تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أي : من كان ظالما من ذريتك

قال السدي ، وأبو علي : العهد النبوة ، وعن مجاهد ، وأبي حذيفة : هو الإمامة.

وعن عطاء (١) : الرحمة ، وعن أبي عبيدة : الأمان ، وعن الضحاك : الطاعة

قال في الكشاف : وقد قالوا في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة ، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه ولا شهادته ، ولا يجب طاعته ، ولا يقبل خبره ، ولا يقدم للصلاة.

وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن علي عليه‌السلام ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة ، كالدوانيقي (٢) ، وأشباهه ، وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ، ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل ، فقال : ليتني مكان ابنك وكان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد ، وأرادوني على عد آجره ما فعلت.

__________________

(١) عطاء هو : عطاء بن السائب بن مالك ، روى عن أبيه وسعيد بن جبير ، والزهري وآخرين ، كان من كبار التابعين ، وأهل الفقه ، قال أحمد بن حنبل : ثقة ثقة ، رجل صالح ، قال العجلي : ثقة ثقة ، وضعفه ابن معين ، قلت : كان في حفظه شيء ، توفي رحمه‌الله سنة ١٣٦ ه‍ وفيها مات السفاح ، وبويع أخوه المنصور ، روى له أئمتنا الخمسة ، وغيرهم ، والأربعة ، والشيخان متابعة.

(٢) قد يوهم هذا أن الإمام زيد بلغ إلى أيام الدوانيقي ، وليس كذلك ؛ لأنه خرج في أيام هشام بن عبد الملك في الدولة الأموية. وفي حاشية في النسخة ج : لم يرد أن زيدا رضي الله عنه خرج على أبي جعفر الدوانيقي ، فإن خروجه على هشام بن عبد الملك لعنه الله ، وقتله في زمنه لا يخفى على جار الله ، وإنما قصد التمثيل لمن يدعي الإمامة وليس أهلا لها ، وكأنه خص الدوانيقي لجلالته في صدور أهل بيته وغيره ، وتظهره بذلك.

٢٢١

وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماما قط ، وكيف يجوز نصب ظالم للإمامة؟ والإمام إنما هو لكف الظلمة ، فإذا نصب من كان ظالما في نفسه ، فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب ظلم.

قال الحاكم : واحتج بعض الرافضة بالآية أن الإمامة لا يستحقها من ظلم مرة ، ورام بذلك الطعن في إمامة أبي بكر وعمر ، قال : وهذا لا يصح ؛ لأن العهد إن حمل على النبوة فلا حجة ، وإن حمل على الإمامة فمن تاب من الظلم لا يوصف بأنه ظالم ، ولم يمنعه تعالى من نيل العهد إلا حال كونه ظالما ، وهذه القراءة الظاهرة.

وقرئ في الشواذ (الظالمون) وهي مروية عن ابن مسعود ، ومعناها : معنى القراءة المشهورة ؛ لأن ما نالك فقد نلته.

قوله تعالى

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة : ١٢٥]

هذه الآية تفيد أحكاما منها : أنه تعالى تعبد أن يثاب إلى البيت ، ولم تبين هل لحج أو لعمرة أو طواف أو صلاة؟ فكانت مجملة تحتاج إلى البيان.

وقيل : المراد الطواف ؛ لأنه المختص بالبيت.

ومنها : ذكر الأمن ، قال الحاكم : فيحتمل أن ذلك خبر لا أمر ، والأمن من فعله تعالى بأن جعلهم لا يألفهم جدب بل تجبى (إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) ، أو لطف بهم بأن عظم حرمته في قلوب الناس ، فكان من فيه آمنا على ماله ونفسه ، ويتخطف الناس من حوله.

ويحتمل أنه على طريق الأمر بأن يؤمن من دخله ، ويتعلق بهذا مسألتان.

٢٢٢

الأولى : في صيد الحرم ، فإنه لا يجوز قتله ، ولا إفزاعه لقوله تعالى في سورة آل عمران : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] وهذا خبر في معنى الأمر ، حتى لا يخالف مخبره ، وقوله تعالى في سورة العنكبوت : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) [العنكبوت : ٦٧]

ولهذه الآية وهي قوله : (مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مكة حرام ، حرمها الله تعالى ، لا ينفر صيدها ، ولا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا يسفك فيها دم) وفي الحديث (إن إبراهيم الخليل عليه‌السلام ـ حرم الله بيت الله ، وأمّنه ، وأنا حرمت المدينة ، ما بين لابتيها ، لا يصاد صيدها ، ولا يقطع عضاهها).

