تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

المسجد عن الصلاة ، فإنه لا يعود ملكا ، ولا يجوز بيعه عند أكثر العلماء ، لأن الموضع يصلح للصلاة ، وقال الناصر : يعود ملكا ، وقال سفيان الثوري : إذا خرب المسجد والبلد ، فإن المسجد يباع ، ويبنى بثمنه مسجد آخر في محلة عامرة ، وقد يحكى عن القاسم ، والوافي نقله (١).

وحجتهم أن بيت المال لما سرق نقلت الصحابة المسجد إلى قربه ليحتفظ ، وهذه الرواية ذكرها في التقرير عن الطبري (٢).

والاستدلال بالآية محتمل للمنع ؛ لأنه يجوّز الصلاة في المستقبل ، فلو جوّزنا البيع كان ذلك منعا للذكر والصلاة في الاستقبال.

الفرع الثاني : إذا خرب البلد فلم يؤمن على أبواب المسجد ، وحصره ، ونحو ذلك ، فقال المنصور بالله : لا يجب على المتولي رفعه (٣) ، ولو أخذه الفاسقون ، ولو تركت الطاعة لأجل المعاصي ما أطيع الله في أكثر الأحوال.

وقال الإمام يحي بن حمزة عليه‌السلام (٤) : تؤخذ أبوابه وأخشابه لمسجد آخر ، وإن بيعت وصرف ثمنها في المصالح جاز ؛ لأن بقاء الأبواب والأخشاب تتلف بالشمس والريح ، وقد نهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن إضاعة المال.

__________________

(١) وقواه في البحر ، وهو قوي.

(٢) محمد بن جرير أبو جعفر الطبري ، العلامة المحدث ، المفسر ، أجمعوا أن تفسيره أحسن التفاسير ، وهو مسند في مجلدات ، وله في خبر الغدير مؤلف مشهور ، وله غير ذلك ، كان في مشائخ الحديث المرجوع إليهم في تصحيح الأحاديث ، وله التاريخ المشهور ، قال ابن خزيمة : ما أعلم على وجه الأرض أعلم منه ، توفي سنة ٣٠٩ ه‍.

(٣) مع تعذر حفظه ، وأما مع الإمكان للحفظ فهو الواجب ، ولا يخالف المنصور بالله في ذلك.

(٤) وهو قوي ، والعمل عليه. (ح / ص).

٢٠١

وأما العرصة : فتبقى ويحاط عليها بحائط خشية تنجيسها ، فيكون الخراب الذي منعته الآية مخصصا ، وفي قصة الخضر في خرق السفينة لئلا يأخذها الظالم دلالة على خلاف قول المنصور بالله.

الفرع الثالث : إذا أريد نقض المسجد لإعادة أوسع منه ، ودعت الحاجة إلى ذلك ، وغلب على الظن (١) القدرة على العمارة ، فقول المؤيد بالله أخيرا ، والمنصور بالله : إنه يجوز نقضه لهذا المعنى ، ولا يحل للمتولي منع الناقض ، وتبطل ولايته بالمنع ، فلا يكون هذا من الخراب المنهي عنه ؛ لأن القصد بالخراب هنا العمارة ، والترغيب في الذكر (٢).

وقول المؤيد بالله قديما : لا يجوز ؛ لأنا نجوز عجز الناقض.

قوله تعالى

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ١١٥]

[سبب النزول]

اختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية على أقوال :

الأول : ما روي بالإسناد إلى جابر بن عبد الله قال : «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سرية كنت فيها ، فأصابتنا ظلمة ، فلم يعرف أحدنا القبلة ، فقال طائفة منا : قد عرفنا ، القبلة هاهنا ، فصلوا إلى جهة الشمال ، وخطوا خطا ، وقال بعضنا : القبلة هاهنا قبل الجنوب ، فصلوا وخطوا خطا ، فلما أصبحوا وطلعت الشمس كانت تلك الخطوط إلى غير القبلة ، فلما قفلنا من سفرنا هذا سألنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فسكت ، فنزل قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

__________________

(١) ظن من يعتد به من أهل الخير والصلاح. (ح / ص).

(٢) وهو الذي اختاره الإمام المهدي عليه‌السلام في المختصر ، وصدر به الفصل.

٢٠٢

[وعن عامر بن ربيعة قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة ، فصلى كل واحد منا على حياله ، ثم أصبحنا فذكرنا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١) ولم يأمرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقضاء

القول الثاني : عن عبد الله بن عمر : أنها نزلت في صلاة التطوع على الراحلة.

القول الثالث : عن الحسن ومجاهد ، والضحاك : أنها نزلت في الدعاء ؛ لأنه لما نزل قوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] قالوا أين ندعوه؟ فنزلت الآية.

الرابع : أنها نزلت في التوجه إلى جهة الكعبة ، وأن المعنى : إذا تعذرت عليكم الصلاة بالمعاينة للكعبة ، فتولوا إلى جهة الكعبة ؛ لأنه لما نزل قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤] قال في هذه الآية : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي : ملكهما أو خلقهما.

