يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥
وقولنا : إن الحصر يكون بالمرض وغيره هو قول زيد بن علي ، والقاسمية ، والحنفية ، وهو رواية عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وعطاء.
فائدة الخلاف : أن من قال : هو محصر بالمرض جوز له التحلل بالهدي ، وعلى قول الشافعي لا يجوز ، والشافعي يجوز التحلل إن حبسه صاحب الدين ، ولم يجد مالا يقضيه ، ويجوز للسيد أن يحلل عبده وزوجته حيث أحرما بغير إذنه. والوالد يحلل الولد في حج التطوع إن أحرم بغير إذنه في أحد القولين.
وإنما يتحلل عنده بالعدو إن لم يجد طريقا آخر.
قال : ولا يجب مقاتلة العدو من المسلمين ، ولا من الكفار إلا مع ضعف الكفار ليحصل قهرهم ، وتأدية الحج ، وإذا طلب مال منه لم يجب عليه ، ويجوز دفعه للعدو من المسلمين من غير كراهة ، ويكره دفعه إلى العدو الكافر ؛ لأن فيه صغارا ، بل يتحلل ، هكذا في المهذب.
الحكم الثاني
أن الاحصار يكون في الحج والعمرة معا ، نص عليه الهادي عليهالسلام في الجامعين.
قال في الشرح : ولا خلاف فيه ؛ لأن الله تعالى قال : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وجعل ذلك معطوفا على قوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ولأن إحصاره صلىاللهعليهوآلهوسلم كان في العمرة.
قال الحاكم : وحكي عن ابن سيرين أنه لا إحصار في العمرة ؛ لأنها غير مؤقتة ، وقد سقط خلافه ، ولا فرق بين أن يحصر في حج صحيح ، أو قد فسد ؛ لأنه إذا أحل من الصحيح فمن الفاسد أولى ، وهو يدخل في العموم ، لكن عليه دم الإفساد مع هدي الإحصار.
الحكم الثالث
إذا أحصر بعد الوقوف عن طواف الزيارة لم يكن له أن يتحلل بالهدي ، بل يبقى ممنوعا من النساء عند أصحابنا ، وأصحاب أبي حنيفة.
وقال الشافعي : له أن يتحلل. حجة الشافعي الأخذ بعموم آية الاحصار ، وهي قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ولم يفرق ، وعضدوا هذا بالقياس على المعتمر ، فإنه إن أحصر عن الطواف بالبيت كان له أن يتحلل بالهدي ، حجتنا قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ومن وقف بعرفة فقد تم حجه ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «من وقف بعرفة فقد تم حجه» وفرقنا بينه وبين المعتمر بأن المعتمر لو قلنا : يبقى على إحرامه لزم الحرج ، إذ لا وقت يرجى له أن يحل فيه من المحظورات كلها ، ولا بعضها ، بخلاف من عليه طواف الزيارة فقد حلت له المحظورات إلا النساء ، فهو أخف ، وصحح قاضي القضاة قول الشافعي ، وادعى أنه إجماع ، ودعوى الإجماع غير مطابق.
الحكم الرابع
أن التحلل بالهدي لمن منع عن الوقوف جائز ، سواء كان الاحصار في الحل ، أو في الحرم ، ذكره الناصر عليهالسلام وهو الظاهر من أقوال الأئمة عليهمالسلام ، وحكاية الحسن بن زياد (١) عن أبي حنيفة : أنه لا إحصار في الحرم (٢).
حجتنا : أن الآية لم تفصل ، وهي قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا
__________________
(١) الحسن بن زياد هو : الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي ، أبو علي ، قاض فقيه ، من أصحاب أبي حنيفة ، أخذ عنه ، وسمع منه ، ولي القضاء بالكوفة سنة ١٩٤ ه وتوفي سنة ٢٠٤ ه.
(٢) وأنه ينتظر زوال العذر ، وإلا تحلل بعمرة ، ولا يتحلل بشيء من المحظورات إلا بعد الطواف والسعي ؛ لأنه يصح إحرامه بالحج على عمرة. (ح / ص).
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وقد ادعى في النهاية الإجماع على أن الحرم كالحل في الإحصار.
الحكم الخامس
أن المحصر يجب عليه هدي لظاهر الآية ، وهي قوله تعالى (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وفيه تقديران ـ.
أحدهما : فعليه ما استيسر ، فيكون محل «ما» الرفع
والثاني : فاهدوا ما استيسر ، فيكون محل «ما» النصب ، وعلى الوجهين جميعا يفهم الوجوب.
ويؤيد ذلك أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لما أحصر في الحديبية نحر بدنة ، وفي حديث جابر «كانت البدنة عن عشرة ، والبقرة عن سبعة» وفي رواية «كانت البدنة عن سبعة» وهذا مذهب الأئمة (١) عليهمالسلام ، والحنفية ، والشافعي.