وقوله : «وأمنه» سمعته في الكوكب (١) بوجوه ثلاثة : وأمنه ـ بسكون الميم مخففة ، وأراد الحرم ، وبفتحها مشددة ، وأمنه ـ وبفتحها مخففة ، وآمنه ، فإذا ثبت تحريم صيده ، كان ذبحه لا يوجب حله ، وتجب قيمته ، ولو صاده من الحل ، وأدخله إلى الحرم حيا صار من صيد الحرم عندنا خلافا للشافعي ، وله أن يرمى من الحرم إلى الحل عندنا خلافا للشافعي.

المسالة الثانية : لو حل دم انسان لقصاص ، أو ردة ، أو حدّ ، فالتجأ إلى الحرم ، فإنه لا يقتل فيه عندنا وأبي حنيفة ؛ لما تقدم من الآيات في أمان من دخله ، قالت الحنفية ، وأبو جعفر : لكن لا يطعم ولا يسقى ، ولا يبايع ، فمتى خرج اقتص منه ، وقال الشافعي : إنه يستوفى في الحرم ما وجب عليه ، لقوله تعالى في سورة البقرة : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) [البقرة : ١٩١].

قلنا : هذا محمول على غير الحرم جمعا بين الأدلة ، ولقوله تعالى في سورة البقرة : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ

__________________

(١) الكوكب : كتاب لأبي العباس أحمد بن معد التجيبي ، وهو صاحب النجم ، وكلاهما في الحديث.

٢٢٣

فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) [البقرة : ١٩١] وسيأتي ما فيها ، وهل هي محكمة أو منسوخة؟ وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إن أبغض الناس عند الله ثلاثة : رجل قتل غير قاتله ، ورجل قتل برجل قتل في الجاهلية ، ورجل قتل في الحرم) ويروى (أعتى الناس) قال الشافعي : المراد بهذا على وجه الابتداء ، واتفقوا في القصاص في الأعضاء ؛ لأنه لا كفارة فيها ، فأشبهت الأموال (١) ، والنفس مشبهة بقتل الصيد لوجوب الكفارة (٢) ، فإن ارتكب ما يوجب القتل في الحرم ، فقال الشيخ أبو جعفر : يجوز استيفاؤه فيه لأنه هتك الحرمة.

وقال الهادي عليه‌السلام : يستوفى خارج مكة (٣) ، قيل : أراد بمكة الحرم ، وقيل : المدينة.

فصل

وقد ألحق بحرم مكة حرم المدينة في تحريم صيده عندنا والشافعي ، خلافا للإمام زيد وأبي حنيفة.

حجتنا ما تقدم من الأثر ، ولقوله تعالى في سورة المائدة : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) قال في الانتصار : الحرم جمع حرام ، وهذا اللفظ قد يطلق على من كان في المدينة ، ولهذا قال الشاعر (٤) :

__________________

(١) والمختار في الفروع أنه لا يجوز فيها أيضا. (ح / ص).

(٢) أي : الضمان. (ح / ص).

(٣) وهو المختار في كتب الفروع. (ح / ص).

(٤) الشاعر : هو الراعي النميري ، عبيد بن حصن بن معاوية بن جندل النميري ، أبو جندل من الشعراء المحدثين ، كان من أجلة قومه ، ولقب بالراعي لكثرة وصفه الابل ، وكان بنو نمير أهل مجد وسؤدد ، وقيل : كان راعي إبل من أهل بادية البصرة ، عاصر جريرا والفرزدق ، وكان يفضل الفرزدق ، فهجاه جرير هجاء مرا ، وهو من أصحاب الملحمات ، وسماه بعض الرواة حصين بن معاوية.

٢٢٤

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما

فدعا فلم أر قبله مخذولا.

فسماه محرما لما كان في حرم المدينة (١) ، وليس الغرض أنه كان محرما بحج أو عمرة ، فدلت الآية على المنع من قتل الصيد في الحرم ، وعلى المنع من قتل الصيد للمحرم ؛ لأن الآية تحتملهما ، فحملت عليهما.

وهذه المسألة خلافية : أعني في اللفظة المشتركة : هل تحمل على معنييها معا كما ذكره الإمام يحي عليه‌السلام (٢) ، وهو قول أبي علي ، وقاضي القضاة.

أو لا تحمل عليهما كقول أبي هاشم ، وأبي عبد الله البصري.

قال الإمام : وذكر بعض أصحاب الشافعي : أن الحرم جمع محرم ، وهذا خطأ ؛ لأن محرما إنما يجمع على محرمين ، ولا يجوز تكسيره على حرم ، قال الشافعي : واختاره الإمام يحي : إنه يحرم صيد «وجّ» بتشديد الجيم ، وهو واد بالطائف ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وج محرم ، لا ينفر صيده ، ولا يعضد عضاهه) ولكن لا قيمة على قاتل صيده لعدم الدليل.

