تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

والمنطوق وإن كان مفهوما أيضا ؛ لكنه يدل عليه النطق.

واعلم أن للعمل بمفهوم المخالفة عند من أثبته شروطا سبعة :

الأول : أن لا تظهر أولوية لثبوت الحكم في المسكوت عنه ، ولا مساواة فيكون ذلك من باب مفهوم الموافقة.

الثاني : أن لا يكون الباعث لتقييد الحكم بما نطق به هو العرف والعادة ، وأنه إنما لم يقصد إلى المسكوت عنه لندوره (١) ، وهذا كثير في كتاب الله تعالى ، مثل قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) [النساء : ٢٣] فإن تقييد التحريم بكونها في الحجر غير شرط عند جمهور العلماء ، ويقولون : الآية واردة على العادة ، فلم تكن التربية شرطا ، وهذا نظير قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] وقال داود (٢) : شرط التحريم أن تكون مرباة في حجره ، وأخذ بالمفهوم ، ومثل قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة : ٢٢٩] على قول من لا يشترط النشوز في الخلع ، وذلك قول المؤيد بالله (٣) ،

__________________

(١) فحينئذ يكون هذا شرطا ، لكونه مفهوم مخالفة ، والله أعلم (ح ص).

(٢) داود هو : داود بن علي بن خلف الظاهري ، العلامة ، قال ابن خلكان : ولد بالكوفة سنة ٢٠٢ ه‍ ، وقيل : إحدى ، وقيل سنة ٢٠٠ ه‍ ونشأ ببغداد ، وكان زاهدا إلى غاية ، ناسكا ، قلت : روى المرشد بالله قصة تدل على ورع وزهد عظيم ، وهو أنه أعطي دراهم كثيرة ، وكان يأكل في العيد البقل ، ولا يقبل من أحد شيئا ، وعده الإمام المهدي من العدلية ، توفي ببغداد سنة ٢٧٠ ه‍ في ذي القعدة.

(٣) أحمد بن الحسين بن هارون بن محمد الحسني الآملي ، الإمام المؤيد بالله الكبير ، كان بحرا لا ينزف ، حتى إن أهله يعدونه عدلة ، وأهل البيت عدلة ، قاله المتوكل على الله إسماعيل ، والقاضي ، قال السيد الحافظ إبراهيم بن القاسم عليه‌السلام : برز في علم النحو واللغة ، وأحاط بعلوم القرآن والشعر ، وأنواع الفصاحة ، مع المعرفة التامة بعلم الحديث ، وعلله ، والجرح والتعديل ، وهو إمام علم الكلام ، وإمام إئمة الفقه ، وبالجملة لم يبق علم من علوم الدنيا والدين إلا ضرب فيه بنصيب. ـ

٨١

والفريقين ، قالوا : لأن الباعث على التخصيص هو العرف الجاري أن الزوجين لا يتقاطعان المحبة ، ويعدل عن الزوجية إلى بذل المال المحبوب إلا في حال المشاقة.

والهادي ، والناصر (١) ، ومالك يشترطون للمخالعة على المال النشوز ، لقوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩] وسيأتي إنشاء الله تعالى تمام الكلام عند ذكر هذه الآية (٢).

ومن هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل).

__________________

ـ روى عن أبي العباس ، وقاضي القضاة ، وغيرهما ، وعنه السيد مانكديم ، والموفق بالله ، والقاضي يوسف وغيرهم ، وشرح حاله يخرج بنا عن الإختصار ، ومن مصنفاته : شرح التجريد ، لم يصنف مثله لأصحابنا ، والبلغة ، والهوسميات والإفادة ، والزيادات ، والتفريعات في الفقه ، والتبصرة ، كتاب لطيف ، وكتاب النبؤآت ، وتعليق على شرح السيد مانكديم ، وإعجاز القرآن في الكلام ، والأمالي الصغرى ، وسياسة المريدين ، ولد بآمل طبرستان سنة ٣٣٣ ه‍ وبويع له بالخلافة سنة ٣٨٠ ه‍ وتوفي يوم عرفة سنة ٤١١ ه‍ وصلى عليه مانكديم ، ودفن بلنجا. وقد تيسر لنا بحمد الله زيارته أكثر من مرة ، ومشهده معروف بهوسم.

