تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

أما الأول : وهو الوجود فقد قال في مهذب الشافعي : إن لم يكن واجدا للهدي في موضعه انتقل إلى الصوم فاعتبر الوجود في الموضع ، ولم أجد شيئا مصرحا به لأهل المذهب في هذا الموضع ، وهذا يحتمل أن يرد إلى الكفارة ؛ لأنه انتقال من عبادة مالية إلى بدل هو عبادة بدنية ، وقد ذكروا في ذلك أنه ينتقل إلى الصوم إذا كان لا يبلغ موضع المال في مسافة ثلاث (١) ، ويحتمل أن

يخفف على المحرم ، فيعتبر الموضع (٢).

فإن لم يجد الهدي بعد إحرامه بالعمرة ، أو بالحج ، وصام ثلاثة أيام ثم وجد

الهدي في أيام النحر فعليه الهدي عندنا ، وأبي حنيفة ، لقوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ) وهذا واجد في أيام الحج فلا يجزئه الصوم ، ولا يجب عليه إذا وجده بعد أيام التشريق.

وعند الشافعي : إذا تلبس بالصوم لم يلزمه الرجوع إلى الهدي ، ويستحب له ذلك.

الحكم الثاني

المتعلق بقوله تعالى : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) أي : في وقته ، وذلك أشهر الحج متى أحرم بالعمرة عندنا ، وأبي حنيفة. وقال الشافعي : متى أحرم بالحج

حجتنا : عموم الآية ، ولأن الوجوب إذا تعلق بشيئين يجوز اجتماعهما جاز أن يتعلق الحكم بالشيء الأول كالنصاب ، والحول ،

__________________

(١) في ب (في مسافة الثلاث). (ويحتمل أنه يخفف عن المحرم).

(٢) المقصود عدمه في محله ، ولو كان عنده في بلده (بستان) فإن وجد الثمن فالواجب طلبه في الميل ، وقيل : البريد ، وفي الغيث : بريدا. والمقرر : البريد. (ح / ص).

٤٢١

والأفضل ، أن تكون الثلاثة : يوم التروية ، ويوما قبلها ، ويوم عرفة عندنا ، وأبي حنيفة.

وقال الشافعي : يوم التروية ، ويومان قبلها ، بناء على أصله أنه يكره صوم يوم عرفة للحجيج.

وما قلناه مروي عن علي عليه‌السلام وابن عمر ، ومن التابعين عطاء ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وطاووس ، والحسن ، وعلقمة ، وعمرو بن سعيد (١) ، ولم يعرف مخالف لهم من الصحابة والتابعين.

أما لو مر يوم عرفة ولم يصم فمذهبنا ومالك ، وقديم قولي الشافعي : أنه يصوم في أيام منى لوجوه ثلاثة.

الأول : عموم قوله تعالى : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) أي : وقته ، وأيام التشريق من وقت الحج ؛ لأنه يفعل فيها شيء من أعمال الحج.

الثاني : حديث ابن عمر ، وعائشة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال «المتمتع إذا لم يجد الهدي ، ولم يصم في العشر صام في أيام التشريق».

الثالث : أن ذلك مروي عن علي عليه‌السلام قال في شرح الإبانة : وهو إجماع الصحابة.

وقال زيد ، وأبو حنيفة ، والشافعي في الأخير : لا يجوز صيام أيام منى ، لنهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن صوم أيام التشريق.

قلنا : النهي عام ، وما ذكرناه مخصص له ، أما لو مرت أيام التشريق ،

__________________

(١) عمرو بن سعيد هو : عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس ، الأموي ، القرشي ، أبو أمية ، من الخطباء والبلغاء ، كان والي المدينة لمعاوية ، وابنه يزيد ، كان يلقب بالأشدق لفصاحته ، ولد سنة ٣ ه‍ وقتله عبد الملك بن مروان سنة ٧٠ ه‍. ح / س.

وفي نسخة (عمرو بن شعيب).

٤٢٢

ولم يصمها تعين عليه الهدي عندنا ، وعند أبي حنيفة يتعين بمرور يوم عرفة من غير صوم.

حجتنا قوله تعالى : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) فلو جوزنا صومها بعد أيام التشريق كنا قد جوزنا صومها في غير أيام الحج ، وذلك إثبات بدل بغير دليل ؛ لأن هذا كالجمعة إذا فاتت رجع إلى الأصل ، وهو الظهر على قول.

وقال الشافعي في قوله الصحيح : لا يتعين الهدي ، وله أن يصوم بعد أيام التشريق

الحكم الثالث

المتعلق بقوله تعالى : (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) وقد اختلف في تفسير الرجوع ، فمذهبنا وأبي حنيفة : «أن المراد إذا رجعتم من الحج ، والحج هو أفعال مخصوصة ، والرجوع منه هو الفراغ منها ، فيجوز صوم هذه السبعة في مكة ، أشار إلى ذلك في الشرح ، وفي الطريق متى فرغ من الحج.