(فَأَيْنَما تُوَلُّوا) أي : في أي مكان فعلتم التولية ، أي : تولية وجوهكم شطر القبلة (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي : جهته التي أمر بها ورضيها ، وقيل : رضوانه.

الخامس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلي في المدينة إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا ، فلما أمره الله تعالى بالصلاة إلى الكعبة ، استنكر اليهود فنزل قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

__________________

(١) أخرجه الترمذي ، ولفظه في بلوغ المرام (كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة مظلمة فأشكلت علينا القبلة فصلينا فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى غير القبلة فنزلت (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ.)

٢٠٣

السادس : حكاه النيسابوري «أن الله تعالى لما أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بالصلاة على النجاشي ، فأمر أصحابه بالصلاة معه عليه ، وصفهم وتقدمهم ، فقال أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفوسهم : كيف نصلي على رجل قد مات ، وهو يصلي لغير قبلتنا» ـ فنزلت.

السابع : أن المسلمين كان لهم في ابتداء الإسلام أن يصلوا إلى أي جهة شاؤا ، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٤] وعلى الأقوال المتقدمة لا نسخ فيها ، وقيل : هي أول ما نسخ.

الثمرة من الآية الكريمة :

إعلم أن التوجه في الصلاة إلى الكعبة واجب ، وهو معلوم من الدين ، ولا خلاف في ذلك ، لكن يتعلق بذلك فروع.

الأول : من بعد عن الكعبة ، ولم يعرف الأمارات ، ولا وجد من يرجع إليه ليقلده ، فله أن يصلي إلى أي جهة شاء ، لعموم قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) وهذا عام إلا ما خصته الدلالة (١).

ويعضده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إذا أمرتم بأمر فاتوا منه ما استطعتم) فإن أمكنه التحري ، وطلب الأمارات وجب عليه ذلك ، لأنه قد وجب عليه الصلاة إلى الكعبة ، والواجب الأخذ بالعلم إن حصل ، وإلا فبالظن.

ويعضد ذلك قوله تعالى في سورة النحل : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [النحل : ١٦] وهذا قول أكثر العلماء ، وذهب نفاة القياس كالأصم ، والإمامية : أنه يصلى إلى الجهات الأربع ، وضعفه الحاكم ؛ لأن في ذلك أمرا بالصلاة إلى غير القبلة بيقين (٢).

__________________

(١) وهذا يدل على أن تعبدهم كان بالتوجه إلى أين شاؤا. (ح / ص).

(٢) الأولى التعليل بأن الجهات لا تنحصر في أربع. (ح / ص). وقد ينتصر لتعليل الأصل بأن يقال : هو كالصلاة في ثوبين أحدهما متنجس. (ح / ص).

٢٠٤

الفرع الثاني

من صلى بالتحري ، ثم علم الخطأ ، فمذهب الهادي والقاسم والناصر ، وأكثر السادة : عليه الإعادة ، في الوقت لا بعده ؛ لأن الوقت مهما بقي فهو مخاطب بالصلاة إلى الكعبة ، وأما بعد مضي الوقت فلا يجب القضاء ؛ لأن سبب نزول الآية أنهم صلوا في ليلة مظلمة إلى جهات مختلفة ، ونزلت الآية ، ولم يأمرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقضاء ، فأقرّ ذلك حيث ورد.

وقد اطرد أهل المذهب هذا في المسائل الاجتهادية ، فيمن اجتهد وعلم خطأه بعد الوقت ، وكان وقت العبادة يسع أكثر منها ، ليخرج الصوم ؛ لأن وقته لا يتسع إلا له ، فلم يفد خروج الوقت فيه.

وقال أبو حنيفة ، وقول للشافعي : لا يعيد في الوقت ، ولا بعده لتقريره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ولأن أهل قباء تحولوا في الأولى من ركعتي الفجر لما جاءهم رسول رسول الله ، وأخبرهم أن القبلة قد حولت عن بيت المقدس إلى الكعبة.

وقال الشافعي في قوله المشهور : يجب القضاء بعد الوقت ، قياسا على من تحرى وقت الصلاة ، وانكشف أنه صلى في غير وقتها فإنه يقضي وفاقا ، وعارض أهل المذهب هذا القياس بالقياس على من تحرى وقت الوقوف ، ثم علم الخطأ ، فإنه لا قضاء عليه (١).

__________________

(١) قال سيدنا إبراهيم [السحولي] حفظه الله تعالى : يقال : وما الدليل القائم على ذلك ، وأما ما ذكروه هنا في التعليل فهو فرق بنفس محل النزاع فلينظر في ذلك ويحقق ، ولأن له أيضا أن يقول : رد الصلاة إلى الصلاة أولى من ردها إلى الحج ، والله أعلم ، وأيضا الوقوف مخصوص بالخبر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عرفتكم يوم تعرفون) فيحقق. (ح / ص).