(١) الناصر : هو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الحسيني الهاشمي ، أبو محمد ، الإمام الناصر الكبير ، سمي بالأطروش لطرش كان في أذنيه ، ولد سنة ٢٣٠ ه‍ ، قال المنصور بالله : لم يكن في زمنه مثله شجاعة وعلما وورعا وزهدا ، وكرما وفضلا ، وله تصانيف ، وكان جامعا لعلم القرآن والكلام ، والفقه ، والحديث ، والأدب ، والأخبار ، واللغة ، جيد الشعر ، مليح النوادر ، وذكر مصنف سيرته أن الذين أسلموا على يديه ألف ألف ، وله سيرة مستوفاة ، توفي عليه‌السلام بشعبان سنة ٣٠٤ ه‍ بعد الهادي بنحو ست سنين ، وإليه تنسب الناصرية.

(٢) ولكنهم خرجوا عن ظاهر الآية كما سيأتي.

٨٢

فإن المفهوم : أنها إن أنكحت نفسها بإذن الولي أن النكاح يصح ، وليس كذلك عند الأكثر ، ويقولون : خرج الخبر على العادة ، وهي أن الأولياء هم الذين ينكحون.

والشرط الثالث : أن لا يكون التخصيص خرج لسؤال عن محل النطق ، كما لو سئل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل في سائمة الغنم زكاة؟ فقال : نعم. فهاهنا لا يدل على قصر الحكم على المنطوق.

الشرط الرابع : أن لا يخرج لحادثة ، كما لو قال بحضرة غنم سائمة : فيها الزكاة.

الشرط الخامس : أن لا يكون لتقدير جهالة ، كأن يخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا فهم الرسول منه أنه يجهل وجوب الزكاة في سائمة الغنم ، فيقول له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في الغنم السائمة زكاة.

السادس : أن لا يكون لخوف أو نحوه مما يقتضي أنه الباعث على التخصيص ، وليس الباعث على التخصيص قصر الحكم على المنطوق.

السابع : أن لا يرد مانع من الأخذ بالمفهوم ؛ لأن المفهوم كالظاهر يعمل به بشرط أن لا يرد مخصص.

ثم إن أدلة الخطاب لها ثلاث عشرة رتبة :

الأولى : المثبت بإلا بعد المنفي ، وقد يقال : النطق بالمستثنى دون المستثنى منه ، مثل قوله تعالى : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) [الكهف : ٢٢] وعن ابن عباس : «أنا والله من ذلك القليل» ومثل قولنا : لا إله إلا الله ، ولا مفتي في البلد إلا زيد.

الثانية : الحصر بإنما كقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) [التوبة : ٦٠](إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) [الممتحنة : ٩].

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنما الأعمال بالنيات) (إنما الولاء لمن أعتق) (إنما الربى في النسيئة).

٨٣

الثالثة : مفهوم الغاية ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة : ٢٢٢].

الرابعة : التخصيص بالعدد ، وهو على ضربين : ـ أحدهما : يتجلى ويظهر ، وهو ما لم يرد للمبالغة ، كقوله تعالى : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) [النور : ٤] وقول القائل : اعط فلانا عشرة. والثاني : فيه خفاء ، وهو ما كان للمبالغة ، كقوله تعالى : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) [التوبة : ٨٠] وقول القائل : لا آتيك ولو أرسلت إلي ألف رسول

الخامسة : مفهوم الشرط ، كقوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) [الطلاق : ٦].

السادسة : أن يكون الوصف بيانا لمجمل واجب ، وذلك أن يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (في أربعين من الغنم السائمة شاة) بعد قوله تعالى : (وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣].

السابعة : الوصف المتكرر (١) ، كقول القائل : أكرم داخل الدار اللابس.

الثامنة : التخصيص بالوصف الذي يطرأ ، كقول القائل : أكرم داخل الدار ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الثيب أحق بنفسها) لأن الثيوبة تطرأ.

التاسعة : الاسم المشتق ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من باع نخلا مؤبرا فثمرتها للبائع) وقول القائل : أكرم زيدا الطويل.

العاشرة : التخصيص بالزمان (٢).

__________________

(١) وهو الوصف المتدارك.

(٢) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (صوم عاشوراء كفارة سنة).

٨٤

والحادية عشرة : بالمكان (١).

والثانية عشرة : حصر المبتدأ على الخبر ، كقوله : الشجاع زيد.

الثالثة عشرة : مفهوم اللقب ، وهو التخصيص بالاسم المطلق كقول القائل : أكرم زيدا ، وكتخصيص الستة الأشياء المذكورة في باب الربى.

ويصح أن يطلق على جميعها التقييد بالوصف ، وهي مترتبة في القوة على هذا الترتيب ، ولا خلاف أن المفهوم معتبر إذا كان مبقيا على حكم العقل ، أو الشرع ولم يكن ناقلا مثل : «في سائمة الغنم زكاة» ومثل قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) [النساء : ٤٣] لأن نفي الزكاة مستصحب من البراءة الأصلية ، وكذلك عدم التيمم ، لكن هل حصلت الدلالة من جهة البراءة الأصلية ، أو من جهة تقييد الحكم بالوصف ذلك ، على الخلاف الذي يأتي.

وفائدة الخلاف إذا أفاد المفهوم نقلا عما في العقل أو الشرع ، أو أثبت حكما لم يظهر فيهما ، وسيأتي الكلام عليهما شيئا فشيئا ـ بمعونة الله تعالى.

وقد يعبر في دلالة اللفظ بعبارة أخرى ، وهي أن يقال : إما أن يقتبس الحكم بصيغته ووضعه ، أو فحواه وإشارته ، أو بمعناه ومعقوله ، والثالث : القياس.

ونعود إلى الكلام في دلالة مفهوم المخالفة ، ونذكره شيئا فشيئا.

أما المرتبة الأولى : وهي التقييد بالاستثناء ، فاعلم أن الاستثناء من الإثبات نفي ، وذلك وفاق ، مثل قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) [العنكبوت : ١٤] والاستثناء من النفي إثبات مثل قوله تعالى :

__________________

(١) نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (صلاة في مسجدي هذا ..).

٨٥

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢] ومثل قولنا : لا إله إلا الله ، ولا فتى إلا علي ، ولا سيف إلا ذو الفقار ، ولا مفتي في البلد إلا زيد ؛ فإن هذا ينفي غير المثبت بإلا ، وهو أقوى من المفهومات ، وقد قيل : دلالته قطعية (١) ، وهذا قول أكثر العلماء من أهل الأصول والفروع ، وقال أبو العباس (٢) من الأئمة ، وأبو حنيفة (٣) من

__________________

(١) وذهب ابن الحاجب إلى أنه منطوق.

(٢) أبو العباس هو : أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن علي بن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، الهاشمي ، الحسني ، السيد الإمام أبو العباس. قال المنصور بالله : «هو الفقيه المناظر ، المحيط بألفاظ العترة أجمع غير منازع ، ولا مدافع». قال الفقيه حسام الدين حميد الشهيد : قال أبو العباس : دخلت الري سنة ٣٢٢ ه‍ حدث عن شيخ العلوية أبي زيد ، عيسى بن محمد العلوي ، وعبد الرحمن بن أبي حامد ، ويحي بن محمد بن الهادي ، وعليه سمع الأحكام ، والمنتخب ، ومنه اتصل إسناد أهل اليمن والجيل ، وعنه الأخوان جميع كتب الأئمة وشيعتهم ، وغيرهما ، وله مؤلفات منها : شرح الأحكام ، مسلسل الأحاديث ، وشرح الإبانة ، والمصابيح ـ تاريخ ـ وكان إماميا ، ثم رجع إلى مذهب الزيدية ، وقيل : لم يرجع ، توفي سنة ٣٥٣ ه‍.

(٣) أبو حنيفة هو : النعمان بن ثابت الكوفي أبو حنيفة ، مولى بني تيم الله بن ثعلبة ، فقيه العراق ، وعلامة الدنيا بالاتفاق ، مولده سنة ٨٠ ه‍ رأى أنس بن مالك ، وروى عن عطاء بن أبي رباح ، وطبقته ، وتفقه على حماد بن أبي سليمان ، وكان من أذكياء بني آدم جمع الفقه والعبادة والورع ، والسخاء ، وكان لا يقبل جوائز الدولة ، بل ينفق ويؤثر من كسبه ، له دار كبيرة لعمل الخز ، وعنده صناع وأجراء ، قال الشافعي : الناس عيال في افقه على أبي حنيفة ، قلت : وفي أمالي المرشد بالله : الناس عيال على أبي حنيفة في الكلام.

وقال الشافعي : من أراد الفقه فليأت أصحاب أبي حنيفة ، وقال يزيد بن هارون : ما رأيت أورع ولا أعقل من أبي حنيفة ، وسمع رجلا يقول : هذا أبو حنيفة لا ينام الليل ، فقال : والله لا يتحدث الناس عني بما لم أفعل ، وكان يحي الليل صلاة وتضرعا ، ودعاه ، واتفق بالإمام زيد بن علي لما وصل الكوفة ، فدعا به وسأله عن مسائل ، فأعجب الإمام به ، وقد عدوه في الزيدية ، وصنف الزمخشري في مناقبه ـ

٨٦

الفقهاء (١) : إنه لا يقتضي الإثبات ، وإن المستثنى لا يحكم له بنفي ولا إثبات.

حجة الأكثر أنه لو لم يقتض الإثبات لما تم الإسلام بقول الموحد : «لا إله إلا الله» وقد تم بحمد الله.

حجة أبي العباس ، وأبي حنيفة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا صلاة إلا بوضوء) و (لا نكاح إلا بولي) ولم يلزم من ذلك وجود الصلاة عند الوضوء ، ولا النكاح عند وجود الولي ، بل يلزم عدم النفي عند عدم هذين ، وأجيب بأن الوضوء والولي سيقا لمكان الشرط ، والمنفي ينتفي لانتفاء الشرط ، ولا يلزم وجوده لوجود الشرط.

__________________

ـ كتابا سماه شقائق النعمان في حقائق النعمان ، قيل : مات مسموما ، قال الذهبي : سقاه المنصور الدوانيقي السم لقيامه مع الإمام إبراهيم بن عبد الله ، في شهر رجب سنة ١٥٠ ه‍ وروي أنه لما توفي سمع هاتفا يقول :

ذهب العلم ولا علم لكم

فاتقوا الله وكونوا حلقا

مات نعمان فمن هذا الذي

يحيي الليل إذا ما غسقا

(١) الفقهاء هم : كل من يعلم الفقه بالاجتهاد ، وحقيقة الفقيه : من يمكنه استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها وأماراتها التفصيلية ، ولا حصر لهم ، هذا في الأصل ، ثم صار في العرف يطلق هذا الاسم على أهل المذاهب ، وهم الأئمة الأربعة.

[١] النعمان بن ثابت (أبو حنيفة) فقيه العراق ، وأصحابه كأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وزفر ، وغيرهم.

[٢] ومالك بن أنس) الحميري ، أشهر فقهاء المدينة ، وأتباعه.

[٣] (ومحمد بن إدريس الشافعي) وأتباعه.

[٤] (وأحمد بن حنبل) وأتباعه.

فهؤلاء هم المرادون بالفقهاء في الشرح وغيره ، وبعضهم يقول : هؤلاء ، وداود الظاهري ، وسفيان الثوري ، وجمعهم من قال :

محمد والنعمان مالك أحمد

وسفيان واذكر بعد داود تابعا

وأما فقهاء المذهب فسيأتي ذكرهم في المذاكرين ، وقد ذكروا طبقات الفقهاء ، وانتقال الفقه ، ومنهم الإمام المهدي في الملل والنحل.

٨٧

الثانية : مفهوم الحصر بإنما مثل (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] (إنما الولاء لمن أعتق) (إنما الماء من الماء) (إنما الربى في النسيئة). وهذا يفيد الحصر ، ونفي الحكم عن غير المنطوق عند الجمهور العلماء ، وقد قال به بعض المنكرين للمفهوم.

وقال بعض أصحاب أبي حنيفة : إن ذلك لا يدل على الحصر ؛ لأن المعنى أن الولاء لمن أعتق.

وحجة الأولين : أن ذلك في معنى النفي ، فالمعنى في قوله تعالى : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ) [طه : ٩٨] ما إلهكم إلا الله ، وقد يراد الكمال كقولك : إنما النبي محمد ، وإنما العالم في البلد زيد ، ويريد التأكيد والكمال.

ومنهم من خص الحصر بإنما ، وقال الغزالي : إنه يلتحق به حصر المبتدأ على الخبر وإن كان دونه في القوة ، مثل «الأعمال بالنيات» و «الشفعة في ما لم يقسم».

والثالثة : مفهوم الغاية ، وهو مد الحكم إلى غاية بإلى ، أو بحتى ، نحو قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] وقوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] ، (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة : ٢٢٢](فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة : ٢٣٠] وقوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) [التوبة : ٢٩].

وقد ذهب الأكثر إلى أن ذلك يفيد قصر الحكم إلى الغاية دون ما بعدها ؛ إذ لو لم يكن كذلك لم تكن غاية ، لكن قال أبو الحسين وغيره : إفادة الغاية لقصر الحكم من جهة الظاهر ، ويجوز أن يدل دليل على أنما بعد الغاية داخل فيما قبلها ، وقال قاضي القضاة : إفادة ذلك إفادة قطعية.

وعن أبي رشيد ، وأصحاب أبي حنيفة أن هذا نطق بما قبل الغاية ، وسكوت عما بعدها ، فلا دلالة على نفي الحكم عما بعدها.

٨٨

وقال الرازي : إن حدّت بشيء معلوم كقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] كان ما بعد الغاية مخالفا لما قبلها ، وإن لم تحد بشئ معلوم لم يدل ، مثل قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦]. لأن انفصال المرفق عن اليد ليس منفصلا بمفصل محسوس ، فلا يجب أن يكون حكم ما بعده بخلافه.

الرابعة : التخصيص بالعدد ، فإذا علق الحكم بعدد مخصوص ، فاختلف هل في ذلك دلالة على نفي ما عداه؟ فقيل : فيه دلالة ، وقيل : لا دلالة فيه ، والذي لخصه أبو الحسين ، والرازي التفصيل ، وهو أن يقال إن كان العدد علة لعدم أمر ، فإنه يمتنع في الأكثر أولى وأحرى ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا) فهذا أولى في الأكثر ، وإن لم يكن علة ، ولكنه متصف بإيجاب أو إباحة ، فلا دلالة على ثبوت الوجوب ، ولا الإباحة ، ولا نفيهما في ما زاد.

وأما دلالته على النقصان ، فإن كان الحكم وجوبا ، أو إباحة دل ذلك على وجوب ما دونه ، أو إباحته لدخوله تحته ، لا إن لم يدخل تحته ، كاستعمال قلة واحدة منفردة ، والحكم بشاهد واحد ، وإن كان الحكم حظرا لم يدل على حظر ما دون ذلك.

الخامسة : مفهوم الشرط اختلفوا إذا علق الحكم بشرط فانتفى الشرط ، هل يلزم من ذلك انتفاء الحكم مثل : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٦] فقال أبو الحسن ، والشيخ أبو الحسين (١) ، والكرخي ، والرازي ، وابن الحاجب ، وغيرهم : إن انتفاء الشرط يقتضي انتفاء المشروط ، وإلا خرج عن كونه شرطا ، وقال أبو

__________________

(١) في بعض النسخ (فقال أبو الحسين ، والشيخ أبو الحسن) وهذا موافق لما في الفصول.

٨٩

علي ، وأبو هاشم ، وقاضي القضاة ، والغزالي ، وغيرهم : إن انتفاءه لا يدل على انتفاء الحكم ، بدليل قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النور : ٣٣] وقوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) [النور : ٣٣] وقوله تعالى : (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) [البقرة : ٢٨٣] ونحو ذلك.

وأجيب : بأن الإكراه في العادة لا يكون إلا مع إرادة التحصن ، فالآية واردة على العادة ، وبأنهن إذا لم يردن التحصن فقد أردن البغاء ، ولا إكراه مع الإرادة ، وقد يخلف الشرط شرط آخر ، مثل إن دخلت الدار فأنت طالق ، ثم علق بشرط آخر ، أو نجزه (١) فإنه يصح لحصول ما يعارض المفهوم مما هو أقوى منه.

وقد لا يكون للشرط مفهوم ، مثل قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) [الحجرات : ٩] وقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) [النساء ٣٥].

السادسة : الوصف المبين للمجمل ، ويدخل في ذلك ما أشبهه من الصفات ، وقد اختلفوا هل يدل على أن ما عداه بخلافه أم لا؟ فقال الشيخ أبو عبد الله ، والشيخ أبو الحسين ، وكثير من أصحاب الشافعي : إنه يدل.

وقال أبو هاشم ، وقاضي القضاة : إنه لا يدل ، واستيفاء الحجج في غير هذا المكان (٢).

وأما مفهوم اللقب : فهو أضعف المفهومات ، والأكثر أنه لا يدل ، وخالف في ذلك بعض الحنابلة ، وأبو بكر الدقاق ، وذلك كتخصيص الربا بالأشياء الستة ، فإن ذلك لا يدل على قصر الربى عليها ، وكما لو قال : زيد

__________________

(١) أي : نجز الطلاق ، فإنه لا يؤخذ بالمفهوم (مجد الدين المؤيدي).

(٢) في نسخة (في غير هذا الكتاب).

٩٠

في الدار لم يدل على أن عمرا ليس في الدار ، وكذلك قوله : محمد رسول الله لا يدل على عدم الرسالة لغيره ، وستظهر أطراف جمة من المسائل الأصولية في كيفية دلائل الآيات الكريمة على الأحكام ، والآن نشرع في ذلك متوكلين على الله تعالى سائلين له الإعانة والتوفيق.

قال سيدنا : ورأينا أن نرتب ذلك على ترتيب السور لا على ترتيب أبواب الفقه (١) ليكون أيسر أيضا ، فإن الآية الواحدة قد تتضمن أحكاما من أبواب مختلفة ، وكنا نحتاج إلى ذكرها في كل باب.

__________________

(١) كما رتبه بعض السادة الفضلاء ، وهو السيد الامام صلاح الدين المهدي.

٩١
٩٢

تفسير

سورة البقرة

٩٣
٩٤

سورة البقرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قوله تعالى (١)

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣]

الثمرة من ذلك : الاستدلال على وجوب الصلاة ؛ لأنه رتب الفلاح على ذلك ، ولكن الآية مجملة.

قيل : يقيمون الصلاة بمعنى يؤدونها. وقيل : يقيمون أركانها.

واختلف في الإنفاق ، فقيل : المراد به الزكاة ، لكونه قرنه بالصلاة.

وقيل : الإنفاق في الجهاد. وقيل : النفقة على النفس والعيال.

وقيل : النفقة في سبل الخير عموما.

وقيل : أراد بالإنفاق هنا غير الزكاة ، ونسخته الزكاة المفروضة.

__________________

(١) فائدة : قال العلماء رضي الله عنهم : ومعظم القرآن مكي ، نزل قبل الهجرة ، والمدني الذي نزل بعد الهجرة ، وهو نحو ثلاثين سورة ، وهي البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، وبراءة ، والحج ، والنور ، والأحزاب ، وسورة محمد ، والفتح ، والحجرات ، وهي والحديد إلى الملك ، وهي عشر متواليات ، والمطففين ، قيل : وهي أول سورة مدنية ، ولم يكن ، والنصر ، والمعوذتان ، فهذه سبع وعشرون ، واختلف في الرعد ، و (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) ، والكوثر ، والراجح أنها مكية ، والله أعلم.

٩٥

قال الزمخشري (١) رضي الله عنه : وأدخل من التبعيضية صيانة لهم ، وكفّا عن الإسراف والتبذير المنهي عنه ، وأكد هذا بأن قدم مفعول الفعل ، كأنه قال : ويخصون بعض المال.

فإن قيل : هذا معارض لقوله تعالى في سورة الحشر : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩] قلنا : قد جمع بينهما بأنه إن وثق من نفسه بالتعفف عن السؤال فالإيثار أفضل ، وإن لم يثق نهي عن

__________________

(١) محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي الزمخشري ، من هو بأحسن النعوت حري ، أبو القاسم المعتزلي ، صاحب التصانيف الزاهرة ، والتآليف الفائقة الباهرة ، المحقق الكبير في الحديث والتفسير ، والنحو ، واللغة ، والمعاني ، المتفرد في فنونه بلا ثاني ، منها : الكشاف ، والمحاجاة بالمسائل النحوية ، والمفرد ، والمركب في العربية ، والفائق في غريب الحديث ، وأساس البلاغة ، وربيع الأبرار ، ونصوص الأخبار ، ومتشابه أسامي الرواة ، والنصائح الكبار ، والنصائح الصغار ، وضالة الناشد ، والرائد في علم الفرائض ، والمفصل في النحو ، وشرحه خلق كثير ، والأنموذج ، والمفرد والمؤلف ، ورؤوس المسائل الفقهية ، وشرح أبيات سيبويه ، والمستقصى في الأمثال الغريبة ، والبدور السافرة في الأمثال السائرة ، وديوان التمثيل ، وشقائق النعمان في حقائق النعمان ، وشافي العي من كلام الشافعي ، والقسطاس في العروض ، ومعجم الحدود ، والمنهاج في الأصول ، ومقدمة الأدب في اللغة ، وديوان الرسائل ، وديوان الشعر ، والرسائل الناصحة ، والأمالي الواضحة في كل فن ، والمقامات خمسون مقامة ، ونوابغ الكلم وغير ذلك ، ولادته يوم الأربعاء ٢٧ رجب سنة ٤٦٧ ه‍ بزمخشر ، وجاور بمكة ، وصاحب الإمام عليّ بن عيسى بن حمزة بن وهاس ، ودخل بغداد ، واتفق بالإمام أبي السعادات الحسني الشجري النحوي ، وأطنب فيه من ترجم له ، فقد تحمل مقالة أهل العذل ، وجرد سيف الجدال لنفاة العدل والعقل ، وله شعر كثير منه قوله في ترثية شيخه أبي مضر ، واسمه محمود بن جرير الطبري.

وقائلة ما هذه الدرر التي

تساقط من عينيك سمطين سمطين

فقلت هو الدر الذي كان قد حشى

أبو مضر أذني تساقط من عيني

وله من البديع ما يكثر ، توفي بجرجانية خوارزم ، ليلة عرفة سنة ٥٣٨ ه‍.

٩٦

الإسراف في الإنفاق ، وعليه خبر البيضة ، وسيأتي إنشاء الله تعالى زيادة في تفصيل هذا الحكم.

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦]

التعريف في (الَّذِينَ) إما للعهد ، ويراد بذلك لأناس بأعيانهم ، كأبي لهب ، وأبي جهل ، والوليد بن المغيرة وأضرابهم.

وإما للجنس ، ويراد بذلك من علم الله أنه لا يؤمن.

ويجوز أن يكون للعموم ، والمعنى : لا يحصل الإيمان من جميعهم ، وإن حصل من بعضهم ، ويجوز أن يخاطب بالعام ويراد به الخاص ، وقد قيل : إنها نزلت في أبي جهل ، وخمسة من أهل بيته.

وقيل : في اليهود ، وقيل : في قوم من المنافقين ، وقيل : في مشركي العرب وقيل : في قوم بأعيانهم من اليهود ، ومنهم حيي بن أخطب ، وقيل : في قادة الأحزاب ، وقيل : عام في جميع الكفار.

والمعنى : أن الإيمان لا يحصل من جميعهم.

ثمرة الآية : جواز الدعاء وإن عرف أنه لا يحصل الإيمان ، والدلالة دلالة إشارة ؛ لأن الله تعالى أعلمه إن الإنذار لا يؤثر ، وحصل منه الإنذار بعد ذلك.

إن قيل : في الأنعام في قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأنعام : ٥١] فأمره تعالى أن يجعل الإنذار لمن اختص بصفة الخوف ، فالمفهوم أنه لا ينذر من لم يختص بصفة الخوف؟ قلنا : قد علم أن إنذاره وإعلامه عام ، ولكنه تعالى خص إنذار من هذه صفته من مؤمن قصّر في العمل ، أو كافر

٩٧

مقر بالبعث ، أو لشاك فيه ، لأن الحجة لهم ألزم ، وهذا مروي عن الزجاج.

وعن الحسن ، وأبي مسلم : اقصد بموعظتك هؤلاء ، فهم الذين ينتفعون بذلك ، وإن كان الإنذار عاما غير مقصور على من اختص بصفة الخوف ، كما أنه غير مقصور على الأقربين في قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] وإن كان مفهوم اللقب ضعيفا.

فإذا ثبت حسن الدعاء مع ظن عدم التأثير فهل يكون واجبا أم لا؟ أما في حق الأنبياء عليهم‌السلام فلعل ذلك واجب ؛ لأنه كالتبليغ ، وقد أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ).

وأما في حق غير الأنبياء ، فقال قاضي القضاة : يبقى الحسن ؛ لأنه كالإعلام ، وإزاحة العلة ، ليتمكن من يستدعيه ، كالتمكين الذي يفعله الله بتمكين العبد من الإيمان والكفر ، فإنه يحسن ، وإن علم أنه لا يقبل.

وأما سائر المناكير فشرط الوجوب أن يحصل له ظن بالتأثير ، فإذا ظن عدم التأثير سقط الوجوب بلا إشكال ، ولا خلاف.

وأما الحسن فاختلف المتكلمون في ذلك ، فقال قاضي القضاة وغيره : إنه يزول الحسن ؛ لأنه يكون عبثا.

وقال غيره : إنه يبقى الحسن ، وإن سقط الوجوب ، كالاستدعاء إلى الدين ؛ لأنهما قد استويا في كونهما إحسانا للغير ، وأما إذا لم يحصل ظن بأحد الأمرين ، فقيل : يبقى الحسن بلا خلاف.

وأما الوجوب فقيل : يجب لعموم الأدلة ، وقيل : لا يجب ، لأن الأدلة مشروطة بظن التأثير أو علمه ، وهذا أقرب إلى نصوص الأئمة عليهم‌السلام.

قال الإمام المؤيد بالله يحي بن حمزة عليه‌السلام : المختار بقاء الحسن ،

٩٨

وإن عرف عدم التأثير محتجا بقوله تعالى في سورة الأعراف : (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٦٤].

والمعنى : وإذ قالت أمة من صلحاء بني إسرائيل : كفوا عن وعظ من صاد في السبت بعد أن أبلوا الجهد في ذلك ، فلما أيسوا كفوا ، وقالوا لأمة منهم من الصلحاء لم يكفوا عن الوعظ : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) في الدنيا ، (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ) في الآخرة (عَذاباً شَدِيداً) ، فأجابهم الواعظون بأن قالوا : نفعل ذلك معذرة ، أي : إبلاء للعذر إلى ربنا ؛ لئلا نكون ممن قصر في النهي ، ورجاء أنهم يتقون.

قال أبو علي : لم يكن قولهم : (لِمَ تَعِظُونَ) على طريق الإنكار.

واستدلال الإمام بقولهم : (مَعْذِرَةً) ليس بالواضح ؛ إذ هم راجون لتقواهم ؛ فإذا يقال : دلالة الآية على أن من أيس فلا وجوب عليه ، ولهذا ورد في الأثر «إن الكافين بعد الإياس ناجون» ومن يرجو فالوجوب باق ، ولهذا قالوا : (مَعْذِرَةً) أي : لا ننسب إلى التقصير.

والاستدلال بالآية الكريمة مبني على أصل ، وهو أن شرائع من تقدمنا تلزمنا ما لم تنسخ عنا ، وهذا هو المذهب ، وهي خلافية بين الأصوليين ، والظاهر من أقاويل المفسرين أن الساكتة ناجية ؛ لأنهم ثلاث فرق ، وإحدى الروايتين عن ابن عباس : أنها هالكة. لكن الأول هو الظاهر.

قوله تعالى

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٨]

قال الحاكم : الآية تدل على أنه لا ينبغي الاغترار بظاهر أحوال الناس ، فعلى هذا لا يقبل خبر المجهول ، وهذا قول أكثر العلماء من

٩٩

شيوخ المعتزلة ، والإمام أبي طالب ، والمنصور بالله ، والشافعي ، وقال أبو حنيفة : يقبل مع الجهل لقوله تعالى في سورة الحجرات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) فرتب الله سبحانه التبيين على معرفة الفسق للمجهول (١).

فرع : في أذان المجهول ؛ إن قيل : هو مخبر بدخول الوقت فلا يقبل.

قلنا : لعل هذا مخصوص من العموم بإجماع المسلمين ، وقد ذكر بعض المفرعين من المتأخرين : أنه يقبل أذان المجهول كما يصلى خلفه.

قوله تعالى

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة : ١٠]

قرئ بالتشديد مع ضم الياء ، وبالتخفيف مع فتحها.

والثمرة من ذلك : أن تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كبيرة ، وكذلك كذب من قال : إنه مؤمن ، وليس بمؤمن في الباطن

__________________

(١) لعله يريد ـ والله أعلم ـ أن من هو مجهول الحال ، لا تعرف حقيقة أمره ، فإنه إذا أتانا بأمر وجب التبين والكشف عن حاله ، لئلا يعمل بقوله وهو فاسق في الباطن ، إذ لو كان ظاهر الفسق لم يحتج إلى التبين ، إلا أن يكون المراد تبين ما أتانا به احتيج إليه ايضا ، وبهذا يزول اللبس.

والذي سيأتي للفقيه يوسف رحمه‌الله في تفسير هذه الآية في هذا الكتاب في الحجرات أن التبين هو الأمر المنبأ به وهذا كما ترى مع أنه لا مانع من تفسيرها بما هنا ولا بما هناك ، إذ الوجه فيهما صحيح ، وأن كان ناهيا كما هو الظاهر ، والله أعلم ، وفي الكشاف أيضا مثل الذي سيأتي في الثمرات في موضع الآية.

وصاحب القصة الوليد بن عقبة ، أخو عثمان لأمه ، كما سيأتي والقصة مشهورة. (ح ص).

١٠٠