وقال الشافعي : المراد إذا رجعتم إلى الأهل.

قال مالك : فإن نوى الإقامة بمكة جاز له أن يصوم السبعة فيها.

وقال الشافعي : يجوز في مكة إذا وصل إلى أهله ثم عاد إلى مكة.

وللشافعي قولان إذا أخذ في السير هل يجوز الصوم؟ لأن أول السير بعد الخروج من مكة ابتداء الرجوع ، وهذا قول الإملاء (١).

والثاني : قول حرملة (٢) : إنه لا يجوز حتى يرجع إلى أهله. لحديث

__________________

(١) الإملاء : كتاب في مذهب الشافعي. وفي ح / س : المهذب للشافعية (ح / ص).

(٢) قال في ح / س : (لعله : حرملة بن يحي التجيبي المصري ـ أبو عبد الله ـ فقيه ، من أصحاب الشافعي له المبسوط ، والمختصر ، ولد سنة ١٦٦ ه‍ وتوفي ٢٤٣ ه‍.

٤٢٣

جابر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من كان معه هدي فليهد ، ومن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله» وهذه حجة الشافعي في تفسير الرجوع المذكور في الآية.

وحجتنا : أنه قد تقدم ما يفسر معنى الرجوع ، وهو ذكر الحج ، فأشبه قوله تعالى : (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) [الأحزاب : ٣٥] تقديره : والحافظات فروجهن ، وكقوله تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) [الأحزاب : ٣٥] تقديره : والذاكرات الله كثيرا ، والرجوع عن الشيء : الفراغ منه.

وقد حكى الإمام في الانتصار ، في تفسير الرجوع ثلاثة أقوال : هل هو الفراغ من الحج ، أو الأخذ في السير ، أو وصول أهله ، اختار الثالث ، قال : لأنه السابق إلى الأفهام ، وهل يلزم وصال صوم الثلاثة الأيام ، أو السبعة؟ مذهبنا وهو قول الأكثر أنه لا يجب ، وإنما ذلك مستحب ؛ لأن ذلك مروي عن علي عليه‌السلام وابن عمر ، وقال بعضهم : إنه يجب التتابع ، وفي قراءة أبي (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) والقراءة الشاذة في العمل بها ما تقدم من الخلاف ، وهل يجب التفريق بين صوم الثلاث ، وبين صوم السبع وجهان لأصحاب الشافعي ، بناء على أن الدم لا يتعين بخروج أيام التشريق ، وبناء على أن الرجوع هو إلى الأهل وأما على تفسيرنا أن الرجوع هو الفراغ من الحج ، فلقائل أن يقول : لا دليل على وجوب التفريق ، واختار الإمام يحي عليه‌السلام وجوبه.

وقوله تعالى : (كامِلَةٌ) تأكيد ، وكذلك ذكر الثلاثة مفردة ، ثم ذكر السبعة زيادة تأكيد (١).

__________________

(١) معنى التأكيد هنا هو معنى ما في الكشاف ، ولفظ الكشاف : (وأيضا ففائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا ليحاط به ، ومن جهتين ،

٤٢٤

وقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهذه النكتة الكريمة يتعلق بها حكمان :

الأول : في بيان المشار إليه. والثاني : في بيان حاضري المسجد الحرام.

أما الأول : فقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال أبو حنيفة ، وتخريج أبي العباس ، وأبي طالب للهادي عليه‌السلام : إن المراد ذلك التمتع ، وإن شرط التمتع أن لا يكون ممن هو حاضري المسجد الحرام ، وكذا القران (١).

وقال الناصر ، وتخريج المؤيد بالله للهادي عليه‌السلام وهو قول مالك ، والشافعي : إن المراد ذلك الدم لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.

فأما التمتع والقران فيصح منهم ، ولا دم عليهم.

قال أبو حنيفة ، وأبو طالب : فلو تمتع الحاضر لزمه دم جناية لا يأكل منه ، لا دم تمتع.

وجه القول الأول : أن الله تعالى استثنى حاضري المسجد الحرام ، فلو صح منهم التمتع بطل فائدة الاستثناء.

حجة القول الثاني : أنه قد وقع الإجماع أنه لو اعتمر وحج لصح ذلك ، ففي ذلك إرشاد إلى أن المراد ذلك الدم ، وأن اللام بمثابة على ، كما في قوله تعالى (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد : ٢٥] المراد : وعليهم ، ومثل قوله تعالى : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] أي : عليها.

__________________

فيتأكد العلم. وفي أمثال العرب : علمان خير من علم ، وكذلك (كامِلَةٌ) تأكيد آخر. وفيه زيادة توصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها ، كما تقول للرجل إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به وكان منك بمنزل : الله الله لا تقصر. وقيل : كاملة في وقوعها بدلا من الهدي).

(١) قال : لا دليل في القران ، فينظر ، والقياس يضعف.