قال الإمام عليه‌السلام : ولم أقف لأصحابنا فيه على كراهة ولا إباحة.

قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) قرأ نافع وابن عامر وَاتَّخَذُوا بفتح الخاء على الخبر بلفظ الماضي ، عطفا على (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) أي : واتخذ الناس ، وقرأ الباقون بكسرها على الأمر.

__________________

(١) وقد قيل : إن الشاعر قصد بقوله : (محرما) أي : داخلا في الشهر الحرام ، وهو ذو الحجة وهو الوجه ، فإنه يقال : أحرم فلان إذا دخل في أشهر الحج ، وأحرم إذا دخل الحرم.

(٢) في الفصول (أئمتنا والجمهور : ويصح إطلاقه حقيقة على كل معانية غير المتنافية مطلقا.

وفي (ح / ص). (حمله عليهما غير ممكن مع قوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) فليتأمل.

٢٢٥

واختلف أهل التفسير في المراد بمقام إبراهيم عليه‌السلام ، فقال عطاء : مقام إبراهيم : عرفة ، والمزدلفة ، والجمار ؛ لأنه قام في هذه المواضع ، ودعا فيها ، وعن النخعي : الحرم كله ، وقيل : هو الحجر الذي فيه أثر قدميه ، وذلك لأن زوجته أم إسماعيل (١) عليه‌السلام وضعت الحجر تحت قدميه حتى غسلت رأسه ، فغابت رجلاه في الحجر ، فجعل الله ذلك من شعائر الحج ، وهذا مروي عن الحسن ، وقتادة ، والسدي ، والربيع ، وأبي علي ، وصححه الحاكم ؛ لأنه المفهوم من اللفظ عند إطلاقه من حيث أن المقام موضع القيام ، ولأن حديث عمر الذي هو السبب في نزول الآية يدل عليه ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد عمر ، فقال : (هذا مقام إبراهيم) فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى؟ يريد أفلا نؤثرة لفضله بالصلاة فيه تبركا به؟ فقال : (لم أؤمر بذلك) فلم تغب الشمس حتى نزلت.

وعن عمر : وافقت ربي في ثلاث : قلت : لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وقلت : لو حجبت أمهات المؤمنين فنزلت آية الحجاب ، وقلت : لو حرمت الخمر ، فنزلت آية التحريم.

واختلفوا في قوله : (مُصَلًّى) فعن مجاهد (مُصَلًّى) أي : مدعى ، وقيل : قبلة عن الحسن ، وأبي علي ، وقال قتادة ، والسدي ، وصححه الحاكم : أراد الصلاة التي تفعل عقيب الطواف ، وهما الركعتان ، وهل هما واجبتان؟ أم سنة؟ الذي حكى القاضي زيد لمذهب القاسم ، والهادي ، والناصر ، والمؤيد بالله ، وأبي حنيفة ، والمنصور بالله ، وأحد قولي الشافعي : أنهما واجبتان ، والذي خرجه أبو جعفر للقاسم ، والهادي ، والناصر أنهما سنة ، من حيث أنهما لا تصليان في أوقات الكراهة ، فأشبهتا النوافل.

__________________

(١) الصواب : زوجة إسماعيل

٢٢٦

ودليل الوجوب ظاهر الأمر في الآية.

وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما فرغ من الطواف عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، وقرأ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (خذوا عني مناسككم) وهل يشترط أن تكون صلاة الركعتين في ذلك المكان أم لا؟ فمذهبنا ، وأبي حنيفة ، والشافعي أن ذلك ليس بشرط قياسا على سائر الصلاة (١) ، قال في مهذب الشافعي : وقد روي ان عمر ، وابن عمر صليا في غير ذلك المكان ، فصلى عمر بذي طوى ، وصلى عبد الله بن عمر في البيت.

وقال مالك : يعيد ، فإن وصل بيته ، فعليه دم إن صلاهما بغير المقام لظاهر الآية.

قوله تعالى

(وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة : ١٢٥]

معنى : (وَعَهِدْنا) أي أمرنا وألزمنا ؛ لأن العهد من الله هو الأمر ، ولهذا قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) [يس : ٦٠].

وقد دلت الآية على أن طهارة البيت واجبة ، واختلف ما أراد بالطهارة؟ فقيل : أراد من الأنجاس ، قال الحاكم : وهو الظاهر ، وقيل : اراد من الأوثان وطواف الجنب والحائض ، أو أخلصاه لهؤلاء لا يغشه غيرهم.