وقال مالك : الهدي غير واجب ، وأن الهدي الذي ذكره الله تعالى في هذا الموضع ، المراد به : الهدي المذكور في قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة : ١٩٦] واستبعد هذا التأويل ، قال : وأما ذبحه صلىاللهعليهوآلهوسلم فلم يكن هدي تحلل ، وإنما كان هديا سيق ابتداء.
الحكم السادس
في بيان الهدي ما هو؟ فمذهب الأكثر من العلماء أن أقله شاة ، تمسكا بقوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي : ما يسر ؛ لأنه يقال : يسر واستيسر ، كما تقول : صعب واستصعب.
__________________
(١) المراد بالأئمة عليهمالسلام الإمام زيد بن علي ، والإمام أحمد بن عيسى عليهماالسلام ، انظر شرح الأزهار ٢ / ١٤٣. وفي البحر الزخار ٣ / ٢٧٣ (أن البدنة عن عشرة عند القاسمية ، والناصرية ، وزفر ، وعند الشافعية ، والحنفية عن سبعة ، وهو الأولى بالقبول أخذا بالأحوط.
قال الحاكم : وهذا مروي عن علي عليهالسلام وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وهو الوجه لأنه أقرب إلى اليسر. وقد ادعى القاضي زيد الإجماع على ذلك.
وعن ابن عمر ، وعائشة : من الإبل ، والبقر.
والهدي : جمع هدية ، وقرئ في الشاذ (من الهديّ) كمطية ومطي ، وفي الآية تقدير : وهو أن المعنى : فعليكم إذا أردتم التحلل ما (اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، لتخرجوا به من الإحرام. فلو أحب البقاء على إحرامه حتى يفوته الحج لم يجب هدي الإحصار ، ولكن يجب دم للفوات عندنا قياسا على الإحصار ، ولحديث ابن أبي شيبة بإسناده إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «من لم يدرك الحج فعليه دم ، ويجعلها عمرة ، وعليه الحج من قابل».
وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا دم عليه للفوات ، لكن يتحلل بعمرة.
الحكم السابع
في الحلق في حق المحصر ، هل هو واجب أم لا؟ قال في شرح الإبانة : عليه أن يحلق عند أصحابنا ، وأحد قولي الشافعي الذي يقول فيه : إن الحلق نسك ، وهو رواية لمحمد. وقال في الروضة والغدير : وهو مذهب الهادي عليهالسلام وعند أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ورواية لمحمد ، وقول للشافعي : لا تجب.
قال أبو بكر الرازي : إذا أحصر في الحرم فعليه الحلق وفاقا (١).
فإن قيل : من أين يدرك الوجوب؟ قلنا : من طريقين :
أحدهما : ذكره أبو جعفر ، وهو قوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى
__________________
(١) هذا ينافي حكاية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة ـ بأنه لا إحصار في الحرم ـ وهذا أبو بكر أعرف بمذهبهم.
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) فنهى عن الحلق قبل بلوغ الهدي محله ، قال : فدل على أنه إذا بلغ محله فعليه أن يحلق ، وأجاب المخالف : بأن هذا نهي عن الحلق ، فلا يستفاد منه الأمر بالحلق ، والجواب واضح.
الطريق الثاني : ذكره أبو جعفر أيضا أنه يجب الحلق ؛ لأنه كان واجبا قبل الإحصار بدلالة قوله تعالى في سورة الحج : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) على ما سيأتي الكلام عليه ، فلا يسقط ما وجب ؛ لأن سائر المناسك إنما تسقط بالعجز ، ولم يعجز عن الحلق. والظاهر من أقوال المفسرين : أن قوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) متعلق بالحصر (١) ، ومنهم من قال : إنه كلام مستأنف لا تعلق له بالإحصار ، والأول هو الظاهر.
الحكم الثامن
إذا كان قارنا فأحصر فله التحلل بهدي واحد ، على ما حكى عن الإمام
الناطق بالحق ، وابن أبي الفوارس (٢) ، ومالك والشافعي.
وعن أبي حنيفة ، وأبي جعفر ذكره عن أصحابنا : عليه دمان.
حجة الأول : دخول ذلك في قوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ) ولأن الذبح كالإحلال وإحلال النسكين واحد قال أبو جعفر : الإحلال عن نسكين يلزم لكلّ دم.
__________________
(١) في نسخة (بالمحصر).
(٢) ابن أبي الفوارس هو : محمد بن أبي الفوارس توران شاة بن خسرو شاه ، الجيلي ، العلامة الفقيه ، يروي المذهب وغيره عن والده ، وعلي خليل ، والقاضي يوسف ، وعنه أحمد بن أبي الحسن الكني ، إسناد المذهب ، وكتب الهادي ، وله مؤلفات منها : تعليق الشرح ، ومنتزع شرح التجريد ، وله مقالات وعناية بالمذهب.
