تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

الملكان ولم يكفرا ، ونصحا متعلمه عن أن يتعلمه على وجه يكفر. أنشد في ذلك :

عرفت الشر لا للشر

لكن لتوقيه

ومن لم يعرف الشر

من الناس يقع فيه

قال الزمخشري في قوله تعالى : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ) : إن تركه أصلح كتعلم الفلسفة ، التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية.

قال الحاكم : لكن منهم من شرط في جواز تعليمه القربة (١) ، لذلك قالا : (فَلا تَكْفُرْ) ومنهم من لم يشترط ذلك.

الحكم الثالث : أن من تعلمه أو علمه معتقدا لصحته كفر (٢) ، ولهذا رد الله عليهم بقوله تعالى : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا).

الحكم الرابع : أن العمل به لا يجوز ، فإن اعتقد صحته ، أو أظهر ذلك كفر لذلك كفر الشياطين ، وإن أظهر أنه غير صحيح لم يكفر.

قال الحاكم : والذي يكفر به نوعان من السحر.

الأول : تجويز الاختراع والتصوير ، وعلم الغيب ، وما لا يقدر عليه إلا الله لأنه يبطل الطريق إلى إثبات الصانع.

والثاني : تجويز ما يجري مجرى المعجز ؛ لأنه يمنع من إثبات النبؤات ، وهذا مثل أن يجوز أن يطير بغير جناح ، ويقطع المسافة البعيدة في مدة قريبة ، وما عدا هذا فهو فسق لا كفر ، يعزر فاعله.

__________________

(١) في الأصل (القرينة) وذكر أن (القربة) تصحيح من خط الحسين بن أمير المؤمنين (ح / ص).

(٢) هذا يستقيم على أصل أبي هاشم ، إذ هو يشترط الإعتقاد ، وأما على أصل الشافعية ففيه نظر ؛ إذ هو لا يشترط الإعتقاد ، فليحقق. (ح / ص).

وفي حاشية أخرى (الآية تدل على تحريمه على الإطلاق ، فما دليل التقييد فينظر).

١٨١

وقال الشيخ أبو جعفر (١) في شرح الإبانة : إذا ادعى الإحياء ، والجمع والتفريق ، والبغض والمحبة ، وأن له في ذلك تأثيرا كفر.

قال : «وكذا قلب الأعيان على ما يتعاطاه من يتعاطى الكيمياء».

وكذا تحريك الجمادات من غير مباشرة ولا توليد من ذلك ؛ لأن القادر بقدرة لا يقدر على ذلك ؛ لأن من ادعى ذلك فقد ادعى الربوبية.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الساحر (إذا شهد عليه رجلان به فقد حل دمه).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام «حد الساحر القتل».

وذكر المؤيد بالله وغيره أنه إذا أظهر أن فعله لا حقيقة له أدب ، ولم يكفر.

ومن السحر الذي يوجب الكفر سحر بابل ، في زعمهم أن الكواكب حية وأنها تقدر على الضر والنفع (٢).

__________________

(١) الشيخ أبو جعفر هو : محمد بن يعقوب الهوسمي الزيدي ، الناصر ، أبو جعفر العلامة الفقيه ، صاحب التصانيف منها : شرح الإبانة أربعة مجلدة ، في مذهب الناصر ، والكافي مجلدان ، كتاب حسن مستكمل الخلاف ، عار عن الأدلة ، ويقول فيه قال الإمام ، يعني أبا طالب ، وله الجامع هذا في افقه ، وله في علم الكلام كتاب الديانات ، وفيه روايات غريبة لا يساعده عليها أحد ، قال في النزهة : كان قاضيا لأبي طالب ، ومن هفوات الشيخ أبي جعفر ادعاء الإجماع ، والتعريض بالهادي تارة ، والتصريح أخرى بمخالفة الإجماع ، قال السيد حسن الجلال : إن العجزة إذا عجزوا عن السلوك مع العلماء في مهامه الأدلة فزعوا إلى دعوى الإجماع كذبا على أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأبي جعفر وأضرابه ، ولم أجد لأبي جعفر تاريخ وفاة ، رحمه‌الله.

(٢) قال الحاكم في تفسيره : (وقد فصل ذلك الشيخ ابو بكر الرازي وغيره ، فقالوا السحر على وجوه خمسة منها ـ سحر بابل ، وكانوا يعبدون الكواكب ، فيزعمون أنها حية فعاله ، وطائفة منهم عملوا أوثانا على أسماء الكواكب ، تقربوا إليها بضروب من القربان ، فمن أراد خيرا تقرب إلى المشتري ، ومن أراد شرا تقرب ـ