٤٢٥

قيل : إن هذا مجاز ، ومدعيه عليه الدليل ، أجيب بأن قوله : (فَمَنْ) شرط ، وقوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) جزاء ، والاستثناء يرجع إلى الجزاء دون الشرط ، كقول القائل : «من دخل الدار فأعطه درهما إلا فلانا» فإن الاستثناء يرجع إلى الجزاء ، وهو العطاء.

قالوا (١) : ولأن أبا حنيفة يقول : الاستثناء يرجع إلى ما يليه ، والذي يليه الجزاء.

__________________

(١) في هذا الجواب نظر ، والنظر في قوله (قالوا : ولأن أبا حنيفة ..) الخ لأنه يقول برجوع الاستثناء إلى ما يليه من الجمل التامة ، والجزاء ليس بتام ، ويؤيد ذلك ما قاله في تفسير النيسابوري ، عن أبي حنيفة وأصحابه : إن ذلك إشارة إلى التمتع وما يترتب عليه ؛ لأنه ليس البعض أولى من من البعض ، فيعود إلى كل ما تقدم ، ولا متعة ولا قران لحاضر المسجد الحرام. اه فلو كان الخبر جملة تامة لما خالف أبو حنيفة أصله في رجوع الاستثناء إلى القريب ، وأما أول الجواب فصحيح ، وإن كانت عبارته قاصرة عن إفادة المرام ، ومعنى رجوعه إلى الجزاء نفي الجزاء عن المستثنى إن حصل الشرط ، فقولك : من دخل الدار فاعطه درهما إلا فلانا ، معناه لا تعط الفلان إن دخل الدار ، فيكون معنى الآية من تمتع فعليه الهدي إلا الحاضر ، فيكون المراد والمفهوم من الآية أن الحاضر لا هدي عليه إن تمتع ، وهذا عين مذهب الشافعي ، ويمكن أن يقال : الخطاب مقصور على غير الحاضرين ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه كانوا وقت نزول الآية غير حاضرين بنزولها عام الحديبية ، فبين فيها حكم الآفاقي ، وماله ، وما عليه ، ثم قال بعد ذلك (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) دفعا لما عساه يتوهم أن هذه الأحكام تعم الأمة ، خصوصا مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة) ولو كان الحاضر داخلا لما عدل من لفظ واحد موضوع للإخراج إلى ألفاظ متعددة غير موضوعة له ، فجيء بتلك الألفاظ لكون المقام غير مقام الاستثناء ، على أنا لو سلمنا دخول الحاضرين فيما سبق ، وأن تلك الألفاظ بمثابة حرف الاستثناء ، لكان العدول عن حرف الاستثناء ، والإتيان باسم الإشارة الموضوع للبعيد للدلالة على أن المخرج عنه الحكم البعيد المستتبع لما بعده من وجوب الهدي على الواحد ، ووجوب الصوم على غير الواجد ، إذ لو جيء بحرف الاستثناء لتبادر الإخراج عن الحكم ـ

٤٢٦

وأما الحكم الثاني

وهو في بيان الحاضر ففي ذلك أقوال : فمذهبنا ، وأبي حنيفة : هم أهل المواقيت فدونها إلى مكة. وعند الشافعي : أهل الحرم ، ومن لا يقصر إليه.

وعند مالك : أهل مكة ، وذي طوى ، ونحو ذلك.

وقال مجاهد ، وطاووس ، وابن عباس : أهل الحرم فقط.

وفي النهاية عن الثوري : هم أهل مكة فقط ، وهو مروي عن الصادق.

وفي الثعلبي عن ابن جريج : هم أهل عرفة ، والرجيع ، وضجنان (١) ، ونخلتان. ومنشأ الخلاف : ما يفهم من لفظ الحاضر ، فوجه كلام أهل المذهب أنا وجدنا لأهل المواقيت حكما من أحكام الإتصال بمكة ، من حيث إنه لا يلزمهم الإحرام لدخولها. وجه قول

__________________

ـ القريب ، الذي هو وجوب الصوم على غير الواجد كما ذكره المجيب من أن الاستثناء رجع إلى الجزاء ، ولا قائل به ، ولا وجه في الآية ؛ لأن التقدير : فإذا أمنتم من موجب الإحصار فلكم التمتع ، ومن تمتع فعليه الهدي إن وجده ، ومن لم يجد فعليه الصوم ، فترك الشرط القريب والبعيد المستتبع للجميع ، وجعل الاستثناء راجعا إلى المتوسط تحكم من غير دليل ، فلو جيء بحرف الاستثناء لكان الوجه رده إلى القريب ، ولمّا جيء بلفظ (ذلك) علم أنه مشار به إلى ما هو موضوع له. اه وفي أصول الأحكام في باب الهدي (خبر : وعن زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي عليهم‌السلام في المتمتع لا يجد الهدي يصوم ثلاثة أيام في الحج آخرها يوم عرفة ، وسبعة إذا رجع إلى أهله ، (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)) اه وهو يحتمل أن يكون المراد باسم الإشارة الصيام في الوطن ، يعني أنه لمن نأ عن مكة ، فأما أهل مكة فهم مستقرون في أهليهم ، فيصومون بعد خروج أيام التشريق لا غير ، وظاهر كلام أمير المؤمنين في هذا الخبر يدل عليه ، والله أعلم. (ح / ص).