الحكم التاسع
في محل الهدي ، وقد قال تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وفيه حذف ، وتقدير ، أي : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) فينحر ؛ لأنه لا يحل قبل النحر ، وهذا ظاهر المذهب.
قال الحاكم : وقبل تفريق (١) اللحم في المساكين.
واختلفوا في مكانه على ثلاثة أقوال : فقال زيد بن علي والناصر ، وأبو حنيفة : الحرم ، وقال الشافعي : يجوز في سائر الأماكن غير الحرم ، إن لم يتمكن من الحرم ، وإن تمكن فقولان ، والذي حصّل لمذهب الهادي عليهالسلام أن دم إحصار الحج يختص بمنى ، ودم إحصار العمرة يختص بمكة ، ولا يجوز خارج الحرم مطلقا ، وفي سائر الحرم يجوز للعذر ، ومع عدم العذر خلاف بين المتأخرين (٢).
إن قيل : كيف اجتناء هذه الثمرة من الآية؟ قلنا : أما كونه يتعلق بالحرم.
جملة فقد أخذ ذلك من ثلاث جهات :
الأولى : قوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) والهدي في عرف الشرع اسم لما يهدى إلى الحرم.
الجهة الثانية : قوله تعالى (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) فيكون المحل الحرم
__________________
(١) في الحاكم تفرقة ، وفي الثمرات تفريق.
(٢) فظاهر اللمع وصرح به في البيان أنه لا يجزي ، وهو ظاهر الأزهار ، وقال المنصور بالله : يجزي ، وعليه دم. (نجري) ، وفي البحر (فرع) فلو نحر في الحرم لا لضرورة لم يجز). وقيل : يجزي ولا دم عليه بل يأثم. (بيان) وقوي للمذهب.
(ح / ص).
لقوله تعالى في سورة الحج : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٣٣] وقوله تعالى في سورة المائدة : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] (١).
الجهة الثالثة : أنه تعالى جعل بلوغ الهدي غاية لإباحة الحلق ، فعرف أن موضع الهدي غير موضع الإحصار ، وإلا لم يكن لقوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) فائدة ؛ لأنه قد بلغ ، ثم إنهم استظهروا في الحجة بالقياس على دم القران ، والمتعة ، ودم الجزاء ؛ لأن جميعها دم يتعلق بالإحرام ، وبالقياس على الفدية ؛ لأنه دم لاستباحة المحرم بالإحرام ، وتعلق الشافعي بقوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ولم يخص مكانا.
قالوا : وقوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) أي : زمن ذبحه.
واحتج أيضا بأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ذبح هديه في الحديبية ، وهي خارج الحرم.
قلنا : الحديبية بعضها من الحل ، وبعضها من الحرم ، وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يصلي في الحرم ، وخباؤه في الحل ، وكانت البدن تضطرب في الحرم ، وعن الزهري «أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم نحر هديه في الحرم».
وقال الواقدي : الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة ، وقوله تعالى : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح : ٢٥] أراد محله المعتاد (٢) المندوب إلى الذبح فيه ، وهو فجاج مكة ، ولم تكن ممنوعة من الحرم جميعه ؛ لأنها منعت ابتداء ، ثم زال المنع ، وإنما يختص الهدي مكانا لدم الحج ، وهو منى ، فذلك رد ، وقياس إلى دم القران ، والمتعة ، وهو محتمل للكلام.
__________________
(١) أي : ما يليه ، وهو الحرم. كما في البيضاوي ، والكشاف.
(٢) هذا جواب لما احتج به الشافعي من قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) الآية.
الحكم العاشر
في زمن دماء الهدي : أما دم إحصار العمرة فلا زمان له وفاقا.
وأما دماء إحصار الحج ، فمذهب الهادي والناصر ، ومالك ، والشافعي ، وأبي يوسف ، ومحمد : زمانه أيام النحر. وقال أبو حنيفة : لا زمان له.
إن قيل : كيف يدرك هذا الحكم من الآية؟
قلنا : أما أبو حنيفة فتعلق بكون الآية لم تفصل ، وردّ قوله بأن قيل : قد خصصت المكان مع كون الآية لم تفصل ، وأما من قال : أيام النحر ، فقالوا : يقاس على دم القران والتمتع ؛ لأنه دم يترتب عليه الحلق.
الحكم الحادي عشر
في بدل هدي الإحصار ، وقد اختلف العلماء في ذلك.
فقال زيد بن علي عليهالسلام وأبو حنيفة ، وأحد قولي الشافعي : لا بدل له ؛ لأنه لو كان له بدل لذكره الله تعالى ، كما ذكر البدل في جزاء الصيد.