١٨٢

__________________

ـ إلى زحل ، ومن أراد غرقا أو حرقا تقرب إلى المريخ ، ونحو ذلك ، ويزعمون أن عند ذلك تفعل الكواكب ما شاؤا من قلب الأعيان ، وتقليب الصور ، ونحوها ، فتجعل الإنسان كلبا ، وتقطع مسافة بعيدة في مدة قريبة ، فيعتقدون في الكواكب أنها تقدر على قلب الأعيان والصور والنفع والضرر ، وهذا فاسد ، لأنها جماد ، ولأنها محدثة ، قد ثبت حدوثها ، ولأنها جسم ، وكل ذلك يدل على أنها لا تقدر على هذه الأشياء. ومنها ـ سحر آل فرعون ، فإنهم بالحيل يخيلون ما ليس بحي أنه حي ، كما قال تعالى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) ومن هذا القبيل ، من يدعي أنه يذبح عصفورا ، ثم يحييه ، ويخرق ثوبا ثم يصححه ، وهذا نوع من خفة اليد والشعبذة. ومنها ـ ما يدعيه بعضهم بالتوصل إلى الأمور بالنميمة والتضريب ، وأصناف الكلام. ومنها ـ ما يتوصل الى تمريض واماتة بالأدوية والأطعمة لا يطعمه ، أو يبخر بها فيصل الدخان الى دماغه كالسموم أو نحوها ، وقد أجرى الله تعالى العادة بإحداث امور عند اطعامه ، وأدوية من مرض وصحة ، وإماتة ، وذلك فعله تعالى فعل الساحر ، وجميع ما يدعون مخاريق وتمويهات ، ولا يقدرون على شيء من ذلك ولو قدروا لأبطلوا أمر النبيين ، ولقتلوا المؤمنين مع شدة عداوتهم لهم. فأما ما ترويه الحشوية أن امرأة أتت عائشة ، وقالت : إني ساحرة ، فهل لي من توبة؟ فقالت : وما سحرك؟ قالت : صرت الى بابل هاروت وماروت أطلب السحر ، فقا : يا أمة الله لا تختاري عذاب الله ، اتقي الله ، فأبيت فقالا : اذهبي فبولي على ذلك الرماد ، فذهبت وعدت ، ولما أفعل ، وقلت : فعلت ، فقال : فهل رأيت شيئا؟ قلت : لا ، قالا : أنت على رأس امرك لم تفعلي شيئا ، اتقي الله ، فأبيت حتى فعلت مرتين ثم بلت في الثالثة ، على الرماد فرأئت فارسا مقنعا في حديد خرج من فرجي ، فعدت اليهما فأخبرتهما بما رأيت ، فقالا : ذلك إيمانك ، وقد تعلمت السحر ، وما تريدين شيئا كان ، فصورت في نفسي حبا من حنطة ، فإذا أنا به فقلت ليزرع فخرج من ساعته سنبلة ، فقلت : تطحن وتخبز ، فصار خبرا ، فكنت لا أريد شيئا إلا كان ، فقالت عائشة رضي الله عنها : ليست لك توبة. ورووا أكثر من هذا ، فقالوا : سحر النبي فمرض ، وقالوا ـ وقال ـ إنه ليخيل الي أن أقول الشيء وأفعله ، ولم أقله ولم أفعله ، وهذا كله أباطيل وترهات ، لا تجوز على الله ، ولا على رسوله ، لأنه يبطل المعجزات بل يبطل الطريق الى اثبات الصانع ، إذ لو جاز ذلك لجاز أن يقال : إن ساحرا خلق السموات والأرض ، وهذا كفر ممن ـ

١٨٣

وأما اعتقاد النحس في الأيام والنفع ، فقد قال المنصور بالله : «من اعتقد أن لذلك تأثيرا كفر ، ولم عمل بذلك ولم يعتقد أثم».

ويتعلق بالساحر ثلاثة أحكام ، غير ما ذكر : الأول : أنه إذا أظهر أنه قتل بسحره فعند الشافعي أنه يقتل بذلك قصاصا ، وأن له حقيقة.

__________________

ـ يجوزه. فأما حديث بنات لبيد بن أعصم ، فيجوز أن يكونوا اعتقدوا السحر حقيقة ، فأطلع الله تعالى نبيه عليه ، حتى يعلموا أنه ليس بشي. وتدل على معجزة له. فأما الرابع ـ فالذي هو كفر وجهان ـ الأول تجويز الإختراع والتصوير وعلم الغيب وما يقدر عليه إلا الله تعالى ، لأنه يبطل الطريق الى اثبات الصانع. والثاني تجويز ما جرى مجرى المعجزات ، لأن معه لا يتمكن من معرفة النبؤات ، وما عدا هذين ففسق يوجب التعزير ، وليس بكفر ، فمثال الأول ـ أن يجوز من أحدهم تغيير الصور ، وأخذ الدراهم من الهواء ونحوها ، ولا فرق بين أن يجوز فعله من الساحر ، أومن النجوم ، أومن الجن ، فإن جميع ذلك كفر. ومثال الثاني ـ أن يجوز أن يطير بغير جناح ، ويقطع المسافة البعيدة في مدة قريبة ، ومن هذا القبيل سحر آل فرعون ، وذلك كفر لما ذكرنا. ومثال الثالث ـ ما هو من جنس التضريب والنميمة ، وسقي الأدوية والسموم لأن ذلك يؤدي الى ابطال الفضل ، ولا يقدح في معجزة ، وقد نبه الله تعالى على الوجهين حيث أشار في بعضه الى أنه كفر ، وفي بعضه الى أنه ضرر وتفريق بين الزوجين. فأما الفصل الخامس : فكل سحر هو كفر ففيه القتل لأن حكمه حكم المرتد ، وما ليس بكفر فهو فسق ، وفيه التعزير ، فإن قيل : فقد روي عن الصحابة ما يدل على أن كل سحر كفر ، وأن كل ساحر يقتل؟ قلنا : أما اكفارهم لكل ساحر فلا يقتل فيه ، وإنما فيه التعزير والحبس على ما يراه الإمام. وأما الفصل السادس : فقيل : إنه يقتل ، ولا يستتاب ، ولا تقبل توبته ، لأن مع كفره جمع السعي في الأرض بالفساد ، إلا أن تكون توبته قبل القدرة ، فتقبل كحكم الساعي في الأرض بالفساد ، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم ، وقيل : لا تقبل توبته أصلا ، ويقتل بمنزلة الزنديق ، لأن كفره يثبت سرا ، ولا يوثق بتوبته ، وهذا قول مالك ، وذكر الشيخ ابو بكر رحمه‌الله عن مالك أن ساحر اهل الكتاب لا يقتل إلا أن يضر بالمسلمين ، فيقتل لنقض العهد ، وقيل : تختلف حاله ، فإن كان سحره كفرا فهو كالمرتد ، وإن كان احتيالا فهو كالجاني ، فإن قتل بجنايته أجري عليه أحكام القتل من قود أودية ، وهذا قول الشافعي ، ومن أصحابه من يقول : للسحر حقيقة ، فلا بد أن يحمل على التفصيل الذي ذكرناه.