(١) ضجنان : جبل بناحية مكة. صحاح

٤٢٧

الشافعي : أن الحاضر في اللغة هو القريب ، ولا يكون قريبا إلا في مسافة لا يقصر فيها ، وهو يقال : من كان بذي الحليفة فليس بحاضر مكة لغة ولا عرفا.

وقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ) الأهل : أخص من يكون بالإنسان ، والتأهل : التزوج ، ففي ذكر الأهل إشارة إلى قول المنصور بالله في أن الإنسان يكون مستوطنا بالتزوج.

تكملة لهذه الجملة

اعلم أنه قد يذكر للتمتع شروط مستخرجة من الآية الكريمة :

الأول : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ، وقد تقدم.

الثاني : أن تكون العمرة في أشهر الحج ، ولكن اختلف العلماء في تفصيل هذا الشرط ، فقال أهل المذهب وعطاء ، والثوري ، وأحد قولي الشافعي : لا بد أن يكون الإحرام بالعمرة في أشهر الحج.

وقال أبو حنيفة : يجب أن يكون أكثر أعمالها في أشهر الحج.

وأحد قولي الشافعي : يجب أن يكون الفراغ منها في أشهر الحج.

وقال مالك : إذا كان باقيا على إحرام العمرة في أشهر الحج.

ومنشأ هذا الخلاف : أنه قد تظاهر النقل أن قوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) الآية نزل ذلك ردا على المشركين في نهيهم عن العمرة في أشهر الحج ، وكانوا يقولون : إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، فنزلت الآية ردا عليهم ، فيجب أن يكون فيها مقدر كالمنطوق به ، تقديره : فمن تمتع بالعمرة في أشهر الحج. والإحرام هو الذي تنعقد به العمرة ، وأبو حنيفة يقول : إذا كان أكثر أفعالها في أشهر الحج ، فالأكثر كالجميع.

وفي مهذب الشافعي قولان : إذا أحرم في غير أشهر الحج ، وأتى بأعمالها في أشهر الحج.

٤٢٨

ومن يشترط بعض أعمالها في أشهر الحج يقول : إيقاع البعض كإيقاع الكل (١).

الثالث : أن يحرم بالعمرة من خارج الميقات ، لأن من كان داخل الميقات فهو من حاضري المسجد الحرام.

الرابع والخامس : أن يكون الحج والعمرة في سنة واحدة ، وسفر واحد ؛ لأن الإتصاف بالتمتع إنما يكون لمن يجمع بينهما ، ولا يفصل إلا بعجالة الوقت ، وإذا كانا في سفرين ، أو سنتين لم يسم جامعا بينهما.

وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) يدل على أن ما تقدم واجب ، لأن المراد (٢) : بالمحافظة على حدوده ، وما أمركم به.

قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة : ١٩٧].

هذه الآية الكريمة يتعلق بها أحكام :

الأول : في بيان أشهر الحج ، وقد اختلف العلماء في ذلك ، فمذهب عامة أهل البيت عليهم‌السلام : أنها شوال ، والقعدة ، وعشرة أيام من ذي الحجة ، وهذا قول أبي حنيفة.

قال في التهذيب : وذلك مروي عن ابن عباس ، وابن عمر ، وإبراهيم ، والشعبي ، ومجاهد ، والحسن ، وأبي علي ، وأكثر المفسرين.

__________________

(١) يؤخذ من هذا الخلاف أنه مجمع على عدم صحة التمتع في غير أشهر الحج ، فلعل الدليل على هذا الشرط هو الإجماع ، والله أعلم. (ح / ص).

(٢) لأن المراد (اتقوا الله بالمحافظة على حدودة).

٤٢٩

وقال الشافعي ، وأبو يوسف ، واختاره القاضي : شوال ، والقعدة ، وتسعة أيام من ذي الحجة مع ليلة النحر ، دون يوم النحر.

قال في التهذيب : وروي عن ابن مسعود ، وجابر ، وابن الزبير أنهم قالوا في تفسيرها : شوال ، وذو القعدة ، وعشر ليال من ذي الحجة.

وقال مالك ، وعروة بن الزبير : الثلاثة جميعها.

إن قال قائل : من أين نشأ هذا الخلاف؟ فجوابه : أن مالك تمسك بلفظ الأشهر المذكور في الآية ، وهو مع الإطلاق يتناول الجميع ؛ لأن الإجماع أنه تعالى لم يرد غير هذه الثلاثة.

وقوله تعالى : (مَعْلُوماتٌ) أي : معروفات عند الناس ، لا يشكلن عليهم ، والشرع هاهنا مقرر لما عرفوه.