وعند الهادي والناصر ، وأحد قولي الشافعي : له بدل ، لكن اختلف في البدل ، فعند الهادي ، والناصر : الصوم فقط ، وهو عشرة أيام ، ثلاثة قبل الحج ، وسبعة بعد أيام التشريق. ، ولا إطعام ، وإنما ثبت هذا ردا إلى التمتع ، بعلة أن كل واحد منهما متمتع بإحلاله بين الإحرامين.
وقال الشافعي في قوله الذي أثبت له البدل ثلاثة أقوال :
قول الإطعام فقط ، ولأصحابه على هذا القول وجهان :
أحدهما : أنه إطعام التعديل ، بأن يطعم قيمة الهدي ، كما في الجزاء ؛ لأنه أقرب إلى الهدي.
والثاني : إطعام فدية الأذى ؛ لأنه وجب للترفيه.
والقول الثاني : أن بدله الصوم ، ولأصحابه على هذا القول ثلاثة أوجه :
الأول : صوم التمتع ؛ لأنه وجب للتحلل.
والثاني : صوم التعديل ، فيصوم عن كل مد يوما ، كما في الجزاء.
والثالث : صوم فدية الأذى ؛ لأنه وجب للترفيه.
القول الثالث : أنه مخير بين الصوم والإطعام ، ويكون ذلك صوم فدية الأذى ، وإطعامها ، ثم إذا قلنا : إنه لا بدل له ، وتعذر الهدي ، فله قولان :
أحدهما : لا يحل حتى يجد الهدي ؛ لأنه شرط.
والثاني : له الإحلال لئلا يؤدي إلى المشقة ، وهكذا القولان ، إذا أوجبنا عليه الإطعام ولم يجده ، وإن أوجبنا الصيام ففي تحلله قبله وجهان ، هذا ما ذكره في المهذب للشافعي.
وقد قال المنصور بالله عليهالسلام : إذا تعذر عليه الهدي والصوم ، ولم يرج زوال العذر جاز له التحلل للخروج من الحرج ، فإن رجا زوال عذره فعليه الإنتظار
الحكم الثاني عشر
أن هذا الهدي لا يسقط قضاء ما أحرم له عندنا ، وعند أبي حنيفة ، وسواء كان الحج فرضا ، أو تطوعا ، أو عمرة لقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ولأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قضى العمرة. وقال مالك ، والشافعي : لا يجب قضاء التطوع ؛ لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يأمر من أحصر معه بالقضاء.
قوله تعالى
(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة : ١٩٦]
السبب في نزول الآية :
ما روي عن كعب بن عجرة ، قال : «مر بي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في
الحديبية ولي وفرة من شعر فيها القمل ، وأنا أطبخ قدرا لي ، وهي تتناثر على وجهي ، فقال : أتؤذيك هوام رأسك؟ قلت : نعم ، فقال : احلق رأسك ، واذبح شاة ، أو صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، كل مسكين نصف صاع من ب» وفي رواية «من تمر» وفي رواية الترمذي «وأطعم فرقا بين ستة مساكين» والفرق ثلاثة آصع ، وكان كعب يقول : نزلت فيّ هذه الآية.
وثمرات هذه الآية أحكام :
الأول : جواز الحلق من المحرم ، واللبس للمخيط للضرورة ، ووجوب الفدية عليه ، وذلك لبيان سبب النزول.
وفي الآية تقدير لا بد منه ، وهو «فحلق» أو «لبس» فالواجب عليه فدية ، أو ففدية واجبة عليه (١) ؛ لأن مجرد المرض والأذى لا يوجب الفدية.
والمعنى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) يعني : مرضا يحتاج إلى الحلق ، أو لبس المخيط أو نحو ذلك من محظورات الإحرام (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) أي : صداع ، أو هوام فحلق لذلك العذر ـ فالفدية واجبة في الحلق بهذا التقدير في الآية ، وبنص الحديث. وأما سائر محظورات الإحرام فقيل : بتقدير في الآية ، أي : ففعل ما يمنع منه الإحرام وقيل : ذلك بالقياس.
الحكم الثاني
تحريم الحلق ، ولبس المخيط لغير ضرورة ، وهذا مأخوذ من المفهوم ، لا أنه مصرح به ، وذلك إجماع
__________________
(١) قوله (فالواجب عليه فدية أو ففدية واجبة عليه) فيه إشارة إلى اختلاف الإعراب في (فدية) فالأول على أن فدية خبر مبتدإ محذوف ، والثاني : على أن فدية مبتدأ والخبر محذوف.
ثم إن الفدية تعلق بحلق جميع شعر الرأس ، ولا خلاف في ذلك ، وأما حلق بعضه ففي ذلك خلاف بين العلماء ، فمذهبنا : أنها تجب ، لما يتبين أثره ؛ لأنه يسمى حلقا ، وأما الذي لا يتبين أثره ففيه صدقة لا فدية ؛ لأنه لا يسمى حلقا ، فلم تجب الفدية ، كالشعرة والشعرتين ، وذلك إجماع.
