تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

وقيل : يشهدون للأنبياء على أممهم بالتبليغ.

وروي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالب الله الأنبياء عليهم‌السلام بالبينة على تبليغهم ، وهو أعلم ، فيؤتى بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيشهدون ، فتقول الأمم : من أين عرفتم؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسأل عن حال أمته ، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم ، وذلك قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١].

قوله تعالى

(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣]

القراءة الظاهرة بالنون ، أي : نعلم علما يتعلق به الجزاء ، وهو أن نعلمه موجودا ، أو أراد ليعلم رسول الله والمؤمنون ، وأسند علمهم إليه تعالى ؛ لأنهم خاصته.

وقيل : معناه : ليتميز التابع من الناكص ، كما قال تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال : ٣٧] وفي هذا الثالث دلالة على أنه يجب أن يظهر المؤمن إيمانه ، ولا يتهيأ بهيئة الكفار والفساق ، وعليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من تشبه بقوم فهو منهم). وقد قرئ في الشاذ (لِيُعْلَمَ) على البناء للمفعول ، ومعنى العلم : المعرفة ، وفيه دلالة على ما ذكر من وجوب إظهار شعار الإسلام ، وعدم التشبه.

قوله تعالى

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣]

لقائل أن يقول : في سبب نزول الآية دلالة على أن من عمل

٢٤١

باجتهاد ، ثم تغير اجتهاده أنه لا يجب عليه إعادة ؛ لأنه قيل لما حولت القبلة : قال ناس : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟ روي ذلك عن ابن عباس ، وقتادة ، والربيع.

وقيل : المراد : (لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) بترك ما هو أصلح لكم ، وهو التحويل.

قوله تعالى

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤]

النزول

قيل : وعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتحويل القبلة عن بيت المقدس ، ولم يبين إلى أين تحول ، فكان يقلب طرفه في السماء ، توقعا لما وعد به.

وقيل : كان يحب الكعبة ؛ لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه‌السلام ، ولأنها أدعى للعرب ؛ لأنها مفخرهم ، ومطافهم ، فدعى الله بتحويل القبلة إليها ، بعد أن أذن له بالدعاء ؛ فكان يقلب طرفه في السماء انتظارا لنزول جبريل عليه‌السلام بالتحويل فنزلت هذه الآية.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلي بمكة ، ويجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس.

وقيل : بل كان يصلي إلى بيت المقدس ، وهو بمكة.

وقيل : كانت صلاته في مكة إلى الكعبة ، فلما هاجر أمر بالتوجه إلى بيت المقدس ، وصلى إليه ، قيل : ستة عشر شهرا ، وقيل : سبعة عشر شهرا ، ونزلت الآية بالتحويل إلى الكعبة ، قال ابن عباس : أمر القبلة أول ما نسخ من القرآن ، وعن جعفر بن مبشر : هذا مما نسخت السنة فيه بالقرآن.

٢٤٢

وقيل : كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس ، قبل (١) قتال بدر بشهرين ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجد بني سلمة ، وقد صلى بأصحابه ركعين من صلاة الظهر ، فتحول في الصلاة ، واستقبل الميزاب ، وحول الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال في المسجد مسجد القبلتين.

ويتعلق بهذه الآية الكريمة أحكام.

الأول : كون الكعبة قبلة ، وذلك مراد في الآية بقوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهو مجمع عليه ، ومعلوم من الدين ضرورة لكن يتعلق بهذا الحكم فوائد :

الأولى : ما المراد بالوجه في قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ)؟ وجوابه : أن الوجه المراد به المواجه من الإنسان ؛ لأن بذلك يظهر الاستقبال.

وقيل : الوجه : عبارة عن النفس ، ومنه قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] وقوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٢٧] أي : ربك ذو الجلال ، فعلى هذا لو كان المصلي وجهه إلى الكعبة ، وسائر جسمه إلى غير الكعبة لم تجره صلاته.

وقال الفقيه يحي بن أحمد حنش : يجزي لظاهر الآية ، فإنه تعالى اعتبر الوجه ، وضعف بأنه لم يرد العضو المخصوص ، ولو صلى إلى بعض الأركان ، واستقبله ببعض البدن ، وبعض البدن إلى غيره قيل : لأصحاب الشافعي قولان : اختار الإمام يحي عليه‌السلام أنها لا تصح (٢) ، والآية الكريمة تدل على عدم الصحة ؛ لأنه لم يول وجهه كله.

الفائدة الثانية : ما المراد بالشطر المذكور في قوله تعالى : (شَطْرَ

__________________

(١) في ب (بعد قتال بدر) وهو غلط لأن بدرا كانت في رمضان. ومثله بلفظه في الكشاف.

