أن منهم من اشترط ذلك في الكلب دون غيره ، ومنهم من قال : أما جوارح الطير فلا تحرم وإن أكلت ؛ لأن تضريها بالأكل.

حجتنا حديث سلمان الفارسي أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فقال : «كل وإن لم تدرك إلا نصفه» وحديث أبي ثعلبة الخشني عنه ـ عليه‌السلام ـ : «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن كان أكل منه».

حجتهم : حديث عدي بن حاتم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : «وإن أكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه».

قال في النهاية : هذا حديث متفق عليه ، وحديث أبي ثعلبة مختلف فيه ، ولهذا لم يخرجه البخاري ، ومسلم.

وروي عن مالك الفصل بين الكلب وغيره ، قال : ومن جمع بين الحديثين قال : حديث عدي محمول على الندب ، وحديث أبي ثعلبة على الجواز.

وقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) هذا أحد الأمرين اللذين أجازتهما الآية ، واختلفوا إلى أين يعود الاستثناء فقيل : يعود إلى جميع ما تقدم من المنخنقة ، والموقوذة والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، وهذا مروي عن علي عليه‌السلام ـ وابن عباس ، والحسن وقتادة ، والثاني يعود إلى ما أكل السبع خاصة ، وسئل الحسن عن ذلك؟ فقال : إذا أدركت ذكاته فذكه ، فقيل : فكيف يعرف ذلك؟ فقال : إذا طرفت بعينها ، أو ضربت بذنبها ، أو رجلها. وعن أمير المؤمنين نحوه.

وقيل : الاستثناء منقطع وكأنه قال : لكن ما ذكيتم ، فإذا جعلناه متصلا ، وذكى الموقوذة ونحوها حلت ، وذلك حيث يدركها حية ، وهذا هو المذهب ، وإن جعلناه منقطعا ثم تحل ، ذكر ذلك في النهاية ، وذكر خلافا بينهم فيما أدرك من المنخنقة ، والموقوذة ، والنطيحة ، وما أكل

٢٠