قيل : ولأنه قد روي عن عمر ، وابن عمر أن العمرة فيها غير مستحبة (١) ، فكأنها مخلصة للحج ، ولأنه قد يبقى على الحاج أمور بعد يوم عرفة يجب عليه فعلها فيها ، قيل : ولعل (٢) مذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر.

وأما مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وأبي حنيفة فتمسكوا بما روي عن الصحابة المذكورين ؛ لأن ذلك لا يعرف إلا توقيفا ، وكذا قول الشافعي ، لكنه يقول : ذكر العشر يعبر به عن الليالي.

قال في الثعلبي : وقد جاء في تفسير أشهر الحج ، وعشر من ذي

__________________

(١) في هذه الرواية رد على الشوكاني في حاشيته على شفاء الأوام ، وذلك حين نسب أهل المذهب في قولهم بالكراهة للعمرة في أشهر الحج إلى الجاهلية ، فياترى ما هو رده على عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله وقد وردت هذه الرواية في الكشاف أيضا.

(٢) في ب (ولعل من مذهب عروة).

٤٣٠

الحجة ، وفي بعضها تسع ، فمن عبر بالتسع أراد الأيام ، ومن عبر بالعشر أراد الليالي.

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الحج عرفة» وقد ثبت أنه يفوت الوقوف بطلوع الفجر.

إن قيل : لم كان الشهران وبعض الثالث أشهرا؟ قال الزمخشري : جوابه : أن اسم الحج يشترك فيه ما وراء الواحد ، كقوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] فلا سؤال ، إنما يرد السؤال لو قيل : ثلاثة أشهر ، وقيل : نزل بعض الشهر بمنزلة كله ، كما يقال : رأيتك سنة كذا ، ولم يرد إلا ساعة ، ولأن الفعل إذا أضيف إلى وقت تعلق ببعضه كما يقال : صليت يوم الجمعة ، وأتيتك يوم كذا ، والمراد في بعضه (١).

الحكم الثاني

في فائدة تأقيت الحج بهذه المدة ، وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال الناصر ، والشافعي : إن هذا بمثابة تأقيت وقت الصلاة ، فمن أحرم بالحج في غيرها لم ينعقد حجه ، ويكون إحرامه منعقدا بعمرة ، كمن صلى الظهر قبل وقته لم ينعقد ظهرا ، ويكون نافلة.

وروي هذا في الثعلبي ، عن عطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، والأوزاعي ، وحجتهم التمسك بظاهر الآية ؛ لأن المراد بقوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ) أي : وقت الحج ، كما تقول : البرد شهران ، أو أفعال الحج في أشهر معلومات ، فلو انعقد الحج في غيرها بطل فائدة التأقيت ، وقياسا على سائر أعمال الحج.

__________________

(١) لفظ الكشاف (فإن قلت : فكيف كان الشهران وبعض الثالث أشهر؟ قلت : اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد. بدليل قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] فلا سؤال فيه إذن ، وإنما كان يكون موضعا للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات. وقيل : نزل بعض الشهر منزلة كله ، كما يقال : رأيتك سنة كذا ، أو على عهد فلان ، ولعل العهد عشرون سنة أو أكثر ، وإنما رآه في ساعة منها).

٤٣١

ومذهب القاسمية ، والحنفية أنه ينعقد في غير أشهر الحج ، ولكن يكره ، وفائدة التأقيت الكراهة في غيرها (١) ، وأنه لا يصح كثير من أعمال الحج بخلاف الإحرام (٢) ، وإنما خرجوا عن الظاهر لقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ولم يفصل ، ولقوله تعالى في هذه السورة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩] فدلت على أن الإحرام ينعقد بالحج في جميع الشهور ، وإن كره في غير أشهر الحج ، كوقت اضطرار الصلاة.

والأولون يجيبون بأن هذه عمومات مخصوصة بقوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ) ومن قال ينعقد ، قاس تقدم الإحرام على الزمان ، على تقدمه على المكان ، وقاس أيضا على طواف الزياة ، فإنه يصح بعد أشهر الحج ، بعلة أن كل واحد نسك ، ويحتجون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من أهل بعمرة أو حجة من بيت المقدس كان كفارة لما قبلها من الذنوب.

وعن علي عليه‌السلام وعمرو ، وابن مسعود «أن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك» ولم يحصل فصل بين أن يصل مكة لأشهر كثيرة ، أو قليلة.

الحكم الثالث

في بيان الفرض المذكور في الآية بم يكون؟ وهو قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) وقد دلت على أنه لابد من فعل من جهة المكلف ، ولكن اختلفوا بعد ذلك ، فقال الشافعي : النية ، وهو الذي حصله المؤيد بالله للقاسم والهادي عليهما‌السلام ، وهو قول أبي يوسف.

__________________

(١) وعدم صحته في التمتع والقارن عندنا. (بهران معنى) (ح / ص).

