تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

قال في الثعالبي : وروي أن رجلا أحرم في جبة فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنزعها ، قال قتادة : قلت لعطاء : إنا كنا نسمع : له أن يشقها فقال عطاء : إن الله (لا يُحِبُّ الْفَسادَ).

وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء ، فمذهب الهادي والناصر ، وهو مروي عن محمد بن الحنفية ، والحسن والشعبي ، والنخعي : أنه يشق القميص ، لحديث جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شق قميصه ، وعند أبي حنيفة ، والشافعي أنه ينزعه ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر من أحرم في جبة أن ينزعها.

وقوله تعالى : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) أي : الزرع ، ونسل الحيوانات ، من بني آدم وغيرهم. وقيل : الحرث : الرجال. والنسل : الأولاد.

وقيل : هلاك الحرث والنسل بإظهار الظلم حتى يمنع الله تعالى القطر ، فيهلك الحرث والنسل ، وهذا كما قال مجاهد في قوله تعالى في سورة البقرة : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة : ١٥٩] يعني دواب الأرض تلعن العصاة من بني آدم ، وتقول : منعنا القطر بسببكم.

وفي هذا دليل على أنه يكره خروج العصاة للإستسقاء ، وأنه يتوجّه قبل الاستسقاء الخروج من المظالم.

وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) [البقرة : ٢٠٦] المعنى : حملته الأنفة والحمية على العمل بالإثم.

__________________

ـ وأما صاحب الخلاصة ، والواسطة فهو عمه الشيخ بهاء الدين أحمد بن الحسن.

كان الحفيد من أوعية العلم ، وممن بايع الإمام المهدي أحمد بن الحسين ، ونوّه باسمه ، ثم نكث بيعته ، وإخوته هو ، والحسن بن وهاس ، وأولاد المنصور بالله ، وقتلوه في صفر ، كما تقدم سنة ٦٥٦ ه‍ ، وبقي الشيخ أحمد بعد قتل الإمام إلى رمضان من السنة ، ومات بحوث بلا وصية ، قيل : وتلع [ودلع] لسانه إلى أن بلغت صدره ، وأهل حوث يرون أنه تاب.

٤٦١

وقيل : المعنى أخذته الحمية للإثم الذي في قلبه.

قال الحاكم : وهذه الآية تدل على أن من دعي إلى حق فتكبر على قبوله أن ذلك كبيرة وتجرؤ على الله سبحانه فيقرب من الكفر.

وفي الثعلبي عن عبد الله أن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد : اتق الله فيقول : عليك نفسك. قال الزمخشري : ومنه رد قول الواعظ.

قوله تعالى

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)

[سبب النزول]

قيل : نزلت في صهيب بن سنان ، راوده المشركون على ترك الإسلام ، وقتلوا نفرا كانوا معه ، فقال لهم : أنا شيخ كبير إن كنت معكم لم أنفعكم ، وإن كنت عليكم لم أضركم فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالي ، فقبلوا منه ذلك ، وأتى المدينة.

قال الثعالبي : فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال ، فقال له أبو بكر : ربح بيعك أبا يحي ، قال : ما ذاك؟ فقال : أنزل الله فيك كذا ، وقرأ عليه الآية.

وهو صهيب بن سنان الرومي ، مولى عبد الله بن جدعان التيمي.

وقيل : نزلت في قصة خبيب بن عدي في وقعة الرجيع حين قتل وصلب ، وشرى (١) الزبير والمقداد أنفسهما لإنزاله من الخشبة.

وقيل : نزلت في رجل أمر بمعروف.

وقيل : في المجاهدين.

وقيل : في المهاجرين والأنصار.

__________________

(١) أي : باعا أنفسهما بالإفداء على إنزاله من الخشية.

٤٦٢

وقيل : في علي عليه‌السلام حين نام على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة خرج إلى الغار.

قال في الثعلبي : فأوحى الله عزوجل إلى جبريل وميكائيل عليهما‌السلام : إني آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة ، فاختارا كلاهما الحياة ، فأوحى الله تعالى اليهما أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبات على فراشه يفديه بنفسه ، ويؤثره بالحياة فأهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فنزلا ، فكان جبريل عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبريل ينادي بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب باهى الله بك الملائكة ، وأنزل الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية ، وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي كرم الله وجهه.

وروي أن عمر بعث جيشا فحاصروا حصنا فقام رجل من بجيلة فقاتل حتى قتل ، فقال الناس ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فبلغ ذلك عمر فقال : كذبوا ، أليس الله يقول : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) الآية.

وهذه الآية الكريمة فيها ثناء على من يبيع نفسه في سبيل الله ؛ لأن المعني بالشراء هنا البيع (١).

وقد دلت على الترغيب في بذل النفس للجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وروى الحاكم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).