(٢) الصحيح أن العبرة بالوجه مع المواجهة. (ح / ص).

٢٤٣

الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)؟ قلنا : هي لفظة (١) مشتركة بين النصف والنحو ، فيعبر به عن النصف ، وفي المثل : «احلب حلبا لك شطره» ويعبر به عن النحو قال الشاعر (٢)

أقول لأم زنباع أقيمي

صدور العيس شطر بني تميم

واختلف أهل التفسير في تفسير الآية ، فقال ابن عباس (٣) ، ومجاهد ، وقتادة ، والأكثر : أراد بشطر المسجد : نحوه ، وفي قراءة أبي : (تلقاء المسجد الحرام) وهي شاذة.

وقيل : أراد وسط المسجد ؛ لأنه من سائر الجنبات النصف ، من حيث أن الكعبة واقعة في نصف المسجد الحرام ، يعني مسجد مكة ، فكأنه قال : نصف المسجد الحرام ، وهذا قول أبي علي ، والقاضي.

الفائدة الثالثة : في بيان المسجد الحرام ، ما أراد به هنا (٤).

فكلام الحاكم والزمخشري ، وهو تفسير أبي علي ، والقاضي : أريد المسجد الذي يحيط بالكعبة ، وكلام الأمير الحسين ، وصاحب مهذب الشافعي : أن المسجد الحرام هو الكعبة ، وقد دل على ذلك قوله تعالى في سورة المائدة : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة : ٩٧].

__________________

(١) في ب (الكلمة مشتركة).

(٢) هذا البيت نسبه الفخر الرازي لساعدة بن جؤية نقلا عن الرسالة للإمام الشافعي. ح / مس وساعدة بن جؤية هو : ساعدة بن جؤية الهذلي بن كعب بن كاهل من سعد هذيل ، شاعر من مخضرمي الجاهلية والإسلام ، أسلم وليست له صحبة ، قال الآمدي : شعره محشو بالغريب ، والمعاني الغامضة ، له ديوان شعر مطبوع.

(٣) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب) وهو قول مالك. (ح / ص).

(٤) قال جار الله في الكشاف (وذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أن المعتبر الجهة دون العين.

٢٤٤

وقيل : المسجد الحرام : هو مكة ، وسائر الحرم ، لقوله تعالى في سورة الإسراء : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) [الإسراء : ١] وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسري به من بيت خديجة ، وفي الكشاف بيت أم هانئ.

وقال الإمام يحي عليه‌السلام : الذي يأتي على رأي أئمة المذهب : أنه ما داخل الميقات ، ولأنهم فسروا قوله تعالى في سورة البقرة : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة ١٩٦] بذلك ، ولهذا فائدة عظيمة ، وهي بيان إدراك الفضل الوارد في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في غيره).

الحكم الثاني : في بيان المأخوذ على المصلي في التوجه ، هل الواجب أن يقصد عين الكعبة ، أو جهتها ، أما إذا كان حاضر البيت فلا خلاف أن الواجب أن يصلى إلى العين من أي جانب ، وأوجب بعضهم الصلاة إلى الميزاب ، وهو خطأ.

وأما إذا كان بعيدا عن الكعبة ، فاختلفوا في ذلك ، فكلام أبي العباس ، وأبي طالب والذي دل عليه كلام الهادي عليه‌السلام ، وهو قول الكرخي ، وأحد قولي أصحاب الشافعي : أن المأخوذ عليه قصد الجهة (١).

وقال بعض أصحاب الشافعي ، ورواه في الكافي ، عن زيد بن علي ، والناصر ، ورواية للحنفية : أن المأخوذ عليه إصابة العين.

حجة هذا القول : أن الواجب حمل الآية على حقيقتها إلا لدليل ، وكما لو كان بمكة.

__________________

(١) وهو الذي اختير للمذهب في كتب الفروع. (ح / ص).

٢٤٥

وحجة القول الأول : وحجة القول الأول : أنا نقدر في الآية محذوفا ، تقديره : فول وجهك جهة شطر المسجد الحرام ، والذي أوجب علينا التقدير لهذا المحذوف قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] وقصد العين لمن بعد فيه حرج ، ولا يدرك إلا بتقريب وتسامح بطرق الهندسة ، واستعمال الأرصاد ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المشرق) (١) والمعلوم أنه أراد الجهة دون العين ؛ لأن عرض الكعبة يسير ، ولأن الصف الطويل لمن بعد عن الكعبة ، يعلم أن بعضهم غير مسامت للعين ، والأظهر من هذا الخلاف كما قال علي خليل : إنه يطلب الظن المفيد لإصابة العين على قول ، أو لإصابة الجهة على قول.