١٨٤

قال في شرح الإبانة : وعند عامة أهل البيت عليهم‌السلام وأبي حنيفة ، والمنصور بالله : أنه لا حقيقة له ، فيقتل حدا لا قصاصا ، وقد استبعد قول من قال : له حقيقة.

الحكم الثاني : في حكمه في القتل والتوبة.

فقال مالك : يقتل ، ولا تقبل توبته ؛ لأنه لا يوثق بتوبته كالزنديق عنده ، وروي عنه أن ساحر أهل الكتاب لا يقتل إلا أن يضر بالمسلمين ، فيقتل لنقض العهد.

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : الساحر كالمحارب إن تاب قبل أن يقدر عليه لم يقتل ، وقبلت توبته ، وإن كان بعد القدرة عليه قتل ، ولم تقبل توبته ، ولم يستتب.

وظاهر المذهب أنه كالمرتد في الاستتابة وقبول التوبة.

الحكم الثالث : أن أخذ العوض على السحر حرام ، وقد فسر قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أنهم كانوا يعطون الأجرة عليه ، فذلك اشتراؤهم ، روي ذلك عن أبي علي.

وقيل : أراد بالإشتراء ابتياع السحر بدين الله تعالى.

فأما أخذ العوض على الرقية فجائز ، للخبر الوارد بذلك في الذين رقوا على الملدوغ بفاتحة الكتاب ، قال الامام يحي بن حمزة عليه‌السلام ، والنواوي : لكن يكره بالألفاظ العجمية (١).

قال الحاكم : فأما ما روي أن هاروت وماروت ملكان مختاران من الملائكة وأنهما لما عابا على آدم المعصية ركبت فيهما الشهوة ، وأنزلا إلى الأرض ، وتحاكم اليهما رجل وامرأة ، فمالا إليها ، وكانت تسمى زهرة ،

__________________

(١) وعن الناصر عليه‌السلام ، يحرم. (شرح الخمسمائة).

١٨٥

وشربا الخمر وقتلا رجلا رآهما ، وحكما لها باطلا ، وسجدا للصنم ، وعلما الزهرة الإسم الأعظم فصعدت السماء ، فمسخت نجما ، وهو الزهرة ، وأن (سهيلا) عشار ، وأنهما عذبا ببابل في بئر منكوسين ، يعلمان الناس السحر ، فإن هذا حشو وهذيان ، وقد قال الله تعالى في صفة الملائكة : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) [التحريم : ٦] لكن الآية دالة على أن ملائكة النار لا يعصون الله تعالى ، وعمومها لا صغيرة ولا كبيرة ، وأما غيرهم فالدليل على عصمتهم ما دل على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام.

وكذلك ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سحر حتى كان لا يدري ما يقول فغير صحيح ؛ لأن الله تعالى قال : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧].

وكذلك ما يروى أن امرأة أتت إلى عائشة وقالت : إنها ساحرة ، وإنها أتت إلى بابل هاروت وماروت تطلب السحر ، وهما يعوذانها ، وهي تأبى حتى أمراها أن تبول على رماد ، فخرج فارس مقنع في حديد من فرجها ، فأخبرتهما فقالا : ذلك إيمانك ، وقد تعلمت السحر ، وما تريدين من شيء كان ، وإنها صورت في نفسها حبا من حنطة ، فحصل ، فقالت : ازرع. فخرج من ساعته إلى آخر القصة ، وأن عائشة قالت : لا توبة لك ، فذلك حشو غير صحيح.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) [البقرة : ١٠٤]

السبب في نزول هذه الآية :

أن المسلمين كانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا تلا عليهم القرآن (راعِنا) أي : انتظرنا ، وتأن بنا ، حتى نفهم ونحفظ ، وكانت هذه كلمة لليهود يتسأبون بها ، قيل : إنها كانت بمعنى : اسمع لا سمعت ، فلما

١٨٦

سمعت اليهود ذلك اغتنموها ، وكانوا يقولونها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويضحكون فيما بينهم ، فسمع ذلك سعد بن معاذ ، فقال : يا أعداء الله عليكم لعنة الله ، والذي نفسي بيده ؛ لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأضربن عنقه ، فقالوا : أو لستم تقولونها ، فنزلت ، وقرأ الحسن راعناً بالتنوين ، من الرعن ، وهو الهوج (١) ، أي : لا تقولوا قولا منسوبا إلى ذلك ، وهي شاذة.

وقوله تعالى : (وَقُولُوا انْظُرْنا) وهو بمعنى ذلك ، لكنه لا يوهم ، وقرأ أبي انظرنا من النظرة ، وهو شاذ.

ويؤخذ من هذه الآية :

أنه لا يجوز فعل المباح إذا كان يؤدي إلى قبيح ؛ لأنهم نهوا عن ذلك ؛ لأجل ما يحصل من سب اليهود لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : لما لم يكن في هذه الكلمة تعظيم نهوا ، وأمروا أن يقولوا : (انْظُرْنا) لأن في ذلك تعظيما ، وهذه فائدة ، وهي حسن الأدب لذي الرتبة ، وفائدة ثالثة ذكرها الحاكم : أن كل لفظ فيه إيهام لا يجوز إطلاقه على الله تعالى ، ولا على رسوله.