وعموم الآية وإن لم يكن في تلفه إعزاز للدين كما يحكى عن المؤيد بالله ، والمذكور للهدوية : أنه إنما يجوز في النهي عن المنكر إذا كان في ذلك إعزاز للدين ، كما فعل الحسين بن علي عليه‌السلام وزيد بن علي عليه‌السلام

__________________

(١) وفي نسخة (لأن المعني بالشراء هنا هو البيع)

٤٦٣

وقد ذكره في المحيط ، أعني أنه لا يحسن بذل النفس في النهي عن المنكر ، إلا أن يكون في ذلك إعزاز للدين.

وقيل : يجوز في الجهاد بذل النفس ، وأما في النهي والأمر فيشترط أن يكون في قتله إعزاز للدين.

وأما حسن بذل النفس لمن أكره على النطق بكلمة الكفر فجائز لهذه الآية الكريمة ، وقد عد ذلك ثناء فيما كان من آسية بنت مزاحم (١) امرأة فرعون ، وبما كان من سحرة فرعون واستسلامهم للعذاب ، وأما ترك التسليم والنطق بكلمة الكفر تقية فجائز لحديث عمار (٢) ، ولقوله تعالى في سورة النحل (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦].

قيل : وذكر قاضي القضاة ، ومحمد بن الحسن ، وأبو مضر للمؤيد بالله : أنما أبيح للضرورة كأكل الميتة ، وشرب الخمر ، يجب فعله ولا يسلم نفسه.

ويأتي مثل هذا إذا أكره على الفطر في رمضان فإنه يفطر ، ولا يحسن تحمل ما يناله من القتل ، وقطع أوصاله ، كأكل الميتة خلاف ما ذكره بعض المفرعين أنه يحسن عند المؤيد بالله ، لا عند الهادي ، إلا أن يكون في ذلك إعزاز للدين.

ودل كلام المفسرين في سبب نزولها في علي عليه‌السلام أنه يجوز بذل

__________________

(١) آسية بنت مزاحم بن مصعب ، ابنة عم موسى بن عمران بن مصعب بن قاهث بن لاوى بن يعقوب.

(٢) رواه في الكشاف ٢ / ٤٣٠ قال : (وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها ، فقيل : يا رسول الله إن عمارا قد كفر؟ فقال : كلا ، إن عمارا ملء إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي ، فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح عينينه ، وقال : مالك؟ إن عادوا لك فعد لهم بما قلت. انظر الكافي الشافي حاشية الكشاف.

٤٦٤

النفس لوقاية الغير ، وقد ذكر المؤيد بالله في الزيادات أن رجلين لو خافا الهلاك من العطش ، وكان مع أحدهما ماء ، فإن له أن يؤثر صاحبه وإن هلك ، وكذا يقاتل عن غيره وإن علم أنه يقتل ، ويسلم الذي دافع عنه ، ويحسن ذلك طلبا لثواب الله تعالى ، ولم يشترط أن يكون في ذلك إعزاز للدين.

وهاهنا بحث : وهو أن يقال : كيف التوفيق بين دلالة هذه الآية في جواز بذل النفس ابتغاء لمرضاة الله ، وبين دلالة قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥]؟.

وجوابه : أن قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) عام ، وهذه الآية مخصصة لذلك العموم ، وقد تقدم كلام الحاكم (١).

وقوله تعالى في سورة النساء : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] وقد فسر ذلك بوجوه ، إما أنه أراد بأن (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ؛ لأنه عقب قتل النفس بذلك.

وإما أنه أراد قتل النفس حقيقة لغرض باطل.

وإما أنه أراد قتل الغير ؛ لأنه يؤدي إلى قتل نفسه قصاصا.

وإما أنه أراد قتل الغير من المسلمين ؛ لأن المسلمين كالنفس الواحدة.

وتأول عمرو بن العاص الآية على أن المراد أنه يتيمم لخشية الهلاك من البرد.

لأن في الحديث قال في سنن أبي داود ، عن عمرو بن العاص قال :

__________________

(١) حيث قال : تجوز الهزيمة في الجهاد إذا خاف على النفس. (ح / ص).

٤٦٥

احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل (١) فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحأبي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال ، وقلت : إني سمعت الله يقول : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء : ٢٩] فضحك نبي الله (٢) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يقل شيئا.

وهذا حجة الشافعي أن صلاة المتيمم بالمتوضي جائزة.

ومذهب الهادي والمؤيد بالله ، ومحمد بن الحسن لا يجوز ذلك ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا يؤم المتيمم المتوضىء).

وقالوا في حديث عمرو بن العاص : لعل الذين خلفه كانوا متيممين.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة : ٢٠٨]

قرئ بفتح السين وكسرها ، فالفتح من المسالمة ، ومنه : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال : ٦١] والكسر من الإسلام ، قال الكندي (٣) :

__________________

(١) السلاسل : الماء العذب ، وكان في هذا المكان الذي غزوا إليه ماء عذب سلسل ، وفي السيرة : أو لأنهم ربطوا أنفسهم فيها بالسلاسل. والسلاسل : بالضم ذكره في الصحاح. (ح / ص).

