تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

وهو الظاهر من مذهب الهادي عليه‌السلام أنه لا يطهر بالغسل ؛ لأن نجاسته ثابتة بعموم الأدلة ولا مخصص (١).

وقال أبو يوسف : إنه يطهر بالغسل إذ لو لم يطهر بالغسل لم نؤمر بغسله ؛ لأن الغسل لا يزيده إلا تنجيسا ، فجعل الأمر بغسله مخصصا له في الطهارة من بين سائر الميتات.

وقد قال أبو طالب : الأمر بغسله تعبد ، ولا يمتنع أن يصير في حكم الطاهر.

وهذا محتمل لكلام أبي يوسف ، ولخلافه.

وأما في الانتصار فحكى طهارته بالغسل عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومالك ، والشافعي ، قال : وهو الذي أشار إليه أبو طالب.

التنبيه السابع

في عظام الميتة وعصبها ، وأصول قرونها ، وأظلافها ، وحوافرها ، هل ذلك ميتة فيقضى بنجاستها أم لا؟ قلنا : في ذلك مذهبان :

مذهب عامة أهل البيت عليهم‌السلام ، ومالك ، والشافعي : أنها نجسة ؛ لأنه تحلها الحياة (٢) ، فلحقها الموت ، والميت نجس لما تقدم.

ويدل على أن الحياة تحل العظم ، قوله تعالى : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٨] والعصب يجري مجرى اللحم ؛ لأنه يؤكل ، ويلحقه الألم ، وذلك دلالة الحياة ، وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إن ذلك

__________________

(١) يقال : قد الدليل على التخصيص ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا).

(٢) وكذا في البحر ، حيث قال : قلنا : يحي العظام وهي رميم. وفيه في السير (وأما العاج وهو عظم الفيل فطاهر مباح ، إذ لا تحله الحياة ، كالقرن اه وهذا هو الصحيح في العاج ؛ لأنه في الفيل كالقرن في سائر الحيوانات ، ولذا يكون باطنه عظم تحله الحياة كما يكون في باطن القرن ، والله أعلم. (ح / ص).

٢٨١

لا تحله الحياة ؛ لأن ذلك صلابة وخشونة ، وليس فيه بنية الحياة ، وأما قوله تعالى : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فذلك مجاز كقوله تعالى : (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الروم : ١٩] ورد بأن المجاز إذا ثبت في موضع بدليل لم يلزم منه ثبوته في آخر بغير دليل.

ولأبي حنيفة في عظم الآدمي روايتان ، قال في شرح الإبانة : وحكى عن أبي عبد الله البصري أن عظم الآدمي نجس حال الحياة ، وبعد الممات ، بدليل أنه لو طحن طعام فيه سن آدمي فإنه لا يجوز أكله ، وغلط بأن نجاسته بعد انفصاله.

التنبيه الثامن

إذا قطع عضو من آدمي فإنه نجس على قول علماء العترة عليهم‌السلام ، وأبي حنيفة ، ومالك ، وأحد قولي الشافعي ؛ لأنه ميتة ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما أبين من الحي فهو ميت) وأحد قولي الشافعي : أنه طاهر بناء على أحد قوليه : أن المسلم لا ينجس بالموت.

التاسع

في فأرة المسك والمشيمة ، وهي التي تكون وعاء للولد ، فإن ذلك يكون نجسا ؛ لأنه ميتة ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما أبين من الحي فهو ميت) لكن عفي عن المسك المجاور لفأرته ، لاستعمال المسك خلفا عن سلف من غير نكير ، وفي وجه لأصحاب الشافعي : تطهر الفأرة ؛ لأنها تنفصل بطبعها.

العاشر

ما جسا من العقب ، أو شل من الأعضاء ، فإنه يكون ميتة ؛ لأن الحياة كانت متعلقة به قبل ذلك ، لكن عفي عنه مع اتصاله ، ولكون نجاسته مغلظة لعموم الأدلة كما هو ظاهر المذهب ، وقال بعض

٢٨٢

المحصلين (١) ، والإمام المهدي (٢) : إن نجاسته مخففة ، فيعفى عن قدر حبة الذرة ، ويخصص العموم بخشية الوقوع في الحرج.

الحادي عشر

في جنين ما يؤكل لحمه إذا خرج من المذكاة ميتا ، فقال الأكثر من أهل البيت عليهم‌السلام ، وأبو حنيفة : إنه نجس

غير مأكول ، لدخوله في عموم الميتة ، وقال أبو يوسف ومحمد ، والشافعي : إنه طاهر مأكول.

__________________

(١) بعض المحصلين هو : الفقيه ح ، والإمام المهدي المراد به الإمام أحمد بن الحسين.