قوله تعالى

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ١٠٥]

المعنى : ما يريد الذين كفروا نزول الخير على المسلمين ، وفي ذلك تعريض بذمهم ، فيدل هذا على أنه يجب على المسلم محبة الخير لأخيه من مصالح دينه ودنياه.

__________________

(١) الأهوج : الرجل الخفيف مع حمق ، هكذا في الضياء. (ح / ص).

١٨٧

قوله تعالى

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [البقرة : ١٠٦]

هذه الآية الكريمة دالة على جواز النسخ ، وهو إجماع المسلمين (١) ، وخالف من أهل القبلة أبو مسلم بن بحر الأصفهاني ، وقال : المراد ما ننسخ من آية في شرائع من تقدم وكتبهم ، لا في القرآن (٢) ، وهو محجوج بالإجماع ، وبأن الآية عامة ، وفي المنتهى خلافه في الوقوع ، لا في الجواز.

وتدل الآية على جواز نسخ التلاوة دون الحكم ، وعكسه ، وعلى نسخهما معا.

وهذا قول المجاهير من علماء أهل البيت عليهم‌السلام ، والمعتزلة ، والفقهاء ؛ لأن قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) المراد : من حكم آية ، أو من تلاوة آية ، وقوله : (نَنْسَخْ) قراءة الجماهير بفتح النون والسين ، والمراد الرفع ، وقراءة ابن عامر نُنْسِخْ بضم النون ، وكسر السين ، أي : نأمر جبريل عليه‌السلام بأن يجعلها منسوخة.

وقوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها) قرئ بضم النون ، وكسر السين ، بمعنى ننسيها من حفظها ، أو بمعنى : نتركها لا تنسخ (٣).

__________________

(١) أي : في ألفاظه ، وأما في الجملة فلا يجوز اتفاقا. عمدة ، هكذا في الحاوي ، وكتب أصحابنا.

(٢) ويحمل كلما ورد من آيات النسخ على التخصيص ، قال : إذ هو نوع منه ، وهذا قد تؤل به كلامه.

(٣) ولا يخفى على الحاذق أن قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) لا ينطبق على هذا القول كما ينبغي. نيسابوري (ح / ص).

(٤) وفي حاشية للمولى العلامة (مجد الدين المؤيدي) (تفسير (نُنْسِها) بعد النسخ لا يستقيم ، لكونه معطوفا على جواب الشرط فهو جاء لما ننسخ فيصير المعنى : ما ننسخ من آية نأت بخير منها ، أو مثلها ، أو لا ننسخها ، والتفسير الصحيح لننسها ـ

١٨٨

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو (١) بفتح النون ، والهمزة ننسأها أي : نؤخرها من النسأ ، وهو التأخير.

وقد وقع نسخ الحكم وحده في قوله تعالى : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) [البقرة : ٢٤٠] بقوله تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤].

ونسخت التلاوة دون الحكم فيما يروى (كان فيما أنزل الله تعالى : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله).

ونسخا معا فيما روي عن عائشة كان فيما أنزل الله «عشر رضعات يحرمن» فنسخ ذلك بخمس رضعات ، وعن أبي بكر : «كنا نقرأ من القرآن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم».

وقال بعض المعتزلة : الحكم واللفظ لا ينفكان ؛ لأنه إذا بقي اللفظ أوهم بقاء الحكم ، فيلزم الوقوع في الجهل ، أجيب : بأن ذلك لا يلزم مع الدليل.

وفرع ابن الحاجب على هذا فرعا ، وهو أن ما نسخت تلاوته جاز للمحدث مسه ، لا ما نسخ حكمه مع بقاء التلاوة ، ويلزم أن يفرع أن ما نسخت تلاوته كان ذكره في الصلاة مفسدا لها.

وهل ينسخ الشيء لا إلى بدل أم لا بد [له] من بدل؟ فقال الأكثر :

__________________

ـ أنه نتركها لا إلى بدل ، كما قال في الكشاف : ونسؤها : تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل ، وقد فسرها الإمام العالم عبد الله بن الحسين بن القاسم أخو إمام الأئمة الهادي إلى الحق يحي بن الحسين عليهم‌السلام بتفسير قويم. ،

(١) أبو عمرو هو : زبان بن العلاء البصري ، النحوي ، اللغوي ، أبو عمرو القارئ ، أحد القراء السبعة ، روى عنه القراءة الدوري ، والزيدي ، والسوسي ، والسويسي ، واختلف في اسمه على أحد وعشرين قولا ، أشهرها ما ذكر ، وقيل : اسمه كنيته ، وحضر مع الإمام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن ، ولازم مجلسه ، وأخذ عنه خلق في النحو ، واللغة ، مات بطريق الشام سنة أربع ، وقيل : سنة ١٥٩ ه‍.

١٨٩

يجوز إلى غير بدل ، وهذا مذهب الأكثر من الأئمة والفقهاء ؛ لأن المصلحة قد تكون برفع الحكم ، وقد ورد ، كنسخ الصدقة بين يدي المناجاة.

وقال بعضهم : لا بد من بدل لقوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) أجيب بأنه تعالى لم يقل في موضع المنسوخ ، فيجوز أن يثبت حكما ما في موضع آخر (١) ، وبأن الترك والتخفيف قد يكون خيرا في المصلحة.

وهل ينسخ الحكم إلى أشق منه أم لا؟ الجمهور على جواز ذلك ؛ لأنه قد يكون خيرا في المصلحة ، وقد ورد كالتخيير في الصوم بين فعله ، وبين الفدية حيث قال تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ١٨٤] ثم نسخ بتعيين الصوم بقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥].

وخالف قوم من الظاهرية ، فقالوا : لا ينسخ الشيئ بأشق منه ، لقوله تعالى : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [البقرة : ١٠٦] وذلك للأيسر ، قلنا : الخير بما هو أصلح

قال الأكثر : ويجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة ، والسنة بالكتاب ؛ لأن الكل من عند الله تعالى.

قوله تعالى

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) [البقرة ١٠٨]

السبب في نزولها :

أن بعض المشركين قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فجر لنا أنهارا نتبعك.

__________________

(١) أما هذا الجواب ففيه تسليم أنه لا بد من بدل في الجملة ، وهو محل النزاع.

١٩٠

وقيل : سألت قريش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجعل الصفا ذهبا.

وقيل : قال بعضهم : أرنا الله ، وعن أبي علي : سأل قوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط كما أن للمشركين ذات أنواط ، وهي شجرة كانوا يعبدونها ، ويعقلون عليها المأكول والمشروب ، فقال تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ) استفهام على طريق الإنكار (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) وذلك كقولهم لموسى عليه‌السلام : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً) [الأعراف : ١٣٨] وقولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] (١).

وهذه الآية الكريمة قد دلت على أن سؤال التعنت قبيح ؛ لأن الواجب أن يكون للاسترشاد. ودلت على أن التشبه بأهل الضلال معصية ، وقد ورد في الحديث : (من تشبه بقوم كان منهم) (٢).

قال الإمام المؤيد بالله يحي بن حمزة عليه‌السلام : ويكره وضع الأحجار في المساجد ، وكذا تعليق الخيوط ، وأهداب الثياب في بعض أحجار المساجد ، ويكره لمسها للتبرك ، لما روي أن عمر قال في الحجر

__________________

(١) وقال الحاكم في تفسيره (وروي عن ابن عباس أن رافع بن حرملة ووهب بن زيد قالا لرسول الله : ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء يقرأ ، أو فجر لنا أنهارا نتبعك ، فأنزل الله هذه الآية. وعن الحسن المراد به مشركي العرب ، وقد سألوا وقالوا ، أن يأتي بالله والملائكة قبي ، وقالوا (أَوْ نَرى رَبَّنا) وعن السدي سألت العرب محمدا أن يأتيهم بالله فيروه جهرة ، وعن مجاهد سألت قريش محمدا ، أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، فقال : نعم هو لكم ، كالمائدة لبني اسرائيل ، فرجعوا ، وعن ابي علي ، سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في محلات منها ما سأله قوم أن يجعل لهم ذات أنواط ، كما أن للمشركين ذات أنواط ، وهي شجرة كانوا يعبدونها ، ويعلقون عليها الماكول والمشروب كما سألوا أن يجعل لهم الها (كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ، وقيل : إن اليهود قالوا : يا محمد آمنا بكتاب من السماء جملة كما أوتي موسى فنزلت الآية.

(٢) في نسخة ب (فهو منهم) والحديث : أخرجه أبو داود ٤ / ٤٤ ، برقم ٤٠٣١ ، وأحمد في مسنده ٢ / ٥٠.

١٩١

الأسود : «والله لو لا أني رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبلك ما قبلتك» ولأن في ذلك تشبها بالجاهلية ؛ لأنهم كانوا يعلقون الأهداب في شجرة العشّر.

وروي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مر عليها ، والأهداب معلقة بها ، فقيل له : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط ، يريدون كما كانت للجاهلية ذات أنواط ، وهي هذه الشجرة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنهم قوم يجهلون) يشير بذلك إلى المنع.

قوله تعالى

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة : ١٠٩]

هذه الآية الكريمة دلت على قبح المحبة للمعصية ، وقبح الحسد ، وقبح العمل بما تتوق النفس إليه من غير حجة ، لقوله تعالى : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) وعلى قبح المعاندة لقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) وذكر ذلك في معرض الذم ، وعلى حسن العفو لقوله تعالى : (فَاعْفُوا) وعلى حسن الصبر على الأذى ؛ لأن قوله : (فَاعْفُوا) قد فسر بالإعراض ، قال ابن عباس وقتادة ، والباقر ، وأبو علي ، وجعفر بن مبشر : هذه منسوخة بآية السيف ، وقيل : ليست بمنسوخة ، والمراد بالعفو الإعراض.

وتدل على وجوب الوفاء بالعهد ؛ لأن سبب نزولها : أن فنحاص بن عازوراء ، وزيد بن قيس ، ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان ، وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد ، لو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو أفضل ، فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا : شديد ، قال : فإني عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت ، وقال حذيفة : أما أنا فقد رضيت الله ربا ، وبمحمد نبيا ، وبالإسلام دينا ، وبالمؤمنين إخوانا ،

١٩٢

وبالكعبة قبلة ، وبالقرآن إماما ، ثم أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبراه فقال : (أصبتما خيرا وأفلحتما) (١).

قوله تعالى

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ١١٠]

دلت دلالة مجملة على إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وقوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) أي : تجدوا جزاءه ، قال الحاكم : فعند سلامته من الإحباط يوفر نفس الثواب ، وعند الإحباط يوفر عليه بأن ينقص من عقابه ، قال [الحاكم] : وفي الآية دلالة على صحة قولنا في الموازنة ، وبطلان قول أبي علي بالإحباط ؛ لأنه يقول : إنه يجده في حال دون حال.

قوله تعالى

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ١١١]

دلت الآية على جواز الحجاج في الدين ، وعلى فساد التقليد ؛ إذ لا

__________________

(١) وقد ذكر مثله الحاكم في تفسيره فقال : (قيل : نزلت في حيي بن اخطب ، وأخيه أبي ياسر بن أخطب ، دخ على رسول الله حين قدم المدينة ، فلما خرجا ، قال حيي : أهو نبي؟ قال : هو هو ، فقيل : فماله عندك؟ قال : العداوة إلى الموت ، وهو الذي نقض العهد ، وأثار الحرب يوم الأحزاب ، عن ابن عباس. وقيل : نزلت في كعب بن الأشرف عن الزهري ، وقيل : في جماعة اليهود عن الحسن ، وقيل : في قوم من اليهود قالوا لعمار وحذيفة بعد وقعة أحد لو كان دين محمد حقا لما أصابه هذا فارجعا إلى ديننا فقال عمار رضي الله عنه رضيت بالله ربا وبمحمد نبيا ، وبالإسلام دينا. فنزلت الآية.).

١٩٣

برهان عليه ، قال الحاكم : واختلفوا هل على النافي (١) دليل أم لا؟ فعندنا عليه الدليل ومنهم من قال : لا دليل عليه.

قوله تعالى

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) [البقرة ١١٣]

هذه الآية الكريمة نزلت لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتناظرواهم وأحبار اليهود حتى ارتفعت أصواتهم ، وقالت اليهود : ما أنتم على شيء ، وكفروا بعيسى عليه‌السلام والإنجيل.

وقالت النصارى لهم : نحوه ، وكفروا بموسى عليه‌السلام ، والتوراة.

وقد دلت الآية :

على أن الكفر ملل مختلفة ؛ لأن كلا منهم قد كفر الآخر ، وهذا دليل الاختلاف ، كما اختلفت ملة الإسلام وملة الكفر ، وقد ذهب إلى هذا القاسم (٢) ، والهادي ، والناصر عليهم‌السلام ، وأحد قولي الشافعي ، وقال

__________________

(١) في (ح / ص). (لفظ الفصول «فصل» أئمتنا عليهم‌السلام والجمهور ويجب الدليل على النافي لحكم عقل أو شرع غير ضروري ، كمثبتهما ، بعض الأصوليين : لا يجب فيهما ، وقيل : يجب على نافي العقل دون الشرع ، وإنما يستدل عليه باستصحاب الحال مع انتفاء الأدلة الشرعية المغيرة للنفي الأصلي ، أو بقياس من الدلالة.

(٢) القاسم : هو الإمام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، الهاشمي ، الحسني ، أبو محمد ، ترجمان الدين ، ونجم آل الرسول ، والمبرز على أقرانه في الفروع والأصول ، والمسموع والمعقول ، ولد عليه‌السلام سنة ١٧٠ ه‍ بعد قتل الحسين الفخي بأشهر ، روى عن أبيه ، وأبي بكر ، واسماعيل أخي ابن أبي أويس ، وأبي سهل المقري ، وآخرين ، وعنه أولاده النجباء ، محمد ، والحسن ، والحسين ، وسليمان ، وداود وغيرهم ، وروى عنه محمد بن منصور ، وجعفر النيروسي ، وغيرهم ، قال فيه بعض واصفيه : ـ

١٩٤

أبو حنيفة ، وأحد قولي الشافعي ، ورواه أبو جعفر (١) عن زيد بن علي (٢) :

__________________

ولو أنه نادى المنادي بمكة

بخيف منى في من تضم المواسم

من السيد السباق في كل غاية

لقال جميع الناس لا شك قاسم

قال في الطبقات : كان مبرزا في أصناف العلوم وبراعتها تصنيفا ، ومن أراد أن يعلم براعته في الفقه ، ودقة نظره في دق الاجتهاد ، وحسن ترتيبه في انتزاعه الأحكام ، وترتيب الأخبار ، وحسن معرفته باختلاف العلماء فلينظر في أجوبته في المسائل ، كان بحرا في علم الكلام ، وروى السيد أبو طالب في الإفادة وغيره أن جعفر بن حرب لما حج دخل على القاسم عليه‌السلام ، فجاراه في دقيق الكلام ولطيفه ، فلما خرج من عنده قال لأصحابه : أين يتاه بأصحابنا عن هذا الرجل ، والله ما رأيت مثله ، قال أبو طالب : وكان في مصر داعيا لأخيه محمد ، فلما مات بث دعاته في الآفاق ، فأجابه عوالم ، في بلدان مختلفة ، ولبث في مصر عشر سنين ، ثم اشتد عليه الطلب من عبد الله بنطاهر ، فعاد إلى الكوفة ، وكانت البيعة الكاملة في بيت محمد بن منصور سنة ٢٢٠ ه‍ بايعه أحمد بن عيسى ، وعبد الله بن موسى ، والحسن بن يحي ، فقيه الكوفة ، ومحمد ، ثم جال البلدان ، وآل أمره أن سكن الرس ، إلى أن توفي سنة ٢٤٢ ه‍ وفي اللآلي سنة ٤٤ ه‍ وهو الصحيح ، لأن الهادي ولد قبل موته بسنة ، وولادة الهادي سنة ٢٤٥ ه‍ ، روى له كل الأئمة.

(١) أبو جعفر هو : الإمام الحافظ ، مسند الأئمة محمد بن منصور المرادي.

(٢) زيد بن علي هو : الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، الحسيني ، أبو الحسين المدني الإمام الحجة ، إمام الزيدية ، وقائم آل محمد ، ودرة عقدهم المنضد ، قال أخوه الباقر عليه‌السلام : والله لقد أوتي أخي علم الدنيا فاسألوه ، فإنه يعلم ما لم نعلم ، وقال أيضا : لقد أوتي زيد علينا من العلم بسطة ، وقال الصادق : كان زيد أفقهنا وأقرأنا ، وأوصلنا للرحم. وقال أبو إسحاق السبيعي : لم أر مثل زيد أعلم ، ولا أفضل ، ولا أفصح في أهل البيت. وقال الشعبي : ما ولد النساء أفضل من زيد ، ولا أشجع ، ولا أزهد ، وقال أبو حنيفة : ما رأيت أفقه منه ، ولا أعلم ، قال ابن عنبة : مناقبه أجل من أن تحصى ، وفضله أكثر من أن يوصف ، بايع زيدا خمسة عشر ألفا من الشيعة وغيرهم ، وأقام بالعراق سبعة عشر شهرا ، وخرج سنة ١٢١ ه‍ ، قال سعيد بن خيثم : تفرق أصحابه حتى بقي في ثلاثمائة وبضع عشرة ، وتتابع الحرب حتى رمي عليه‌السلام في جبينه ، ثم رجع ـ

١٩٥

إن الكفر ملة واحدة ؛ لأنه تعالى سماهم باسم واحد في قوله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] فإذا ثبت ذلك ، وأنهم ملل مختلفة فلا مناكحة بينهم ، كما لا يتزوج الكافر بمسلمة ، والخلاف لمن سبق.

ولا موارثة بينهم ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا يتوارث أهل ملتين مختلفتين) وقد روي ذلك عن شريح (١) ، وابن أبي ليلى (٢) ، ويثبت الميراث بينهم على القول الآخر ، وقد روي ذلك عن زيد بن ثابت (٣) ، وابن مسعود ، وابن عباس.

__________________

ـ أصحابه ودفنوه في مجرى ماء ، وفي الثاني صاح صائح جيش بني أمية من يدلهم على القبر؟ فدلهم غلام فأخرجوه وصلبوه أربع سنين ، ظهرت له كرامات عظيمة ، وبعدها أحرقوه بالنار ، قال السيد :

لم يشفهم قتله حتى تعاوره

قتل وصلب مع التحريق بالشرر

قال الواقدي : سنة ١٢١ ه‍ ، وقال ابن إسحاق : سنة ١٢٠ ه‍ وهو ابن اثنتين وأربعين سنة.

(١) شريح هو : شريح بن الحارث بن قيس الكندي ، القاضي ، من كبار التابعين ، استقضاه عمر على الكوفة ، فأقام قاضيا خمسا وسبعين سنة ، إلا ثلاث سنين في أيام الحجاج ، وكان أعلم الناس بالقضاء ، وقال له أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : اذهب فإنك من أفضل الناس. توفي شريح رحمه‌الله سنة ٨٧ ه‍ وهو ابن مائة سنة ، وقيل غير ذلك.

(٢) ابن أبي ليلى : هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، الأنصاري ، الكوفي ، الفقيه ، تفقه على الشعبي ، وأخذ عنه سفيان الثوري ، وكان يقول : فقهاؤنا ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وقال عطاء : هو أعلم مني ، وكان حاكما ثلاثا وثلاثين سنة ، وكان أبو حنيفة رحمه‌الله يخطيه حتى منع أبو حنيفة من الفتوى ، وإذا قال الفقهاء : ابن أبي ليلى ، فهو محمد ، وإذا قال المحدثون : ابن أبي ليلى ، فهو والده عبد الرحمن ، وجده أبو ليلى صحابي جليل ، وكانت ولادته سنة ٧٤ ه‍ وتوفي سنة ١٤٨ ه‍ رحمه‌الله.

(٣) زيد بن ثابت هو : زيد بن ثابت الضحاك بن لواذن ، الأنصاري ، النجاري ، أبو سعيد ، وأبو خارجة ، صحابي مشهور ، واحد أهل الفرائض ، كان يكتب الوحي ، وتولى جمع القرآن ، قال مسروق : كان من الراسخين في العلم ، مات سنة خمس ، أو ثمان وأربعين ، وقيل : بعد الخمسين.

١٩٦

ولا تقبل شهادة بعضهم على بعض ؛ لقولهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تقبل شهادة ملة على ملة إلا ملة الإسلام فإنها تجوز على الملل).

وعن زيد بن علي ، وأبي حنيفة : تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض لأنها ملة واحدة ، وعن الناصر ، والصادق (١) ، ومحمد : تقبل شهادة الذمي على الحربي لا العكس ، وقال الشافعي : لا تقبل شهادة الكافر على أحد ؛ لأنه فاسق ، ولأنه شاهد بالزور على الله تعالى.

وقوله تعالى : (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) أي : قالوا ذلك مع كونهم تالين للكتاب وفي ذلك زيادة في ذمهم ، فدل على عظم ذنب المرتكب للخطيئة عالما.

قال الحاكم : وهذا سبيل علماء السوء من هذه الأمة ، وفي دعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، وقلب لا يخشع ، ونفس لا تشبع (٢) ، ودعاء لا يسمع) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إن أشد الناس عذابا عالم لم ينتفع بعلمه) شعر : إذا أنت لم ينفعك علمك لم تجد لعلمك مخلوقا من الناس يقبله

__________________

(١) جعفر الصادق ، بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، أبو عبد الله الهاشمي ، الحسيني ، المدني ، أحد الأعلام ، ولد سنة ٨٠ ه‍ حدث عن أبيه الباقر ، وجده من قبل أمه القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وعطاء ، ونافع ، وآخرين ، وعنه مالك ، والسفيانان ، وآخرون ، وثقه الشافعي ، وابن معين ، وعن أبي حنيفة : ما رأيت أفقه منه ، قال أبو حاتم : ثقة لا يسأل عن مثله ، وقال القطان : مجالد أحب إلي منه ، قال الذهبي : هذه من زلقات القطان بل أجمع أهل هذا الشأن أن جعفرا أوثق من مجالد ، وشنع السيد صارم الدين على القطان في ذلك فقال :

رام يحي بن سعيد

لك يا جعفر وهما

وأتى فيك بوصف

ترك الآذان صما

الخ ، توفي سنة ١٤٨ ، وكان سنه ٦٨ سنة ، ودفن في البقيع ، في قبة أهل البيت.

(٢) في رواية (ونفس لا تقنع).

١٩٧

قوله تعالى

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [البقرة ١١٤].

[سبب النزول]

قيل : نزلت في الروم ؛ لأنهم خربوا بيت المقدس ، وسعوا في خرابه ، إلى أيام عمر ، ولم يدخلوه بعد ذلك إلا خائفين.

وقيل : في «بختنصر» لأنه خرب بيت المقدس ، وأعانه عليه النصارى.

وروي أن النصارى كانوا يطرحون الأذى في بيت المقدس ، ويمنعون الناس من أن يصلوا فيه.

وقيل : نزلت في منع المشركين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية ، قال الزمخشري : والحكم عام ، وإن كان السبب خاصا بذلك ، قال : (مَساجِدَ اللهِ) تعالى بالجمع ، وهو نظير لقوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة : ١] في عمومها ، وإن [كانت] نزلت في الأخنس بن شريق.

وقد دلت الآية على عظم الذنب المانع لمساجد الله عن الذكر والساعي في خرابها ، فيدخل في ذلك كل منفر عن دخولها ، وعن الذكر فيها ، وأنه لا يترك فيها مخزان ؛ لأنه يمنع ، ولا يشتغل فيها بما يؤذي ويشغل ، ويدخل في ذلك رفع الأصوات واللجاج.

قال الحاكم في السفينة : وروى أن عيسى عليه‌السلام مر بقوم يتنازعون في مسجد فضربهم ، وأخرجهم ، وقال : «يا بني الأفاعي اتخذتم بيوت الله أسواقا ، هذا سوق الآخرة».

١٩٨

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أن سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فقال : لا وجدتها إنما بنيت المساجد لذكر الله).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة من النار).

وظاهر مذهب الهدوية تحريم ذلك ، وعن القاسم عليه‌السلام ، وأبي العباس : إذا كان في المسجد رمل ، ودفنت النخامة فلا بأس ، ويلزم من ذلك استحباب ما يرغب للحضور ، روى في السفينة عن أنس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «عرضت على محاسن أعمال أمتي فلم أر شيئا أحسن من إخراج القناديل إلى المساجد ، وعرضت علي مساوئ أعمال أمتي فلم أر شيئا أفظع من رجل تعلم سورة أو آية ثم نسيها».

قال الإمام المؤيد بالله في كتاب الإنتصار : ويستجب أن يجعل في المحاريب شيىء من الطيب لعمل المسلمين ؛ ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «حك نخامة من جدار المسجد بعرجون من النخل ، وعصر العبير ولطخها؟ والعبير : أخلاط من الطيب والزعفران.

قال الناصر عليه‌السلام : ولا تغلق المساجد في أوقات الصلاة ؛ لأن ذلك من الظلم الذي أراد الله تعالى في هذه الآية. قال الشيخ أبو جعفر : فإن كان الإغلاق لحفظها ، كالإغلاق بالليل جاز.

وتدل الآية على عظيم فضلها ، لذلك أضافها تعالى إلى نفسه.

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المساجد بيوت المتقين ، ومن كانت المساجد بيته ضمن الله له بالروح والراحة ، والجواز على الصراط».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خير البقاع المساجد ، وخير أهلها أولهم دخولا ، وآخرهم خروجا».

وفي الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كان لا يقدم من سفر إلا نهارا في الضحى ، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس» روى ذلك في السفينة.

١٩٩

ويدل قوله تعالى : (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) على أنه يمنع جميع الكفار من جميع المساجد.

وهذا هو مذهب الهادي ، والناصر ، ومالك ؛ لأن المعنى : ما كان الحق والواجب إلا ذلك لو لا ظلمهم ، والمعنى : النهي ، كقوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٥٣] وقال المؤيد بالله ، وأبو حنيفة بجواز دخولهم ، وعدم المنع لهم ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ربط مشركا في المسجد (١) ، وكان أبو سفيان يدخل المسجد ، وهو كافر ، وأنزل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفد ثقيف في المسجد.

وأجيب بأن هذا حكاية فعل ، فلعل ذلك كان للضرورة ، أو قبل نزول الآية ، وقال الشافعي : يمنعون من المسجد الحرام ، ومن الحرم دون غيره ، إلا أن يعاهدوا على المنع (٢) ، لقوله تعالى في سورة براءة : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة ٢٨].

وقيل : المعنى : أن الله تعالى قد كتب في اللوح المحفوظ أنه ينصر المسلمين ، ويقويهم فلا يدخلونها إلا خائفين.

وروي أنه لا يدخل بيت المقدس نصراني إلا متنكرا ، وعن قتادة : لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا أنهك ضربا ، وأبلغ في إليه العقوبة.

ويدل قوله تعالى : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) على أخذ الجزية ؛ لأنه قد فسر بذلك ، وقيل : الخزي : القتل والسبي ، وقيل : تفتح مدائنهم (٣).

فروع

الأول : إذا بني مسجد في بلد فخرب البلد ، وانتقل أهله حتى خلا

__________________

(١) هو ثمامة بن أثال.

(٢) من غيره منعوا منه (ح / ص).

(٣) قال الزمخشري : هي قسطنطينية ، ورومية ، وعمورية. (كشاف).

٢٠٠