ودلت على منع الجنب والحائض منه ، ودلت على أن الاشتغال بأعمال الدنيا فيه لا يجوز على أحد التأويلات ، قال الحاكم : وتدل على

__________________

(١) يعارض بوجوب الصلاة في مزدلفة ولا تصح في غيرها. (ح / ص).

٢٢٧

كراهة الصلاة على الجنازة في البيت [الحرام] ؛ لأنه لا يؤمن من خروج النجاسة ، وهذا هو المذهب ، وهو قول أبي حنيفة

وروي أن عائشة لما قالت : يدخلون سعد بن أبي وقاص المسجد ليصلى عليه فيه أنكر عليها الصحابة ، وعند الشافعي : لا كراهة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى على سهيل (١) بن بيضاء في المسجد. وروى علي بن العباس (٢) النهي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال الأمير الحسين ، فيكون الفعل دلالة الإباحة ، والنهي دلالة الكراهة (٣).

وقال الحاكم ، وقد استدل بعضهم بالآية على وجوب العمرة (٤) ، والاستدلال على الوجوب بهذه الآية غير واضح ، وأراد بالعاكفين المجاورين ، وقيل : المعتكفين ، وقيل : المقيمين في الصلاة.

__________________

(١) الصحيح : أنه سهل بن بيضاء ، وهو أخو سهيل بن بيضاء. (ح / ص).

(٢) علي بن العباس بن إبراهيم بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، الهاشمي الحسني ، أبو الحسن ، روى عن الهادي ، والناصر ، وهو الذي يروي إجماعات أهل البيت ، وروى عنه السيد أبو العباس ، قال في الكنز : هو أحد علماء العترة ، وفضلائها ، وراوي علوم آل محمد ، والمصنف لها ، دخل مع الهادي إلى اليمن ، وقال القاضي أحمد بن صالح أبو الرجال في مطلع البدور : كان قاضيا بطبرستان أيام الداعي الصغير ، وله تصانيف كثيرة في الفقه ، منها كتاب اختلاف أهل البيت ، وكتاب ما يجب أن يعمله المجتهد ، وقال في حواشي الإفادة : صحب الهادي ، والناصر ، وسئل عنهما فقال : الناصر عالم آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والهادي فقه آل محمد ، قال السيد : يكون موته تقريبا في الأربعين والثلاثمائة ، روى له الأخوان.

(٣) فيكون أرجح ، إذ هو قول ، والإباحة فعل ، ولأنه نهي وهو أرجح كما هو القاعدة الأصولية ، فيكون فيه جهتان من الترجيح. (ح / ص).

(٤) حيث أن فيها ذكر الطواف ، في قوله : (لِلطَّائِفِينَ) والمعتمر يطوف.

٢٢٨

قوله تعالى

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة : ١٢٦]

قد دلت الآية على أمن مكة ، وقد تقدم ذلك ، لكن اختلف أهل التفسير ، فقيل : إنما صار حرما آمنا بدعاء إبراهيم عليه‌السلام ، وقبل إبراهيم لم يكن كذلك ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إن إبراهيم حرّم مكة ، وأمّنة ، وإني حرّمت المدينة ما بين لابتيها).

وقيل : كان الحرم آمنا قبل دعوة إبراهيم عليه‌السلام ، وأكده إبراهيم بالدعاء.

يدل عليه ما روي (١) أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوم فتح مكة : (إن مكة حرام حرمها الله يوم خلق السموات والأرض ، لم تحل لأحد قبلي ، ولا لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار).

وقيل : كانت حراما قبل الدعوة بوجه غير الذي حرمت عليه بعد الدعوة.

وقوله : (آمِناً) أي : ذا أمن كقولهم عيشة راضية ، أو : آمنا أهله ، كقولهم : ليل نائم ، أي أهله.

وتدل الآية على جواز الدعاء بمنافع الدنيا للكفار ، لا بالولايات الدينية ؛ لأن إبراهيم عليه‌السلام لما قال : (مَنْ آمَنَ) يعني : أرزق من آمن خاصة (٢) ، وذلك تأدبا لما رد الله تعالى حيث قال : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] وقد قال

__________________

(١) من رواية الإمام زيد بن علي عليه‌السلام. (ح / ص). وفي نسخة (وإنما حلت لي).

(٢) ولعل العموم فهم من الإطلاق لا من لفظ عموم الخبر. (ح / ص).

٢٢٩

العلماء : تجوز التعزية للذمي بأن يقال له : أخلف الله عليك ، ولا نقص عددك (١) ، فلما خص إبراهيم بالدعاء بالرزق لمن آمن قال تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) [البقرة : ١٢٦].