وقال الشافعي : تجب الفدية بحلق ثلاث شعرات ، أو أكثر.
وقال أبو حنيفة : لا تجب الفدية إلا إذا حلق الربع.
وقال أبو يوسف : لا تجب إلا بحلق أكثر الرأس.
حجتنا : أن ما بان أثره يسمى حلقا ، وشبهة أبي حنيفة أن ذلك ينصرف إلى المعتاد ، والمعتاد الربع فما فوق ؛ لأن الترك يحلقون وسط الرؤوس ، والحلق ينصرف إلى حلق شعر الرأس ؛ لأنه المعتاد.
وأما حلق شعر سائر البدن فيدخل قياسا عندنا ، والشافعي ، وأبي حنيفة ؛ لأنه يحصل به الترفه فلزمت فيه الفدية قياسا على حلق شعر الرأس ، بل في حلق شعر البدن زيادة ، وهو الزينة ، قال أهل الظاهر ، ورواية لمالك : لا فدية في ذلك ؛ لأن الآية تنصرف إلى ما يعتاد.
قال أبو جعفر : وشعر العانة لا فدية في حلقه ، ويجوز حلقه ، وهو مخصوص بالإجماع ، وخولف في ذلك ، فقال الإمام يحي عليهالسلام بالمنع منه.
الحكم الثالث
أن الفدية تعلق في اللبس بقليل الزمان وكثيره عندنا ، والشافعي ، وقال أبو حنيفة : في لباس كل يوم كامل ، أو ليلة كاملة فدية ، ولدونه صدقة ، وفي رواية عنه : أنها تعلق بأكثر اليوم.
حجتنا : أنه ينطلق عليه اسم اللبس ، وحجته أن المنع ، وإيجاب
الفدية ينصرف إلى المعتاد ، واللبس المعتاد هو يوم أو ليلة ؛ لأن الثياب في العادة تلبس بالغداة ، وتنزع بالعشي ، وتلبس ثياب الليل في أوله ، وتنزع في آخره ، قلنا : لا عبرة بالعادة كما لو لبس الفرو صيفا ، والقميص الرقيق شتاء ، فإنها تجب ، وإن خالف العادة ، أما لو استمر اللبس لعلة جاز ، والفدية واحدة حيث لم ينزع ، وأما إذا نزع ثم لبس مع دوام العلة فهل تكرر الفدية أم لا؟ وكذا إذا حلق مرة بعد مرة مع دوام العلة؟ أو غطى ثم نزع ، ثم غطي في وقت آخر مع دوام العلة؟ أو مع عدم الدوام فهل يكرر الفدية أم لا؟
قلنا : هذه مسألة خلاف بين العلماء ، فأحد قولي الشافعي ، ذكره في المهذب : أنها فدية واحدة ، ولم يفصل بين أن يكون معذورا أم لا.
والوجه : أنها جنس واحد ، فتداخلت الأفعال ، كما إذا كان ذلك في وقت واحد.
والقول الثاني للشافعي : أن لكل فعل كفارة ، ولا تدّاخل الفدى ؛ لأن لكل وقت حكما ، وهذا ظاهر ما أطلقه في الشرح للمذهب.
وقال ابن أبي الفوارس وأبو جعفر : إذا كان ذلك لعلة ففيه فدية واحدة ، ولو تكررت الأفعال ، سواء نوى المداومة أم لا ، وقال المنصور بالله عليهالسلام : هي فدية واحدة : إذا نوى المداومة ، وهكذا ذكره في الشفاء لمذهب الهادي عليهالسلام.
وقال المنصور بالله في المهذب : الفدية واحدة ما لم يشرع في نسك آخر ، فتكرر الفدية. إن قيل : كيف يدرك هذا الحكم من هذه الآية ، أو من غيرها؟
قلنا : [يمكن أن يقال : يدرك التكرار من هذه الآية ، وذلك من الفعل
المقدر الذي هو فلبس ، أو حلق ، لأنه يدل على التجدد والحدوث ، والحكم مترتب عليه ، وما ترتب على المتجدد فهو متجدد] (١).
الحكم الرابع
إذا نبت في عينيه شعر فأزاله ، أو نزل الشعر من رأسه فغطى عينيه فأزاله ، قال في مهذب الشافعي : لا فدية في ذلك ، كما لو صال عليه الصيد فإنه لا جزاء فيه ، ويفارق أن يحلق الشعر للمرض ؛ لأن الأذى ليس من جهة الشعر.
وفي الحفيظ : وجوب الفدية في شعر الجفن ، أما لو حلق شعر الرأس ، وشعر البدن ، فالفدية واحدة على ظاهر المذهب.