(٢) الإمام المهدي : هو أحمد بن يحي بن المرتضى ، الحسني ، الهدوي الإمام المهدي ، أبو الحسن ، قال السيد الحافظ : هو إمام الزيدية في كل فن ، وقال القاضي : ارتضع ثدي العلم ، وربي في حجر الحلم ، وقدره لا يحتاج إلى وصف واصف ، ومحله يغني عن تعريف عارف ، كما قال بعضهم :

نحن الكرام وأبناء الكرام فإن

تجهل مكارمنا فاسأل أعادينا

وقال السيد محمد بن إبراهيم عليه‌السلام :

غرق الضلال ببحرك الزخار

فافخر على الأقران أي فخار

الأبيات. قال بعضهم : مهما باشرت علم الفقه وجدت الجم الغفير يغترفون من بحره ، وينتجعون من غيثه ، وزنينه ، فالدفاتر بعده وإن تعددت فشيخها أحمد ، أو عددت العلماء فهو واسطة عقدها المنضد ، أو خضت علم الكلام إلى الغايات وجدت من بعده يتداولون العبارات ، فكلم من غائص في بحره ، قد التقط الدرر الفرائد ، وعاطل نحره قد حلاه بالجواهر واليواقيت والقلائد ، وسيرته مشهورة ، قال الشيخ صالح المقبلي : «الإمام المهدي هو الذي أخرج مذهب الزيدية إلى حيز الوجود».

بويع له عليه‌السلام لما مات الإمام صلاح الدين سنة ٧٩٣ ه‍ ، ثم وقع ما هو معروف ، وسجن في قصر صنعاء ، وقيل : في الدار الحمراء ، وفيه ألّف الأزهار ، والغيث ، ومدة حبسه سبع سنين وأشهر ، إلى سنة ٨٠١ ه‍ ثم هيأ الله خروجه ، فخرج إلى الفقيه يوسف إلى ثلا ، ثم ارتحل إلى الهادي علي بن المؤيد ، فاتفقا ، قيل : سلم الخلافة ، وقيل : لا ، وبقيا على التواد العظيم إلى أن توفي الهادي ، وقبض المهدي بيت المال ، وقضى دين الهادي ، وتوفي الإمام المهدي شهيدا بالطاعون الكبير في شهر القعدة ، سنة ٨٤٠ ه‍ بعد وفاة المنصور بالله علي بن صلاح بتسعة أشهر ، وقبره بظفير حجة مشهور.

٢٨٣

وقال زيد ، ومالك : إذا أشعر ، وقالوا : إنه مخصوص بتفسير ابن عباس (١) لقوله تعالى في سورة المائدة : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) [المائدة : ١] قلنا : لا يصح التعلق بهذا ، إذ يحتمل أنه أراد إذا خرج حيا ، وذكي ، مع أنه قد روي في تفسير الحسن أن المراد الشاء ، والبقر ، والإبل ، قالوا : خصه الخبر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ذكاة الجنين ذكاة أمه).

قلنا : الرواية الصحيحة (ذكاة أمه) بالنصب ، والمعنى : كذكاة أمه ، فانتصب بنزع الخافض ، كقوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥].

وعلى رواية الرفع يحتمل أن المراد أنه يجب أن يذكى كما تذكى الأم ، ولو أراد ما ذكرتم لقال : ذكاة الأم ذكاة الجنين ، وهو كقوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران : ١٣٣] وقول الشاعر :

فعيناك عيناها وجيدك جيدها

سوى أن عظم الساق منك دقيق

قالوا في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ذكاة الجنين ذكاة أمه) إذا أشعر. قلنا : لعل سائلا سأل عن جنين قد أشعر.

الثاني عشر

أنفحة الميت نجسة لمجاورتها الميتة ، فتدخل في العموم ، وهذا ظاهر مذهب العترة ، وهو قول الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إنها تكون طاهرة ، وإنها مخصوصة بما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أتي بجبن في غزاة الطائف قال : (أين يصنع هذا) قالوا : بأرض فارس ، قال : (اذكروا الله عليه ثم كلوا) وذبائح فارس ميتة ؛ لأنهم كانوا مجوسا ، والجبن لا ينعقد إلا

__________________

(١) في النيسابوري عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين فأخذ ابن عباس بذنبها وقال : هذه بهيمة الأنعام ، وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام ، وذكاته ذكاة أمه. (ح / ص).

٢٨٤

بالأنفحة (١) ، والأنفحة شيء أصفر يكون في كرش الجدي قبل أن يأكل الشجر ، وهي بكسر الهمزة ، وفتح الفاء.

والجبن : بضم الجيم ، والباء ساكنة ، وفيه لغة بضم الباء مخففة ، وبضم الباء والنون مشددة ، قلنا : هذا منسوخ بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١].

وقد قيل : إنه كان يذبح لهم أهل الكتاب ، وذبائح أهل الكتاب فيها الخلاف.

الثالث عشر

في شعر الميتة ، ووبرها ، وأطراف القرون ، والأظلاف ، والأظفار ، وفي ذلك مذهبان :

فقال القاسم ، والهادي ، والمؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، والثوري : إن ذلك طاهر ؛ لقوله تعالى : (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) [النحل : ٨٠] فامتن الله علينا بالانتفاع بها في اللباس وغيره من الانتفاع ، ولم يفصل بين أن يؤخذ من حي ، أو ميت.