قرئ فأمْتِعه بسكون الميم والتاء خفيفة ، وهذه قراءة ابن عامر ، والباقون : بفتح الميم ، والتاء مشددة ، وهي تفيد التكثير ، وفي قراءة ابن عباس ، وليست في السبعة (فأَمتِعه) بفتح الهمزة ، وكسر التاء ثم اضْطرَّه موصولة الألف ، مفتوحة الراء ، على جهة الدعاء من إبراهيم.

وفي هذه القراءة دلالة على جواز الدعاء على الكفار بمثل هذا ، من سلب اللطف والهداية ، وهذا كما ورد في سورة يونس ، في قول موسى عليه‌السلام : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٨٨].

قال النواوي : أما لو دعا مسلم على مسلم ، فقال : اللهم اسلبه الإيمان ـ عصى بذلك ، وفي كفره وجهان ، الصحيح أنه لا يكفر.

قوله تعالى

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي

__________________

(١) وفيه : أن يقال : قد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من دعاء لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه) وهذا الدعاء يتضمن ذلك. وأجيب : بأنه يجوز من الله التبقية لهم ، فتجوزنا بمكان يجوز من الله ، ولعله على وجه لا يكون فيه ظلم ، ولا تقوية للكفرة ، وهو غير مخلص. فيحقق. (ح / ص).

٢٣٠

الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٢٧ ـ ١٣١].

وقد أخذ من ذلك أحكام :

الأول : أن عمارة البيت ، وكذا سائر المساجد من القربات اقتداء بإبراهيم ، وإسماعيل ؛ لأنهما فعلا ذلك ، وكان عبادة منهما ، لذلك قالا : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا).

الثاني : أنه يستحب الدعاء عقيب العبادة ؛ اقتداء بهما ؛ لأن المعنى : وإذ يرفعانه قائلين : ربنا. إلى آخر الدعاء ، وقد فسر قوله تعالى في سورة (أَلَمْ نَشْرَحْ) : أي : إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء.

ومنها : أنه يستحب طلب اللطف والمعونة في الدين ، والدعاء للغير ، وفي الحديث : (أعجل الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب).

وأنه يجوز الدعاء بما يعلم الداعي حصوله ؛ لأنهما عليهما‌السلام عالمان أنهما لا يفارقان الإسلام ، وأن الانبياء والأئمة لا تشترط عصمتهم من الصغائر.

قال الحاكم : لأنه لا يحسن أن يقال : اغفر ذنبي ولا ذنب له ، وعند الامامية يشترط في الإمام عصمته من الصغائر ، والكبائر ، وهو خطأ.

والمعنى في الآية الكريمة : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) أرادا الكعبة ، والقواعد : هو أساسها الذي كان عليه وقت آدم.

قال الزمخشري رضي الله عنه : روي أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة ، له بابان من زمرد ، شرقي وغربي ، وقال لآدم : أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي ، فتوجه آدم من أرض الهند ماشيا إليه ، وتلقته الملائكة ، وقالوا : بر حجك يا أدم ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام ، وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على

٢٣١

رجليه ، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله زمن الطوفان إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور (١).

لأنه عمر بالطائفين ، والمجاورين ، والمصلين إليه.

وقيل : إنه أول مسجد وضع للعبادة في الأرض.

وقيل : البيت المعمور في السماء الرابعة على ما سيأتي إن شاء الله في تفسيره.

ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه ، وعرف جبريل عليه‌السلام إبراهيم بمكانه.

وقيل : بعث الله تعالى سحابة أظلته ، ونودي أن ابن على ظلها ، ولا تزد ولا تنقص.

وقيل : نادته السحابة يا إبراهيم ابن بحيالي ، وروي أنه بناه من خمسة أجبل ، وهي طور سيناء ، قيل : هو جبل من جبال مصر ، وطور زيتا ، قيل : هو من جبال الروم ، ولبنان ، قيل : هو جبل من جبال الشام ، والجودي ، قيل : هو في جزيرة من ديار بكر ، وأسسه من حراء ، وهو من جبال مكة ، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من السماء ، وقيل : تمخض أبو قبيس فانشق عنه ، وقد خبئ فيه في أيام الطوفان ، وكان ياقوتة بيضاء من الجنة ، فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسود.

وفي السفينة «عن وهب أن الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة أنزلا فوضعا على الصفاء ، فأضاء نورهما لأهل المشرق والمغرب ، فرفع الله نورهما ووضعهما حيث هما.