الحكم الثالث : إذا صلى في البيت أو على ظهره :

أما إذا صلى فيه ، ففي ذلك ثلاثة أقوال للعلماء.

الأول : مذهبنا وهو قول الأكثر : أنه يصح الفرض والنفل ، قال أصحاب الشافعي : لكن الفرض خارجا أفضل ، ولأن الجماعة تكثر ،

__________________

(١) رواه في البحر الزخار هكذا ، قال ابن بهران في تخريجه للبحر : هكذا في الشفاء والانتصار ، ثم قال : والظاهر أن قوله (لأهل المشرق) زيادة في لفظ الحديث مفسدة للمعنى ، أما كونها زيادة في لفظ الحديث فلأن الذي أخرجه الترمذي عن أبي هريرة .. لم ترد فيه هذه الزيادة ، قال الترمذي : وقد روي هذا الحديث عن غير واحد من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم عمر ، وعلي ، وابن عباس .. ثم قال : وأما كون تلك الزيادة مفسدة للمعنى ، فلأنه لا يستقيم أن تكون تلك الجهة التي بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المشرق ، وإنما يستقيم أن تكون تلك الجهة قبلة لأهل الشام أو لأهل اليمن كما سبق ، وأما أهل المشرق والمغرب فقبلتهم التي بين الشام واليمن كما لا يخفى على أحد. فلا شك أن تلك الزيادة سهو فسبحان من لا يجوز عليه السهو (البحر الزخار ٢ / ٢٠٣ ، ٢٠٤.

٢٤٦

والنفل داخلا أفضل ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في غيره).

والوجه أنه يسمى متوجها إلى البيت ، قال أهل المذهب : لكن إذا صلى إلى جهة الباب ، وجب أن يكون قدامه جزء منها.

وقيل : لا يصح الفرض ، ولا النفل.

وقيل : يصح النفل دون الفرض.

حجة القول الأول : أنه يسمى متوجها إليها ، كما إذا صلى خارجا ، ومن منع نازع في هذا ، وقال : إنه لا يسمى متوجها إليها ، وقد ورد حديثان حديث ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما دخل الكعبة خرج فصلى ، وقال : «هذه القبلة». وحديث ابن عمر : (أنه لما دخل الكعبة صلى فيها).

وأما إذا صلى على سطح البيت ، فالمذهب تصح صلاته إذا كان قدامه إذا سجد جزء منها ؛ لأنه متول لجزء من البيت.

وقال أبو حنيفة : تصح ولو سجد على آخر جزء.

وقال الشافعي : لا بد أن تكون له سترة متصلة ، فإن لم يكن له سترة لم تصح صلاته ؛ لأنه صلى عليها لا إليها ، وفي غير المتصلة كأن ينصب عصاه ، ونحو ذلك خلاف بين أصحاب الشافعي ، وكذلك اختلفوا لو صلى على عرصة البيت المشرّف ، وفرض أن البناء رفع عنه ، فقيل : لا يصح ؛ لأنه صلى عليه لا إليه ، وقيل : كما لو صلى على السطح تصح ، بشرط أن يكون ثم سترة. وقد تقدم أنه يخرج من عموم الآية الكريمة المعذور والمسافر يتنفل على الراحلة ، وفي سبب نزول الآية دلالة على موقف الرجال والنساء في الصف ، وعلى جواز الأفعال الكثيرة لصلاح الصلاة ، من حيث تحول الرجال مكان النساء.

٢٤٧

قوله تعالى

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) [البقرة : ١٤٨]

هذه الآية تدل على أن الأمر يقتضي الفور (١) لأنه تعالى أمر بالمسارعة ، والمسابقة فيها ، والأمر للوجوب ؛ إلا أن يخصّ بدليل.

والقول بأن الأمر يقتضي الفور هو ظاهر قول الهادي ، والمؤيد بالله ، وأحد قولي أبي طالب ، وأحد قولي قاضي القضاة ، واختاره القاضي شمس الدين (٢).

وقال أبو علي ، وأبو هاشم ، وأصحاب الشافعي ، واختاره المنصور بالله : إنه على التراخي ، وذكر القاسم عليه‌السلام : أن الزكاة على الفور ، وذكر في الحج أنه على التراخي (٣).

فقيل : له قولان ، وقيل : هو يفرق بين الحقوق المالية ، وبين الحقوق البدنية

حجة القول الأول : من السمع هذه الآية (٤) ، وقوله تعالى في سورة آل عمران : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وبأنه لو لم يقتض الفور لا لتحق بالنوافل (٥) ، وبأن السيد إذا قال لعبده اسقني ، ولم يبادر عد

__________________

(١) يقال : هذا دليل شرعي ، فحينئذ الأمر يقتضي الفور شرعا لا بالوضع. (ح / ص).