(٢) وطواف القدوم ، والسعي ، فهذه تصح قبل وقته ، وبعده يصح طواف الوداع مطلقا ، وطواف الزيارة ، ويلزم دم. (ح / ص).

٤٣٢

والحجة لهذا القول : أن إيجاب التلبية لا يكون إلا بدليل ، وليس في الظواهر نحو قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الحج عرفات» وخبر جابر قال : «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ننوي إلا الحج ، فلما دنونا من مكة قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة» فصح إحرامهم بمجرد النية.

أما النية فلا خلاف في وجوبها (١) ، وعليه يدل الخبر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنما الأعمال بالنيات».

وقال الناصر ، وهو الذي خرجه أبو العباس وأبو طالب للهادي عليه‌السلام وهو قول أبي حنيفة : إن الفرض لا يكون لمجرد النية ، بل لا بد من أمر زائد ، وهو التلبية ، أو التقليد ، وحجتهم أن الآية مجملة ، وفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيان ، وبيان المجمل الواجب واجب ، وقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أحرم بالحج لبى ، ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعائشة «أهلي بالحج» والإهلال حقيقة في الذكر ، وقياسا على الصلاة فإنها لا تنعقد بمجرد النية ، والأولون يقيسون على الصوم بعلة أنه عبادة لا يجب في آخرها ذكر ، فلا يجب في أولها ، والآخرون يقولون : رد الفعل إلى الفعل أحق من رده إلى الترك ، وإنما قام التقليد مقام الذكر لقوله تعالى في سورة المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢].

وجه الاستدلال أنه تعالى عقب ذكر الهدي والقلائد بالإحلال ، فدل أنه ينعقد به الإحرام ، وإلا لم يكن لتعقيبه بالإحلال فائدة ، والأخذ بما ذكر من هذه الآية خفي

ويستدل بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أنه لما قد قميصه في المسجد قال : إني أمرت ببدني أن تقلد فلبست قميصي ونسيت».

__________________

(١) لم يعتبر بخلاف داود. (ح / ص).

٤٣٣

قال في النهاية : وأوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالتلبية ، وجمهور العلماء قالوا : إنه يستحب إلا المرأة فإنها تسمع نفسها ، قال مالك ، لا يرفع صوته في مساجد الجماعة ، بل يسمع من يليه إلا في المسجد الحرام ، ومسجد منى.

الحكم الرابع

في ذكر الرفث ، والفسوق ، والجدال ، وبيانه :

أما الرفث ، فقيل : إنه الجماع ؛ لأنه يفسد الحج ، وذلك مروي عن ابن مسعود ، وقتادة.

وقيل : هو الفحش في الكلام. وقيل : أراد مواعدة الجماع ، والتعريض لنسائه عن ابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء.

حكى الثعلبي عن حصن بن قيس عن ابن عباس ، وكان خليلا لابن عباس ، قال : لما أحرمنا أخذ ابن عباس بذنب بعيره ، فجعل يلويه ، وهو يحدو ويقول :

وهن يمشين بنا هميسا

إن تصدق العير نطأ لميسا

فقلت له : أترفث وأنت محرم؟ فقال : إنما الرفث ما قيل عند النساء.

وقيل : هو غمز النساء ، والتعريض لهن بالفحش من الكلام.

وأما الفسوق : فقيل : أراد معاصي الله كلها ، وحكى ذلك الثعلبي عن ابن عباس ، وطاووس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعن الضحاك : هو التنابز بالألقاب ، بدليل قوله تعالى : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) [الحجرات : ١١].

وقال ابن زيد : هو الذبح للأصنام ، بدليل قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١] وقوله تعالى : (أَوْ فِسْقاً

٤٣٤

أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام : ١٤٥] وقال إبراهيم ، وعطاء : هو السباب ، بدليل قوله : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر».

وعن ابن عمر : هو ما نهى الله تعالى عنه المحرم في حال إحرامه ، من قتل الصيد ، وأخذ الظفر ، والشعر ، ونحو ذلك.

وأما الجدال : فقيل : أراد المراء على جهة اللجاج ، وذلك مروي عن ابن عباس ، وابن مسعود ، والحسن ، والأصم ، وأبي علي ، وأبي مسلم.

وقيل : المعنى : لا شك فيه ولا منازعة ، وذلك أن قريشا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام ، وسائر العرب يقفون بعرفة ، وكانوا يقدمون الحج سنة ، ويؤخرونه سنة ، وهو النسة ، فردّوا إلى وقت واحد ، وردّ الوقوف إلى عرفة ، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع (١) الخلاف.

قال القاضي : ولا يمتنع أن تحمل الثلاثة على ما ينافي صحة الحج ، فيكون ذلك بقاء على الظاهر.