والأكثر من أصحاب الشافعي ؛ لأن ذلك جنس واحد.
وقال أبو القاسم الأنماطي من أصحاب الشافعي ، واختاره الإمام يحي عليهالسلام : إنهما جنسان ، فيجب فديتان ، بدليل أن النسك يتعلق بأحدهما ، ولا يتعلق بالآخر.
أما لو فعل شيئا من الجنس ، ثم كفّر ، وفعل بعض ذلك الجنس تكررت الفدية. ولو فعل أجناسا مختلفة ، فلكل جنس فدية.
وقال ابن أبي هريرة : الكل استمتاع فلا تجب له إلا فدية واحدة.
الحكم الخامس
إذا تطيب ناسيا ، أو جاهلا ، أو لبس ناسيا ، أو جاهلا ، فهل تجب الفدية أم لا؟ قلنا : هذه خلافية بين الأئمة عليهمالسلام ، فظاهر كلام الهادي ، والناصر ، والشافعي : لا فدية ؛ لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمن لبس الجبة ، واطّلى بالخلوق.
__________________
(١) ما بين القوسين بياض في الأصل ، وقد أكمل النقص ، الحسين بن القاسم بن محمد رحمهالله من املائه ، فأثبتناه في الأصل بين قوسي الزيادة. (ح / ص).
«انزع الجبة ، واغسل أثر الخلوق» ولم يوجب الفدية.
وقال أبو حنيفة ، والسادة من أحمد بن يحي ، والمؤيد بالله ، وأبو طالب ، وأبو العباس : تجب الفدية كما لو حلق ناسيا ، أو قتل الصيد ناسيا.
وقال المنصور بالله : أما لو وقع الثوب على رأسه حال النوم ، فإن ذلك يعفى عنه ، والفروع التي لا ترتبط بالآية الكريمة ، ولا تدرك منها تكثر.
الحكم السادس
أن الفدية الواجبة تكون من الأجناس الثلاثة ، وهي الصيام ، أو الصدقة ، أو النسك ، ومقداره مجمل في الآية ، وقد ورد بيانه في حديث كعب بن عجرة : أن الصوم ثلاثة أيام ، والصدقة إطعام ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع ، من أي حب ؛ لأن في حديث «من بر» وفي حديث «من تمر» والنسك : ذبح شاة ، وهذا هو الذي ذهب إليه أكثر العلماء.
قال العلماء : أعلى النسك البدنة ، وأوسطه البقرة ، وأدناه الشاة.
وفي النهاية رواية لأبي حنيفة ، والثوري : نصف صاع من البر ، أو صاع من غيره.
وقال الحسن وعكرمة : صيام عشرة أيام ، أو إطعام عشرة مساكين ، لكل مسكين مد ، أو ذبيحة شاة. والأول إجماع الفقهاء فهو الوجه ، ولا دلالة في الآية ، ولا في الخبر على وجوب التتابع في صوم الأيام ، وقد ذكر ذلك بعضهم (١) وفي شرح الإبانة : تجب المتابعة.
ولا دلالة على قدر سن النسك ، وقد قيس على الضحية ، ولا دلالة
__________________
(١) وصرح به في النهاية.
على أنه يعتبر في ذلك مكان ، وقد صححه الثعالبي ، وهو قول مالك ؛ لأن الآية لم تخص مكانا دون مكان. وقال أبو حنيفة ، وذلك ظاهر المذهب : تعلق بالحرم لأن دماء الحج لها تعلق به من غير الفدية ، فكذلك الفدية من الصدقة والنسك أما الصوم فلا خلاف أنه يصوم في أي مكان شاء.
الحكم السابع
أن الفدية واجبة على التخيير ، لكن إن كان مضطرا بأن يفعل ذلك لحاجة من مرض ونحوه ، فذلك بنص الآية.
وأما إذا كان متمردا بأن فعل ذلك لغير ضرورة ، فهذه مسألة خلاف بين العلماء ، فالذي حصله أبو جعفر للناصر ، ورواه عن الهادي ، وأبي حنيفة ، واختاره الإمام يحي عليهالسلام : أن الدم يتعين ولا تخيير ؛ لأن الآية دلت على التخيير في المعذور ، فمفهومها عدم التخيير في غيره ، وعند الشافعي ، وهو ظاهر المذهب : أن التخيير عام ؛ لأن في الحلق إتلافا ، فلا يختلف المعذور وغيره ، كقتل الصيد ، وإذا ثبت ذلك في الحلق ثبت في غيره ؛ إذ لا فارق.
وردّ بأن إثبات الكفارة بالقياس لا يصح (١).
الحكم الثامن
إذا فعل القارن شيئا من محظورات الإحرام فعليه فديتان ، نص على ذلك يحي عليهالسلام في الجامعين ، وهو قول زيد بن علي ، وأبي حنيفة ؛ لأن النقص داخل على الإحرامين معا.