(٢) في ب (فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يقل شيئا).

(٣) الكندي هو : امرئ القيس بن عابس بن المنذر بن السمط بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر ، شاعر ، فارس ، كندي ، صحابي ، وفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجع إلى بلاده ، وثبت على إسلامه فلم يرتد مع من ارتد من كندة ، وخرج إلى الشام مجاهدا ، وشهد اليرموك وغيرها من الوقائع ، ومات في خلافة عثمان ، وقبل البيت :

وخص بها جميع المسلمينا

ألا أبلغ أبا بكر رسولا

بما قال الرسول مكذبينا

فلست مجاورا ابدا قبيلا

٤٦٦

دعوت عشيرتي للسلم لما

رأيتهم تولوا مدبرينا

أي : دعوتهم إلى الإسلام لما ارتدوا ؛ لأن كندة ارتدت مع الأشعث بن قيس بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقيل : هما لغتان في كل واحد من المعنيين ، و (كَافَّةً) : حال من الناس (١) ، أي : جميعكم.

قال الزمخشري : ويجوز أن تكون (كَافَّةً) حالا من (السِّلْمِ) لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب ، قال الشاعر (٢) :

السلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب تكفيك من أنفاسها جرع

والمعنى : أن المؤمنين أمروا بالطاعات كلها.

[سبب النزول]

قيل : نزلت الآية في عبد الله بن سلام ، وذلك أنه استأذن رسول الله أن يقيم على السبت ، ويقرأ التوراة في صلاته بالليل.

وقيل : في قوم من اليهود طلبوا ذلك ، وقيل : ذلك في جميع المؤمنين.

الثمرة :

ذكر سبب هذه الآية يدل على أنه لا يجوز التدين بما نسخ ، وقد قال

__________________

(١) أي : من الضمير في (ادْخُلُوا) العائد على (الَّذِينَ آمَنُوا).

(٢) الشاعر : هو العباس بن مرداس يخاطب خفاف بن ندبة ، ويروي لعمرو بن معديكرب الزبيدي ، والعباس بن مرداس هو : العباس بن مرداس بن أبي عامر السلمي من مصر ، أبو الهيثم ، شاعر ، فارس ، من سادات قومه ، أمه الخنساء الشاعرة المعروفة ، أدرك الجاهلية والإسلام ، وأسلم قبيل فتح مكة ، وكان من المؤلفة قلوبهم ، ويدعى فارس العبيد ، وهو فرسه ، وكان بدويا وقحا ، لم يسكن مكة ولا المدينة ، وإذا حضر الغزو مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يلبث بعده أن يعود إلى منازل قومه ، وكان ممن ذم الخمر وحرمها في الجاهلية ، مات في خلافة عمر. وقبل البيت :

إن تك جلمود بصر لا أويسه

أو قد عليه فأحميه فينصدع

٤٦٧

الإمام يحي بن حمزة : لا يجوز الاستئجار على تعليم السحر ، ولا على تعليم التوراة والانجيل ، والكتب المنسوخة ، وقال : هذه أمور محظورة (١).

قوله تعالى

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [البقرة : ٢١٥].

سبب النزول

قيل : إنه جاء عمرو بن الجموح ، وهو شيخ همّ (٢) ، وله مال عظيم ، فقال : ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت.

والسؤال في الآية عن الشي الذي ينفق ، والجواب : وهو قوله تعالى : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي : من مال ينفع ، قد تضمن معنى السؤال في الآية ، ثم ذكر ما هو أهم وهو بيان المصرف ؛ لأنه لا يعتد بما لم يطابق المصرف ، أنشد في الكشاف (٣).

__________________

(١) وقد تقدم في قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أنه يجوز تعلم السحر ليجتنب ، فلذلك علمه الملكان ولم يكفرا ، ولا يبعد مثل ذلك في الكتب المنسوخة ليعلم ما قد نسخ منها ، وما بقي لتعبدنا به ، فيحقق هذا ، وخاصة في زماننا هذا ليعرف ما عليه اليهود والنصارى ، ومعرفة المكائد والدسائس التي يبثونها بين المسلمين وعليهم.

(٢) والهم بالكسر : الشيخ الكبير البالي وجمعه اهمام. وحكى كراع : شيخ همة بالهاء.

والانثى همة بينة الهمامة والجمع همات وهمائم على غير قياس والمصدر الهمومة. والهمامة. ابن السكيت : والهم : الشيخ البالي قال الشاعر : وما انا بالهم الكبير ولا الطفل. وفي الحديث : انه اتي برجل هم الهم بالكسر : الكبير الفاني. لسان العرب

(٣) لم ينسبه في الكشاف ولا في مشاهد الإنصاف لأحد ، والبيت لحسان بن ثابت ، وهو : حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي ، الأنصاري ، أبو الوليد ، صحابي ، شاعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحد المخضرمين عاش ستين سنة في الجاهلية ، ومثلها في ـ

٤٦٨

إن الصنيعة لا تكون صنيعة

حتى يصاب بها طريق المصنع

ثمرة الآية : عمومها يدل على أن هذه المصارف لكل قربة من واجب أو تطوع.