والرفث : الجماع الذي يحرمه الإحرام ، والفسوق : الجماع المحرم في كل حال ، والجدال : الشك في الحج ، وهو قولهم : يجب أو لا يجب ، وإذا حمل على العموم ففيه سؤال ، وهو أن يقال : إن اجتناب ذلك واجب في كل حال ، فلم خص النهي لمن فرض الحج؟ وجوابه : أن النهي أغلظ مع الحج ، فخص بالذكر لعظم حرمته ، كما يقال : لا تعص الله تعالى في رمضان ، وفي الحرم ، وكقوله تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة : ٣٦].

قال الزمخشري : لأن ذلك مع الحج أسمج ، كلبس الحرير في الصلاة ، والتطريب في قراءة القرآن.

__________________

(١) في ب (قد انقطع الخلاف).

٤٣٥

وفي هذه الألفاظ قراءات ، فقراءة الأكثر بالنصب في الجميع ، قال الثعلبي : ذكر أهل المعاني : أن ظاهر الآية ، وإن كان نفيا ، فمعناه النهي ، أي لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا ، كقوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] أي : لا ترتابوا.

القراءة الثانية : قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، ويعقوب (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ) بالرفع والتنوين (وَلا جِدالَ) بالنصب ، وهذا كقول أمية :

فلا لغو ولا تأثيم فيها

وما فاهوا به أبدا مقيم

وجعلوا الأولين على معنى النهي ، والثالث على معنى النفي ، وكان الثالث أحق بالنفي لعموم النفي ، والإخبار بأن الحج قد استدار في ذي الحجة ، بخلاف الرفث والفسوق ، فقد يقع من الخطأ فلا يصلح فيه عموم النفي.

قال الزمخشري : [واستدلّ على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه «وأنه لم يذكر الجدال] (١) ولفظ الثعلبي في رواية الحديث «من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».

ومن قرأ بالنصب (٢) جعل في الثلاثة عموم النفي مبالغة في النهي.

__________________

(١) ما بين القوسين هو لفظ الزمخشري ، أما لفظ الأصل فهو كالتالي (واستدل على أن المنهي عن الأولين دون الثالث بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئته يوم ولدته أمه» ولم يذكر الجدال) وفيه خطأ نحوي فكان من حقه أن يرفع (الأولين) لأنه خبر إن ، وقد رأينا أن لفظ الزمخشري أولى بوضعه من أن نصحح (الأولين).

(٢) أي : بالفتح ، لأنه مركب كتركيب ثلاثة عشر ، فهو مبني على الفتح ، كما هو مقرر في مضانه.

٤٣٦

القراءة الثالثة : قراءة أبي جعفر بالرفع والتنوين في الثلاثة ، ويحمل ذلك على النهي في الجميع.

القراءة الرابعة : ذكرها في الثعلبي عن أبي رجاء العطاردي (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) نصبا (ولا جدالٌ) بالرفع والتنوين ، كقول الشاعر (١) :

هذا وجدكم الصغار بعينه

لا أم لي إن كان ذاك ولا أب.

وقد قيل في سبب النزول : إن قريشا كانت تقف مواقف مختلفة ، كل يدعي أن موقفه موقف إبراهيم عليه‌السلام فأعلمهم الله تعالى بمناسكهم.

وقيل : لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع «من لم يكن معه هدي فليحل من إحرامه وليجعلها عمرة» قالوا : إنما أحرمنا بالحج ، فذلك جدالهم ، فنهوا عنه.

قال في الثعلبي بالإسناد إلى وهب بن الورد قال : كنت أطوف أنا وسفيان الثوري ليلا ، فانقلب سفيان وبقيت في الطواف ، فدخلت الحجر وصليت عند الميزاب ، فبينا أنا ساجد إذ سمعت كلاما بين أستار الكعبة والحجارة ، وهو يقول : يا جبريل أشكو إلى الله ثم إليك ما يفعل هؤلاء الطائفون حولي من تفكههم في الحديث ، ولغطهم ، وسفههم. قال وهب (٢) : فأولت أن البيت يشكو إلى جبريل عليه‌السلام.

الحكم الخامس

يتعلق بقوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا) فهذا أمر منه تعالى بالزاد ، وقد اختلف المفسرون في معناه ، فالأكثر والأظهر أنه تعالى أراد زاد الآخرة ؛ لأن سفر الآخرة هو الحقيق بالزاد ، وزاده التقوى ، قال الشاعر :

الموت بحر موجه غالب

تذهب فيه حيلة السابح

__________________

(١) في نسخة (ذاكم وجدكم الصغار بعينه)

(٢) في الطبقات : وهيب بن الورد ، وهو بفتح الواو في الورد.

٤٣٧

يا نفس إني قائل فاسمعي

نصيحة من مشفق ناصح

لا ينفع الإنسان في قبره

غير التقى والعمل الصالح

وقال الأعشى :

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى

ولا قيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألا تكون كمثله

وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

وقال بعضهم : إن هذا أمر بالزاد لسفر الحج ، وأن لا يكونوا كلّا على غيرهم.