(٢) وهو القاضي العلامة جعفر بن أحمد بن عبد السلام.

(٣) وهو قول أبي حنيفة ، وأبي الحسين البصري. (ح / ص).

(٤) لكن كلام من ذكر أن الأمر يقتضي الفور ، ويدل عليه بنفس الصيغة ، واستدلال الفقيه يوسف (المؤلف) على الفور بهذه الآية يدل على أن الفور مستفاد من دليل خارجي لا من نفس الصيغة ، والله أعلم. (ح / ص)

(٥) يعني : فهذا وفاق ، وهو أنه يجوز الترك في النوافل مع عدم العزم ، بخلاف الواجب ، وأيضا فإنه يتضيق فعل الواجب بطن الموت أو بما في حكمه خلاف النوافل ، والله أعلم. هذا مع تضيق الوقت فقط ، وإلا فلا يجب عليه الصلاة ، وإن غلب على ظنه الموت ، وإنما يستقيم الاطلاق على رأي ابن الحاجب كما حقق ذلك الإمام المهدي في الغيث ، واستوفى الكلام فيه. (ح / ص).

٢٤٨

مخالفا ، واستحق الذم ، وأجاب أهل التراخي : بأنه لا يلحق بالنوافل ؛ لأنه إنما يجوز تركه (١) مع العزم ، فالعزم بدل عن فعله فورا ، وبأن العبد إنما استحق الذم لأجل القرينة المقتضية للمبادرة.

واحتجوا بأن لفظ الأمر ليس فيه دلالة على الفور لا بصريحه ، ولا بمقتضاه ، ومن السمع بأن فريضة الحج نزلت سنة ست ، وحج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنة عشر.

قيل : وعلى قول أهل الفور يجوز التأخير إذا كان يأتي بالواجب على وجه أكمل من تعجيله ، كما أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نام في الوادي ، ولم يوقظهم إلا حر الشمس أمر بالإرتحال عن ذلك المكان ، وصلى بعد ذلك.

وكما قال الهادي عليه‌السلام : «من نذر صيام جمعة وفاتته ، فالأولى أن يكون القضاء في جمعة أخرى».

وقد يستدل بهذه الآية على أن الوجوب يتعلق بأول الوقت ، وهو قول أصحاب الشافعي (٢) ، قال أبو طالب : وكلام الهادي يحتمله.

وقال أصحاب أبي حنيفة (٣) : إن الوجوب يتعلق بآخره ، وأما فعله (٤) في أول الوقت ، فقيل : نفل يسقط الفرض.

وقيل : إنه يقع فرضا إن جاء آخر الوقت والفاعل على صفة المكلفين.

__________________

(١) أي : تأخيره.

(٢) لفظ الفصول (جمهور الشافعية) (ح / ص).

(٣) ورواية عن القاسم عليه‌السلام (فصول) (ح / ص).

(٤) في ب (وأما ما فعله).

٢٤٩

وقال أبو علي ، وأبو هاشم ، وهو الذي يصحح للمذهب : إن الوجوب يتعلق بجميع الوقت ، لكن موسع في أوله ، مضيق في آخره (١).

قوله تعالى

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٩]

دلت أن هذه العبادة في وجوب استقبال الكعبة ـ يستوي في ذلك الحاضر والمسافر ، إلا ما ورد التخصيص له ، وهو التنفل على الراحلة في السفر.

قوله تعالى

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢]

هذا أمر بالذكر ، وهو يدخل فيه أنواع العبادات والعلوم ، لكن الدلالة مجملة.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ١٥٣]

لما أوجب الله تعالى العبادة ، والشكر بقوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي).

وقوله : (وَاشْكُرُوا لِي) أمر بالإستعانة عليهما بالصبر والصلاة ، وخص الصبر ؛ لأنه حبس النفس عما تدعو إليه ، والصلاة ؛ لأنها تنطوي على الخشوع ، والتذلل للمعبود.

وقيل : أراد بالصبر الصوم ، وقد دلت الآية على وجوب احتمال المشاق لأداء الواجب ، وعلى وجوب ما لا يتم الواجب إلا به ، وعلى وجوب فعل المسهلات لما أمر الله سبحانه ، فيدخل في ذلك العزم ، وكذا يدخل أمر الصبيان ؛ لأن في ذلك تعويدا وتمرينا. إلا ما خرج بدليل.

__________________

(١) لفظ الفصول (فعند أئمتنا ، وجمهور المعتزلة ، والأشعرية ، وبعض الفقهاء ، يتعلق الوجوب بجميعه على سواء ، موسعا في أوله ، مضيقا في آخره) (ح / ص).