وقد أجمع المسلمون أن الزكاة تحرم على الآباء ، وإن علوا ، والأولاد وإن سفلوا ، فمن أجل ذلك اختلف في المراد.

فقيل : هذا في صدقة التطوع ، وهذا قول الحسن ، قال الحاكم : هو قول الأكثر ، وقيل : بل هي في الزكاة ، ولكن نسخت ببيان المصارف ، وهذا قول السدي ، وقيل : هي عامة فالتطوع للوالدين ، والواجب لمن عداهما.

قال الحاكم : أراد باليتامى من لا أب له وهو فقير ، يعني مع الصغر.

وأراد بابن السبيل مع انقطاعه عن ماله.

وفي الآية دلالة على أن من أراد التقرب بالصدقة ، فالأحق الأقرب الأقرب ، وهذا جلي في النقل.

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (صدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة صدقتان) فأما الواجب فيما عدا الأصول والفروع ، فإنه ينظر في ذلك ، فإن كانت نفقته ساقطة جاز الدفع إليه ، وكان أحق ، وسواء قدر أن الدافع يرث المنفق عليه لو مات أو لا يرثه ، وهذا يرثه ، وهذا ظاهر عموم الأدلة ، وهو مروي عن أبي طالب ، والمؤيد بالله في الإفادة.

وقد يحكى عن أبي العباس ، وتخريج للمؤيد بالله أنه لا يجوز مع تقدير أنه وارثه ، وهذه الحكاية خفية ، ووجهها ضعيف.

__________________

ـ الإسلام ، وكان من سكان المدينة ، اشتهرت مدائحه في الغساسنة وملوك الحيرة قبل الإسلام ، وعمي قبل وفاته ، لم يشهد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشهدا ، وكان يتهم بالجبن ، توفي بالمدينة سنة ٥٤ ه‍ وبعده :

فاذا صنعت صنيعة فاعمل بها

او لذوي القرابة أو دع.

٤٦٩

وأما إذا كان نفقة المنفق عليه واجبة ، فعند الهادي ، والمؤيد بالله منع ذلك ، والوجه : أنه يصير منتفعا بها فأشبه ما لو قضى بها دينه ، ويكون هذا القياس مخصصا لعموم الآية ، ولعموم الخبر.

وقال أبو حنيفة ، واختاره الإمام يحي بن حمزة عليه‌السلام : يجوز ذلك لعموم الدليل (١) ، فأما الشافعي فذلك ظاهر على مذهبه ؛ لأنه لا يوجب نفقة ما عدا الأصول والفروع.

تفريع

إذا ثبت تحريمها على الفروع ، وللمزكي ولد من الزنا ، فالظاهر من كلام أبي طالب جواز الدفع إليه وفاقا ، لأن أحكام النسب من الإرث والولاية باطلة.

وقيل : يأتي الخلاف الذي في النكاح ، فالمؤيد بالله ، وأبو حنيفة يعتبران تسمية اللغة فتحرم ، وأبو طالب والشافعي يعتبران تسمية الشرع فتجوز.

قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] (٢)

(كُرْهٌ) بمعنى : الكراهة ، ووصفها بالمصدر مبالغة ، كما قيل (٣) :

__________________

(١) وهو قول السيد يحي بن الحسين في الزوجة ، وكذا الإمام إبراهيم بن تاج الدين ، وقواه الفقيه ح ، ذكره في الصعيتري ، وقواه في البحر فيها بغير الزوجة ، ونظر في الشرح علة المنع. وهو المختار للمذهب.

(٢) إلى قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يعني : ذلك. وفيه دليل على أن الأحكام تتبع المصالح الراجحة ، وإن لم تعلم علتها. «بيضاوي».

(٣) البيت للخنساء من قصيدة ترثي أخاها صخرا ، وتمام البيت :

ترتع ما رتعت حتى إذا

أدكرت فإنما هي إقبال وإدبار

ـ

٤٧٠

فإنما هي إقبال وإدبار

وإما (١) أن يكون (كُرْهٌ) بمعنى : مكروه ، كخبز بمعنى مخبوز ، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه مجازا ، كأنهم أكرهوا عليه.

قال الحاكم : «وأراد بذلك معنى (٢) كراهة الطبع لمشقته ، أو أراد قبل أن تكتب عليكم لا بعده». يعني : لأن الحسن لا يجوز كراهته.

وثمرة هذه الآية : وجوب الجهاد ، وهي من أقوى الدلالات عليه ، والظاهر من أقوال العلماء العموم ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الجهاد ماض منذ بعثني الله عزوجل إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال ، لا يبطله عدل ولا جور).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من لم يغز ، أو يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق) واختلفوا : هل هو فرض عين ، أو فرض كفاية؟ وعن عطاء : عنى بذلك الصحابة ، وعنه : (من شاء غزا ، ومن شاء لم يغز).