وعن وهب : يبعث الركن يوم القيامة وله لسان ، وشفتان ، وعينان ، يشهد لمن استلمه بحق.

__________________

(١) إلى هنا انتهى كلام الكشاف ، وانظره في تفسير هذه الآية.

٢٣٢

وعن وهب : في كتاب من الكتب الأولى ـ ليس من ملك بعثه الله إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت ، فينهض من عند العرش محرما ، فيستلم الحجر ، ثم يطوف ويصلي ركعتين.

وروي أن الله تعالى بعث سحابة فقامت حيالها ، وفيها رأس ، قيل : أراد به الحجر ، وقالت : يا إبراهيم ابن بحيالي ، فلم يزل يحفر ، وهي تربة حمراء مدرة حتى وصل إلى الأساس ، وهذا الأظهر.

وقيل : أول من بناه إبراهيم ، قال الحاكم : والأظهر أن إبراهيم وإسماعيل بنياه معا ، وقيل : بناه إبراهيم ، وإسماعيل يناوله الحجارة.

وقيل : المعنى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ، وَ) يقول إسماعيل : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) وأن إبراهيم هو الذي عمره وحده ، وضعفه الحاكم (١) ، وقيل : أول من حج إبراهيم ، وقيل : قد حج آدم قبله.

وقوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) أراد بالرسول محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا دعوة إبراهيم (٢) ، وبشرى عيسى» وأراد بالبشارة قوله : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦] قال الحاكم : والأمة : هي أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ).

والحجر بضعة من البيت ، وقد قال أهل المذهب : من دخل الحجر في طوافه لم يكن طائفا بالبيت ، وفي نهاية المالكي عن جمهور العلماء أن الحجر من البيت وأن من طاف بالبيت لزمه إدخاله فيه.

وحجة الجمهور قوله تعالى في سورة الحج : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٢٩].

__________________

(١) والرازي. (ح / ص).

(٢) وزرع إسماعيل (ح / ص).

٢٣٣

وما رواه مالك عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لو لا حدثان قومك بالكفر لهدمت الكعبة ، ولصيرتها على قواعد إبراهيم ، فإنهم تركوا منها سبعة أذرع من الحجر ، ضاقت بهم النفقة والخشب».

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إنه سنة ، وقد قيل : إنما ترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقبيل الركنين العراقي والشامي على رواية من روى أنه ترك ذلك ، ولم يستلمهما ؛ لأنهما ليسا على أساس البيت ، وهذا قول أبي حنيفة ، والشافعي : إنه لا يستلمهما.

وفي الشرح (١) : «الحجر من البيت ؛ لأن عائشة سألته عن الحجر ، فقال هو من البيت ، ولو لا حدثان عهد قومك بالإسلام لرددته إلى حيث بناه إبراهيم».

وفي نهاية ابن الأثير : «لو لا حدثان قومك بالكفر».

قوله تعالى

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) [البقرة : ١٣٢]

تدل على الترغيب في الوصية عند الموت ، ولو لم يكن عليه شيئ أن يوصي بتقوى الله سبحانه.

والمعنى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ) ، أي بالكلمة التي هي : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) وقيل : بكلمة الإخلاص ، وهي (لا إله إلا الله).

والقراءة الظاهرة برفع (يَعْقُوبُ) على أنه موص لغيره ، وقري في الشاذ (ويعقوبَ) بالنصب ، على أن إبراهيم أوصى بنيه ، وأوصى إبراهيم أيضا يعقوب ، وهو نافلته.

__________________

(١) أي : شرح القاضي زيد (ح / ص).

٢٣٤

قوله تعالى

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٣]

قيل : إن يعقوب عليه‌السلام لما دخل مصر ، ورآهم يعبدون الأوثان ، جميع بنيه وأوصاهم وقال : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي)؟.

وعن عطاء : خيره الله تعالى بين الموت والحياة ، فجمع ولده ، وولد ولده ، وقال لهم قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ قالوا : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) وثمرة هذه الآية أحكام :

الأول : أنه ينبغي أن تكون شفقة الآباء على الأولاد في باب الدين ، كما فعل يعقوب ، وقد جاء ذلك في قوله تعالى في سورة التحريم : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦].

الثاني : أن الكبير ينبغي أن يقدم ؛ لأنهم بدأوا بإبراهيم ، وهو جده ، ثم بإسماعيل ؛ لأنه أكبر ولدي إبراهيم ، ثم بإسحاق ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث حويصّة ومحيصّة في القسامة لما تكلم محيصّة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (كبّر كبّر).