__________________
(١) لا وجه للرد ؛ لأن الكفارة ثابتة بغير القياس ، وإنما هو للتخيير ، مع أن الذي اختير في الأصول صحة القياس في الكفارات والحدود ، وقد صرح بذلك في الفصول (ح / ص) ويمكن أن يقال : الثابت صفة لا حكم ، فيسقط ما يورد عليه من الاعتراض. (ح / ص).
وقال مالك : والشافعي : لا يتكرر ذلك ، ولا دلالة في الاية على التكرر.
وأكثر المفسرين يقولون : إن هذه الآية في كل محرم لتقدم ذكر الحج والعمرة ، والآية لا تقصر على سببها ، وقال بعضهم : إنها في المحصر خاصة.
قال الحاكم : حملها على الجميع أولى.
قوله تعالى
(فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [البقرة : ١٩٦]
هذه الآية الكريمة متضمنة لأحكام تظهر في شرح معناها إن شاء الله تعالى ، فقوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) المعنى : فإذا أمنتم من الإحصار بالعدو والمرض.
(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) التمتع في اللغة هو : الإنتفاع بعجالة الوقت ، وهو للوقت اليسير المستعجل ، قال تعالى : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [هود : ٦٥] وقوله تعالى : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) [المرسلات : ٤٦] وقوله تعالى : (تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم : ٣٠] ومنه متعة النساء ، وأصل التمتع : التلذذ ، ومنه : المتاع ؛ لأنه يتلذذ به ، قال الشاعر :
تمتع من شميم عرار نجد |
|
فما بعد العشية من عرار |
وسمي المتمتع بالعمرة إلى الحج متمتعا ؛ لأنه ينتفع (١) بين العمرة
__________________
(١) وفي ب (لأنه يتمتع).
والحج بما هو محظور على المحرم ، وقيل : لأنه ينتفع بالتقرب إلى الله تعالى بها قبل الانتفاع بتقربه بالحج ، ذكر القولين في الكشاف (١).
[التمتع في الحج وكيفيته]
واختلف المفسرون في صفة هذا التمتع المذكور في الآية على أقوال :
الأول : أنه أراد به القران ، وهو أن يحرم بحج وعمرة معا ، وسمي متمتعا ؛ لأنه جمع بين نسكين بإحرام واحد ، وهذا قول غير مشهور.
القول الثاني : أن المراد من يدخل في الحج ثم يفسخه بالعمرة ، وروى جابر ، وأبو سعيد الخدري : أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أمرهم عام الفتح ، وقد أهلوا بالحج.
لا ينوون غيره أن يعتمروا ، ثم يحلوا إلى وقت الحج.
قال أبو داود : وإنما كان ذلك لأصحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهذا الذي أنكره عمر في قوله : «متعتان كانتا على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما ، متعة النكاح ، ومتعة الحج» (٢) وهو فسخ الحج بالعمرة ، فكلاهما منسوخ ، وهذا قول أكثر العلماء. أعني : أن ذلك مختص بمن خصهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من أصحابه ، وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة» وأمر صلىاللهعليهوآلهوسلم من لم يسق من أصحابه أن يفسخ إهلاله بالحج إلى العمرة.
__________________
(١) ولفظ الكشاف (واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج : انتفاعه بالتقرّب بها إلى الله تعالى قبل الانتفاع بتقرّبه بالحج. وقيل : إذا حلّ من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرّما عليه إلى أن يحرم من الحج).
(٢) وذكر سعد الدين التفتازاني في شرحه على شرح المختصر للقاضي بهاء الدين عن عمر أنه قال : «ثلاث على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنا أنهى عنهن وأحرمهن ، متعة الحج ، ومتعة النكاح ، وحيّ على خير العمل» (ح / ص).
وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أبيه «أفسح لنا خاصة أم لمن بعدنا؟ قال : بل لنا خاصة». وعن عثمان أنه قال : «متعة الحج كانت لنا ليست لكم» وقال أبو ذر (١) : «ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ، ثم يفسخه في عمرة» ويؤيد هذا قوله تعالى في هذه السورة : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ).
قال في النهاية : وذهب ابن عباس إلى جواز ذلك ، وبه قال أحمد ، وداود ، ولم يصح لهم التخصيص للصحابة بذلك.
الثالث : أن المراد المحصر إذا دخل مكة بعد فوت الحج ، فإنه يخرج بعمل عمرة ، روى ذلك عن ابن الزبير ، وهو متمتع بالعمرة ؛ لأنه يحل بها.
الرابع : وهو المشهور من مذاهب العلماء : أنه من يحرم بالعمرة ثم يحل ، ويحج في سنته ، وقد يدعى الإجماع على ذلك ، وهو أحد الأحكام المأخوذة من الآية الكريمة ، وفي حديث ابن عمر قال : «تمتع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج».