__________________

ـ والخنساء هي : تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد الرياحية ، السلمية ، من بني سليم بن قيس غيلان ، من مضر ، أشهر شواعر العرب على الإطلاق ، من أهل نجد ، عاشت أكثر عمرها في الجاهلية ، وأدركت الإسلام فأسلمت ، ووفدت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع قومها ، فكان رسول الله يستنشدها ، ويعجبه شعرها ، أجود شعرها ، وأكثره ، رثاؤها لأخويها صخرا ومعاوية ، لها أربعة أولاد شهدوا حرب القادسية ، فجعلت تحرضهم على القتال حتى استشهدوا جميعا ، فقالت : الحمد لله الذي شرفني بشهادتهم ، توفيت سنة ٢٤ ه‍.

(١) من لازم التقسمية تقدم إما ، فكان صواب العبارة أن يقال : كره إما بمعنى الكراهة .. الخ.

(٢) في نسخة أضرّب على (معنى) ولفظ الحاكم في التهذيب : ((وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) أي يشق عليكم وتكرهونه كراهة طباع ، وقيل : مكروه لكم قبل أن يكتب لا بعده ، فهو على الأول مجاز ، وفي الثاني حقيقة ، وقيل : كره يعني شديد).

٤٧١

واستدل بقوله تعالى في سورة النساء : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [النساء : ٩٥].

قوله تعالى

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٢١٧]

هذه الآية الكريمة تتضمن ثلاثة فصول : سبب نزولها ، ومعناها ، والأحكام المتعلقة بها.

أما سبب نزولها : فذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث عبد الله بن جحش (١) على سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ليترصد عيرا لقريش فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي ، وثلاثة معه فقتلوه (٢) وأسروا اثنتين (٣) واستاقوا العير ، وكان ذلك أول يوم من رجب ، وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام ، شهرا يأمن فيه الخائف ، فوقّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العير (٤) ، وعظم ذلك على

__________________

(١) هو ابن عمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رأس سبعة أشهر من مقدمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ، سعد بن أبي وقاص ، وأبا هريرة ، وعكاشة بن محصن الأسدي ، وعتبة بن غزوان السلمي ، وأبا حذيفة بن عيينة بن ربيعة ، وسهل بن بيضاء ، وواقد بن عبد الله ، وخالد بن بكير.

(٢) وهو أول قتيل من المشركين في الإسلام ، رماه ورقة بن عبد الله السهمي.

(٣) وهما الحكم وعثمان ، فكانا أول أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل فأعجزهم.

(٤) أي : لم يقسمها بين الغانمين. (ح / ص).

٤٧٢

أصحاب السرية ، وقالوا : «ما نبرح حتى تنزل توبتنا» ورد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العير والأسارى (١).

وعن ابن عباس لما نزلت أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغنيمة.

الفصل الثاني

(يَسْئَلُونَكَ) قيل : إنه أراد يسألك الكفار سؤال عنت ، وقيل : يسألك المؤمنون ليعلموا كيف الحكم.

وقوله : (قِتالٍ فِيهِ) قيل : المعنى عن الشهر الحرام ، وعن قتال فيه.

وقيل : إن (قِتالٍ) بدل من (الشَّهْرِ) بدل اشتمال ، مثل : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) [البروج : ٤ ـ ٥] فالنار بدل من الأخدود.

__________________

(١) هذا معنى ما ذكره في الكشاف من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رد العير والأسارى ، والإمام محمد بن المطهر والواحدي يرويان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقفها حتى نزلت الآية فخمسها وأخذها.

ويحتمل أن معنى رد العير والأسارى أي : ردها على الغانمين ليقسموها فيما بينهم بعد أن كان منعهم من القسمة. أما الإمام محمد بن المطهر فهو : محمد بن المطهر بن يحي بن المرتضى بن المطهر بن القاسم بن المطهر بن محمد بن علي بن الناصر بن الهادي الهاشمي ، الحسني الإمام مجدد المائة السابعة ، كان عليه‌السلام من أوعية العلم ، وله مؤلفات عظيمة منها المنهاج الجلي في فقه زيد بن علي ، ونصر مذهبه ، ورجحه على غيره ، وذكر فيه ترجيحاته ، ومنها كتاب العقيان في الناسخ والمنسوخ من القرآن ، وهو أجل ما صنف في الفن ، والكواكب الدرية شرح أبيات البدرية ، والمجموعات المهدية كتابان ، وكتاب في الفروع ، ولم يكمل كمله بعض شيعته ، وكتاب في الفرائض ، والسراج الوهاج ، في حصر مسائل المنهاج ، ولد بهجرة الكريش من بلاد الأهنوم ، بويع له بعد موت أبيه سنة ٦٩٩ ه‍ وتمكنت بسطته في اليمن ، واستفتح صنعاء وعدن ، وعاداه أهل الظاهر ، ولم يزل مجاهدا حتى توفاه الله بحصن ذي مرمر ، لثمان بقين من ذي الحجة سنة ٧٢٤ ه‍ فمدة خلافته تسع وعشرون سنة ، ونقل إلى غربي جامع صنعاء ، ودفن فيه ، جنب السيد يحي صاحب الياقوتة.