وأن سبب نزول الآية : أن أناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ، ولا يتزودون ، ويقولون : نحن متوكلون ، ونحن نحج بيت الله أفلا يطعمنا؟ ويكونون كلّا على الناس» فنزلت الآية.

وهذا مروي عن الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، وفيها دلالة على اتخاذ الزاد ، وحظر السؤال ، أما اشتراط الزاد فذلك مذهب الجلة من علماء أهل البيت عليهم‌السلام ، وأبي حنيفة ، والشافعي.

وقال مالك : إذا كان له حرفة ، أو يعتاد السؤال ، وجب عليه الحج معوّلا على ذلك ، ومنشأ الخلاف من قوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] هذه الآية الكريمة في آل عمران ، وسيأتي [الكلام] (١) هنالك زيادة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [البقرة : ١٩٨]

هذه الآية الكريمة تدل على أنه لا يكره التجارة في سفر الحج ، ولا

__________________

(١) ما بين القوسين زيادة في أ ، ولفظ ب (وسيأتي هناك زيادة إنشاء الله تعالى).

٤٣٨

يؤثر ذلك في الحج ، وكذا إذا حج مكاريا أو أجيرا ، وذلك لأن سبب نزولها أن ناسا من العرب كانوا يتأثمون أن يتجروا في أيام الحج ، وإذا دخلت العشر كفوا عن البيع والشراء ، فلم تقم لهم سوق ، ويسمون من يخرج للتجارة : الدّاجّ ، قيل : الداجّ : الداب ، وقيل : كانت عكاظ ، ومجنّة ، وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام الموسم ، فلما جاء الإسلام تأثموا ، فرفع عنهم الجناح.

قال الزمخشري : وإنما يباح ما لم يشغل عن العبادة.

وعن ابن عمر «أن رجلا قال له : إنا قوم نكري في هذا الوجه ، وإن قوما يزعمون أن لا حج لنا؟ فقال : سأل رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عما سألت فلم يرد عليه حتى نزلت (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) فدعا به ، وقال : «أنتم حجاج».

وعن عمر أنه قيل له : هل كنتم تكرهون التجارة في الحج؟ فقال : وهل كانت معائشنا إلا من التجارة في الحج».

وقرأ ابن عباس (فضلا من ربكم في مواسم الحج) وهي شاذة.

خبر رواه في الثعلبي مسندا إلى أبي هريرة ، قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان يوم عرفة غفر الله تعالى للحاج الخالص ، وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار ، وإذا كان يوم منى غفر الله للحمالين ، وإذا كان عند جمرة العقبة غفر الله تعالى للسؤّال ، ولا يشهد ذلك اليوم خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر الله له».

قوله تعالى

(فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).

هذه الآية الكريمة ليس فيها ذكر وجوب الوقوف بعرقات ، وإن كان

٤٣٩

ذلك مجمعا عليه ، وعليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الحج عرفة ، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج».

قال الزمخشري : وقيل في الآية دليل على وجوب الوقوف بعرفة ؛ لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده.

قال في حواشي الكشاف : وهذا قول الزجاج ، ووجه الدلالة أن الذكر عند الإفاضة من عرفات واجب ، وهو يتوقف على الإفاضة ، وهي توقف على الوقوف ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فالوقوف إذا واجب.

ونظّره صاحب التقريب : بأن الأمر مشروط ، وإنما يتم لو كان الأمر بالذكر مطلقا ، فنظير ذلك لو قال : إذا حصل لك مال فزكه ، فإنه لا يقتضي وجوب تحصيل المال ، وإن توقفت عليه الزكاة ، لكون الأمر غير مطلق ، فإن قلت : المأمور به ذكر مقيدا بالحصول عند الإفاضة ، فهو مركب ، ووجوب المركب يستلزم وجوب أجزائه. قلنا : لا نسلم أن المأمور به ، وهو الذكر مقيد ، وإنما كان يستقيم ذلك لو تعلق الظرف ، وهو (إذا) ب (اذكروا) وهو ليس كذلك ، وإنما هو ظرف متضمن لمعنى الشرط ، ولذلك جي بالفاء في جوابه ، فليس الواجب ذكرا مقيدا بالإفاضة ، بل إذا حصلت الإفاضة وجب الذكر ، فالإفاضة قيد للأمر لا للمأمور به ، وفيه دقة فليتأمل.

قال صاحب الحواشي : ويمكن أن يقال : (إذا) دليل على وجوب الإفاضة ؛ لأنه لا تستعمل إلا في موضع يقطع فيه بوقوع المشروط ، ولما كان الواجب أقرب إلى الوقوع من غيره جيئ ب (إذا) إذ لو لم يكن واجبا جيئ بإن ، وقد ذكر هذا صاحب التقريب في قوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) [البقرة : ٣٨] فيتأمل. تم كلام الحواشي

واعلم أن هذا بناء على أنه يجب ذكر عند المشعر ، وقد اختلف في

٤٤٠