تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

السختياني (١) ، واختاره الفقيه عبد الله بن زيد (٢) : أن ذلك يكون كفرا ، وسيأتي زيادة على هذا عند ذكر قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] الآية

وقالت الخوارج : جميع المعاصي كفر ، واستثنى بعضهم الصغائر ، واستثنى بعضهم معاصي الأنبياء ، وجعل ما عداها كفرا.

قوله تعالى

(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : ٣٥]

اختلف المفسرون في الشجرة ما هي؟ فعن ابن عباس : هي السنبلة ، وعن ابن مسعود : الكرمة (٣) ، واستقربه الحاكم ؛ لوقوع اسم الشجرة عليها.

وعن بعض الصحابة : التينة.

واختلفوا في النهي ، فقيل : إنه نهي تحريم ، ولكن كانت المخالفة

__________________

(١) هو : أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني ، البصري ، أبو بكر ، سيد فقهاء عصره ، تابعي ، زاهد ، ناسك ، من حفاظ الحديث ، ثبت ، ثقة. الأعلام ٢ / ٣٨.

(٢) عبد الله بن زيد بن أحمد العنسي المدحجي ، الزيدي ، الفقيه ، العلامة أدرك مدة الامام المهدي ، وشهد بإمامته ، وكان يحرم تقليد الموتى ، وجرت بينه وبين آل الرصاص مراسلات في نفي المنزلة بين المنزلتين ؛ لأنه كان يروي إجماع الأئمة على نفيها ، وقد اعترضه جماعة ، وله مؤلفات في الكلام جيدة ، كالمحجة وفي أصول الفقه : الدرة المنظومة ، وفي علم الطريقة الإرشاد ، كتاب نفيس ، لو لا أنه يورد من الأحاديث ما حصل ، فحصل فيه بعض موضوعات يسيرة ، وله السراج الوهاج ، والنجم الثاقب ، وغيرهما ، قال في المستطاب : اتصل عبد الله بن زيد بالسلطان المظفر ، وأخذ عطاءه ، وكان له خبرة بفن الفلك ، ومعرفة بالاصطرلاب ، توفي رحمه‌الله يوم الخميس في شعبان سنة ٦٦٧ ه‍. (الجنداري).

(٣) السنبلة : البر ، والكرمة : العنب.

١٢١

صغيرة في حق آدم عليه‌السلام ؛ لأنه أقدم بشبهة ، وهو توهم أن المنهي عنه نفس العين لا الجنس.

وقيل : نهي تنزيه ، وهذا النهي كان شريعة لآدم عليه‌السلام ، والمعلوم من شريعة نبييئنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إباحة ذلك.

قوله تعالى

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ٣٧]

ثمرة هذه الآية الكريمة :

عظم هذه الكلمات وفضلها ؛ لأنه تعالى جعلها ماحية للخطيئة ، ورتب عليها التوبة على آدم عليه‌السلام.

واختلف ما هي؟ فقيل : هي قوله : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ٢٣] وهذا مروي عن الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير (١) ، والأصم ، وصحح هذا.

وقيل : هي سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر.

وحكي عن ابن مسعود : أن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا آدم

__________________

(١) سعيد بن جبير بن هشام الأسدي ، مولى بني والية ، بطن من أسد بن خزيمة ، الكوفي ، قال في الطبقات : هو أحد أعلام التابعين ، روى عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وخلق ، وعنه سلمة بن كهيل ، وأيوب ، وثقه المؤيد بالله ، وعده السيد صارم الدين من ثقاة محدثي الشيعة ، قال : خرج مع القراء على الحجاج ، فقال له : لم خرجت؟ قال : لبيعة في عنقي ، فقتله في شعبان سنة ٩٥ ه‍ وعمره خمس وأربعون سنة ، وفي اللآلي : خرج مع الحسن بن الحسن ، وقال ابن حجر : ثقة ، ثبت ، فقيه ، من الطبقة الثالثة ، وروايته عن عائشة ، وأبي موسى ونحوهما مرسلة. (الجنداري).

١٢٢

حين اقترف الخطيئة : «سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله إلا أنت ، (ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» وقيل : غير ذلك.

قال الحاكم : واستدل بعضهم بالآية أن التوبة تقع بالكلام ، قال : وليس بصحيح ؛ لأن التوبة هي الندم المخصوص ، فيجب حمل الكلام على أن المراد الدلالة على التوبة التي هي في القلب.

تتمة لذلك

إن قيل : ما حكم التوبة عن الصغائر؟ قلنا : اختلف في ذلك ، فقال أبو هاشم : لا تجب عقلا (١) ، ولكنها تحسن من طريق السمع ؛ لأن في ذلك استدراك ما فات من الثواب.

وقال أبو علي : تجب عقلا لئلا يكون مصرا ، والإصرار كبيرة ، وقيل : إن فيها لطفا فلذلك وجبت.

فإذا قيل : إذا كانت صغيرة في حق آدم عليه‌السلام فلم جرى عليه بسببها ما جرى من نزع اللباس ، والإخراج من الجنة؟ والإهباط من السماء كما فعل بإبليس؟ ونسبته إلى الغي والعصيان ، ونسيان العهد ، وعدم العزيمة ، والحاجة إلى التوبة؟.

قال الزمخشري : كانت صغيرة مغمورة بأعمال قلبية من الإخلاص ،

__________________

(١) لأنها إنما تجب عقلا لدفع الضرر عن النفس ، ذكر معنى ذلك في شرح الأصول ، والذي في شرح الأصول (الذي يدل على صحته أن

التوبة إنما تجب لدفع الضرر عن النفس ، ولا ضرر في الصغيرة ، فلا تجب التوبة). ح ص.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام وهذه المسألة على سبيل الفرض ، لأن الصغائر عندنا غير متعينة ، وإذا كانت غير متعينة وجوزنا في كل ذنب الصغر والكبر وجبت التوبة عقلا ؛ لأن دفع الضرر الموهوم كالمعلوم. (دامغ الأوهام).

١٢٣

والأفكار الصالحة التي هي أجل الأعمال ، وأعظم الطاعات ، وإنما جرى ما جرى تفظيعا لحال الخطيئة ، ليكون لطفا له ولذريته في اجتناب الخطايا ، وأنه إذا أخرج من الجنة بخطيئة واحدة ، فكيف يدخلها ذو خطايا جمة. شعرا :

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي

درج الجنان بها وفوز العابد

أنسيت أن الله أخرج آدم

منها إلى الدنيا بذنب واحد

وعن ابن عباس : «أنهما بكيا مائتي سنة» ، وعن بعضهم : «لما أهبطا لم يرفع آدم رأسه ثلاثمائة سنة من الحياء».

واختلف العلماء في من تاب ثم واقع المعصية ، هل يعود العقاب أم لا (١)؟ وفي من ارتكب كبيرة ثم تاب هل يعود ما أبطلته الكبيرة من الثواب؟ فقيل : يعود العقاب والثواب ، والظاهر من كلام المتكلمين أنهما لا يعودان ، وقال أبو القاسم : يعود الثواب لا العقاب (٢).

وكذلك اختلفوا في من تاب من ذهب مع الإقامة على غيره ، فصحح ذلك أبو علي ، والمؤيد بالله ، والمنصور بالله ، ومنع منه أبو هاشم.

قوله تعالى

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة : ٤١ ـ ٤٣]

__________________

(١) بشر بن المعتمر : يعود عقاب الأولى. قلنا : سقط بالتوبة ، والفعل الثاني متجدد (مقدمة البحر).

(٢) وهل يتجدد الثواب في المستقبلعلى طاعاته الماضية كالمستقبلة إذ سقوط ثوابها بالماضي بالموازنة لا يصيرها كالمعدومة ، بخلاف سقوط المعصية بالتوبة ، فليس بالموازنة ، بل بالتوبة صارت كالمعدومة ، فبطلت في الحال والمآل. (مقدمة البحر).

١٢٤

الثمرة من هذه الجملة أحكام :

الأول : أن الرشوة على ترك الواجب ، أو فعل المحرم محظورة.

ووجه الدلالة : أنها نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه من أحبار اليهود وذلك لأنهم كانوا أهل رياسة في قومهم فخافوا الفوات على رئاستهم باتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : كانت عوامهم يعطون أحبارهم من الزرع والثمار ، ويهدون لهم الهدايا والرشا على تسهيل ما صعب من الشريعة ، وتحريف الكلم ، وكان ملوكهم يدرون عليهم الأموال ليكتموا أو ليحرفوا.

والمعنى : ولا تستبدلوا ، فاستعير الشراء للاستبدال ، كقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] وكقول الشاعر :

فإن تزعميني كنت أجهل فيكم

فإني شريت الحلم بعدك بالجهل

وكقول الآخر :

أخذت بالجمة رأسا أزعرا

وبالثنايا الواضحات الدردرا

وبالطويل الغمر (١) غمرا حيدرا

كما اشترى المسلم إذ تنصرا

أراد بالأزعر : الأقرع ، وبالدردر : جمع الدردرا ، وهو مغرز الأسنان الساقطة مع بقاء أصولها ، والحيدر : القصير. والمعنى : هرمه بعد الشباب ، فصار حاله كحال من استبدل بالإسلام النصرانية ، وأشار بهذا إلى قصة جبلة بن الأيهم (٢) ؛ لأنه كان نصرانيا فأسلم ، وكان يوما يطوف بالكعبة فوقع عليه شخص في الطواف فلطمه جبلة فمضى ذلك إلى عمر

__________________

(١) الغمر : بالفتح الشديد ، وبالفتح : القدح الصغير ، فالأول مفتوح ، والثاني مضموم.

(٢) هو جبلة بن الأيهم بن جبلة الغساني ، من آل جفنة ، آخر ملوك الغساسنة في بادية الشام ، عاش زمنا في العصر الجاهلي ، وقاتل المسلمين في دومة الجندل ، واليرموك ، ثم أسلم وهاجر إلى المدينة ، ثم ارتد ، ومات سنة ٢٠ ه‍.

١٢٥

بن الخطاب ، فأمر أن يلطم جبلة فاستنكف جبلة من ذلك ، واستمهل إلى الغد ، وفر ليلا ، ولحق بالروم وتنصر ، ثم ندم على ما فعل ، وقال في ذلك أبياتا (١) :

تنصرت بعد الحق عارا للطمة

ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر

فأدركني فيها لجاج حمية

فبعت لها العين الصحيحة بالعور

فياليت أمي لم تلدني وليتني

صبرت على القول الذي قال لي عمر

وهذا الذي حكي عن عمر رضي الله عنه من ثبوت القصاص في اللطمة ، هو مذهب الهادي عليه‌السلام (٢) ، والليث بن سعد (٣) ، خلافا للمؤيد بالله ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وستأتي هذه المسألة.

عدنا إلى تلخيص هذا الحكم : إن قيل : هذا دليل على نهي المرتشي

__________________

(١) وبعدها :

فياليتني أرعى المخاض بقفرة

وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر

ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة

أجالس قومي ذاهب السمع والبصر

وفي نسخة أ (الذي قاله عمر).

(٢) وهو اختيار المؤلف ، والإمام شرف الدين (ذكره في شرح الفتح).

(٣) الليث بن سعد بن عبد الرحمن المصري ، أبو الحارث ، قيل : اصله من الفرس من أهل اصبهان ، وليس بصحيح ، والمشهور أنه فهمي ، بطن من قيس غيلان في مصر ، قرية اسمها فهم ، بينها وبين القاهرة ثلاثة فراسخ ، روى عن عطاء ، ونافع وابن الزبير وخلق ، وعنه ابن عجلان ، وابن المبارك ، وابن لهيعة ، وخلق.

عن الشافعي : كان الليث أفقه من مالك ، ولكن ضيعه أصحابه ، وقال ابن بكير : هو أفقه من مالك ، والحظوة لمالك ، وما رأيت مثل الليث ، كان فقيها ، عربي اللسان ، يحسن القرآن والنحو ، والشعر ، والحديث ، وقال ابن سعد : ولد سنة ٩٤ ه‍ وكان ثقة ، كثير الحديث ، صحيحه ، واستقل بالفتوى في زمانه بمصر ، وكان سريا سخيا ، وقال أحمد : الليث كثير العلم ، صحيح الحديث ، ما في المصريين أثبت منه ، وقال ابن معين : ثقة ، وقال ابن المديني : ثبت ، وقيل له : نسمع منك الحديث ، وليس في كتبك ، فقال : أو كلما في صدري في كتبي ، لو كتبت ما في صدري في ـ

١٢٦

على ذلك؟ فما الدليل على نهي الراشي على ذلك؟.

قلنا : دليله من قوله تعالى في سورة المائدة : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [المائدة : ٢] ومن السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لعن الله الراشي والمرتشي) (١).

إن قيل : هذا دليل على أن أخذ العوض محرم على فعل المحرم (٢) ، فما دليل التحريم على أخذه على فعل الواجب ، ولم يستبدل العوض عن واجب عليه ، بل فعل الواجب وأخذ العوض؟.

قلنا : تحريم ذلك بالسنة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن هدايا الأمراء (٣).

فإن قيل : هذا دليل على تحريم الفعل ، فبم يحرم المال ، وقد أباحه له المالك.

قلنا : دليل ذلك قوله تعالى في سورة البقرة : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ

__________________

ـ كتبي ما وسعه هذا المركب ، ولما قدم الليث المدينة أهدى إليه مالك تبنا في وعاء فرد فيه الف دينار ، وكانت غلة ماله في السنة ثمانين ألف دينار ، ما وجبت عليه الزكاة ، ولما احترقت كتب ابن لهيعة بعث له الليث بألف دينار ، وأطنب في جوده من ترجم له ، ذكر ذلك في الكمال ، وتذكرة الحفاظ ، ولد سنة ٩٤ ه‍ ومات سنة ٦ ، أو سنة ١٧٧ ه‍ وقيل : غير ذلك ، وله إحدى وثمانين سنة ، ودفن بمصر في القرافة الصغرى ، وهو مزور مشهور ، وعليه قبة عظيمة ، وهو قريب من قبر الإمام الشافعي.

(١) والرائش ، وهو السفير بينهما.

وهذا الحديث أخرجه الترمذي ٢ / ٣٩٧ برقم ١٣٥١ عن أبي هريرة ، وقال فيه : حديث حسن ورقم ١٣٥٢ عن عبد الله بن عمر ، وقال فيه : حديث حسن صحيح ، وهما بلفظ (لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبه أخرجه أبو داود ٣ / ٣٠٠ برقم ٣٥٨٠. عن عبد الله بن عمر.

(٢) هذا صحيح إذا كان على فعل محظور ، وأما على فعل واجب فلا يصح إلا لأجل كونه سببا في قبيح والله أعلم (ح ص).

(٣) فعن أبي حمد الساعدي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (هدايا العمال غلول) ذكره في الفتح الرباني ٩ / ٨٦ ، رقم ١٢٦.

١٢٧

أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة : ٧٩] فجعل معاقبا على مكسبه من الفعل المحرم.

فإن قيل : إذا ثبت تحريم الفعل ، وتحريم العوض فما يكون حكم المال المكتسب على ذلك؟ ومن يستحقه؟.

قلنا : إن لم يصرح بالشرط فهو لبيت المال ، أخذا من حديث المصدق الذي أخذ الهدية (١) ، وطالبه بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن حديث شاة الأسارى (٢) على تفصيل في ذلك ، وإن كان مصرحا بالشرط ، فقد قال أهل المذهب : يجب رده لمالكه (٣) ؛ لأن ذلك هو الأصل ، فلا يخرج الملك إلا بدليل.

__________________

(١) عن أبي حميد الساعدي قال : استعمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا من الأزد ، يقال له : ابن اللتبية على صدقة ، فجاء فقال : هذا لكم ، وهذا أهدي إلي ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر ، فقال : ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول : هذا لكم ، وهذا أهدي إلي ، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء يوم القيامة على رقبته إن كان بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تبعر ، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة يديه ، ثم قال : اللهم هل بلغت ثلاثا ، وزاد هشام بن عروة : قال أبو حميد : سمع هذا أذني ، وأبصر عيني ، وسلوا زيد بن ثابت) أخرجه أحمد.

(٢) وهو ما رواه أحمد وأبو داود ، والدارقطني ، عن عاصم بن كليب عن أبيه أن رجلا من الأنصار أخبره ، قال : خرجنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما رجع استقبله داعي امرأة ، فجاء وجىء بالطعام ، فوضع يده ، ثم وضع القوم ، فأكلوا فنظرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلوك لقمة في فمه ، ثم قال : أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها ، فقالت المرأة يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشترى لي شاة فلم أجد ، فأرسلت إلى جار لي قد اشتى شاة أن أرسل بها الي بثمنها فلم يوجد ، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت الي بها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أطعميها الأسارى ، ورواية في الموطأ ، والطبراني ، والنسائي أخصر من هذه.

(٣) قال الإمام المهدي في مختصره : (فيصير كالغصب إلا في الأربعة ، إن عقدا ، ولو على مباح حيلة ، وإلا لزم التصدق). ح ص.

١٢٨

إن قيل : إذا ثبت التحريم على أخذ الرشوة لفعل باطل ، أو قيام بواجب ، وحرم على الدافع ليفعل له الباطل ، فهل يحرم على الدافع ليفعل له الواجب؟

قلنا : في ذلك تردد ، فذكر المنصور بالله ، وجماعة من العلماء (١) جواز ذلك استفداء لحقه كما يستفدى من اللصوص ببعض المال.

وقيل : عموم الحديث يمنع ، وهو : (لعن الله الراشي والمرتشي) والأول أجود (٢).

ثم إنه يتفرع من ذلك مسائل :

الأولى : هل تحرم الأجرة على تعليم القرآن ؛ لأنها عوض على واجب على المعلم ، وهو التعليم ؛ إذ هو من فروض الكفايات.

قلنا : مذهب الهادي ، والمؤيد بالله ، وأبي حنيفة ـ لا يجوز.

وقد فسرت الآية وهي قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) بأنه أخذ الأجرة على التعليم لما أنزل الله في الكتب.

قال أبو العالية : وفي كتبهم يعني اليهود «يا ابن آدم علم مجانا كما علمت مجانا» وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (اقرأوا القرآن ، ولا تأكلوا عليه ، ولا تستكثروا) (٣)

__________________

(١) منهم الإمام يحي ، وأبو جعفر ، قال في البيان : في المجمع عليه ، وفي البحر : وإن كان مختلفا فيه فكالباطل ، إذ لا تأثير لحكمه.

(٢) يقال : هلا كان الثاني أجود ، لأنه من فعل السبب المفضي إلى محرم ، كما يأتي في قوله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ) الآية.

(٣) أخرجه أحمد بلفظ (اقرأوا القرآن ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكثروا عليه ، ولا تجفوا عنه ، ولا تغلوا فيه) قال في بلوغ الأماني هامش الفتح الرباني : وقال الهيثمي : رجاله ثقات ، وقال الحافظ : سنده قوي ، وأخرج نحو في جامع الأحاديث ١ / ٧٠٩ برقم ٣٧٢٩ ، عن عبد الرحمن بن شبل. وقد روي (ولا تستكثروا) (ولا تستكبروا) ومعناه : أي : تستكثروا به من الدنيا ، أو تستكبروا به على الناس.

١٢٩

ولحديث عبادة بن الصامت مع أهل الصفة (١).

وقال الناصر ، والشافعي : تجوز الأجرة لحديث الرقية (٢).

الثانية : إجارة المصاحف والكتب ، وفي ذلك خلاف ، من أجاز تعليم القرآن بالأجرة جوز ذلك ، ومن منع منع ذلك ، إلا أبا العباس فأجاز إجارة الكتب لا المصاحف (٣) ، ولكل قول شبهة (٤) ودليل قياسي.

الثالثة : أرباح المغصوب ، فالهادي عليه‌السلام في قوله الظاهر يشبه (٥) ذلك بالرشوة ؛ لأنه اكتسب من وجه محظور ، فقال : يتصدق بها.

__________________

(١) هو عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن قيس بن ثعلبة بن غنم ، الأنصاري ، الخزرجي ، أبو الوليد ، صحابي جليل ، ورع ، أحد النقباء في بيعة العقبة ، شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وممن اشتركوا في فتح مصر ، وممن جمعوا القرآن في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومات بالرملة ، وقيل ببيت المقدس سنة ٣٤.

والحديث : عن عبادة بن الصامت قال : كنت أعلم أناسا من أهل الصفة فأهدى الي رجل منهم قوسا ، فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إن أحببت أن يطوقك الله طوقا من نار فاقبلها) زهور. وانظر (ابن ماجه ٢ / ٧٣٠ رقم ٢١٥٧).

(٢) الحديث مشهور (وهو أن أناسا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم ، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك ، فقالوا : هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا : إنكم لم تقرونا ، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا ، فجعلوا لهم قطيعا من الشاء ب .. فقالوا لا نأخذه حتى نسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألوه فضحك ب. قال : خذوها واضربوا لي بسهم) أخرجه البخاري في كتاب الطب.

(٣) واختاره الإمام المهدي في الغيث ، والفرق بينهما في التأجير ، أن المقصود في القرآن اللفظ والمعنى ، وفي كتب الهداية المقصود المعنى فقط ، وهذا إذا كان يوجد غيرها يقوم مقامها ، أما إذا لم يوجد فلا يجوز اتفاقا.

وأما أخذ الأجرة على تعليم ما في كتب الهداية فلا يجوز اتفاقا لأن المقصود المعنى ، وهو متحد. (قوله اتفاقا) يقال : فمع وجدانه في غيرها يكون من فروض الكفاية ، وهو ممنوع عند المانع فينظر.

(٤) في نسخة (شبه)

(٥) في نسخة ب (شبّه).

١٣٠

وقال المؤيد بالله : تطيب له ؛ لأن في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الخراج بالضمان) (١).

الرابعة : فيما استهلك بالطحن ، أو الخبز ، أو الذبح مع الطبخ ، أو النسيج عند من جعل ذلك يزيل ملك المالك (٢) ، وهو قول الهادي عليه‌السلام ، وقال أبو طالب : لا يجب التصدق به إلا أن يخشى فساده قبل مراضاة صاحبه ، وعن أبي العباس ، وأبي حنيفة ، والمنصور بالله : يجب التصدق به.

الخامسة : من غصب أرضا وزرعها ، فقال المؤيد بالله ، وأبو طالب : لا يجب التصدق بشيء (٣) ، وعن أبي حنيفة : يجب التصدق بما زاد على غراماته ، لكنه لا يوجب الكرا للمالك ، وأبو العباس يوجب الكرا ، ويتصدق بما فضل من الغرامات.

السادسة : إذا اشترى شيئا شراء فاسدا فاتجر فيه ، أو أجره ، هل يتصدق بالربح والأجرة أو لا؟ فعن أبي حنيفة ، وأحد قولي أبي العباس : يتصدق بالربح والأجرة ، وقال أبو طالب ، وأحد قولي أبي العباس ، وصححه القاضي زيد (٤) ، وهو الذي يأتي على أصل المؤيد بالله : أنه لا

__________________

(١) أخرجه الترمذي ٢ / ٣٧٦ ، ٣٧٧ ، رقم ١٣٠٣ ، ١٣٠٤ ، عن عائشة ، وقال في الأول : حديث حسن ، وفي الثاني : حديث صحيح غريب من حديث هشام بن عروة. وأبو داود عن عائشة ، والنسائي عن عائشة ، وابن ماجه بمعناه ، وأحمد رقم ٢١٠.

(٢) مع إزالة اسمه ومعظم منافعه.

(٣) وهو المختار.

(٤) زيد بن محمد الكلاري بالتخفيف ، كذا قيل ، الجيلي ، وهو القاضي زيد المشهور ، علامة الزيدية ، وحافظ أقوالهم ، وفقيههم ، قال في الانتصار : كان من أتباع المؤيد بالله ولم يعاصره ، كان القاضي من حفاظ ألفاظ العترة ، وله العناية العظمى في خدمة المذهب الشريف ، وهو مؤلف الشرح المذكور ، وإذا أطلق الشرح في ـ

١٣١

يتصدق بذلك ، ويطيب له ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الخراج بالضمان) (١) ومن أوجب التصدق قال : ما ملك بسبب محظور تصدق به (٢) ، كشاة الأسارى.

قال المنصور بالله : ومن باع مغصوبا ، وعلم المشتري بغصبه ، فالثمن لبيت امال ، وشبهه بالرشوة المحظورة.

وكلام أبي طالب في فرقه بين أرباح المغصوب ، وبين ما ملك بالطحن ونحوه ، وكذا زراعة الأرض المغصوبة لم يوجب عليه التصدق بشئ ـ يحتاج إلى تحقيق ، وقد أشار إلى بيان الفرق ، وهو أن ما لزمه بدله لم يجب التصدق به ، كأصل المال المغصوب ، وما لم يؤد له بدل يلزمه التصدق به ، وذلك أرباح المغصوب (٣).

السابعة : ذكرها الحاكم قال : يدخل في ذلك الشهادات ، والفتاوى ، والقضاء ، وإظهار البدع ، قال : وهذا الخطاب كما يتوجه إلى علماء بني إسرائيل يتوجه إلى علماء السوء من هذه الأمة ، إذا اختاروا الدنيا على الدين. تم كلامه.

فيدخل في ذلك من مال من العلماء إلى بني أمية ، وبني العباس لصلاح دنياهم ، وما أشبه ذلك.

__________________

ـ المنتزع فهو شرحه ، إلا في موضع في السير ، فشرح أبي طالب ؛ لأنه قد تقدم قريبا ، قالوا : والشرح درب الزيدية ومعليقها ، انتزعه من شرح أبي طالب ، قال الإمام المهدي عليه‌السلام : انتزعه بحذف أسانيد الحديث فقط ، وشرح أبي طالب ستة عشر مجلدا ، وللقاضي زيد أيضا تعليق أظنه على الإفادة ، أو الزيادات.

(الجنداري).

(١) وهو الذي اختاره الإمام المهدي عليه‌السلام في مختصره ، وقد تقدم تخريج الحديث.

(٢) قلنا : ملك بفاسد ، وهو كالصحيح ، فليس بمحظور.

(٣) قال في ح ص (وهو احتجاج بمحل النزاع).

١٣٢

الحكم الثاني : مأخوذ من قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وهذا كان في علماء بني إسرائيل.

والمعنى : ولا تكتبوا في التوراة ما ليس فيها ، فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم. (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) يعني : صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تقولون : لا نجده في التوراة ، أو حكم كذا تمحونه وتثبتون خلافه. فيدخل في هذا كتم الشهادة ، وكتم الفتوى ، وكتم المذاهب الصحيحة ، وإظهار البدع لغرض.

قال الحاكم : وإنما يكون كتمانا إذا مست الحاجة إلى إظهاره ، وقد يجب إظهار المذهب والدليل للتهمة ، أو للإرشاد.

وهذا الكتم حيث لا يؤدي النطق بالحق إلى محظور ، فإن كان يؤدي إلى محظور جاز الكتم ، كالنطق بكلمة الكفر ، ولأن الحسن يقبح إذا أدى إلى قبح ، ولهذا قال تعالى في سورة الأنعام : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٠٨]. ويروى لعلي بن الحسين (١) صلوات الله عليه وسلامه :

إني لأكتم من علمي جواهره

كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

__________________

(١) علي بن الحسين عليه‌السلام هو : الإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي ، العلوي الحسيني ، أبو محمد زين العابدين ، سمع أباه ، وابن عباس ، والمسور بن مخرمة ، وأبا رافع ، وعائشة ، وأم سلمة ، وصفية ، وآخرين ، وعنه أولاده محمد ، وعبد الله ، وزيد ، وعمر ، والحسين ، وعلي ، والقطان ، والزهري ، وآخرون ، قال القطان : هو أفضل هاشمي رأيت بالمدينة ، وقال الزهري : ما رأيت أفضل منه ، ولد عليه‌السلام سنة خمسين ، وهي السنة التي ولد فيها الزهري ، وقال أبو طالب في الإفادة : ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان ، وقيل غير ذلك ، قال الزبير بن بكار : كان عمره يوم الطف ٢٣ سنة ، قال السيد الحافظ : فضائله عليه‌السلام أكثر من أن تحصى ، أو يحيط بها الوصف ، قال الجاحظ في كتابه الذي صنفه في فضل بني هاشم : أما علي بن الحسين فلم أر الخارجي في أمره إلا كالشيعي ، ولم أر الشيعي إلا كالمعتزلي ، ولم أر المعتزلي ـ

١٣٣

وقد تقدم في هذا أبو حسن

إلى الحسين ووصى قبله الحسنا

يا رب جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا

ويدخل في لبس الحق بالباطل : التزوير على الأئمة في الخطوط لغرض دنيوي ، فأما التزوير على الظلمة ، وأئمة الجوز لأخذ عين يستحق أخذها ، كأن يغصب عليه شيىء ، أو نحو ذلك فهو جائز ، وقد يؤخذ ذلك من قصة يوسف عليه‌السلام مع اخوته في حديث الصواع ، وسيأتي إنشاء الله تعالى.

وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لأن ذلك مع العلم أقبح ، وربما عذر الجاهل

قال الحاكم : وإنما كان ذنب العالم أعظم مع أن الجاهل عاص بالجهل والكتم ؛ لأن العالم معاند ، ولعظم نعمة الله عليه بالعلم ، قال : وكتمان الحق من المعاصي العظيمة ، وقد يبلغ الكفر في بعض المواضع.

الحكم الثالث : وجوب الصلاة والزكاة ، وذلك مجمل في الآية ، وبيانه معلوم من السنة ، وقوله تعالى : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) قيل خص

__________________

ـ إلا كالعامي ، ولم أر العامي إلا كالخاصي ، ولم أر أحدا يمتري في فضله ، توفي سنة ٩٤ ه‍ وقيل غير ذلك ، وقد صنف الذهبي في مناقب زين العابدين كتابا ، وقبره بالبقيع رضي الله عنه.

وفي المجموعة الشعرية الصادرة عن دار الفرقان ، يروى للحلاج ، وهو من البسيط ، وفيه (كيلا يرى العلم ذو جهل فيفتتنا). والحلاج : هو الحسين بن منصور الحلاج ، فيلسوف ، عده البعض من كبار الزهاد ، وبعض في زمرة الزنادقة والملاحدة ، أصله من بيضاء فارس ، ونشأ بواسط العراق ، وظهر أمره سنة ٢٩٩ ه‍ واتبعه بعض الناس. وكثرت الوشايات به عند المقتدر العباسي ، فأمر بالقبض عليه فسجن وعذب ، وضرب ، وقطعت أطرافه الأربعة ، ثم قتل ، وحز رأسه ، وأحرقت جثته ، وذر رمادها في الفرات ، ونصبت رأسه على جسر بغداد.

١٣٤

الركوع ؛ لأن لا ركوع في صلاة اليهود ، وقيل : المراد بالركوع هنا الخضوع ، وقيل : أراد الصلاة نفسها ، ويكون هذا تأكيدا.

وقيل : أراد بذلك صلاة الجماعة ، وعير عن الصلاة بالركوع ؛ لأنه بعض أجزائها ، كما عبر عنها بالسجود ، ويكون هذا حكما رابعا ، وهو : وجوب صلاة الجماعة ، وهذا قد ذهب إليه طائفة من العلماء منهم أبو العباس ، وأحد قولي الشافعي ، وابن حنبل ، وأهل الظاهر على خلاف في ذلك ، هل هي فرض عين أو فرض كفاية؟ وهل الجماعة شرط في الصحة؟ وأكثر العلماء يذهبون إلى أنها سنة ، ويحملون الأمر بالركوع على الخضوع ، وأنه تعالى خصه من حيث أنه لا ركوع في صلاة اليهود ، أو على صلاة الجماعة ، ويكون الأمر بها على سبيل الندب ؛ لأنه قد ورد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ نيفا وعشرين جزءا) (١) والتفضيل لا يكون إلا بين الجائزين.

قال في شرح الإبانة : «ولأن صلاة الجماعة لو وجبت في الأداء لوجبت في القضاء» وأكثر الشروط والأركان دلالته من جهة السنة في الصلاة والزكاة.

قوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة : ٤٤] (٢)

__________________

(١) أخرج نحوه البخاري في كتاب الأذان باب فضل صلاة الجماعة ، ومسلم أيضا نحوه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب فضل صلاة الجماعة.

(٢) الهمزة للتقرير ، والتعجب من حالهم ، والبر سعة الخير والمعروف ، وقوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) توبيخ عظيم ، والمعنى : أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه ، وكأنكم في ذلك مسلوبوا العقول ؛ لأن العقول تأباه وتدقعه ، ونحوه (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

١٣٥

الثمرة المطلوبة من ذلك :

أن البر المراد هنا واجب ؛ لأن الله تعالى وبخهم على تركه ، والمراد بالنسيان هنا : الترك ، ومنه قوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة : ٦٧].

وهذه الآية نزلت في أحبار اليهود ؛ لأنهم كانوا يأمرون من نصحوه من أقاربهم في السر باتباع محمد صلّى الله عليه وآله وسلم ، ولا يتبعونه.

وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون.

وقيل : كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بكتابهم ، ويتركون ذلك ؛ لأن جحدهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع كون صفته في كتابهم ترك لكتابهم.

وقيل : كانوا يأمرون العرب بالإسلام إذا بعث إليهم نبي ، فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفروا به.

قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) يعني التوراة ، وفيها (١) صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إن قيل : الأمر بالبر طاعة ، فلم نهوا عنه؟ قال الحاكم : المذموم : ما ضموا إليه من ترك العمل به.

وقيل : لأنهم لم يأمروا بالبر لحسنة ؛ إذا لبدأوا بنفوسهم ، وذلك لأن الأمر واجب ، والعمل واجب ، فالإخلال بأحد الواجبين لا يسقط الآخر ، ولا يمنع من تأديته.

وعن الحسن رضي الله عنه : «لو لم نأمر بشيء حتى نفعل لضاع الأمر» ولكن حصل التوبيخ لترك البر مع المعرفة بحسنه ولزومه ، وذنب العالم أعظم. ولهذا قال تعالى : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) يعني : وأنتم

__________________

(١) في نسخة (وفيه).

١٣٦

عالمون بلزومه ، وأن من أمر بالبر لا لحسنه كان كأنه لم يأمر ، إذ لم يأت به على وجهه.

قال في الكشاف : عن محمد بن واسع «بلغني أن ناسا من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار ، فقالوا لهم : قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة ، فقالوا كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها».

وفي السفينة (١) عن أسامة بن زيد (٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور كما يدور الحمار بالرحا ، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر؟ فيقول : بلى ، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر ولا أنتهي».

الأقتاب : جمع قتب ـ بكسر القاف ـ وهي الأمعاء ، فكان أمره منكرا آخر ، لكونه لم يأت به على وجهه ، وقد ذهب إلى هذا المعنى أبو الأسود الدؤلي (٣) في قوله :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

__________________

(١) كتاب للحاكم الجشمي المحسن بن كرامة.

(٢) أسامة بن زيد هو : أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل ، الكلبي الأمير ، حب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن حبه ، يكنى أبا محمد ، وأبا زيد ، مات سنة ٥٤ ه‍ وهو ابن ٧٥ سنة بالمدينة.

(٣) أبو الأسود هو : ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي ، الكناني ، تابعي ، واضع علم النحو بأمر امير المؤمنين علي عليه‌السلام ، من الفقهاء ، والأعيان ، والأمراء ، والشعراء ، والفرسان ، وحاضري الجواب ، سكن البصرة خلافة عمر ، وولي إمارتها في ولاية الإمام علي عليه‌السلام ، شهد مع الإمام علي صفين ، وهو أول من نقط المصحف ، ولد سنة ١ قبل الهجرة ، وتوفي سنة ٦٩ ه‍.

١٣٧

فهناك يسمع ما تقول ويقتدى

بالقول منك وينفع التعليم

تصف الدواء لذي السقام من الردى

ومن الردى قد كنت أنت سقيم

قال في الحلل : وقيل : إنها للأخطل (١) ، وقيل : إنها للمتوكل الليثي (٢).

والبر : الإحسان ، وفي المثل «لا يعرف الهر من البر» (٣) يعني : من يبره ممن يهر عليه ، وقيل : السنور من الفأرة ، وقيل : الهر ـ دعاء الغنم ، والبر : سوقها ، والبر : يطلق على كل خير.

قوله تعالى

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥]

الثمرة من ذلك :

أنه ينبغي الاستعانة على البلايا والنوائب بالصبر عليها ، والالتجاء

__________________

(١) الأخطل : هو غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة بن عمرو ، أبو مالك ، من بني تغلب ، أبو مالك ، شاعر مصقول الألفاظ ، حسن الديباجة ، في شعره إبداع ، وهو أحد الثلاثة المتفق على أنهم أشعر أهل عصرهم جرير ، والفرزدق ، والأخطل نشأ على المسيحية في الجزيرة. ولد سنة ١٩ وتوفي سنة ٩٠ ه‍.

(٢) المتوكل الليثي : هو المتوكل بن عبد الله بن نهشل بن مسافع بن وهب الليثي من شعراء الحماسة ، وكني بأبي جهمة ، وهو ليثي من ليث ابن بكر وقيل : كان زمن معاوية ، ونزل الكوفة. توفي سنة ٨٥ ه‍ قال الآمدي : وهو صاحب البيت المشهور (لا تنه عن خلق ...).

وفي الأشعار المجموعة من مؤسسة الفرقان (مجموع الأبيات لأبي الأسود الدؤلي ، وقد ورد البيت الأول ، وهو (لاتنه عن خلق ..) فقط ضمن قصائد للمذكورين ، وأما بقية الأبيات فلم توجد إلا في قصيدة لأبي الأسود الدؤلي.

(٣) الهر : الاسم من قولك : هررته هرا اي كرهته. وفي المثل : فلان لا يعرف هرا من بر اي لا يعرف من يكرهه ممن يبره. ويقال : الهر في هذا المثل : دعاء الغنم والبر سوقها.

١٣٨

إلى الصلاة عند وقوعها ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا حزبه (١) أمر فزع إلى الصلاة.

وعن ابن عباس : أنه نعي إليه أخوه قثم (٢) ، وهو في سفر فاسترجع ، وتنحى عن الطريق فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (٣).

وقيل : المراد ، واستعينوا على حوائجكم إلى الله تعالى بالجمع بين الصبر والصلاة ، أي : تصلون صابرين على تكاليف الصلاة ، وما يلزم فيها من الإخلاص ، وحفظ النيات ، ودفع الوساوس مع الخشية والخشوع ، واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات ، ليسأل فك الرقاب من سخطه وعذابه ، ومن هذا قوله تعالى في سورة طه : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ١٣٢].

وقيل : الصبر : هو الصوم (٤). وقيل : الصلاة : الدعاء.

إن قيل : إذا لم تكبر على الخاشعين ، فكيف استحقاق الثواب ، وهو على قدر المشقة؟

جواب ذلك : أن مشقة الخاشعين أعظم ؛ لأنهم يؤدونها مع تدبر الآيات ، واستحضار الخوف والحزن ، واستصحاب النية وغير ذلك ؛ لكن لما علموا الثواب العظيم سهل الأمر عليهم.

__________________

(١) حزبه أمر إذا أصابه. صحاح. والحديث أخرجه أبو داود ٢ / ٣٥ رقم ١٣١٩ ، وأحمد.

(٢) قثم : هو قثم بن العباس بن عبد المطلب ، صحابي استشهد في غزوة سمرقند سنة ٥٧ ه‍ وقبره بها ، وولي المدينة لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٣) قال في تخريج الكشاف : موقوف : أخرجه سعيد بن منصور ، والطبري من طريق عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه

(٤) لأنه حبس عن المفطرات ، ومنه قيل لشهر رمضان : الصبر.

١٣٩

ونظير ذلك من يشرب الدواء الكريه مع معرفته بنفعه ، فإنه يسهل عليه ، بخلاف الجاهل ، هذا مثال ضربه الحاكم.

ومثّله الزمخشري : بمن وعد على بعض الصنائع أجرة زائدة ، فإنك تراه في عمله ناشطا ، مع انشراح صدر ، ومضاحكة لمحاضريه ، كأنه مما يستلذ بمزاولته ، بخلاف حال عامل يتسخره بعض الظلمة ، ومن ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وجعلت قرة عيني في الصلاة) (١) وكان يقول : (يا بلال روّحنا) (٢).

قال سيدنا : سمعت من يصف شفاء لمريض ، وهو يقول لبعض خواصه : «ارجع إلى الصلاة» مستدلا بالآية الكريمة.

قوله تعالى

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ٤٦]

الثمرة من ذلك : عظم حال التفكر في العاقبة ، وفيما أعد لأهل الثواب والعقاب ؛ لأن ذلك يكون لطفا.

والظن يكون بمعنى العلم ، ومنه قوله تعالى في سورة التوبة : (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) [التوبة : ١١٨] وقال الشاعر (٣) :

__________________

(١) جزء من حديث أخرجه النسائي ٧ / ٦١ ، ٦٢ ، وأحمد انظر الفتح الرباني ٢ / ٢٠٦ رقم ٢٦. والسيوطي في جامع الأحاديث ٣ / ٧٤٧.

(٢) أخرجه أبو داود ٤ / ٢٩٦. وبلال هو : بلال بن رباح ، المؤذن ، وهو ابن حمامة ، أبو عبد الله ، مولى أبي بكر ، وحمامة أمه ينسب إليها ، صحابي جليل ، من السابقين الأولين ، شهد بدرا ، والمشاهد كلها ، مات بالشام سنة ١٧ ه‍ أو سنة ١٨ ه‍ وقيل سنة ٢٠ ه‍ وله بضع وستون سنة ، مذكور في الأذان ، رحمه‌الله تعالى.

(٣) الشاعر : هو دريد بن الصمة ، وهو يروي في كتب الشعر :

علانية ظنوا بالفي مدجج

سراتهم في الفارسي المسرد

وهو ضمن أبيات قالها في رثاء أخيه عبد الله بن الصمة ، والمدجج : الفارس الذي تدجج في سلاحه ، أي : تغطى به ، والسراة : علية القوم وسادتهم ، والفارسي المسرد : الدروع الفارسية الحسنة الحبك والنسج ، ومنه قوله تعالى (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ).

١٤٠