٤٧٣

وقوله تعالى : (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أي : إثم كبير.

وقوله : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) مبتدأ خبره (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) أي : أكبر وأعظم عند الله في الإثم من القتال في الشهر الحرام.

وقيل : إن قوله : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ) متصل بما قبله ، أي : القتال فيه إثم كبير وصد عن سبيل الله ، وكفر بالله. ثم استأنف فقال : (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي : يسألونك عن المسجد الحرام ، أو عن القتال في المسجد الحرام.

وفي قوله تعالى : (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وجوه من التقدير (١) :

الأول : أنه معطوف على سبيل الله ، أي : وصد عن سبيل الله ، وعن المسجد الحرام.

__________________

(١) في النيسابوري : وأما قوله (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فقيل : إنه معطوف على الهاء في (بِهِ) عند من يجوز العطف على المضمر المجرور من غير إعادة الجار ، كقراءة حمزة تسالون به والأرحامِ بالخفض ، والكفر بالمسجد الحرام منع الناس عن الصلاة فيه ، والطواف به ، وقيل : إنه معطوف على (سَبِيلِ اللهِ) أي : صد عن سبيل الله ، وصد عن المسجد الحرام ، واعترض بأنه يلزم الفصل بين صلة المصدر الذي هو الصد وبين المصدر بالأجنبي الذي هو قوله (وَكُفْرٌ بِهِ) وأجيب : بأن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى ، فكأنه لا فصل ، وبأن التقديم لفرط العناية به ، مثل (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وكان حق الكلام ولم يكن أحد كفؤا له ، وقيل : (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عطف على (الشَّهْرِ الْحَرامِ) أي : يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام ، وهذا قول الفراء ، وأبي مسلم ، وقيل : الواو في (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) للقسم.

وذكر في البيضاوي وجها آخر ، وهو ما لفظه (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) على إرادة المضاف ، أي : وصد المسجد الحرام ، كقول أبي داود :

أكل امرء تحسبين امرأ

ونار توقد بالليل نارا

ولا يحسن عطفه على (سَبِيلِ اللهِ) وذلك لأن عطف قوله (وَكُفْرٌ بِهِ) على (وَصَدٌّ) مانع منه أولا تقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة ، ولا على الهاء في (بِهِ) فإن العطف على الضمير المجرور إنما يكون بإعادة الجار.

٤٧٤

والثاني : ما تقدم أنه معطوف على الشهر الحرام ، أي : يسألونك عن الشهر الحرام ، وعن المسجد الحرام.

الثالث : أنه معطوف على قوله : (وَكُفْرٌ بِهِ) أي : بالله وبالمسجد الحرام ، بمعنى أن يجحد كونه قبلة ، والأول الظاهر.

(وَإِخْراجُ أَهْلِهِ) وهم المؤمنون ، أخرجوا ظلما (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) من القتل

وقوله : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) أراد فتنة الكفر ، أو فتنة الإخراج من مكة أكبر من القتل في الشهر الحرام على وجه الخطأ ، والبناء على الظن.

وقوله : (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) قال الزمخشري : حتى بمعنى كي ، وقوله : (إِنِ اسْتَطاعُوا) استبعاد لاستطاعتهم ، وكقول الرجل لعدوه : إن ظفرت بي فلا تبق علي ، وهو واثق أنه لا يظفر به.

وقوله تعالى : (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) قيل : معناه أي : صارت كأن لم تكن ، أو بطل جزاء أعمالهم ، وقوله : (فِي الدُّنْيا) أي : تبطل عصمة دمه ، وما يستحق من المدح والتعظيم والمناصرة ، وفي الآخرة بطلان الثواب.

الفصل الثالث

في ثمرات هذه الآية المقتطفة منها ، وهي أحكام :

الأول : أن القتال في الشهر الحرام محرم لا يجوز ، لكن اختلف العلماء هل هذا الحكم باق ، أو منسوخ؟ فقيل : إن التحريم باق ، وعن عطاء «أنه حلف ما يحل للناس أن يغزو في الشهر الحرام ، ولا في الحرم إلا أن يقاتلوا فيه» وقال قتادة ، وأبو علي ، والقاضي : إنها منسوخة بقوله

٤٧٥

تعالى في سورة التوبة : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] وأما في الحرم فقد تقدم أن من بدأنا بالقتال فيه جاز قتاله ، ومن لم يبدأ فالخلاف المتقدم.

الحكم الثاني : مأخوذ من المفهوم أن للوقت والمكان تأثيرا في كبر المعصية.