٢٠٥

الفرع الثالث

الصلاة النافلة على الراحلة إلى غير الكعبة ، فأما الفرض فلا يجوز إلا لتعذر النزول والاستقبال بقاء على موجب الدلالة ، نحو قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (وأما النفل فيجوز لما روي عن عبد الله بن عمر أن الآية نزلت وهي قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) في التطوع على الراحلة ، ويعضد ذلك بآثار كثيرة منها : حديث جابر «قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي النافلة على الراحلة في كل جهة».

وعن علي عليه‌السلام : «أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله هل أصلي على ظهر بعيري؟ فقال» نعم ، حيث توجه بك بعيرك إيماء ، ويكون سجودك أخفض من ركوعك ، فإذا كانت المكتوبة فالقرار».

وعن نافع عن ابن عمر «أنه صلى على راحتله ، وأوتر عليها ، وقال : كان النبي يفعله ، وعن علي عليه‌السلام «أنه كان ينزل للفريضة والوتر».

قال الإمام يحي في الانتصار : والمختار ما عليه أئمة العترة عليهم‌السلام ، وأحد قولي الشافعي : أن التنفل على الراحلة جائز ، سواء طال السفر أو قصر لعموم الأخبار.

وقال مالك ، وأحد قولي الشافعي : إنما يجوز إذا كان السفر يجوز فيه القصر.

ومذهب أئمة العترة والشافعي ، وهو المختار : جواز التنفل للمسافر سائرا إلى مقصده ، ولو إلى غير القبلة كالراكب ، لأن النوافل يتّسع فيها (١).

وقال أبو حنيفة ، وأحمد بالمنع ؛ لأن دليل الرخصة في الراكب فيقصر عليه.

__________________

(١) واختاره في البحر والأثمار ، والفتح ، والبيان ، وكذلك الأزهار. (ح / ص).

٢٠٦

وأما تنفل الحاضر سائرا في حوائجه فوجهان : يجوز لئلا يفوته النفل (١) ، ولا يجوز ، واختاره في الانتصار ؛ لأن الغالب عليه اللبث ، فالاستقبال ممكن ، ولا فرق عندنا في جواز التنفل على الراحلة مستدبرا للقبلة ، ومستقبلا بين الافتتاح وغيره.

وقال بعض أصحاب الشافعي : أما الافتتاح فيستقبل له ، وهذا إذا لم يكن في محمل ونحوه مما يسهل معه الاستقبال ، فإن كان كذلك فعليه الاستقبال.

الفرع الرابع (٢)

إذا مات ميت في بلد وأريد أن يصلى عليه في بلد آخر ، هل يجوز ذلك أم لا؟ فعند الشافعي : أن ذلك جائز ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نعى النجاشي لأصحابه وهو بالمدينة فصلوا خلفه.

وأما إذا كان الميت في البلد لم يصل عليه حتى يحضر عنده ؛ لأنه يمكنه الحضور من غير مشقة ، وهذا أحد الأقوال في سبب نزول الآية المذكورة ، وأما مذهبنا ، فلا يجوز ذلك ؛ لأنه لا يصلى على القبر ، ولا يصلّى على من صلّي عليه. وأما حديث النجاشي ففيه تأويلان :

أحدهما : لأهل المذهب : أن ما ورد أنه صلى على النجاشي ، فالمراد بالصلاة الدعاء ، وفي التأويل نظر ؛ لأنهم قد ذكروا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كبر على النجاشي خمسا ، وجعلوا هذا حجة في عدد التكبير.

التأويل الثاني : ذكره أصحاب أبي حنيفة ، والشيخ أبو جعفر : أن

__________________

(١) قوي إذا خرج من الميل. (ح / ص).

(٢) هذا الفرع دخيل في هذه الفروع ، وكان الأخص به صلاة الجنازة ، حيث يأتي ما يليق به ، فتأمل. (ح / ص). ويمكن أن يقال : إنه قد ورد في سبب النزول فناسب إيراده هنا.

٢٠٧

النجاشي مات بين الكفار ، ولم يكن أحد هناك (١) يصلي عليه ، فكانت صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجبة لا تطوع (٢).

الفرع الخامس

أنه يستحب استقبال القبلة في الدعاء ، وقد ذكر النواوي في كتاب الأذكار أن للدعاء آدابا ، عشرة عد منها : استقبال القبلة ، وأما ما ورد في سبب نزول الآية أنه في الدعاء ، فذلك على جهة التوسع والرخصة ؛ لأن استقبال القبلة معدود من الطاعات لتظاهر الأخبار (٣).

منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «خير مجالسكم ما استقبل به القبلة» وذكر الغزالي من آداب الوضوء استقبال القبلة ، وذكره (٤) في الشرح للمذهب.

قوله تعالى

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة ١١٦]

قال الحاكم رضي الله عنه : في الآية دلالة على أن الملك والولادة لا يجتمعان من حيث أنه نفى الولد بإثبات الملك ، فقال : ولا خلاف أن من ملك أباه ، أو ولده يعتق عليه ، وحكى في الشرح عن داود : أنه لا يعتق.

وأما سائر ذوي الأرحام المحارم ، فيعتقون عندنا ، وعند أبي حنيفة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من ملك ذا رحم محرم فهو حر».

__________________

(١) نسخة ب (ولم يكن هناك أحد).

(٢) يحقق هذا على الأصول المقررة ؛ لأن الصلاة على القبر لا تصح عندهم فضلا عن الصلاة إلى الجهة ، فالأولى أن يقال : إن صح أنه صلى على النجاشي أنه مخصوص ، والله أعلم. (ح / ص).

(٣) فلا ينافي ندبية الاستقبال في الدعاء. (ح / ص).

(٤) اللفظ في أ (وذكره غيره للمذهب في الشرح) ولفظ غيره ساقط في أكثر النسخ ، وهو الأولى.

٢٠٨

وعند الشافعي : لا يعتق إلا الآباء والأولاد ، وزاد مالك : الأخوة.

قوله تعالى

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) [البقرة : ١١٩]

قراءة أكثر القراء (تُسْئَلُ) برفع التاء واللام ، على جهة الإخبار ، وقراءة عبد الله ولن تسأل وقراءة أبي وما تسأل وهما شاذتان.

وقد دلت الآية : على أن العبد إذا فعل ما كلف من الأمر والنهي ، ولم يؤثر أمره ، ونهيه ـ أنه لا حرج عليه في عدم التأثير (١) ؛ لأن هذه نزلت تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي كقوله تعالى في سورة الرعد : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠] وكقوله تعالى في سورة الشعراء : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] وكقوله تعالى في سورة فاطر : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨].

وقيل : المعنى : لا تؤاخذ بذنبهم (٢) ، كقوله تعالى في سورة النور : (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤] وكقوله تعالى في سورة الزمر : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الزمر : ٧].

قال أبو علي : وفي الآية دلالة على أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره ، وهذا صحيح في أمر الآخرة (٣) ، وأما في أحكام الدنيا ، فقد يطالب الإنسان بجناية غيره كما تحمله العاقلة ، وكما يضمنه المرتهن (٤) على قول ونحوه ، وسيأتي شرح ذلك إن شاء الله تعالى

__________________

(١) في ب (في عدم التألم).

(٢) في ب (لا تؤاخذ بذنوبهم).

(٣) في نسخة (أحكام الآخرة).

(٤) لعله يريد على قول من يقول : تضمن جناية العبد المرهون على المرتهن ، والله أعلم ، وقوله (نحوه) الغاصب. (ح / ص).

٢٠٩

وقراءة نافع ، ويعقوب تَسْأَلْ بالجزم ، وفتح التاء على النهي ، وفي ذلك وجوه ثلاثة :

الأول : أن الله تعالى نهاه عن الإهتمام بأعداء الله ، روي أنه قال : ليت شعري ما فعل أبواي فنزلت. روي ذلك عن ابن عباس ، ومحمد بن كعب

قال الحاكم (١) : الخبر من أخبار الآحاد ، وتبعد صحة الرواية لذلك عن ابن عباس (٢)

الوجه الثاني : أن يكون على طريق التعظيم لما أعد لهم كما يقال : لا تسأل عن فلان ، قد صار إلى أمر عظيم.

الوجه الثالث : مروي عن القاضي : أن المراد لا تسأل عن حال المطيع والعاصي في الحال والوقت ، فقد يتغير حالهم ، فذلك غيب لا تسأل عنه.

قوله تعالى

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤]

اعلم أنه يتحصل من تفسير هذه الآية الكريمة فوائد ، وأحكام ، وثمرات ذات أكمام.

__________________

(١) ولفظ الحاكم في التفسير (قيل : قال رسول الله : ليت شعري ما فعلت أبواي فنزلت الآية (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) عن ابن عباس ومحمد بن كعب ، وهذا الخبر من آخبار الآحاد ، ويبعد أن يصح ذلك عن ابن عباس). قال في (ح / ص). لعله يريد أن ابن عباس كثيرا ما يروى إسلام أبوي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه وعن غيره.

(٢) يريد أن ابن عباس كثيرا ما يروي إسلام أبوي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واشتهر ذلك عنه وعن غيره.

٢١٠

قال المفسرون : الابتلاء : هو الاختبار والامتحان ، وهذا مجاز في حقه تعالى لأنه عالم بحال العبد ، والمعنى : أن الله تعالى يعامله معاملة المختبر ، وهو عبارة عن تمكينه من أحد الأمرين ما يريده الله تعالى ، وما يشتهيه العبد ، وذلك في الأمر والنهي.

واختلف المفسرون في الكلمات ما هي؟ فقيل : ابتلاه بثلاثين خصلة من شرائع الإسلام ، عشر منها في سورة براءة ، وهي : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة : ١١٢].

وعشر في سورة الأحزاب وهي : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب : ٣٥].

وعشر في سورة المؤمنين ، وهي : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) [المؤمنون : ١ ـ ١٠].

وقيل : أربعين خصلة ، وزاد عشرا في «سأل» وهي قوله تعالى : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) [المعارج ٢٢ ـ ٣٤].

٢١١

وقيل : ما في «سأل» هو الذي في «المؤمنون» فهي ثلاثون (١).

وقيل : ابتلاه بمناسك الحج ، كالإحرام ، والتعريف ، والطواف ، والسعي ، وغير ذلك.

وقيل : ابتلاه بسبعة أشياء بالشمس ، والقمر ، والكواكب ، والختان ، وذبح ابنه ، والنار ، والهجرة.

وقيل : وهي عشر خصال كانت فرضا في شريعته ، خمس في الرأس ، وخمس في الجسد ، فالتي في الرأس : المضمضة والاستنشاق ، وفرق الرأس ، وقص الشارب ، والسواك ، وأما التي في البدن ، فالختان ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، والاستنجاء بالماء ، وروي هذا عن ابن عباس وقتادة ، ونحن نذكر هذه واحدة واحدة.

أما المضمضة والاستنشاق ففي وجوبهما خلاف بين العلماء.

فمذهب الهادي والقاسم ، والسادة وجوبهما في الوضوء ، والغسل ؛ لأن ذلك واجب على إبراهيم عليه‌السلام ، وقد قال تعالى في سورة النحل : (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣].

وقال الناصر ، ومالك ، والشافعي : إن ذلك سنة في الغسل والوضوء.

وقال زيد ، وأبو حنيفة : سنة في الوضوء ، فرض في الغسل.

وقال أحمد ، وأبو ثور (٢) : يجب الاستنشاق دون المضمضمة.

__________________

(١) في النيسابوري ، والكشاف ، وعشر في (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) و (سَأَلَ سائِلٌ) ، يعني بالعشر مجموع ما في السورتين غير المكررة. (ح / ص). فثبت أن مجموع ما في السورتين مع إسقاط المكرر ؛ لأن كلا واحد منهما لا يفي بعشر. (ح / ص).

(٢) أبو ثور هو : أبو ثور هو إبراهيم بن خالد ، من فقهاء بغداد ، صاحب الشافعي ، وناقل أقواله ، وخادم مذهبه ، له كتب مصنفة في الأحكام ، جمع بين الحديث والفقه ، وفي التقريب» إبراهيم بن خالد أبي اليمان الكلبي. ـ

٢١٢

وأما فرق الرأس ، فذلك سنة ، وقد ذكر الإمام في الانتصار آدابا تتعلق بشعر الرأس منها : أنه يستحب إكرامه بالدهن والتسريح ، ومنها : أنه يكره ترك الشعر شعثا أغبر ؛ لأنه دأب أهل الجفا.

ومنها : أنه إذا كان إرسال الذوائب ، شعار الفاطميين ، يعرفون به ، فلا يجوز لأحد فعله ، ممن ليس منهم ؛ لأنه تلبيس.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لعن الله من انتسب إلى غير أبيه).

قيل : ولا يجوز عقد الشعر ضفيرة إلى القفا ؛ لأن في ذلك تشبها بالأعاجم.

قيل : (ح) وخضاب الأسود فيه تشبه بالفسقة.

وأما قص الشارب : فقد وردت الأخبار بذلك منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عشر من الفطرة» وروي من سنن المرسلين» قص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والسواك ، والمضمضة ، والاستنشاق بالماء ، وقص الأظفار ، وغسل البراجم ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وانتقاص الماء (١) ـ يعني الاستنجاء بالماء ـ».

والبراجم : مفاصل البنان ، والفطرة : السنة ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «احفوا الشارب».

__________________

وأبو ثور الفقيه هو : أبو ثور الفقيه ، صاحب الشافعي ، ثقة ، من الطبقة العاشرة ، سنة أربعين ومأتين ، وقال ابن خلكان : توفي لثلاث بقين من صفر سنة ٢٤٦ ه‍ ودفن بمقبرة باب الكناس ، رحمه‌الله تعالى.

(١) بالقاف ، والفاء. (الانتقاص : رش الماء من خلل الأصابع على الذكر (قاموس) وقال وكيع : انتقاص الماء يعني الاستنجاء ، وهو بالقاف والصاد ، وقال ابن الأثير : هو انتقاص البول بالماء إذا غسل المذاكير ، وفي الجامع وفي النهاية الانتضاح به ، قال : ويروى بالفاء ، وقيل : هو الصواب من قولهم : فنضح الدم القليل ، نفضه ، وجمعها نفض ، والمراد نضحه على الذكر ، والرواية المشهورة بالقاف.

٢١٣

قال الإمام يحي : الحديث يدل على استئصاله ، وفي حديث آخر «حفو الشارب» أي : اجعلوه على حفاف الشفة ، قال الإمام يحي عليه‌السلام : وأما الحلق للشارب فلم يرد أنه سنة ، وقد نقل استئصاله عن بعض الصحابة ، والأحسن أن يكون قصه على حد الشفة ، لما في ذلك من تحسين الوجه ز فإن زيد قليلا فلا بأس ، والأحسن ترك السبالين ، وقد نقل ذلك عن عمر بن الخطاب (١) ، وكذا عن غيره وهما : طرفا الشارب ، فلا يقطعان لما في قطعهما من تشويه للوجه.

ويستحب إزالة الشعر النابت في جانبي الفم ؛ لأنه من جملة الشارب ، وهو يمنع الأكل ، ويسمى الفنيكان (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وإعفاء اللحية» يعني من النتف ، والأخذ بالجلم (٣).

__________________

(١) ينظر في صحته عن عمر ، وإن صح فليس في فعل عمر حجة حتى يستدل به ، بل الدليل ناطق بخلافه وهو ما رواه الإمام زيد بن علي عليه‌السلام عن آبائه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عشر من عمل قوم لوط ، وعد منها إسبال الشارب) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إنا آل محمد نعفي لحانا ونحفي شواربنا ، وإن آل كسرى يحلقون لحاهم ويعفون شواربهم) (ح / ص).

(٢) الفنيك هو : مجمع اللحيين في وسط الذقن. وفي الحديث : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : امرني جبريل ان اتعاهد فنيكي بالماء عند الوضوء. وفي حديث عبد الرحمن بن سابط : اذا توضات فلا تنس الفنيكين يعني جانبي العنفقة عن يمين وشمال وهما المغفلة ، وقيل : اراد به تخليل اصول شعر اللحية. شمر : الفنيكان طرفا اللحيين العظمان الدقيقان الناشزان اسفل من الاذنين بين الصدغ والوجنة والصبيان ملتقى اللحيين الاسفلين. لسان العرب.

(٣) الجلم يقال : جلم الشيء يجلمه جلما : قطعه. والجلمان : المقراضان واحدهما جلم للذي يجز به قال سالم بن وابصة :

داويت صدرا طويلا غمره حقدا

منه وقلمت اظفارا بلا جلم.

والجلم : اسم يقع على الجلمين كما يقال المقراض والمقراضان والقلم والقلمان. لسان العرب.

٢١٤

قال الإمام : والشعر النابت في الحلق ليس من اللحية ، فلا بأس بإزالته ، وإذا طالت اللحية ، فأخذ ما زاد على القبضة فلا بأس به عند الأكثر ، وقد فعله ابن عمر ، وجماعة من التابعين ، وقال باستحبابه الشعبي ، وابن سيرين (١) ، والنخعي ، وكره ذلك الحسن البصري (٢) ، وقتادة ، والمختار : أنها إن تفاحشت في الطول حتى بلغت السرة فالمستحب قصرها على الحد المتعارف في الأكثر ؛ لئلا يعرض نفسه للمقت ، والسخرية ، ويكره الزيادة فيها ، من تطويل الشعر النابت في الصدغين. واللحية زينة الرجال.

وعن بعض المفسرين في قوله تعالى : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) [فاطر : ١] أنها اللحى وفي الحديث : «إن لله تعالى ملائكة إذا حلفوا قالوا : والذي زين بني آدم باللحى».

__________________

(١) أبو بكر محمد بن سيرين البصري الإمام ، كان أبوه عبدا لأنس ، فكاتبه ، روى محمد عن أبي هريرة وابن عمر ، وابن الزبير ، وعمران بن حصين ، وغيرهم ، وعنه قتادة ، وأيوب ، وخالد الحذاء ، وهو أجل الفقهاء في البصرة ، قال الذهبي : عليكم بابن سيرين ، وكانت له اليد الطولى في تفسير الرؤيا ، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان ، وتوفي تاسع شوال سنة ١١٠ ه‍ بالبصرة ، بعد الحسن البصري بمائة يوم ، ولما مات أنس بن مالك رضي الله عنه أوصى أن يصلي عليه ابن سيرين ، ويغسله ، وكان محبوسا فاستأذنوا ، فخرج فغسله وصلى عليه ، ورجع السجن ، ولم يصل إلى أهله.

(٢) الحسن البصري هو : الحسن بن أبي الحسن البصري ، واسم أبيه سيار ، علامة التابعين ، ورأس الطبقة الثالثة ، قال الذهبي : الحسن سيد التابعين في زمانه بالبصرة ، كان ثقة حجة ، عظيم القدر ، حدث عن أنس ، وأبي برزة ، وابن عمر ، واختلف في أخذه عن علي عليه‌السلام ، ففي أمالي أبي طالب أنه روى عنه ، وأنكره بعضهم ، وروى عنه عالم من الناس ، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ، وقدم البصرة بعد مقتل عثمان ، فكان يعظ الناس ، فإذا وعظ تغلقت البصرة ، وهو أحد المفسرين ، ومرسلاته ضعيفة عند أهل الحديث ، توفي سنة ١١٦ ه‍ ، وله ثمان وثمانون سنة.

٢١٥

وقال شريح القاضي : «وددت أن لي لحية بعشرة آلاف ، وكان أصرم».

وعن أصحاب الأحنف بن قيس : وددنا أن نشتري للأحنف لحية بعشرين ألفا.

قال في شرح الإبانة : وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «سبحانه الذي زين الوجوه (١) باللحى ، والنساء بالذوائب» ، وقال الشاعر :

لحية المرء زينة فإذا كا

ن لسان له يعبر عنها

سر أهل الوداد وانقمع ال

حاسد خوفا من اللسان ومنها

ولأجل عظم موقعها تعلق بها أفعال محمودة ، وأفعال مذمومة ، فالمحمودة : المشط ، والتسريح ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يفارقه المشط في سفر ولا حضر» وكان يسرح لحيته في اليوم مرتين.

ويستحب للأئمة ، والعلماء ، والكبراء ، تسويتها عند الخروج إلى المجامع ، والإطلاع على ذلك في مرآة أو سيف.

وعن عائشة : اجتمع بباب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوم فرأيته يطلع في الجب ليسوي لحيته ورأسه ، والجب : الجرة الضخمة.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعل ذلك ليعظم في نفس من أمره الله تعالى بدعائهم.

وقد قيل : إنه يجب على كل عالم يتصدى بالدعاء إلى الله أن يبعد عما ينفر الخلق منه ، والاعتماد في هذا على النيات.

ويجوز تغيير الشيب ، وتركه على حاله أفضل ، وعن بعض الحكماء : الشيب واعظ نصيح ، ومجادل فصيح ، وقال بعضهم : الشيب للعاقل بشير ، وللجاهل نذير ، وقد فسر قوله تعالى : (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر : ٣٧] أنه الشيب.

__________________

(١) نسخة (الرجال باللحى).

٢١٦

وروي أن إبراهيم عليه‌السلام لما رأى الشيب قال لجبريل عليه‌السلام : ما هذا؟ فقال : الوقار. فقال إبراهيم : «رب زدني وقارا».

وقيل لعلي عليه‌السلام : لو غيرت شيبك؟ فقال : إني لأكره أن أغير لباسا ألبسنيه الله تعالى.

والتغيير بالحمرة والصفة جائز ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصفرة خضاب المسلمين ، والحمرة خضاب المؤمنين ، وكانوا يخضبون بالحناء للحمرة ، وبالخلوق والكتم للصفرة ، وأما بالسواد فقد وردت أخبار بالنهي عنه ، رواها في الانتصار منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخضاب بالسواد خضاب الكفار» وفي حديث آخر : «الخضاب بالسواد خضاب أهل النار» وروي أن أول من خضب بالسواد فرعون ، وفي حديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اخضبوا ، واجتنبوا السواد» رواه في السنن ، وتزوج رجل وقد خضب بالسواد ، فخرج شيبه ، فرفع إلى عمر ، فرد نكاحه ، وأوجعه ضربا. وقال : غررت.

إن قيل : الحسنان ، ومحمد بن الحنفية عليهم‌السلام ، وعقبة بن عامر غيروا الشيب ، وقال الحسن عليه‌السلام :

تسود أعلاها وتأبى أصولها

فليت الذي يسود منها هو الأصل

وقال عقبة بن عامر :

يسود أعلاها وتأبى أصولها

وليس إلى رد الشباب سبيل

وقال الإمام في الانتصار : يكره التسويد ، وذكره في موضع آخر التسويد بالوسمة ، وهو نبت يسود الشعر أحسن من الحناء ، والكتم ؛ لأنها ترد إلى ما كان عليه في الأصل ، ولعله يقال : إذا كان في التسويد تهييب على الكفار جاز.

ويحمل على ذلك فعل الحسنين عليهما‌السلام.

٢١٧

ومن الأفعال المذمومة : حلقها ، قال الإمام : وهو من أنكر المنكرات ، ولا يتعاطاه إلا من لا مرؤة له ، ممن يوهم أنه من أهل التصوف ، وليس له من التصوف إلا اسمه ، وقد خلا عنه حكمه ورسمه ، ويكره عقدها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من عقد لحيته ، أو تقلد وترا ، فمحمد منه برئ».

قال في معالم السنن : كانت الجاهلية تعقد اللحية في الحروب ، قال أيضا : وهو معالجة اللحية للتجعد ، وذلك فعل أهل التوضيع ، فنهى عن الأمرين.

قال : وتقلد الوتر يفسر بأمرين :

الأول : أنهم كانوا يعلقون التمائم على الأوتار ، لتعصم من الآفات ، وقيل : كانوا يعلقون فيها الأجراس على الخيل ، فنهى لئلا تختنق الخيل من الوتر عند شدة الجري. أو لئلا يسمع العدو حركة الجرس فيكون ذلك تحذيرا لهم.

ويكره تصفيفها ، أي اللحية ، طاقة فوق طاقة ، حتى تكون كذنب الحمامة ، ويكره شقها نصفين ؛ لأنه مخالف لفعل أهل الصلاح.

ويكره تركها متفلتة لأجل إظهار الزهد ؛ لأنه من باب الرياء ، ويكره نتف الشيب ، وقد ورد النهي عنه ، ويكره تبييضها بالكبريت طلبا لبلوغ حالة الهيبة ، والإجلال ، وهيهات عن ذلك ، ثم هيهات ، فلا يزيد الشيب الجاهل إلا جهلا ، وقد قدم الشباب لأجل العلم ، كما روي عن عمر أنه قدم ابن عباس لأجل علمه على أكابر الصحابة ، وكان أنس يقول : قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس في لحيته ورأسه عشرون شعرة بيضاء.

وأما الحذفة التي تعتاد للتزيين في الصدغين ، أو في دائرة شعر الرأس ، فينبغي فصل شعر الصدغين ، لئلا تتصل باللحية كما تقدم.

٢١٨

وأما نفس الحذفة فلم يرد فيها أثر ، فلا تكون سنة ، ولا تكره إذا لم يعتقدها سنة ، ولا كان فعله يوهم بأنها سنة ، ولا تستنكر من مثله كالحذفة اليمانية ، ونحوها في بعض البلاد.

وأما السواك : فهو سنة ، وأوجبه داود ، وفروعه في كتب الفقه.

وأما الخمس التي في البدن ، فأولها الختان ، وفي حكمه ثلاثة أقوال :

الأول : أنه واجب على الرجال والنساء ، وهذا قول المؤيد بالله ، والشافعي ، وتحصيل القاضي زيد.

والثاني : أنه سنة فيهما ، وهذا قول المرتضى ، وأبي حنيفة ، وتحصيل أبي مضر (١).

والثالث : للناصر أنه واجب على الرجال ، سنة في حق النساء ، وقد احتج للوجوب بقوله تعالى في سورة النحل : (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل ١٢٣] ولأن العورة لا تكشف إلا لواجب.

وروي أن إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختتن بالقدوم ـ مخففا ـ قيل : هو منزل له ، وقيل : قرية بالشام ، وقيل : الفأس.

قال في الانتصار : يستحب أن يكون في اليوم السابع في الرجال والنساء ، لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ختن الحسنين عليهما‌السلام في اليوم السابع ، فإن آخر إلى البلوغ جاز ، ويكره في اليوم الثالث ؛ لأنه فعل اليهود.

__________________

(١) أبو مضر هو : شريح بن المؤيد القاضي ، الجيلي ، أبو مضر ، علامة الشيعة ، وحافظهم ، من أتباع المؤيد بالله ، صاحب التصانيف في الفقه ، منها أسرار الزيادات ولباب المقالات لقمع الجهالات ، قال الإمام المهدي عليه‌السلام في توقيع كتب الإسلام : وهو ثمانية ، أو سبعة مجلدة ، والناس يغترفون منه ، وأفتى مرة بجواز مهادنة الباطنية ، فهاجر الشيخ علي خليل من تلك الفتوى ، وأنكر عليه ، كان أبو مضر في حدود المائة الخامسة.

٢١٩

وقال في شرح الإبانة : يختتن الصبي بعد سبع سنين ، والصبية بعد سبعة أيام.

وأما حلق العانة : فذلك سنة ، قال في الانتصار : ولا ينبغي تأخيره عن أربعين يوما ، وإن حلقه بالنورة جاز.

وأما نتف الإبط فهو سنة ، قال في الانتصار : في كل أربعين يوما ، ومن تعود حلقه ، فشق عليه بعد ذلك نتفه حلقه.

وأما قص الأظفار فذلك سنة ، وقد أنكر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أقوام يتركون أظفارهم ، حتى تكون كمخالب الطير ، قال في الانتصار : ولم أر في شيىء من كتب الحديث مما سمعت شيئا في كيفية قص الأظفار ، وقد روي بعض العلماء فيه فعلا من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو أنه عليه‌السلام بدأ بمسبحة اليد اليمنى ، وختم بإبهامها ، وبدأ بخنصر اليد اليسرى ، وختم بإبهامها.

ولم يؤثر في الرجلين فعل من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر بعض العلماء : أنه يستحب أن يبدأ بخنصر الرجل اليمنى ، ثم يختم بخنصر الرجل اليسرى ، قياسا على التخليل في الوضوء.

وأما الاستنجاء : ويسمى الانتقاص بالماء ، قيل : فكان واجبا في شريعة إبراهيم عليه‌السلام من الغائط والبول ، ومذهب الأئمة : أنه لم يصح نسخه بل نحن مأمورون به

لقوله تعالى : (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣] وهذا أمر ، وهو للوجوب ، وفيه أخبار متعددة ، قال في الشفاء : ويستحب المبالغة في الاستنجاء ، وعن علي عليه‌السلام : من بالغ في الاستنجاء ، لم ترمد عيناه.

وهذه القراءة هي المشهورة بنصب (إِبْراهِيمَ) ورفع (رَبُّهُ). وقرأ أبو حنيفة ، وابن عباس برفع إبراهيمُ ونصب ربَّه والمعنى : أن إبراهيم عليه‌السلام دعا ربه بكلمات فعل المختبر ، هل يجيبه إليهن أم لا؟.

٢٢٠