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا بأس بصوف الميتة ، وشعرها إذا غسل بالماء) وذكر الغسل لما يترشح من العرق عند الموت في الغالب ، فهو كأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغسل الكفين قبل إدخالهما الإناء ؛ ولأن الشعر لا حياة فيه ، فيكون ميتة ، إذ لو كان كذلك لوجب أن ينجس إذا قطع من الحي ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما أبين من الحي فهو ميت).

المذهب الثاني : قول الشافعي : إن ذلك نجس ؛ لأنه من جملة

__________________

(١) وقد سمعت فتوى لبعض علمائنا المعاصرين بأنها قد استحالت إلى طاهر ، وهو الجبن ، والاستحالة أحد المطهرات.

٢٨٥

الميتة ، وقد قال عليه‌السلام : (لا ينتفع من الميتة بشيء) قال : لكنه يعفى عن الشعرة والشعرتين.

واختلف قوله في شعر الآدمي. وجواب هذا أنه ليس بميتة ، ولعموم الآية ، والخبر المتقدم.

وأما المرتضى ، وأبو العباس ففصلا بين شعر ما يؤكل أنه يكون طاهرا ، من حي أو من ميت ، وبين شعر ما لا يؤكل أنه ينجس متى انفصل من حي أو من ميت ، من آدمي ، أو من غيره ؛ لأنه ينمو بنمائه ، وضعف ذلك أبو طالب.

أما البيضة والجنين الحي إذا خرجا من ميت فلا إشكال في طهارة ذلك ، ولكن قال أصحاب الشافعي في البيضة : بشرط أن يصلب قشرها ، وإلا كانت كاللبن ، وحكم لبن الميتة أنه نجس عند المؤيد بالله ، والشافعي ، لا لكون الحياة تحله ، لكن لملاقاته الميتة ، فهو كاللبن في الإناء النجس ، وقال أبو طالب ، وأبو حنيفة : إنه طاهر ؛ لأن بينه وبين الميتة بلة لا تحلها الحياة ، أما لبن غير المأكول ، فليس من هذا الأصل ، وسنبينه إن شاء الله تعالى ، فهذه التنبيهات فروع تتعلق بحكم الميتة.

الحكم الثاني : يتعلق بالدم ، وفيه فروع :

الأول : هل ذلك عام في قليله وكثيره؟ أم مخصوص بالسافح؟ وفي ذلك مذهبان

الأول : أنه عام ؛ لأن اللفظ من ألفاظ العموم ، وهذا قول المؤيد بالله ، والناصر ، وهو قول للشافعي.

قال المؤيد بالله : إلا أنه يعفى عن اليسير ؛ لتعذر الإحتراز ، وذلك مقدار رؤوس الإبر ، وحب الخردل ، ويطابق عموم الآية عموم خبر عمار عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنما تغسل ثوبك من البول والدم).

٢٨٦

وعند القاسم ، وهو الذي حصله أبو العباس ليحي عليه‌السلام ، وهو أصحاب أبي حنيفة : أن النجاسة تعلق بالسافح ؛ لأن المطلق يحمل على المقيد ، وقد ورد مقيدا بالسافح ، في قوله تعالى في سورة الأنعام : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) [الأنعام : ١٤٥] ولخبر علي عليه‌السلام قال : «خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تطهر للصلاة ، فأمس إبهامه أنفه ، فإذا دم ، فأعاد مرة أخرى فلم ير شيئا ، وجف ما في إبهامه فأهوى بيده إلى الأرض فمسحها ، ولم يحدث وضؤا ، ومضى إلى الصلاة».

ومذهب جمهور الأصوليين أنه يحمل المطلق على المقيد ، فيقيد ذكر الدم مطلقا بذكر السافح ، ومنهم من يقول : يقضى بالمطلق ؛ لأن فيه زيادة.

وأما دم الكلب ، والخنزير ، والميتة ، وما يخرج من السبيلين مما لا يؤكل ، والكافر فالقليل نجس ، ولا يخص من العموم ؛ لأنه قد حكم بنجاسة جملة الكلب ، والخنزير ، والميتة بدليل ، والدم جزء من هذه الجملة ، ثم إن السافح المحكوم بنجاسته قدر بالقطرة ؛ لأنه ينطلق عليه اسم السافح ، على تخريج السادة للمذهب.

وأبو حنيفة قدّره بقدر الدرهم ؛ قياسا على ما استقر عنده من العفو لما يعلق بحلقة الدّبر.

الفرع الثاني

هل ذلك عام في دم الحيوانات كلها ، أو يخص بعضها ، وفي ذلك مذهبان :

الأول : أنه عام لشمول الاسم وعمومه ، وهذا قول الناصر ، والمؤيد بالله ، والشافعي ، فيدخل في هذا دم السمك والبق.

٢٨٧

والذي خرجه أبو العباس للهادي عليه‌السلام ، وذكره أبو طالب ، وأصحاب أبي حنيفة أن ذلك طاهر ، وخصوا هذا من العموم ، أما دم السمك فلأن السمك نفسه مخصوص من الميتة في الحل والطهارة ، فكذا دمه خالف سائر الدماء ؛ ولأنه لما أكل بدمه كان دمه طاهرا ، كالدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح.

قال الشيخ أبو جعفر : وهذا غير مسلم ؛ فإنا لا نجوز أكل الدم.

وأما دم البق ، والبراغيث فخصص بالطهارة لأنه ليس بسائل ، وللمؤيد بالله قولان في دم البراغيث ، وجه القول بطهارته أنه مخالف لصفة الدم.

الفرع الثالث

في المصل ، والقيح أنهما نجسان ؛ لأن ذلك دم ازداد تغيرا إلى القذر ، واختلف أصحاب الشافعي في ماء القروح الذي لم ينتن ، أما ما أنتن فهو كالقيح ، وأما غير المنتن فقيل : طاهر كالعرق ، وقيل : نجس كالقيح ، وفي مذهبنا خلاف في ماء المكوة ، كهذا الخلاف.

الفرع الرابع

العلقة : فمذهبنا ، وبعض أصحاب الشافعي : أنها نجسة ؛ لأنه دم خارج من الرحم كالحيض.

وقال بعض أصحاب الشافعي : إنها ليست بنجسة ؛ لأنها دم غير مسفوح ، فأشبه الكبد والطحال.

الحكم الثالث : يتعلق بالخنزير ، وفي ذلك فروع :

الأول : تحريم لحمه ، وتحريم شحمه ، وذلك إجماع.

قال الزمخشري : إن قيل : إنما ذكر لحم الخنزير دون شحمه ،

٢٨٨

قلت : لأن الشحم داخل في ذكر اللحم ، لكونه تابعا له وصفة فيه ، بدليل قولهم : لحم سمين يريدون أنه شحيم (١). تم كلامه.

وأما مسألة الأيمان إذا حلف من اللحم ، أو من الشحم فالمتبع في ذلك العرف.

ومنها : نجاسة الخنزير ، وذلك إجماع ، إلا رواية لمالك ، وقد يحتج بهذه الآية على النجاسة ، وفي ذلك ما تقدم (٢) ، ويحتج بقوله تعالى في سورة الأنعام : (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) [الأنعام : ١٤٥] ويدخل في ذلك شعره ؛ لأن الهاء ضمير ، ومن حقه أن يرجع إلى أقرب مذكور ، وهو الخنزير والشعر جزء منه ، هذا ما حصل لمذهب الهادي عليه‌السلام ، وهو قول الشافعي ، ولا يجوز استعماله ، وعند أبي حنيفة : يجوز استعماله للأسكافية ، وإن كان نجسا.

وقال الناصر ، ومحمد بن الحسن (٣) : إن شعره طاهر ؛ لأن الحياة لا

__________________

(١) شرح الإبانة للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب الهوسمي ، والإبانة للإمام الناصر الأطروش عليه‌السلام

(٢) في أول تفسير الآية ، وهو أن النجاسة تفتقر إلى دليل غير الآية. (ح / ص).

(٣) محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني بالولاء ، الفقيه الحنفي ، أبو عبد الله ، أهله من قرية بغوطة دمشق ، ولد بواسط ، ونشأ بالكوفة ، وحضر مجلس أبي حنيفة سنين ، ثم تفقه على أبي يوسف ، وصنف الكتب الكثيرة منها : الجامع الكبير والصغير ، وجمع موطأ مالك ، وعده المنصور بالله من رجال العدلية ، قال : وهو الذي غضب لله في أمر يحي بن عبد الله لما أراد الرشيد نقض أمانه ، قال : هذا لا ينقض ، ومن نقضه فعليه لعنة الله ، فرماه الرشيد بالدواة فشجه ، وكان يقول محمد : أنا على مذهب زيد بن علي مهما أمنت على نفسي ، فإن خفت فإني على مذهب أبي حنيفة ، وهذا تصريح بتفضل العنصر النبوي ، توفي رحمه‌الله بالري سنة ١٨٩ ه‍ ومولده سنة ١٣٥ ه‍ وقيل غير ذلك ، ويوم موته مات الكسائي علي بن حمزة ، وكان يقول الرشيد : دفن الفقه والعربية في يوم واحد.

٢٨٩

تحله ، وهو قول الباقر والصادق ، والامامية ، وهو يقال في الاستدلال على نجاسة الشعر بالآية ، وأن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور ، وهو الخنزير ، أن هذا غير مسلم ، بل ذلك يرجع إلى المضاف ؛ لأن التوابع تعلق بالمضاف دون المضاف إليه إلا بدليل.

ثم إن سلمنا أن الضمير يرجع إلى الخنزير ، وأن الشعر جزء منه ، فإنه يخرج من حكم النجاسة بكون الحياة لا تحله كشعر الميتة.

وقال القاسم عليه‌السلام : ترك الخرز به أفضل ، قال المؤيد بالله : دل ذلك على أنه لم يحرمه ، قال في شرح الإبانة : ولا يطهر جلده بالدباغ عند عامة العلماء ؛ لأنه لين ، فيلزق به الشحم.

وعن أبي يوسف رواية شاذة ، وعن مالك أيضا رواية شاذة : أنه يطهر بالدباغ ، وهو قول داود.

ومنها : أن خنزير الماء داخل في حكم خنزير البر في التحريم عند أصحابنا ، والحنفية ، لدخوله في اسم الخنزير ، وأباحه الشافعي لعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البحر : (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فيكون الحديث مخصصا له.

ومن أصحاب الشافعي من حرم من حيوان البحر ما حرم مثله من حيوان البر.

الحكم الرابع

يتعلق بقوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة : ١٧٣] والمعنى : ما رفع به الصوت للصنم ، وذلك قول الجاهلية : باسم اللات والعزى ، وقد دلت الآية على تحريم ذلك ، فلو أنه لم ينطق بلسانه ، ولكن ذكر ذلك بقلبه ، قال الحاكم : فمنهم من حرم ذلك وصححه ، ومنهم من لم يحرمه ، والمذهب تحريمه.

٢٩٠

قال الحاكم : واختلفوا في النصراني إذا ذبح لعيسى ، وسمى اسمه ، فمنهم من حرم ، والظاهر يدل عليه ، ومنهم من لم يحرم ، فأما إذا لم يعلم كيف ذبح ، فيحل عند من جوز ذبيحة أهل الكتاب ، قال سعيد بن جبير : وتحرم ذبيحة المسلم إذا ذبح على هذا الوجه (١).

قال الحاكم : وهذا على التقدير ؛ لأنه يخرج بذلك عن الإسلام ، أما لو ترك المسلم التسمية ، فسيأتي عند قوله تعالى في سورة الأنعام : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١].

الحكم الخامس

يتعلق بقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).

وقد دلت الآية على جواز هذه الأشياء للمضطر ، وفي ذلك فروع :

الأول : في ماهية الضرورة المبيحة لأكل الميتة ونحوها ، وفي ذلك وجوه :

الأول : أن يكره بالقتل ونحوه على أكلها ، جاز له أكلها ، ولا إشكال في ذلك ، وقد فسر مجاهد الضرورة في الآية بضرورة الإكراه.

الوجه الثاني : ضرورة الجوع ، وهو الذي فسر الآية به أكثر العلماء ، والجوع المبيح لذلك : هو أن يخشى على نفسه الهلاك إن لم يأكل ، قال في الانتصار : وخشية المرض المؤدي إلى الهلاك ، أو خشية فوت القافلة ، وهو يخشى الهلاك بفواتها

الوجه الثالث : طلب البرء بالتداوي بالميتة والخنزير ، ونحو ذلك ، ففي ذلك خلاف منهم من جوزه ، وجعل ذلك ضرورة ، قال في الانتصار :

__________________

(١) في النيسابوري : قال العلماء : لو أن مسلما ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتدا ، وذبيحته ذبيحة مرتد. (ح / ص).

٢٩١

إذا كان معه داء إن لم يأكل النجس أو الميتة امتد به وصار مخوفا ففي الجواز تردد ، المختار جوازه : لأنه كخشية التلف ، فإن كان الداء (١) يطول ، وهو غير مخوف ، كحمى الربع لم يجز ، وقد يحتج للجواز للتداوي بإباحته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعبد الرحمن بن عوف (٢) لبس الحرير للحكة.

ويحتج للمنع بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما يحرم عليها).

الفرع الثاني : في بيان الباغي ، والعادي المذكور في الآية ، ففسر أبو حنيفة ذلك بأن لا يكون باغيا في التلذذ ، ولا عاديا في مجاوزة ما يسد رمقه.

قال المؤيد بالله : وهو الذي يقتضيه مذهب يحي عليه‌السلام : وهذا تفسير الحسن ، وقتادة ، والربيع ، ومجاهد ، وابن زيد.

وقال الزجاج : (غَيْرَ باغٍ) في الإفراط (وَلا عادٍ) في التقصير ، وقيل : (غَيْرَ باغٍ) على إمام المسلمين (وَلا عادٍ) بالمعصية ، أي : مخالف لطريقة المحقين ، وهذا مروي عن مجاهد وسعيد بن جبير ، وصحح الحاكم الأول.

وقال الناصر ، وزيد بن علي ، والشافعي ، وأحمد بن

__________________

(١) في ب (فإن كان البرء يطول).

(٢) عبد الرحمن بن عوف القرشي المكي ، أحد العشرة ، أسلم قديما ، وهاجر الهجرتين ، وشهد بدرا والمشاهد كلها ، وثبت يوم أحد ، وإصابته عشرون جراحة فهتم وعرج ، وكان كثير المال ، كثير الصدقة ، دعا له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالربح ، فكان لو اتجر في التراب لربح ، توفي سنة إحدى أو ثلاث وثلاثين ، عن ٧٥ سنة ودفن بالبقيع ، وقال علي عليه‌السلام لما مات : يابن عوف أدركت صفوها ، وسبقت كدرها.

٢٩٢

يحي (١) عليه‌السلام : من سافر سفرا لمعصية لا يجوز له الميتة ، وإن خشي على نفسه ؛ لأنه باغ في سفره ، ومذهبنا الجواز ، كالمتيمم عند عدم الماء في سفر المعصية ، ولأن السفر لم يتقدمه ذكر ، وإنما البغي يرجع إلى المحرم ، وهو الأكل ، ولإجماعهم أنه يقتل الجمل الصائل عليه لدفعه عن نفسه ، وإن كان باغيا في السفر ، كذلك أكل الميتة.

الفرع الثالث

أنه لا يجوز للمضطر الشبع من الميتة ؛ لأنه إذا أكل قدر ما يقيم نفسه كان غير مضطر ، وهذا هو مذهبنا ، وأبي حنيفة ، وأحد قولي الشافعي.

وقال في قوله الآخر ، ومالك : يجوز الشبع ؛ لأن الإباحة راجعة إلى الجميع

واختار في الانتصار : أن الحاضر لا يزيد على سد الرمق ، ويجوز ذلك للمسافر ؛ لأنه لا يرجو وجود غيرها.

الفرع الرابع

إذا خشي على نفسه الهلاك إن لم يأكل الميتة ، هل يكلف بأكلها؟ ويجب عليه ذلك أم لا؟ فالذي ذكره الشيخ أبو جعفر أنه يجب عليه (٢) ،

__________________

(١) أحمد بن يحي الهادي بن الحسين الحافظ بن القاسم ترجمان الدين ، الحسني ، الهاشمي ، أبو يحي الإمام الناصر ، قال السيد : نشأ على الزهادة ، وتربى على العبادة ، وكان سلطان الأئمة ، وإمام السلاطين ، ورافع منار الدين ، أخذ العلم عن ابيه ، عن جده ، وعنه ولده يحي ، وكان رجوعه من الحجاز سنة ٣٠١ ه‍ وفيها ادعى ، وكانت وقعة بغاش سنة ٣٠٧ ه‍ وله مصنفات ، وله مع القرامطة جهاد كثير ، ولم يزل ناعشا للدين ، قامعا للمعتدين حتى توفي بصعدة سنة ٣٢٥ ه‍ ودفن جنب أبيه ، في القبة المعروفة. رحمه‌الله تعالى.

(٢) وهو مفهوم كلام الإمام المهدي في مختصره ، ومفهوم (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، وفي النيسابوري (ومعنى قوله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) رفع الحرج والضيق ، كما مر في قوله ـ

٢٩٣

وذكره في الانتصار لقوله تعالى في سورة النساء : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] وقال بعض أصحاب الشافعي : لا يجب ؛ لأنه اجتناب ما حرم الله.

قال الحاكم : إن كان هذا المضطر يشتهي الميتة ، فهو ملجأ فلا تكليف عليه ، وإن كان طبعه نافرا عنها ، فإنه يجب عليه تناولها ، فإن ترك أثم.

الفرع الخامس

إذا وجد جميع ما تقدم ، قال الحاكم : فأكثر العلماء على أنه مخير ، وصححه ، ومنهم من يقول : بتناول الميتة ، ويجعل تحريم الخنزير أغلظ ، وقد ذكر التخيير في كتاب الروضة والغدير حكاية عن الهادي ، والمؤيد بالله ، وغيرهما من السادة ، وذكر في التذكرة ، والحفيظ : أنه يقدم الميتة على الخنزير (١).

الفرع السادس

أن له أن يتزود من هذه المحرمات إذا خشي انقطاع الحلال ، وخشي الهلاك إن لم يتزود ، وادعي الإجماع في ذلك.

__________________

ـ تعالى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ورفع الحرج قدر مشترك بين الواجب والمندوب والمباح ، فلا ينافي الوجوب الأكل في حالة الاضطرار. اه ـ ويعضد القول بعدم الوجوب قصة عمار بن ياسر وأبويه ، وسيأتي للفقيه يوسف في تفسير قوله (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) أنه يجب أكل الميتة. (ح / ص).

(١) وفي الأزهار (ويقدم الأخف فالأخف). وقال في الغيث : فمن أبيح له الميتة قدم ميتة المأكول ، ثم ميتة غيره ، ثم ميتة الكلب ، ثم ميتة الخنزير ، ثم الحربي حيا وميتا ، ثم ميتة الذمي ، ثم ميتة المسلم ، ثم مال الغير ، ثم دابة حية بعد ذبحها.

(غيث)

٢٩٤

الفرع السابع

دخول سائر المحرمات من الخمر ونحوه في الإباحة عند خشية الهلاك قياسا على الميتة ونحوها ، ولقوله تعالى في سورة الأنعام : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [الأنعام : ١١٩] وقوله تعالى في سورة المائدة : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : ٣].

واختلف أصحاب الشافعي في جواز شرب الخمر للضرورة ، فمنهم من قال : لا يجوز لأنها تزيد في العطش ، ومنهم من جوزه ، واختلفوا أيضا في التداوي بها ، فمنعه أهل المذهب ، وقوله تعالى في سورة المائدة : (فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة : ٩٠] المراد لغير الضرورة ، ويجوز شربها عند الإكراه بالقتل ونحوه ، وكذلك إن غص بلقمة ، وخشي الهلاك إن لم يسوغها بالخمر عند عدم الماء ، ويدخل في الإباحة لحوم الميت من بني آدم ، ذكره أبو طالب ، وأصحاب الشافعي (١) ؛ لأن حرمة الحي آكد ، ومنع ذلك داود.

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) [البقرة : ١٧٤ ـ ١٧٦]

__________________

(١) في نسخة (ذكره أبو طالب والمنصور بالله).

٢٩٥

الثمرة المطلوبة من ذلك :

أن في ذلك دلالة على تحريم كتمان الحق ، فيدخل في ذلك العلم ، والشهادة ، والفتوى ، والتحديث بالعلم ، وأن أخذ الأعواض على المحظور معصية كبيرة ؛ لأن تعالى توعد على ذلك ، وجعل أكل الأعواض سبب لأكل النار.

وسبب نزول هذه الآية : أن أحبار اليهود كتموا ما في التوراة من صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لئلا تبطل عليهم الصلات والعطايا ، وفي هذه الآيات اثنا عشر زاجرا عن كتمان الحق ، وأخذ العوض على ذلك.

الأول : أنه تعالى وصف العوض بالقلة ، قيل : لأنه يفوت أعظم نفع ، ويجلب أعظم ضرر ، ولو كان كثيرا ، وقيل : لأنه قليل في نفسه.

الثاني : قوله تعالى : (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) أي عاقبته النار ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء : ١٠] وقيل : لأنهم بأكل الحرام في الدنيا يأكلون النار يوم القيامة.

الثالث : قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) قيل : يعني بما يحبون ، بل بما يغمهم من السؤال والتوبيخ ، وقيل : ذلك كناية عن الغضب.

الرابع : قوله تعالى : (وَلا يُزَكِّيهِمْ) يعني بالثناء عليهم.

الخامس : قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

السادس : وصف العذاب بالشدة ، وأنه موجع مؤلم ، بقوله تعالى : (أَلِيمٌ).

السابع : قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ).

الثامن : قوله تعالى : (بِالْهُدى).

٢٩٦

التاسع والعاشر : قوله تعالى : (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ).

الحادي عشر : قوله تعالى : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) وهذا توبيخ ، وقيل : تعجب ، بمعنى : تعجبوا ممن هذه حاله ، والمراد على عمل أهل النار.

وروي أنه اختصم اعرابيان إلى قاضي اليمن ، فحلف أحدهما على حق صاحبه ، فقال له : ما أصبرك على الله ، أي على عذاب الله ، وقيل : معناه : أيّ شيئ صبّرهم؟ يقال : أصبره ، وصبّره مشتق من الصبر الذي هو حبس النفس.

الثاني عشر : قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي : ذلك العذاب الذي حل بهم بسبب أن الله تعالى نزل الكتاب بالحق فخالفوه.

قوله تعالى

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة : ١٧٧]

السبب في نزول هذه الآية :

أنه كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة فنزلت.

والمعنى : ليس البر العظيم الذي يجب أن تشتغلوا به عن سائر أصناف البر أمر القبلة ، (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) إلى آخرها.

وقيل : الخطاب لأهل الكتاب ؛ لأن اليهود تصلى قبل المغرب إلى بيت المقدس ، والنصارى قبل المشرق ، فلما حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى

٢٩٧

الكعبة أكثروا الخوض فرد الله عليهم ، وقال تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ) ما ذكرتم لأنه منسوخ.

وقيل : سأل رجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن البر فنزلت الآية ، وكان الرجل قبل الفرائض إذا أتى بالشهادتين ثم مات يطمع له في الجنة ، فلما هاجروا ، وفرضت الفرائض نزلت الآية.

قال الزمخشري رحمه‌الله تعالى : والبر : اسم للخير ، ولكل فعل مرضي.

وقوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) فيه ثلاثة أوجه :

الأول : أن المراد على حب المال ، والشح به ، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه : «أن تؤتيه وأنت صحيح ، شحيح ، تأمل العيش ، وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا».

ويكون هذا كقوله تعالى في سورة آل عمران : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] ، وكقوله تعالى في سورة الدهر : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [الإنسان : ٨] قيل : على حب الله ، وقيل : على حب الإيتاء ، بمعنى أن تعطيه طيب النفس بإعطائه.

وللآية ثمرات منها : أن إنفاق المحبوب من المال يعظم أجره ، وكذلك تدل على حسن النية ، وأنه يبتغى بالإنفاق وجه الله تعالى ، وكذلك تدل على أن الإعطاء يكون مع طيبة النفس.

ومنها : اختصاص القرابة بزيادة في الثواب ، لذلك خصهم بالذكر وقدمهم (١) ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صدقتك على المسلمين صدقة ،

__________________

(١) كان حق اللفظ (فقدمهم) لأنه لم يخصهم بالذكر إلا من جهة التقديم فقط.

٢٩٨

وعلى ذي رحمك اثنتان ؛ لأنها صدقة وصلة» (١) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح) (٢) لكن اختلف أهل التفسير : هل أراد بهذا الإيتاء التطوع ، أو الواجب؟ فقيل : أراد بالإيتاء هنا التطوع ، ويكون هذا حضا على نوافل الصدقات ، والمبار.

وفي الحديث : (نسخت الزكاة كل صدقة) (٣) يعني : وجوبها ، والمراد بالنسخ لما عدا نفقة القرابة ، والمماليك ، والمضطرين ، وروي : «ليس في المال حق سوى الزكاة» (٤) وقيل : بل أراد الواجب. واختلف ما ذلك الواجب؟ فقيل : إنه حق واجب سوى الزكاة ، نحو إطعام من يحضر الحصاد ، وهذا مروي عن الشعبي ، ومجاهد ، وعن الشعبي : «إن في المال حقا سوى الزكاة» وتلا هذه الآية.

وقال القاضي : نحو ما يلزم من إطعام المضطر.

وخص هؤلاء ؛ لأن غالب الإضطرار معهم ، ووجه حملها على الواجب أنه تعالى علق التقوى بذلك ، ولم تحمل على الزكاة ؛ لأنه تعالى ذكرها بعد هذا.

__________________

(١) أخرج مسلم نحوه في كتاب الزكاة ، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين ، وأخرجه ابن ماجه ١ / ٥٩١ رقم ١٨٤٤ ، وأحمد ـ الفتح الرباني ٩ / ١٩١ ١٩٢ رقم ٢٤١. ح / س

(٢) رواه الحاكم في المستدرك ١ / ٤٠٦ ، قال ابن حجر في تخريج الكشاف : أخرجه عبد الرزاق ، والحاكم ، والبيهقي ، والطبراني ، من رواية ابن عيينة ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة .. الخ انظر الكشاف ١ / ١٦٥. ومعنى (ذي الرحم الكاشح) في الصحاح تقول : طوى فلان عن كشحه ، إذا قطعك ، والكاشح : الذي يضمر لك العداوة (حاشية عليان على الكشاف ١ / ١٦٥) ح / س.

(٣) في الكافي الشافي تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر (أخرجه الدارقطني ، والبيهقي ، من حديث علي عليه‌السلام). (ح / س).

(٤) أخرجه ابن ماجه ١ / ٥٧٠ رقم ١٧٨٩. ح / س.

٢٩٩

وقال الأصم : أراد بذلك الزكاة ، وإذا حملنا ذلك على الزكاة دخل في ذلك جميع القرابة إلا الآباء والأولاد ، فقد خرجوا بالإجماع.

قالت الهدوية : وكذا يخرج من يجب عليه نفقته ، لئلا يكون منتفعا بها.

وقال الشافعي ، والإمام يحي عليه‌السلام : إنه يجوز دفعها في من تلزم ، وفيمن لا تلزم ، لعموم الأدلة.

وإن حملنا ذلك على ما يعطى للضرورة ، ففي القرابة يجب ، وإن لم يخش مضرة.

والمراد بالقرابة : من يقرب إلى المعطي بولادة الآباء والأجداد ، وقوّى هذا الحاكم لإطلاق الاسم عليه.

وقيل : هم ذووا الرحم المحرم ، وقيل : هم القرابة المذكورون في آية الغنيمة ، وسيأتي زيادة في هذا الحكم إن شاء الله تعالى عند ذكر قوله تعالى في هذه السورة : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) [البقرة : ٢٣٣].

قوله تعالى : (وَالْيَتامى) قال الزمخشري : أراد الفقراء منهم ، فترك لعدم الإلباس ، قيل : أراد إعطاءهم بأنفسهم ، وقيل : أراد إعطاء ذوي اليتامى ، وهم من يكفل اليتامى ، لأن الإعطاء إلى الولي لا إلى اليتيم.

وقوله تعالى : (وَابْنَ السَّبِيلِ) اختلف في ذلك ، فقيل : أراد المسافر المنقطع عن ماله ، وقيل : الضيف ، وروي ذلك عن قتادة ، وسعيد بن جبير ، وابن عباس.

وقوله تعالى : (وَالسَّائِلِينَ) قيل : مع كونهم من أهل المسكنة ، وقيل : على عمومه ؛ لأن الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للسائل حق ، ولو جاء على ظهر فرس».

وقوله تعالى : (وَفِي الرِّقابِ) قيل : أراد الإعانة في مال الكتابة ،

٣٠٠