قال الحاكم : ولذلك قلنا : إن الزنى في المسجد أعظم ، وربما يبلغ الكفر إذا قارنه الاستخفاف بالدين.

وقد قال المؤيد بالله ، والإمام يحي عليه‌السلام والحنفية : إن قتال البغاة أفضل من قتال الكفار ؛ لأنهم عصوا في دار رب العالمين ، والكفار في دار الحرب ، فأشبه ذلك المعصية في المسجد ، والمعصية خارج المسجد ، وهذا يستقيم مع اتحاد صورة المعصية ، أما لو اختلف كالتقبيل في المسجد ، والزنا خارج المسجد ونحو ذلك لم تزد معصية المسجد ، ومعصية الكفر أبلغ من معصية الفسق (١).

الحكم الثالث : يتعلق بقوله تعالى : (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) وله دلالة منطوقة ، ودلالة مفهومة.

فالمنطوقة أن من مات على ردته حبط عمله ، ولا إشكال في ذلك. وأما لو تاب ومات مسلما ، فالمفهوم أن العمل لا يحبط.

فإن فسر الإحباط ببطلان الثواب فهذا يطابق قول الناصر عليه‌السلام : إن الثواب الذي أحبطته الكبيرة يعود بالتوبة (٢).

__________________

(١) يقال : هذا جلي إن قوتلوا لأجل ارتكاب المعصية ، وأما لو كان قتالهم لأجل قتالهم المحقين وبغيهم عليهم ، فلا يبعد أن مضرة الباغي المتوسط لبلاد الإسلام أضر من قتال الكافر البارح عنها.

(٢) أي : الاستحقاق ، وهو المقرر عند الأصوليين ، غير الكفر ، وأما فيه فتصير الطاعة كلا طاعة.

٤٧٦

ومن قال : لا يعود الثواب بالتوبة. يقول : المحبط المعصية ، وقد حصلت ، ويقول : ذكر الله تعالى الموت لأجل دخول النار والخلود فيها.

وإن فسر الإحباط بأن المراد منه أنه يصيّر العمل كلا عمل ، فذلك ظاهر مع الموت على الردة ، فلا يستحق ثواب صلاة ولا صوم ، ولا حج ، ولا شيء من الطاعات ، وهل يعاقب لأجل الحج وإن فعله ، وكذا الصلاة ونحوها.

(قال سيدنا) (١) : ولعله يقال : إن مات بعد الردة ولم يتمكن من الحج لم يعاقب ، وإن تمكن ، وقلنا : الحج في حقه على الفور عوقب ، وإن قلنا : إنه على التراخي لم يعاقب. وأما إذا تاب ووقت الحج باق ، وهو مدة الحياة ، وكذا إذا تاب في وقت الصلاة ، وكان قد فعلها ثم ارتد ، وكذا إذا أخرج الفطرة يوم الفطر ثم ارتد ، ثم تاب ، أو ضحّى في وقت الضحية ثم ارتد ، ثم تاب ، فعند المؤيد بالله ، وأبي حنيفة ، وتخريج القاضي زيد للهادي عليه‌السلام : أنه يجب إعادة الحج ؛ لأن الردة قد أحبطت العمل فصيرته كأن لم يكن.

وعند الشافعي ، وخرجه أبو طالب للقاسم عليه‌السلام : أنه لا يجب إعادة الحج ونحوه ؛ لأن المحبط هو الموت على الردة ، وأجيب بأن نفس الموت لا تأثير للعبد فيه ، فلا يكون محبطا ، وإنما ذكر لأجل دخول النار ، وقد قال تعالى في سورة الزمر : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] ولم يقيده بالموت ، وإحباط العمل إنما هو إبطال حكمه وثوابه ؛ لأن الأعمال قد عدمت.

إن قيل : تفسير الإحباط ـ هل هو بطلان الإجزاء ، أو بطلان الثواب؟

__________________

(١) سيدنا هو : المصنف القاضي العلامة يوسف بن أحمد بن محمد بن عثمان رحمه‌الله.

٤٧٧

يحتاج (١) إلى دليل ، وقد حصل الإجماع أنه يحبط الثواب وفاقا بين العدلية ، خلافا لأكثر المرجئة (٢) ، فإنهم جوزوا اجتماع الثواب والعقاب للمكلف ، فما الدليل على أنه يبطل (٣) الإجزاء ، والكبائر محبطات؟ فكان يلزم أن لو سرق أو زنى بعد الحج أن يعيده ؛ لأن العمل قد حبط ، ولم يقل بذلك أحد ، بل يلزم أن الفاسق لو ارتكب صغيرة أن يبطل وضوءه وحجه ؛ لأن الكبيرة هي ما زاد عقابها على ثواب صاحبها ، والفاسق لا ثواب له (٤) ، وإن قلتم إحباط العمل يختص بالكفر فقط ؛ لأن الآية علقته بالشرك لزم أن لا ينتقض الوضوء بالكبيرة التي لا توجب الكفر ، وقد جعلتم الكبائر ناقضة ، واستدللتم بقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٥) واعلم أن المتكلمين اختلفوا بما ذا يتعلق الإحباط والتكفير؟ فقال أبو علي : يتعلق بالطاعة والمعصية ، وهذا يناسب قول المؤيد بالله ، وأبي حنيفة : إنه يجب إعادة الحج ، لكنه ينتقض بالكبيرة غير الشرك ، وقال أبو هاشم وأكثر المحصلين بعده : إنه يتعلق بالثواب والعقاب ، ودليل هذا أن معنى الإحباط يرجع إلى التنافى ، والتنافي إنما يكون بين الثواب

__________________

(١) قوله : يحتاج إلى دليل جواب الشرط وهو قوله (إن قيل).

(٢) المرجئة هم : هم كل من يقول الإيمان قول بلا عمل ، ومن تردد في دخول الفاسق النار ، وأما من جوز العفو ، فمنهم من أطلق عليه ، وهو العرف الشائع ، ومنهم من منعه. والمرجئة تلصق بكل مذهب ففي المعتزلة غيلان بن مسلم وأتباعه ، ومحمد بن شبيب وغيرهم ، ومن الأشعرية جم غفير (شرح الأزهار).

(٣) في نسخة (يحبط).

(٤) فالصغيرة كبيرة في حقه.

(٥) قد تقدم للمصنف قريبا ما هو كالجواب عن ذلك ، حيث قد علق الإحباط بالشرك فقط ، ولا كذلك غيره من المعاصي ، وأما نقض الوضوء فهو موقوف على الدليل النبوي الوارد في ذلك عموما وخصوصا ، فلا يذهب عنك ما قدمنا قريبا في اعتبار الشرك في الاحباط ، والله أعلم فليتأمل.

٤٧٨

والعقاب (١) دون الطاعة والمعصية ؛ لأنهما قد وجدا ، وقد يكونان من جنس واحد ، نحو قول القائل : زيد في الدار إذا كان صدقا ، وقوله : زيد في الدار إذا كان كذبا ، وإذا علقنا التنافى بين الثواب والعقاب فذلك في أمر منتظر ، وهذا يناسب قول الشافعي ، وما خرج للقاسم عليه‌السلام : أنه لا يجب إعادة الحج على المرتد ، لكن يلزم من هذا أن لا ينتقض الوضوء بالكبائر (٢).

قوله تعالى

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩].

ثمرة ذلك

تحريم الخمر والميسر لقوله تعالى : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) قرأ (كبير) بالباء الموحدة ، وبالثاء المثلثة ، والمراد في الأفعال المعهودة المتعلقة بهما ، وهي شرب الخمر ، واللعب بالميسر ؛ لأن العين لا يتعلق التحريم بنفسها.

وسبب نزولها : أن عمر ومعاذا ، ونفرا من الصحابة قالوا : يا رسول الله افتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزلت الآية هذه ، فشربها قوم ، وتركها آخرون.

ثم إن عبد الرحمن بن عوف دعا أناسا منهم فشربوا وسكروا ، فأم

__________________

(١) يقال : إن أراد بنفس العمل فظاهر ، وإن أراد حكمه وهو الإجزاء وعدمه فالتنافي أيضا فيه واقع ، فلا يستقيم قوله : «دون الطاعة والمعصية» وكذلك قوله «زيد في الدار» الخبر التنافي بين كونه صدقا وكذبا حاصل.

(٢) قد تقدم أنه يقال : نقض الوضوء متوقف على الدليل النبوي الوراد في ذلك عموما وخصوصا.

٤٧٩

بعضهم في صلاة فقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أعبد ما تعبدون) فنزل قوله تعالى في سورة النساء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] فقلّ من شربها.

ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقاص ، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا ، حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء للأنصار فضربه أنصارى بلحي بعير ، فشجه موضحة فشكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عمر : «اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا» فنزل قوله تعالى في سورة المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩٠ ـ ٩١] فقال عمر انتهينا يا رب.

وعن علي عليه‌السلام : (لو وقعت قطرة منها في بئر فبنيت عليها منارة لم أؤذن عليها ، ولو وقعت قطرة في بحر ثم جف ونبت فيها الكلأ لم أرعه).

وعن ابن عمر «لو أدخلت اصبعي فيها لم تتبعني» وهذا مبالغة في الإنتهاء.

قال الزمخشري : وهذا الإيمان حقا. وكانت الخمر مباحة ، وكان المسلمون يشربونها ، ونزل قوله تعالى في سورة النحل (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [النحل : ٦٧] قيل : أراد بالسكر الخمر ، فسماه باسم المصدر ، وهذه الإباحة (١) منسوخة بآية المائدة.

وقيل : أراد بالسكر المثلث ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.

وقيل : إنها لا تدل على الإباحة ، بل جمع تعالى بين الامتنان

__________________

(١) في ب (وهذه الآية منسوخة).

٤٨٠