٢٥٠

قوله تعالى

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) [البقرة ١٥٤]

إن قيل : في هذه الآية دلالة على طهارة الشهيد بعد قتله ؛ لأن الله تعالى أخبر بأنهم أحياء؟.

قلنا : قد ذكر في الشرح والانتصار طهارته ؛ لأن قتله كغسله ، وأما الاستدلال بالآية فلا يستدل بها ؛ لأن كلام أهل التفسير يقضي بذلك ، من حيث أنهم اختلفوا في الحياة ، فقال الحسن البصري : أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم ، ليصل إليها الروح والفرح ، كما تعرض النار على آل فرعون (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ليصل إليهم الوجع.

قال مجاهد : «يرزقون ثمر الجنة ، فيجدون ريحها ، وليسوا فيها».

قال الحاكم : «قد قال بعضهم : إن أرواحهم أحياء» ، ورووا في ذلك أخبارا ، وذكروا أن الروح هو الإنسان ، وهو جزء واحد في القلب ، ومنهم من قال : إن الروح غير الإنسان ، إلا أنه يجعل حيا.

قال الحاكم : «وهذا غير صحيح ؛ لأن الحي إنما هو الإنسان ، وهو الجثة التي لها الثواب ، وعليها العقاب ، والروح هو أجزاء النّفس المتردد في مخارق الإنسان ، وهو أجزء الجو ، تسمى روحا ، وما روي في الحديث : (إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر) وما روي (أنها أجناد مجندة تأتلف وتختلف) فهذه أخبار آحاد لا تصح».

وقد تأوله بعض مشائخنا على أنهم يصيرون أحياء في حواصلها ، من حيث يرى من باطنه ظاهر الجنة ، وهذا فيه تعسف ، والصحيح أنهم أحياء بأبدانهم.

٢٥١

قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، وأبو علي ، وأبو بكر ، والقاضي : وهذه الحياة في القبر ، وإنما خصهم بالذكر مع كون غيرهم أحياء في القبر إكراما لهم ؛ لأنه تعالى أطال حياتهم في القبر ، ترغيبا لغيرهم في الجهاد.

وقال أبو مسلم ، وأبو القاسم : أحياء في الجنة ، لما أنكر أبو القاسم عذاب القبر.

وقيل : عند السدرة في السماء ، قال الحاكم ، والأول أقرب.

وقيل : أراد حياة الدين ، كقوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢].

لا يقال : فنحن نشاهدهم في القبور أمواتا؟ لأنه يجوز أن تكون الحياة في أجزاء يسيرة ، ولا عبرة بالأطراف ، وأنه تعالى يحييهم إذا لم نشاهدهم.

وقيل : إن هذه الآية نزلت في شهداء بدر ، وهم أربعة عشر ، ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار.

وقيل : عام ؛ لأن المشركين كانوا يقولون : مات فلان ، فانقطع عنه نعيم الدنيا.

قوله تعالى

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة ١٥٥ ـ ١٥٧]

هذه الآية يتعلق بها حكمان : الأول : الصبر على المصيبة ، والثاني : الصلاة على الصابر (١).

__________________

(١) في بعض النسخ (الصابرين) وضرب عليها في بعض النسخ.

٢٥٢

أما الأول : فهو من الأمور المحمودة عند الله ؛ لأنه تعالى أمر ببشارتهم ، ثم وصفهم بقوله تعالى : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ) يعني عبيده وملكه ، فيفعل فينا (١) ما يشاء ، وهذا فيما يكون من جهته تعالى.

وقوله : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فيما يكون من الغير ، فينتصف لنا.

قال الحاكم : والآية تدل على أن العبد مكلف بهذا القول عند المصيبة ، لأنه خبر في معنى الأمر ، قال : وهو مندوب إليه ، وقد يجب عند تهمة الجزع ؛ لأن إظهاره دلالة الصبر.

قال الحاكم : ومجرد هذا القول لا يكفي ؛ لأنه لو اعتقد خلافه مع النطق به أو أتى من الأفعال بما يخالفه لم يستحق البشارة ، ولكن يقول بلسانه ، ويعتقد بقلبه ، ويفعل بجوارحه ما يدل على الرضا والتسليم من ترك الجزع ، واعتقاد أن ذلك مصلحة ، وحكمة ، فما كان من جهته تعالى اعتقد أنه عدل وحكمة ومصلحة ، وأما ما كان من جهة الغير فيجب الصبر على التخلية ، التي من جهته تعالى ، ويعتقد أنها لضرب من المصلحة ، ولا يجب الصبر على فعلهم ، بل يجب الدفع والجهاد ، وهذا الاسترجاع عام في كل مصيبة.

قال الزمخشري : وروي أنه طفئ سراج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال «(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فقيل : أمصيبة هي؟ فقال : (نعم ، كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة).

وعن الشافعي رحمه‌الله تعالى : «الخوف : خوف الله ، والجوع : صيام رمضان ، والنقص من الأموال : الزكوات والصدقات ، ومن الأنفس : الأمراض ، ومن الثمرات : موت الأولاد».

__________________

(١) في ب (فيفعل بنا).

٢٥٣

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إذا مات ولد العبد ، قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم ، فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون : نعم. فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك ، واسترجع ، فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة ، وسموه بيت الحمد).

والذي فسره الحاكم : أن الخوف : من عدوان (١) المشركين ، والجوع : بالفقر ، وقيل : بالقحط ، ونقص في الأموال : هلاك المواشي ، ونقصان غيرها وقيل : بشغل (٢) الجهاد عن العمارة ، والأنفس بالقتل في الحروب ، وقيل : بالموت. وقيل : بالمرض وقيل : بالشيب. والثمرات : يعني ذهابها بالجوائح ، أو لا تخرج كما كانت تخرج.

فأما الحكم الثاني : وهو الصلاة على الصابرين منا ، وكذا سائر المؤمنين ، فاعلم أنه لا خلاف في جواز ذلك على الأنبياء ، والملائكة صلوات الله عليهم.

فأما غيرهم ، فلا خلاف أنه جائز على وجه التبع ، بأن يقال : اللهم صل على محمد وآله وأزواجه ، ونحو ذلك.

وأما على سبيل الاستقلال ، فظاهر مذهب الأئمة الجواز ، وقد قال المؤيد بالله : لا دليل يحظر ذلك علينا ، وهذه الآية دالة على الجواز ، وكذلك قوله تعالى في سورة التوبة : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (اللهم صل على آل أبي أوفى) وقد أتاه بزكاة قومه.

وذكر النواوي في كتاب الأذكار ثلاثة أوجه : قول بالتحريم ، وقول : إنه مكروه كراهة تنزيه ، وقول : إنه خلاف الأولى ، وصحح النووي

__________________

(١) في أ (من عداوة المشركين).

(٢) في ب (لشغل الجهاد).

٢٥٤

الكراهة ، وقال : إنه الذي عليه الجمهور ، واحتجوا على المنع بوجهين (١) :

الأول : أنه شعار أهل البدع (٢).

والثاني : أن الصلاة في لسان السلف مخصوصة بالأنبياء ، كما أن قولنا : «عزوجل» مخصوص بالله تعالى ، فلا يقال : محمد عزوجل ، وإن كان عزيزا جليلا.

قال النواوي : والسلام في معنى الصلاة ، ولا يطلق على غائب حي ، أو ميت غير الأنبياء ، ويطلق على المخاطب.

__________________

(١) لا التفات إلى الوجهين مع ورود الدليل بالجواز ، كما في الآيتين المذكورتين ، والتي في الأحزاب ، وهي (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) الخ. والحديث المذكور.

(٢) بل شعار أهل البدع ترك الصلاة على الآل على جهة الدين مع تعليمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلاة عليه ، وعلى آله ، والعجب من صاحب كتاب كيفية الصلاة على النبي بعد أن عقد بابا في آخر كتابه هل يجوز الحاق أحد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الصلاة عليه ، فانتهى بحثه أنه لا يجوز إضافة أحد سوى الآل ، وأن إضافة غير الآل بدعة ، فإذا به بعد عدة أسطر يضيف الصحابة أجمعين ، والتي لا يبعد أن تكون بدعة إن أراد ادخال من لا يستحق اسم الصحبة فضلا عن اقترانه بالصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد عقد العلامة محمد بن عقيل بحثا في تقوية الإيمان ، وأكثر التعجب من تواطؤ بعض المسلمين في التنكر لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتجاهلوا عمدا أو سهوا الحاقهم في الصلاة على رسول الله ، في كتبهم ، وخطبهم ، وأقوالهم ، وحياتهم ، ولو أمكنهم حذفها من الصلاة المكتوبة لحذفوها ، ولكن عجزوا عن ذلك ، لأن الصلاة لا تقبل إلا بالصلاة التي لم يعودوا ألسنتهم عليها ، بل أرضعوا أولادهم تلك الصلاة التي تجافي ما كان عليه رسول الله ، وأهل البيت ، والصحابة الكرام. نعوذ بالله من العمى ، والتعامي عن الحق.

٢٥٥

قوله تعالى

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة ١٥٨]

النزول فيه قولان :

الأول : أنه كان على الصفا صنم يسمى : أسافا ، وعلى المروة صنم يسمى نائلة ، ويروى أنهما كانا رجلا وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين ، فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلما طالت المدة عبدا من دون الله تعالى ، فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما ، فلما جاء الإسلام ، وكسرت الأصنام ، كره المسلمون الطواف بينهما لفعل الجاهلية ، ولئلا يكون عليهم في ذلك جناح ، فنزلت الآية برفع الجناح عنهم.

وهذا مروي عن ابن عباس ، والشعبي ، وذكر أبو علي مثله ؛ إلا أنه قال : كان على الصفا والمروة أصنام يعبدها الكفار. قال : والآية نزلت في عمرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الحديبية بسنة ، وعن مجاهد : كرهت الأنصار الطواف بينهما لفعل الجاهلية فنزلت الآية.

القول الثاني : مروي عن عائشة أن الأنصار كانوا قبل الإسلام يهلون لمناة وهي صنم كانت بين مكة والمدينة ، وكانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة تعظيما لمناة ، فسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الإسلام هل عليهم حرج في الطواف بهما ، فنزلت الآية.

الثمرة من الآية يتعلق بها أحكام.

الأول : أن الطواف بين الصفا والمروة عبادة ، وقربة إلى الله تعالى ؛ لأن الله تعالى جعل ذلك من شعائره ، والشعائر : جمع شعيرة ، وقيل : شعائر الله : أعلام متعبداته.

٢٥٦

واختلف هل في الآية حذف؟ فقيل : نعم ، والتقدير : أن السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله.

وقيل : لا حذف ، قال ابن عباس : المراد بقوله تعالى : (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) من المناسك.

وعن الحسن : من دين الله ، وعن أبي علي : من أعلام مواضع عباداته.

فإن قيل : كيف جعلا من الشعائر ، ثم قال تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) ورفع الجناح يستعمل للمباح ، كقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) [البقرة ٢٣٠] قلنا : إنما جاء بهذه اللفظة لرفع التحرج الذي كان سببا لنزول الآية ، وإلا فذلك إجماع (١).

الحكم الثاني : إذا ثبت أن ذلك عبادة وقربة ، فهل في الآية دلالة على الوجوب؟ أو على الندب فقط؟ وإذا قلنا بالوجوب ، فهل يجبره دم؟ أو لا يجبره دم؟.

فقال الحاكم : ليس في الظاهر ما يدل على شيئ من ذلك ، فيرجع إلى دليل آخر ، وقيل : بل يستنبط من الآية عدم الوجوب ، وسيأتي بيان ذلك ، وللعلماء ثلاثة أقوال.

الأول : أن السعي بين الصفا والمروة سنة غير واجب ، وذلك مروي

__________________

(١) في النيسابوري في تفسير الإباحة المأخوذة من الاحتجاج (تنصرف إلى وجود الضمير حال السعي ، لا إلى نفس السعي ، كما لو كان على الثوب نجاسة يسيرة عند أبي حنيفة ، أو دم البراغيث عندنا ، فيقال : لا جناح عليك أن تصلي فيه ، فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة ، لا إلى نفس الصلاة ، والله أعلم. (ح / ص).

٢٥٧

عن عطاء ، وأنس ، وابن عباس ، وابن الزبير (١) ، بدليل رفع الجناح ، وهو يستعمل للتخير. قيل : وفي مصحف عبد الله : (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) وروي أنه قرأ بذلك ابن عباس ، وأنس ، وابن سيرين ، وحملت هذه القراءة على التفسير ، كما فسر بذلك أبو علي ، وقال : في الآية حذف «لا» كقوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] وتقديره : أن لا تضلوا ، وكقوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الأعراف : ١٧٢] قال القاضي وغيره : الحذف لا يقدر إلا بدليل ، ولا دليل هنا.

وعن مجاهد وأبي علي في قوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ) أي : بالسعي بين الصفا والمروة ، بناء على أنه سنة لا واجب ، فحصل الاستدلال على عدم الوجوب من الآية من وجهين (٢).

وقال أكثر العلماء ، وأهل التفسير : إنه واجب ، ولم يصححوا القراءة الشاذة ، واحتجوا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إن الله قد كتب عليكم السعي فاسعوا).

وأما قوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) ففيه أقوال ثلاثة :

الأول : أراد بالطواف حول البيت ، بعد أداء الواجب ، وهذا تفسير ابن عباس ، ومقاتل والكلبي.

وقيل : تطوع بالعمرة ؛ لأنها سنة ، وهذا قول ابن زيد ، وعن الأصم : من تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء الواجب.

__________________

(١) ابن الزبير : عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي ، القرشي ، أبو خبيب ، أول مولود ولد في الإسلام وجيء به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحنكه بريقه ، وسماه عبد الله ، وكان غاية في العلم ، والشجاعة ، قام بالخلافة بعد موت معاوية بن يزيد ، وأجابه أهل الحجاز ، والعراق ، وخراسان ، وتخلف عن بيعته ابن عباس ، ومحمد بن الحنفية ، وحج بالناس ثمان حجج ، وحصره الحجاج بمكة في أول ذي الحجة سنة ٨٧ ه‍ ونصب عليه المنجنيق ، وحبس عليه الميرة ، حتى قتل نصف جمادى الأولى سنة ٧٨ ه‍ عن ٧٣ ه‍ سنة ، ومدة الحصر ستة أشهر ونصف.

(٢) رفع الجناح ، وحذف لا. (ح / ص).

٢٥٨

وعن الحسن : (مَنْ تَطَوَّعَ) ـ يعم جميع النوافل في أمر الدين جميعها ، وفي قراءة عبد الله : (ومن يتطوع بخير).

واختلف الأكثر ، فقال الشافعي ، ومالك : لا يجبر ذلك دم ، كطواف الزيارة ، ولأن الحديث أوجبه ، ولا دليل على ثبوت البدل.

وقال عامة الأئمة والحنفية : إنه يجبر بالدم ، وأخذوا ذلك من قوله تعالى : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) فأثبته تعالى حاجا قبل أن يطوف ، ولأنه عبادة لها تعلق بالحرم ، لا تختص بالبيت فجبرت بالدم كالرمي.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الحج عرفة) يفيد أن من وقف لم يفت حجه ، فلا يخرج منه إلا بدلالة.

قال في الغرائب والعجائب (١) : ومن وقف على قوله تعالى : (فَلا جُناحَ) وابتدأ بقوله تعالى : (عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) وأراد أن يأخذ من الآية الوجوب ، ففيه بعد من وجهين :

الأول : أن لفظ : (فَلا جُناحَ) يتكرر في القرآن ، وصلته (عَلَيْهِ).

الثاني : أنه زعم أن لفظة : (عَلَيْهِ) إغراء ، والإغراء إنما يكون للمخاطب دون الغائب (٢).

الحكم الثالث : أن البداية بالصفا شوط ، فمن عكس ، وبدأ بالمروة ، ألغى الشوط الأول الذي من المروة ، وهذا مذهب أكثر العلماء.

وعن عطاء : إن جهل فبدأ بالمروة أجزأ عنه.

وإذا قلنا : إن البداية بالصفا واجب ، فهل ذلك مأخوذ من القرآن؟ أو

__________________

(١) هو كتاب تفسير لبعض الشافعية. (ح / ص).

(٢) يقال : هو خبر في معنى الأمر ، كقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) وليس من الإغراء.

٢٥٩

من السنة؟ فقيل : إنه مأخوذ من الآية الكريمة ؛ لأن الواو للترتيب ، وقد روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدأ بالصفا ، وقال : (أبدأ بما بدأ الله به) وروي أن رجلا سأل ابن عباس فقال : أأبدأ بالصفا أم بالمروة؟ فقال ابن عباس : خذ ذلك من القرآن ، فإنه أجدر أن يحفظ ، وتلا : (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) وقيل : بل ذلك مأخوذ من فعله عليه‌السلام مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (خذوا عني مناسككم).

قال الحاكم : الاستدلال بالآية ضعيف من وجهين :

الأول : أن الواو لا توجب الترتيب.

والثاني : أنه جمع بينهما فقال : (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما).

الحكم الرابع : ذكره الحاكم ، قال : الآية تدل على أن مشاهدة المنكر لا تمنع من فعل الواجبات ، والقرب ؛ لأنه تعالى جعل الطواف قربة ، وإن كان هناك أصنام منصوبة. وهذا جلي إن تعذر عليه كسرها ، وأما إذا تمكن فالذي يأتي على قول أهل المذهب أن القرب المفتقرة إلى النية كالصلاة ، ونحو ذلك لا تصح إلا في آخر الوقت ؛ لأنه مأمور بالخروج للإزالة ، قالوا : إنه منهي عنها (١) ، ولا يكون الشيء الواحد طاعة ومعصية.

وعند أبي حنيفة ، والشافعي : لا يضر ذلك ، لأنه عاص من وجه ، ومطيع من وجه آخر ، والنهي عن الصلاة في الموضع المغصوب ونحوه ليس يختص الصلاة ، قلنا : المفتقرة إلى النية احترازا من الوقوف على جمل مغصوب ، وقد يقال : مما لا يصح النيابة فيه ، وقد يقال : الحج لا يقاس على غيره ، والطواف (٢) مجمع عليه ، لكن أبا حنيفة ، والشافعي ألحقا به غيره.

__________________

(١) في أ (فأكوانه منهي عنها).

(٢) صوابه (والوقوف) (ح / ص).

٢٦٠