الثالث : أنه يطلق اسم الأب على الجد ، وعلى العم ، ولكن ذلك مجاز ، ولهذا يقال لمن لا أب له : إنه يتيم ، ولو كان له جد أو عم ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العباس (١) : (هذا بقية آبائي) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (عم الرجل صنو

__________________

(١) العباس بن عبد المطلب بن هاشم ، أبو الفضل عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان أكبر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسنتين أو ثلاث ، وسئل أنت أكبر أم رسول الله؟ فقال : هو أكبر مني ، وأنا ولدت قبله. رواه السيد أبو طالب ، حضر مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة العقبة لبيعته الأنصار ، وخرج إلى بدر مع المشركين ، فأسر ، ففادى نفسه ، وابني أخويه عقيل ـ

٢٣٥

أبيه) (١) أي : لا تفاوت بينهما ، كما لا تفاوت بين صنوي النخل ، وقد قالوا : إنه إذا نسب رجل رجلا إلى جده ، أو عمه ، أو خاله ، أو زوج أمه لم يكن قاذفا ، لأن اسم الأب يطلق عليهم.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (العم أب) وفي حديث : (الخالة أم).

وفسر قوله تعالى في قول نوح عليه‌السلام : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) [هود : ٤٢] أنه كان ابن امرأته.

قال أبو حنيفة : ولو خلف جده وأخاه ـ كان المال للجد ؛ لأنه أب ، بدليل هذه الآية ، وهذا قول جماعة من الصحابة منهم : أبو بكر ، وابن عباس ، ومعاذ بن جبل ، وعائشة ، ومن التابعين الحسن البصري ، وبشر بن غياث (٢). وقال عامة أهل البيت عليه‌السلام (٣) ، ومالك ، والشافعي ، وأبو

__________________

ـ ونوفل ، ومسلم ، وعذره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإقامة بمكة لأجل سقايته ، ولقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر الفتح مهاجرا ، فرجع معه ، فكان سببا لحقن الدماء ، ثم خرج إلى حنين ، وثبت حين انهزم الناس ، وصاح فيهم فرجعوا ، وانهزم المشركون ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعظمه ، والخلفاء بعده ، وكان جوادا أعتق سبعين عبدا ، توفي بالمدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من رجب سنة ثلاث أو أربع وثلاثين ، وهو ابن ثمان وثمانين سنة ، وصلى عليه عثمان ، وقبره بالبقيع مشهور مزور.

(١) صنوي النخلة هو : إذا خرج نخلتان أو ثلاث من أصل واحد ، فكل واحدة منهن صنو. (ح / ص).

(٢) في نسخة (بشر بن عتاب) وفي أ (بشر بن غياث) وهو : بشر بن غياث بن أبي كريمة ، المريسي ، المعتزلي ، الفقيه ، المتكلم ، أبو عبد الله الحنفي ، قال ابن خلكان : أخذ الفقه عن أبي يوسف ، وهو ممن قال بخلق القرآن ، وهو مرجي ، وإليه تنسب الطائفة المرجية ، وكان مناظرا للشافعي ، ويلحن لأنه كان لا يعرف النحو». قال المسعودي : توفي سنة ٢١٩ ه‍ وفي القاموس (مرّيسة) كسكينة ، منها بشر بن غياث المتكلم. (تراجم شرح الأزهار).

(٣) وهو المختار للمذهب. (ح / ص).

٢٣٦

يوسف ، ومحمد : إن الجد لا يسقط الأخ ، وهو مروي عن زيد بن ثابت ، وابن مسعود ، وعمران بن الحصين (١) ، والشعبي ؛ لأن اطلاق الأب على الجد مجاز في هذه الآية.

وفي قوله تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الحج : ٧٨] فلا يلزم تسليم ما ذكروا من ذلك ، كما لا يلزم أن يسقط العم الأخ ، مع أنه قد سماه الله أبا.

وأبو حنيفة (٢) ومن معه يقولون : إن الجد يسقط الإخوة إذا انفردوا عن الأخوات ، أو كان مع الأخوات إخوة ؛ لأن ميراثهم بالتعصيب ، والجد بالفرض ، إلا إذا كن الأخوات منفردات فلا يسقطن ؛ لأن ميراثهن بالفرض ، وقد شبه علي عليه‌السلام الجد والأخ بمنزلة مسيل ، فقال : «مثل الجد مثل مسيل ينشق منه نهر ، ثم ينشق من النهر نهران» يعني بهما الميت وأخاه ، فأحد النهرين إلى الثاني أقرب منه إلى المسيل.

وشبهه زيد بن ثابت بشجرة لها غصن ، ثم خرج عن الغصن غصنان ، فأحد الغصنين إلى الغصن الآخر أقرب منه إلى أصل الشجرة.