ومن روى أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أهل بالحج ليس معه عمرة ، أو أنه قرن ، قال :
معنى تمتع ، أي : أمر بالتمتع ، كما روي أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم «رجم ماعزا» أي : أمر برجمه.
__________________
(١) أبو ذر هو : جندب بن عبد الله أبو ذر الغفاري ، وقيل : اسمه برر ـ بالموحدة مضمومة ، ثم راء مكررة ـ وقيل : اسم أبيه السكن ، أسلم رضي الله عنه قديما ، وتأخرت هجرته ، فلم يشهد بدرا ، في قول ، فهو من السابقين الأولين ، والنجباء الأقربين ، لازم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى مات ، ثم سكن المدينة ، حتى نفاه عثمان إلى الربذة ، وكان غاية في الزهد ، قوالا بالحق ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم (ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر) وقال :
(إن الجنة تشتاق إلى أربعة علي وأبي ذر وسلمان وعمار) ومناقبه كثيرة رضي الله عنه ، توفي رحمهالله بالربذة سنة ٣٢ ه وصلى عليه ابن مسعود ، ولم يعقب.
وقوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) هذا حكم ثان ، أن المتمتع عليه الهدي. ووجه الدلالة على الوجوب أنه مقدر ، فعليه ما استيسر ، فيكون محله الرفع ، أو يكون منصوبا ، ويقدر فعل محذوف ، أي : فليفعل ، أو فليهد ، وهذا إجماع.
ومعنى ما استيسر ، أي : ما تيسر ، مما يطلق عليه اسم الهدي ، من بدنة ، أو بقرة ، أو شاة.
وقد قال القاسم عليهالسلام : إمكانه وتيسره بالغنى ، والجدة ، وهو كما قال ؛ لأن من كان معه مال تيسر عليه الهدى ، وإن كانت بدنة ، ومن فقد المال تعذر عليه الهدى ، ولو شاة.
وإذا قامت الدلالة بوجوب ما تيسر من الهدى ، فهل لمن وجب عليه أن يأكل منه أم لا؟.
وهذا حكم ثالث.
وقد اختلف العلماء في ذلك ، فعامة أهل البيت عليهمالسلام ، ومالك ، وأبو حنيفة جوزوا له ذلك ، أخذا بعموم قوله تعالى في سورة الحج : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها) [الحج : ٣٦] فعم جواز الأكل ، إلا ما خصه الدليل ، من هدي الإحصار والجزاء والكفارة.
وقوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) [الحج : ٢٨ ـ ٢٩] والهدى الذي ترتب عليه قضاء التفث هو هدي القران والتمتع ؛ لأن سائر الهدايا لا يتعلق بها قضاء التفث ، ولا يقال : إنه جبر لنقص ؛ لأن النقص ليس منه ، فيشبه جزاء الصيد ، لكن المراد أن الثواب جبر بالهدي فكان نسكا ، وكون البقرة تجزئ عن سبعة ، والبدنة عن عشرة ، أو سبعة على الخلاف ، فذلك مأخوذ من غير الآية.
الحكم الرابع
وهو بيان وقت الهدي للمتمتع ، وقد اختلفوا في ذلك ، فقال الشافعي : للمتمتع أن ينحر هديه بعد الإحرام بالحج ، وفي جوازه قبل الإحرام بالحج ، وبعد الفراغ من العمرة قولان ، الصحيح الجواز تمسكا بقوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ولم يخص وقتا من وقت ؛ ولأن الدم يجب بالإحرام للحج.
وعندنا وأبي حنيفة : لا يجوز نحره قبل يوم النحر ، لقوله تعالى في سورة البقرة : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) فجعل بلوغ الهدي محله وقتا لإباحة الحلق ، فلو جاز له الذبح قبل يوم النحر لجاز له الحلق ، ولم يجز ذلك بالإجماع.
قال أبو جعفر : وهذه الآية وإن وردت في هدي الإحصار ، فإنها عامة في سائر الهدايا المتعلقة بالقران ، والتمتع ، والإحصار ، وأما الكفارات والجزاء فذلك خارج بدليل.
وروي أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم «ذبح هديه يوم النحر بمنى» وفعله بيان.
وقد قال صلىاللهعليهوآلهوسلم «خذوا عني مناسككم».
قال القاضي زيد : ولأن كل وقت لا يصح فيه طواف الزيارة لا يصح فيه ذبح هدي المتعة ، كقبل الفراغ من العمرة.
وقوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) هذه الجملة يتعلق بها ثلاثة أحكام :
الأول : في الوجود المعتبر في ذلك.
والثاني : يتعلق بقوله تعالى : (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ).
والثالث : يتعلق بقوله تعالى : (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ).