تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

وقوله تعالى : (شاكِرٌ عَلِيمٌ) قيل : الشكر من الله المجازاة بالثواب ، وقيل : القبول.

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة ١٥٩ ـ ١٦٠]

نزلت الآية حين سأل جماعة من الأنصار نفرا من اليهود عما في التوراة من صفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكتموا. قال القاضي : ونزول ذلك على سبب لا يوجب قصره عليه ، فيجب حمله على العموم.

وعن عائشة ، وأبي هريرة : حمله على العموم ، قال أبو هريرة : «لو لا آيتان من كتاب الله ما حدثتكم ، وتلا (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) وثمرة هذه الآية أحكام :

الأول : أنه لا يجوز كتمان الحق عند الحاجة إلى إظهاره مع سلامة الأحوال وأن كتمه من الكبائر ، لذلك أوجب على الكاتم اللعنة ، ويدخل في ذلك حل الشبهة ؛ لأنه من إظهار الحق (١).

الحكم الثاني : أنه ينبغي عند الجدب التوبة ، والخروج من المظالم ، ولا يخرج للاستسقاء كافر ؛ لأنه قد روي عن مجاهد وعكرمة ، في تفسير قوله تعالى : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أنها دواب الأرض وهوامها تلعن العاصي ، وتقول : منعنا القطر بمعاصي ابن آدم.

__________________

(١) ومن الناس من يستدل بالآية على وجوب قبول خبر الواحد ؛ لأن وجوب الإظهار دل على وجوب العمل بالذي أظهر ، ولا سيما وقد قال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) فحكم بوقوع البيان بخبرهم ، واستدل بالآية أيضا على عدم جواز أخذ الأجرة على التعليم ؛ لأنها أجرة على أداء الواجب. (نيسابوري) (ح / ص).

٢٦١

ويخرج من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمشائخ ، والصبيان ؛ لأن من قل ذنبه رجي إجابة دعوته ، وروي في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إذا بلغ الرجل ثمانين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) وروي أن موسى عليه‌السلام خرج يستسقي فأوحى الله تعالى إليه : أن قل لبني إسرائيل :

من كان له ذنب فليرجع ، فنادى فيهم موسى بذلك ، فرجع الناس كلهم ، حتى لم يبق إلا رجل أعور ، فقال له موسى عليه‌السلام : أما سمعت النداء ، فقال : بلى ، فقال : أما لك ذنب؟ فقال : لا ، نظرت بهذه العين مرة إلى امرأة فقلعتها ، فدعا موسى عليه‌السلام ، وأمن الأعور على دعائه فسقوا» روى هذا في الانتصار.

وقيل : (اللَّاعِنُونَ) : هم من يتأتى منه اللعن ، وقيل : هم من آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : الملائكة ، والمؤمنون ، وقيل : كل شيء غير الجن ، والأنس ، عن ابن عباس ، وعن ابن مسعود : «إذا تلاعن المتلاعنان ، وقعت اللعنة على المستحق ، فإن لم يكن مستحق رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله».

وعن ابن عباس : «أن لهم لعنتين ، لعنة الله ، ولعنة الخلائق ، قال : وذلك إذا وضع في قبره فسئل ما دينك؟ ومن ربك؟ فيقول : ما أدري ، فيضرب ضربة فيصيح صيحة يسمعها كل شيئ إلا الثقلين ، ولا يسمع شيئ صوته إلا لعنه ، وتقول له الملائكة : لا دريت (١) ، كذلك كنت في الدنيا».

قال الحاكم : وهكذا ما روي عن مجاهد يحمل على أن ذلك في الآخرة ، فتكمل عقولهم حتى يلعنوهم ، قال القاضي : أو أن الله تعالى يلهمهم اللعنة.

الحكم الثالث : أن التوبة يشترط فيها لصحتها فعل الواجبات في

__________________

(١) في النيسابوري (لا تليت ولا دريت) (ح / ص).

٢٦٢

المستقبل ، وترك المعاصي ؛ لأنه قد فسر قوله : (وَأَصْلَحُوا) بذلك ، وقيل : أصلحوا من كانوا أفسدوه ممن لا علم له (وَبَيَّنُوا) يعني : أظهروا صفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : بينوا التوبة ، وإصلاح السريرة ، ليمحوا سمة الكفر عنهم.

وهذا حكم رابع : أن إظهار التوبة واجبة ؛ لزوال التهمة ، فتجب إلى من عرف معصيته ، ولو كانت التوبة من قول فاحش في الغير تاب إليه إن بلغه ، فإن لم يبلغ تاب إلى من سمعه ، ليزيل التهمة عن نفسه ، وعن المشتوم ، ولا يخبر المغتاب ، فيكون جرحا لصدره ، خلافا لما ذكره في الأذكار (١) ، وفيه نظر.

وفي صحة التوبة من ذنب مع إصراره على ذنب آخر خلاف ، فالذي ذهب إليه واصل بن عطاء ، والحسن البصري ، وجعفر بن مبشر ، وجعفر بن حرب (٢) ، وأبو هاشم ، وهو الذي روي عن علي عليه‌السلام ، والقاسم بن إبراهيم (٣) أن ذلك لا يصح ؛ لأنه يلزم التوبة من القبيح لقبحه ، وهو يشبه الإعتذار ، وقد ثبت أن من قتل ولدين لغيره ، أحدهما أكثر برا بأبيه فاعتذر من قتل الأبر لم يكن اعتذارا صحيحا ، وكذا لو قال قائل : لا آكل هذا الطعام ؛ لأنه مسموم ، ثم علمنا أنه أكل طعاما آخر مسموما كان كاذبا.

__________________

(١) لأصحاب الشافعي. (ح / ص).

(٢) جعفر بن حرب الهمداني المعتزلي ، من معتزلة بغداد ، قال المتوكل على الله : هو من شيعة المعتزلة المفضلين لعلي عليه‌السلام ، قال السيد أبو طالب في الإفادة لما حج جعفر بن حرب دخل على القاسم عليه‌السلام ، فجاراه في دقيق الكلام ولطيفه ، فلما خرج من عنده قال : أين يتاه بأصحابنا عن هذا الرجل ، والله ما رأيت مثله ، قال الإمام المهدي عليه‌السلام : وله في كتب الكلام كتب كثيرة مثل كتاب الإيضاح ، ونصيحة العامة وغيرهما ، وفاة جعفر رحمه‌الله سنة ٢٣٧ ه‍.

(٣) وجعفر الصادق ، ووالده محمد بن علي الباقر حكاه الإمام المهدي عليه‌السلام واختاره.

٢٦٣

وقال المؤيد بالله ، وأبو القاسم : تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره ، ولو من جنسه.

وقال أبو علي : تصح مع الإصرار على ذنب من غير جنسه.

واحتجوا : بأن من تاب من اليهودية مع الإصرار على مظلمة دانق ، فإن أحكام اليهودية زائلة عنه بالإجماع.

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [البقرة ١٦١]

دلت الآية على أن من مات مصرا على كفره جاز لعنه ، لكن إن علمنا عدم توبته بدليل سمعي كأبي جهل ، وأبي لهب ، وفرعون ، وهامان ، فلا إشكال في ذلك ، وكذا لعن كافر مات مصرا من غير تعيين.

وأما الكافر ، أو الفاسق المعين ، فظاهر الأحاديث جواز لعنه (١) ، روى جابر رضي الله عنهأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رأى حمارا قد وسم في وجهه ، فقال : لعن الله الذي وسمه».

وعن الغزالي : تحريم ذلك ، لأن اللعن هو الإبعاد من رحمة الله تعالى ، وما ندري بما يختم لهذا الفاسق أو الكافر ، قال : ومن لعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو معين ، يجوز أن يعلم أنه يموت على كفره ، وقد يتمسك بهذه الآية لجواز اللعن ، ويجاب بأنها واردة في كفار ماتوا على كفرهم ، ويجاب : بأنه ليس فيها نفي لغير ذلك.

__________________

(١) وسيأتي إعادة هذا الكلام في مواضع منها : في آل عمران في قوله : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) الآية ، وفي النساء في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً).

٢٦٤

وقد قال الحاكم : يجوز لعنه عندنا في الحال ، وعند أهل الموافاة (١) لا يجوز ، قال بعض العلماء : من لعن من يستحق اللعن ، فليبادر ، ويقول : إلا أن يكون لا يستحق.

قوله تعالى

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة ١٦٤]

أخذ من هذا حكمان :

الأول : جواز المحاجة في الدين خلافا لقول الحشوية (٢).

الثاني : أن البحر كالبر سواء في وجوب الحج على من أمكنه السفر في البحر ، وهذا قولنا ، وأبي حنيفة.

وبعض أقاويل الشافعي : لا تجب في البحر ، وفي قول : يجب في البحر ، وفي قول : يجب على من يعتاده.

وبيان ما قلنا : أن الله تعالى جعل ذلك منّة لمنافع العباد ، فهو سبحانه منعم بذلك.

وقد احتج المرتضى عليه‌السلام بقوله تعالى في سورة يونس : (هُوَ الَّذِي

__________________

(١) وهم جماعة من البغداديين ، كهشام الفوطي ، وبشر بن المعتمر (شرح مقدمة) (ح / ص).

(٢) الحشوية : فرقة من الظاهرية ، قيل : بفتح الشين نسبة إلى حشا الحلقة ؛ لأنهم كانوا يحضرون حلقة الحسن فوجد كلامهم رديئا ، فقال ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة. وقيل : بسكون الشين ، نسبة إلى الحش ، وهو أنهم يقبلون ما روي من غير بحث. (تراجم شرح الأزهار).

٢٦٥

يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [يونس : ٢٢] فامتن الله تعالى بذلك ، وحجة قياسية : أنه مباح إذا لم تظهر أمارات العطب ، فأشبه البر ، وقد هاجر كثير من الصحابة إلى الحبشة ، وركبوا البحر ، ومن منع يقول : عليه في ذلك مضرة.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) [البقرة : ١٦٨]

قيل : سبب نزولها : أن قوما من ثقيف ، وبني عامر بن صعصعة ، وخزاعة ، وبني مدلج ، وبني عبد مناف ، حرموا على أنفسهم من الزروع والأنعام ، فنزلت الآية.

وقيل : وفيما حرم الجاهلية من البحيرة والسائبة ، والوصيلة.

وقد دلت الآية على أحكام :

الأول : أن الحلال لا يحرم بالتحريم ، ويكون المحرم له مسيئا ، وهل تجب فيه الكفارة أم لا؟ في ذلك خلاف بين العلماء ، وترتيب أهل المذهب يقضي أن لا كفارة ؛ لأنه تعالى نهى عن تحريم الحلال (١) ، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه (٢) ، كما ذكروا في الحلف بغير الله تعالى ، وسيأتي زيادة على هذا إن شاء الله تعالى (٣).

والثاني : أن الأصل في المأكولات الإباحة ، إلا ما قام الدليل على حظره. قال الحاكم ، والآية مؤكدة لما في العقل ؛ لأن الأصل فيه

__________________

(١) هذا هو الترتيب. (ح / ص).

(٢) يقال : ليس مطردا. وكأنهم يقولون : لا تنعقد اليمين ، والمختار للمذهب خلافه. (ح / ص).

(٣) قريبا في تفسير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ).

٢٦٦

الإباحة ، وهذا جلي في غير الحيوان (١) ، فأما الحيوانات فإتلافها محظور عقلا ، إلا ما دل عليه.

دلالة شرعية ، وعموم الآية يقضي بإباحة الطيب منها ، كما قاله الأمير الحسين ، وهو مروي عن مالك ، وبعض أصحاب الشافعي ، قيل : هو اختيار المؤيد بالله ، والذي خرج المؤيد بالله لمذهب يحي عليه‌السلام : أن الأصل الحظر ، قال الأمير الحسين : فيلزم من ذلك تحريم الشظاة ، وجوز ذلك المنصور بالله ، والإمام يحي عليه‌السلام ، والفقيه سليمان بن ناصر (٢).

قال في الشفاء في دليل الإباحة : إن الله تعالى أوحى إلى نوح عليه‌السلام : «جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك؟ وشرائع من تقدمنا ثابتة (٣) ما لم تنسخ وقد تقدم».

قوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) هذا أمر يراد به الإباحة.

وقوله : (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) جاء بمن التي للتبعيض ؛ لأن في الأرض الحلال والحرام

وقوله : (حَلالاً) حال من قوله : (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) أو مفعول (كُلُوا).

وقوله : (طَيِّباً) قيل : أراد به الحلال ، وقيل : الذي لا شبهة فيه ، وقيل : الشهي إلى النفوس ، وقواه الحاكم ؛ لئلا يكون تكرارا إذا فسر بالحلال.

__________________

(١) يقال : لا يدل عليه هذا ، لأنه قد أتى بمن التبعيضية ـ والله أعلم ـ اللهم إلا أن تكون للتبيين ، لكن يشكل قوله في آخر الكلام : (جاء بمن التبعيضية) (ح / ص).

(٢) سليمان بن ناصر هو : سليمان بن ناصر السحامي الزيدي ، العلامة المتكلم ، كان مطرفيا ، ثم قرأ على أبي جعفر فرجع ، عاصر آخر مدة المتوكل على الله والمنصور بالله ، وكان في نواحي مذحج ، وله مؤلفات منها : شمس الشريعة ستة مجلدة ، والروضة في الفقه ، وكتاب النظام. (تراجم شرح الأزهار).

(٣) في نسخة (تلزمنا).

٢٦٧

الحكم الثالث : أن النذر لا يصح بالمعاصي ، لأنه قد فسر قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بذلك.

وقيل : أراد آثاره ، أو أعماله ، أو خطاياه ، ولا إشكال أن النذر بالمعصية لا يلزم ، بل يكون الناذر آثما ، لكن هل تجب عليه الكفارة أم لا؟ مذهب الهدوية وأبي حنيفة تلزم للحديث (لا نذر في معصية الله تعالى ، وكفارته كفارة يمين).

وعن الناصر ، والصادق ، والباقر ، ومالك ، والشافعي : لا كفارة ، ويقولون : [هذا الحديث] (١) مرسل ، ويحتجون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ، ولا كفارة عليه) ومذهبنا قبول المراسيل ، والعمل لها خلافا للشافعي (٢).

قوله تعالى

(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة ١٦٩]

استدل بذلك نفاة القياس ؛ لأنه لا يعلم دخول المقيس في المقيس عليه ، قال الحاكم : وهو مردود ؛ لأنا علمنا صحته ، وهو يستدل على صحته بقوله تعالى في سورة الحشر : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢].

قوله تعالى

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [البقرة : ١٧٠]

دل على صحة الحجاج في الدين.

__________________

(١) ما بين القوسين مضروب عليه في النسخة أ.

(٢) ليس على الإطلاق ، ولأنه قبل مراسيل ابن المسيب. (ح / ص).

٢٦٨

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة : ١٧٢]

دلت هذه الآية على أحكام :

الأول : أن الأصل في المأكولات الإباحة ، إلا ما قام عليه دليل الحظر ، وقد اختلف الأصوليين في الأشياء المنتفع بها ، قبل ورود الشرع بم يحكم العقل فيها في غير الأشياء الضرورية ، فأما هي : فالحكم الإباحة ، كالتنفس في الهواء ، لئلا يلزم تكليف ما لا يطاق ، وأما غير الضرورية فقال في المحصول (١) : ذهبت البصرية من المعتزلة ، وبعض الشافعية ، والحنفية إلى إباحة المنتفع به كأكل الفاكهة ونحوه. قال أبو الحسين : لأن ذلك منفعة خالية عن أمارة المفسدة ، لا مضرة فيه على المالك ، فوجب القطع بحسنه ، لأنه يحسن منا الاستظلال بحائط غيرنا ، والنظر في مرآته ، والتقاط ما تناثر من حب غلاته بغير أذنه إذا خلا عن أمارات المفسدة. قالوا : ولأن الله تعالى خلق الطعوم في الأجسام مع إمكان أن لا يخلقها ، ولا بد أن يكون ذلك لحكمة وغرض ، والغرض لا بد أن يرجع إلى الغير ، ولا يكون إلا نفعا واستدل الأستاذ من أصحاب الشافعي أنه إذا ملك جواد بحرا لا ينزف (٢) ، وأحب مملوكه تناول قطرة ، فإنه لا يدرك تحريمه فكذلك الله تعالى الجواد لذاته (٣) المالك للأشياء.

وقالت البغدادية من المعتزلة ، وطائفة من الامامية ، وابن أبي هريرة :

__________________

(١) للرازي.

(٢) بكسر الزاي ، من باب ضرب يضرب (شمس العلوم ، والمصباح). (ح / ص).

(٣) عندهم أنه جواد لذاته ، فأما عندنا فهي صفة فعل ، والجواد : فاعل الجود (ح / ص).

٢٦٩

إنها على الحظر ، لأنه تصرف في ملك الغير ، ويجوز أنه تعالى خلق ذلك ليصبر المكلف عن تناوله فيثاب.

واختلف المفسرون في هذا الأمر فقيل : المراد به الإباحة ، وإن كان صيغته الأمر ؛ لأن المشتهى لا يدخل في التعبد (١) ، ذكر ذلك القاضي ، وقيل : هو أمر

إيجاب بأكل الحلال وقت الحاجة دفعا للضرر عن النفس ، واعترضه القاضي بأن الآية مطلقة ، وهذا مفيد بحالة الإضطرار ، والطيب : هو المستلذ المشتهى ، وقيل : هو الحلال ، وردّ بأن الرزق لا يكون إلا حلالا (٢) ، فإذا حمل الطيب على الحلال كان ذلك تكرارا.

الحكم الثاني : وجوب شكر الله تعالى.

قال الحاكم : وذلك يكون بالقلب ، واللسان ، فأما أفعال الجواح كالعبادات ، فقال أبو مسلم : إنه من الشكر ، وقيل : هو مشبه بالشكر من حيث إنه يجب لمكان النعم العظيمة ، فأما بالقلب ، وهو الاعتراف ، وترك الجحود له ، فذلك واجب على كل حال ، وأما باللسان فيجب ذلك عند التهمة.

وقد اختلف الأصوليون : هل شكر المنعم يجب عقلا أم لا؟ فذهبت المعتزلة إلى وجوب ذلك ، وذهبت الأشاعرة إلى أنه لا يجب ، قال الحاكم : والشكر واجب على الكافر والفاسق (٣).

__________________

(١) يقال : بل قد يدخل المشتهى في التعبد ، كما قالوا في النكاح ، فإنه مشتهى ، وقد دخلته الأحكام ، كما لا يخفى فليتأمل. (ح / ص).

(٢) خلافا للمجبرة ، فعندهم كلما ينتفع به ، ولو حراما يسمى رزقا إذ هو مسماه في اللغة ، قلنا : هو ما ينتفع به ولا تبعة عليه فيه. (ح / ص).

(٣) إذ هو عقلي.

٢٧٠

وأما الشرط في الآية ، وهو قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فإنما ذكره لصحة الشكر ، فهو شرط للأداء ، كالطهارة في الصلاة ، وقيل : قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي : إن كنتم مخلصين له العبادة (١).

الحكم الثالث : ذكره الحاكم : أن ذلك يدل على تحريم الخبيث ، كأنه تعالى قال : كلوا من الطيب دون الخبيث ، فيحرم ما يستخبثه العرب ، وقد صرح بذلك في قوله تعالى في سورة الأعراف : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧] فعلى هذا يحرم الطعام إذا وقع فيه ما لا دم له فأنتن ، وتحرم الخنافس والجعلان ، ونحو ذلك مما يستخبث ، وسيأتي زيادة على هذا إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٧٣]

هذه الآية الكريمة قد صرحت بتحريم ما ذكر ، وثم محرمات غيرها ، فما فائدة الحصر؟ لأن لفظة : «إنما» واردة للحصر ، وجواب هذا : أنها واردة هنا للتأكيد ؛ لأنها قد ترد للتأكيد والمبالغة ، كقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢] والإجماع أن من لم يكن كذلك ، لا يخرج من الإيمان ، وقد حكى أبو علي الفارسي عن النحاة : أنها للحصر ، وصوبهم ، واحتج بقول الأعشى.

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنما العزة للكاثر

__________________

(١) وفي الكشاف (إن صحّ أنكم تخصونه بالعبادة. وتقرّون أنه مولى النعم. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «يقول الله تعالى : إني والجنّ والإنس في نبأ عظيم ، أخلق ، ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري».

٢٧١

وبقول الفرزدق :

أنا الذائد الحامي الذمار وإنما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

ولو لم تحمل على الحصر لم يحصل مقصود الشاعر ؛ ولأن كلمة «إن» تقتضي إثبات المذكور ، وكلمة «ما» تقتضي نفي غير المذكور ، وهذا هو الحصر ، وخالف بعض أصحاب أبي حنيفة ، واحتج بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) وأجيب بأنها محمولة على المبالغة (١).

وهذه الآية يتعلق بها أحكام :

الأول : يتعلق بتحريم الميتة ، وقد قال علماؤنا رضي الله عنهم (٢) : إن هذه الآية تقضي بتحريم أكل الميتة ، وبنجاستها ، وبتحريم الانتفاع بها.

وبيان الاستدلال : أن قالوا : التحريم يقتضي جميع أفعالنا المتعلقة بالميتة.

وما حرم استعماله على كل وجه وجب تنجيسه ، فجعلوا الآية عامة في الانتفاع.

واعلم أن في هذه نكتة أصولية توضح كيفية إدراك المراد في التحريم المتعلق بالأعيان ، نحو قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] وقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] وما أشبه ذلك ، وقد قال الشيخ أبو عبد الله البصري ، والشيخ أبو الحسن الكرخي : إن مثل هذا مجمل لا يصح التعلق به ؛ لأن التحريم لا يصح أن يتعلق بالعين ؛

__________________

(١) وفي النيسابوري (فكلمة إنما متروكة العمل بظاهرها ـ والله أعلم ـ النهي بعد أن قال : إن في الشرع أشياء أخر محرمات ، وقد يقال : هذا قصر قلب ، لقلب ما عند المخاطب ؛ لأنه رد عليهم فيما اعتقدوه من تحريم السائبة ونحوها ، فلا حصر حينئذ. والله أعلم. (ح / ص).

(٢) في أ (رحمهم‌الله تعالى).

٢٧٢

لأنها فعل الله ، فلم يبق إلا أن يتعلق بأفعالنا المتناولة لها ، والفعل مختلف ، وهو غير مذكور ، ولا فعل أولى من فعل.

والذي ذهب إليه الجلة من الأصوليين ، كأبي علي ، وولده أبي هاشم ، والقاضي واختاره الإمام الناطق بالحق والمنصور بالله ، والغزالي ، وابن الحاجب ، أنه لا إجمال في ذلك ؛ لأن الوضع العرفي يقطع منه على أن المراد عند الاطلاق الفعل المقصود من العين السابق إلى الأفهام عند الإطلاق ، والسابق في الاستعمال العرفي من قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) أن المراد أكلها ، ومن قوله : وقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) أن المراد الاستمتاع.

وقال بعضهم : إن هذا مقدر بحذف مضاف كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وهو يرجع إلى قول الجمهور ، فإذا ثبت هذا استدرك على الاستدلال.

بهذه الآية على نجاسة الميتة.

وقيل : السابق إلى الأفهام الفعل المقصود ، وهو الأكل ، فمن أين حصلت الدلالة من هذه الآية على نجاسة الميتة ، فيلزم الانتقال في نجاسة الميتة إلى دليل آخر ، إما إلى إجماع ؛ لأنه حاصل في نجاسة ميتة ما له دم سائل غير المسلم والسمك ، وإما إلى خبر الفأرة تموت في السمن (١) ، وإما إلى قياس على الدم كما ذكره الشيخ أبو إسحاق الفيروزآبادي (٢) ، لأنه قاسها في التنجيس على الدم بعلة أنها محرمة الأكل لغير ضرورة.

__________________

(١) وقد أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد ، باب الفأرة تقع في السمن ، ولفظه (عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن فارة وقعت في سمن فماتت ، فقال : إن كان جامدا فخذوها وما حولها ، ثم كلوا ما بقي ، وإن كان مائعا فلا تأكلوه). ح / س.

(٢) هو الشيخ أو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزأبادي ، الشيرازي ، الإمام الزاهد ، صاحب المهذب في فقه مذهب الإمام الشافعي. ح / س.

٢٧٣

ولهذا الحكم أطراف.

وهي تحريم أكل الميتة ، وذلك ظاهر ، وقد تقدم كيفية إدراكه.

ومنها : نجاسة الميتة ، وقد ذكر ما يرد عليه.

وفي هذا تنبيهات يظهر بها فوائد وأحكام.

الأول (١) : أن يقال : ما لا دم له سائل كالخنفساء ، والذباب ميتة فيلزم له ما لزم لجنسه من حكم التنجيس ؛ لأن الأحكام المتعلقة بالجنس لازمة لأنواعه فما المخرج لذلك قلنا : أحد قولي الشافعي التزام نجاسته.

لكن قال أبو بكر الرازي : قد خالف الشافعي الإجماع في تنجيس الماء به.

وأما جلة العلماء فقالوا : بطهارة ما لا نفس له سائلة (٢) ، ولهم توجيهان :

الأول : أن العموم في تحريم أكل الميتة ، وذلك باق ، وأما التنجيس فلم تقض الآية بذلك كما سبق.

التوجيه الثاني : التخصيص لعموم التنجيس بأخبار عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كخبر

__________________

(١) يقال : الاستدلال على القول الأول ، وهو الحمل على جميع ما يحتمله من الأفعال إلا ما يمنع منه الدليل ، إذ لا مخصص لمقدر دون مقدر ، قال في شرح الفصول للسيد الإمام صلاح بن أحمد المؤيدي عليه‌السلام : ويمكن نصرة هذا القول بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لعن الله اليهود وحرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها ، فدل هذا أن تحريم الشحوم أفاد تحرم كل أنواع التصرف ، وإلا لم يتوجه الذم عليهم في البيع).

(٢) أي : الذي لا دم له.

٢٧٤

سلمان عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل طعام وشراب مات فيه ما ليس له نفس سائلة ، فهو حلال أكله وشربه ، والوضوء به» (١).

وحديث علي عليه‌السلام : «أنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجفنة قد أدمت فوجد فيها خنفساء أو ذبابا فأمر به فطرح» ثم قال : «سموا وكلوا ، فإن هذه لا تحرم شيئا (٢) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه (٣) ، ثم انقلوه فإن في أحد جناحيه داء ، وفي الآخر دواء ، وأنه يقدم الداء على الدواء) (٤) فإذا مقل فقد يموت في الأغلب ، وقد لا يموت ، ولم يفرق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الحي والميت.

تنبيه ثان

يقال : ميتة السمك ينطلق عليها اسم الميتة فما المخرج له من حكم جنسه في التنجيس ، والأكل؟ قلنا : في ذلك وجهان :

الأول : أنه مخصص بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أحل لكم ميتتان ودمان» (٥) الخبر.

__________________

(١) ذكر ابن بهران في تخريج البحر الزهار ، فذكر أنه رواية عن سلمان رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إن كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فهو الحلال أكله وشربه ، والوضوء به) ثم قال : هكذا في أصول الأحكام ، ومثله في الشفاء ، وعزاه في التلخيص إلى الدارقطني ، والبيهقي (خ البحر)

(٢) قال ابن بهران : هكذا في أصول الأحكام ، ونحوه في الشفاء.

(٣) فامقلوه : أي : اغسلوه ، في مختار الصحاح : مقله في الماء غسله ، ثم ذكر الحديث.

(٤) أخرجه البخاري في كتاب الطب ، وأخرجه أبو داود ٣ / ٣٦٥ رقم ٣٨٤٤ ، وأخرجه ابن ماجه ٢ / ١١٥٦ ، رقم ٣٥٠٥ ، بهذا المعنى.

(٥) أخرجه ابن ماجه ٢ / ١٠٧٣ رقم ٣٢١٨ ، والدمان : الكبد ، والطحال.

وتمامه في النيسابوري (أما الميتتان فالجراد والنون ، وأما الدمان فالكبد والطحال). (ح / ص).

٢٧٥

الوجه الثاني : ذكره الإمام جار الله رضي الله عنه : وهو أن اسم الميتة في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) يراد به ما يتفاهمه الناس ، ويتعارفونه في العادة ، والفهم لا يسبق إلى السمك والجراد ، كما أن الدم إذا أطلق لم يسبق الفهم إلى دخول الكبد والطحال ، وكما ذكروا أن من حلف لا آكل لحما ، فإنه لا يحنث بلحم السمك مع قوله تعالى : (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) [النحل : ١٤] وكمن حلف لا أركب دابة لم يحنث بركوب كافر (١) ، مع قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٥٥].

تنبيه ثالث

يقال : ميتة الحيوان الذي لا يعيش إلا في الماء ، وهو غير مأكول ، ما حكمه في التنجيس؟ قلنا : ظاهر مذهب الهادي عليه‌السلام وغيره أنه نجس ، لدخوله في اسم الميتة ، فلزمه حكمها ، وقال الناصر ، وأبو حنيفة : إنه طاهر ؛ لأنه مخصوص بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البحر : (هو الطهور ماؤه والحل ميتته) (٢) ولم يفصل فخرج الأكل بدليل ، وبقيت الطهارة ، قالوا : ولا يلزم طير الماء ؛ لأنه يعيش في غير الماء ، وإن كان يعيش في الماء.

تنبيه رابع

وهو أن يقال : جلد الميتة جزء من الميتة ، ولو دبغ ، فمن أين نشأ الخلاف في المدبوغ؟ قلنا : أما من قضى بنجاسته ، وذلك مذهب عامة

__________________

(١) وقد اعترض على هذا الوجه في النيسابوري ، وضعفه.

(٢) أخرجه الترمذي ١ / ٤٧ رقم ٦٩ وقال : حسن صحيح ، وأبو داود ١ / ٢١ رقم ٨٣ ، وابن ماجه ١ / ١٣٦ ، ومالك في الموطأ ١ / ٢٢ ، وأحمد.

٢٧٦

أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو رواية عن عائشة ، وابن عمر (١) ، وأحمد بن حنبل ، فقد أجرى له حكم الميتة ، وأيد ذلك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا ينتفع من الميتة بجلد ولا عصب) (٢).

وأما من حكم بطهارته ، وذلك مذهب عامة الفقهاء ، قال في الشفاء : وهذا مروي عن الحسين بن علي (٣) ، وزيد بن علي ، وأحمد بن عيسى ، وهو أيضا مروي عن علي عليه‌السلام ، وابن مسعود ، فقد تمسكوا بوجهين.

الأول : قوله تعالى في سورة النحل : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) [النحل : ٨٠] فعم المذكى من الأنعام وغيره ، وأجيب بأن «من» للتبعيض فلا عموم

الوجه الثاني : أن بناء العام على الخاص واجب ، وقد خص ما دبغ

__________________

(١) أبن عمر : هو عبد الله بن عمر بن الخطاب ، القرشي ، العدوي ، أبو عبد الرحمن ، أسم بمكة مع إسلام أبيه ، وهاجر وهو ابن عشر ، وشهد الخندق ، وما بعدها ، وكان زاهدا ، عابدا ، قال جابر : ما منا أحد إلا مالت به الدنيا ، ومال بها إلا عبد الله بن عمر ، قال مولاه نافع : ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان ، أو زاد ، وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكثير ، وهو من أهل الألوف ، واعتزل الحروب ، ولم يحارب مع علي عليه‌السلام ، قال المنصور بالله : ثم ندم على ذلك ، وروي أنه قال : ما أندم على شيء مثل ندمي على قتال الفئة الباغية ، وكان يفضل عليا ، وينشر فضله ، مات بمكة زمن عبد الملك سنة ٧٣ ه‍ وهو ابن ٨٤ ه‍ وأوصى أن يدفن ليلا ، لئلا يحضره الحجاج.

(٢) أخرجه أبو داود ٤ / ٦٧ رقم ٤١٢٧ ، وابن ماجه ٢ / ١١٩٤ رقم ٣٦١٣ ، وأحمد في الفتح الرباني ١ / ٢٣٦ رقم ٦٢ بطرق متعددة. ح / س.

(٣) في ب (عن علي بن الحسين بن علي) وما أثبتناه ما في النسخة أ.

والحسين بن علي هو : الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، أبو عبد الله ، سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وريحانته ، والإمام قام أو قعد ، حفظ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخبر المصطفى بأنه سيقتل شهيدا ، واستشهد عليه‌السلام يوم عاشوراء سنة ٦١ ه‍ وله ست وخمسون سنة بكربلاء ، قتله شمر بن ذي الجوشن ، وأنس النخعي ، وأمير الجيش عمر بن سعد ، صب الله غضبه عليهم أجمعين.

٢٧٧

من جلد الميتة ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أيما إهاب دبغ فقد طهر) (١) ورجح هذا الأمير الحسين عليه‌السلام.

ومن نجّسه تأول الحديث بأن المراد طهارة جلد المذكاة من العفونات (٢) ؛ لأنه معارض بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ينتفع من الميتة بشيء» (٣).

تنبيه خامس

في جلد ما ذكي من غير المأكول ، هل يطهر بالتذكية لعموم قوله تعالى في سورة المائدة : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) [المائدة : ٣] أو لا يطهر لدخوله في اسم الميتة؟

قلنا : ذهب مالك وأبو حنيفة ، واختاره الإمام يحي عليه‌السلام ، وقال : إنه تخريج صاحب الوافي (٤) ، إنه يطهر لعموم الآية ، و «ما» من أدوات العموم ، قال أبو حنيفة : هذا في غير الآدمي والخنزير.

__________________

(١) أخرج نحوه مسلم في كتاب الطهارة ، باب طهارة جلود الميتة ، وأبو داود ٤ / ٦٦ رقم ٤١٢٣ ، بلفظ (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) وابن ماجه ٢ / ١١٩٣ وأحمد في الفتح الرباني ١ / ٢٣٠ رقم ٤٩. ح / س.

(٢) يعني الطهارة اللغوية ، وهي النظافة.

(٣) يقال : هو من العموم المخصوص ، أو من المطلق المقيد.

(٤) الوافي : كتاب في الفقه للشيخ علي بن بلال ، مولى السيدين. (رجال شرح الأزهار).

وعلي بن بلال هو : علي بن بلال الآملي الزيدي ، مولى السيدين الأخوين المؤيد بالله ، وأبي طالب ، كان هذا الشيخ من المتبحرين المبرزين في فنون عديدة ، حافظا للسنة ، مجتهدا ، محصلا للمذهب ، وملئت كتب الأصحاب بذكره ، وهو الذي يعرف بصاحب الوافي ، وله مصنفات نفيسة منها : الوافي في الفقه ، وقد أكثر الرواية منه في شرح الأزهار ، ومنها شرح الأحكام ، من أجل الكتب ، مسند الأحاديث ، وفيه ما يكشف عن معرفته ، وحفظه للأسانيد ، واطلاعه على علم الحديث ، وقد نقل ـ

٢٧٨

وذهب عامة أهل البيت عليهم‌السلام ، والشافعي : أنه لا يطهر (١) ، وقالوا في قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) : إن التذكية الشرعية تحمل على ما يعهد تذكيته ، وأيضا فإن الآية واردة عقيب ذكر المنهي عنه من الأنعام كالمنخنقة ، والموقوذة ، قالوا : ولأن الذكاة غير مبيحة لأكل لحمه ، ولا موجبة لتطهير لحمه إجماعا ، فدل ذلك أن الاستثناء للذكاة الموجبة لحل لحمه.

التنبيه السادس

إذا مات المسلم ، هل يكون طاهرا؟ ويخص من الحكم الثابت لجنسه ، وهو نجاسة الميتة أم لا؟.

قلنا : في ذلك مذهبان ، فعامة أهل البيت عليهم‌السلام ، وأبو حنيفة ، وأحد قولي الشافعي : إنه نجس كغيره من الأموات ، لأنه داخل في عموم الآية

ولحديث الحبشي الذي وقع في زمزم ، فأمر ابن عباس ، وابن الزبير بنزحها.

وقال الشافعي في أحد قوليه ، والمنصور بالله إن الآية مخصوصة بقوله تعالى في سورة الإسراء : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء : ٧٠] ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (المؤمن لا ينجس حيا أو ميتا) وبالقياس على الشهيد ، وأجيبوا بأن الآية لم يحصل فيها شرط المخصص ؛ لأن قوله تعالى :

__________________

ـ منه سيدي الحسين بن يوسف زبارة في تتمة الاعتصام ، بأسانيده ، ومن مؤلفاته تتمة المصابيح ، الذي ألفه السيد أبو العباس الحسني من خروج يحي بن زيد إلى أبي عبد الله بن الداعي ، وذكر فيه المتفق على بأمانتهم ، والمختلف فيهم ، ولم يؤرخوا له وفاة ، ولا لابن أصفهان ..

(١) وهو المختار للمذهب. (ح / ص).

٢٧٩

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) لا عموم فيه ، حتى يقال : دخل فيه الطهارة ، مع أن المراد بالتكريم ما تميز به من بين الحيوانات من العقل والنطق والخط ، وحسن الصورة ، والقامة ، وتدبير أمر المعاش ، والمعاد ، وبعثة الرسل ، وغير ذلك. وقيل : بتسخير ما سخر لهم مما في الأرض.

وعن ابن عباس : «بخلق الأصابع يأكلون بها».

وروي أن الرشيد أحضر طعاما ودعا بملاعق ، وعنده أبو يوسف ، فقال له : جاء في تفسير جدك ابن عباس : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) أي : جعل لهم أصابع يأكلون بها ، فأحضرت الملاعق فردها ، وأكل بأصابعه ، وقوله تعالى : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٧٠] قالت المعتزلة : أراد تعالى ما سوى الملائكة.

والأشعرية لما قالوا : بفضل بني آدم على الملائكة تأولوا الآية بأنه أراد بالأكثر الجميع ، فوضع موضع الكل ، كقوله تعالى : (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) [الشعراء : ٢٢٣] وفي ذلك تعسف.

وأما التخصيص بالحديث فقد قيل : هو محتمل للتأويل ؛ لأنه يحتمل أنه أراد نجاسة لا تطهر بالغسل كالكافر ، وهذا يطهر بالغسل على قول (١) ، وأما التخصيص بالقياس على الشهيد ، فقياس من غير جامع ؛ لأن علة طهارة الشهيد أن قتله في المعركة كغسله ، وقد ذكر طهارة الشهيد في شرح القاضي زيد ، وفي الانتصار ، وقد تقدم كلام أهل التفسير في قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) [البقرة : ١٥٤].

تكميل لهذا الفرع وهو أن يقال : إذا غسل الميت المؤمن فهل يطهر بالغسل على قول من يقول بنجاسته أم لا؟ قلنا : مذهب القاسم عليه‌السلام ،

__________________

(١) وهو قول أبي يوسف ، فلا ينجس الماء بوقوعه فيه بعد غسله ، وأبو طالب قال : بعد الغسل يطهر حكما لأجل الصلاة عليه (غيث معنى).

٢٨٠