وهذا التشبيه من علي عليه‌السلام ، وزيد بن ثابت يدل على مسألة تذكر في الوقف ، وهي : إذا وقف على الأقرب فالأقرب ، وكان له جد وأخ ـ أنه للأخ ، وذكر صاحب حواشي الإفادة أنه نصفان ، وذكر بعض

__________________

(١) عمران بن الحصين هو : عمران بن حصين بن عبيد ، أبو نجيد ، الخزاعي ، من علماء الصحابة ، أسلم عام خيبر ، وكانت معه راية خزاعة يوم فتح مكة ، وبعثه عمر إلى أهل البصرة ، ليفقههم ، وتوفي بها سنة ٥٢ ه‍.

(٢) ينظر في هذا الكلام ، فإن المذكور في شروح الفرائض أن ذلك قول زيد بن ثابت ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وأما أبو حنيفة ومنه معه فيسقطون الأخوة بغير تفصيل. (ح / ص). وفي تفسير الحاكم (وقد استدل بعض الحنفية في أن الجد بمنزلة الأب في حجب الأخوة والأخوات).

٢٣٧

المتأخرين أنه للجد ، والخطاب في قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) للمؤمنين ، فالهمزة للإنكار ، أي : ما شهدتم ذلك ، بل علمتموه بالوحي.

وقيل : الخطاب لليهود ؛ لأنهم قالوا : ما مات نبي إلا على اليهودية ، ويكون في الآية تقدير وهو : أن المعنى أتدعون على الأنبياء اليهودية (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) يعني : أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له ؛ إذ أراد بنيه على ملة الإسلام ، وقد علمتم ذلك ، فما بالكم تدعون على الأنبياء ما هم منه براء (١)؟ هذا معنى تفسير الزمخشري للأية.

قوله تعالى

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٦]

دلت على وجوب إظهار الحق ؛ لأنه أمر ، وقد قال العلماء : ينبغي أن تكون الفرائض ظاهرة في المساجد ، وفي الحديث : (لا غمة في فرائض الله تعالى) (٢).

قوله تعالى

(وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) [البقرة : ١٣٩]

قال الكلبي : إنها منسوخة بآية السيف ، وصحح الحاكم : أنها غير منسوخة ؛ لأنها لا تنافي وجوب الجهاد.

__________________

(١) وفي نسخة (تدعون على الأنبياء خلافه).

(٢) رواه في الغيث (حاشية شرح الأزهار).

٢٣٨

قوله تعالى

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) [البقرة : ١٤٠]

في معنى الآية وجوه :

الأول : قول أبي علي ، وأكثر المفسرين : إن المراد من أظلم من هؤلاء الذين كتموا شهادة الله عندهم؟ فالمعنى : كتم شهادة الله عنده ـ أن الله شهد بها ، وهي شهادة الله لإبراهيم بالحنيفية.

الوجه الثاني : عن أبي القاسم ، وأبي مسلم : أن المعنى : ومن أظلم في كتمان الشهادة من الله لو كتمها ، يعني : لو كانوا هودا لأخبر تعالى بذلك.

الوجه الثالث : أن المعنى : من كتم شهادة من عباد الله ، وهذا راجع إلى اليهود والنصارى.

قيل : لأنهم كتموا الشهادة بأن الأنبياء كانوا على الإسلام ، وهذا مروي عن مجاهد ، والربيع. وقيل : كتموا الشهادة التي عندهم بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا مروي عن الحسن ، وقتادة ، وأبي علي.

قال الحاكم (١) : وقد دلت الآية على حظر كتمان الشهادة لعموم اللفظ ، فيدخل في ذلك كتمان العلوم ، والديانات ، والشهادة بالحقوق ، والفتاوى.

__________________

(١) ولفظ الحاكم في التهذيب (الآية تدل على حظر كتمان كل شهادة ووجوب اقامتها ، لأنه وإن تعلق بما قبله ، فالمعتبر عموم اللفظ ، فيدخل فيه كتمان العلوم والديانات ، التي اوجب الله تعالى اظهارها ، والدعاء اليها ، ويدخل فيه الشهادات بالحقوق).

٢٣٩

قوله تعالى

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢]

أراد بالسفهاء : اليهود ، لما تحول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة.

وقيل : كفار مكة ، لما استقبل الكعبة قالوا : قد رجع عن قبلته ، وسيرجع إلى ديننا

وقيل : المنافقين ؛ لحرصهم إلى الطعن الاستهزاء (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) أي : ما ولى محمدا وأصحابه عن قبلة محمد وأصحابه ، قال أبو مسلم : ويحتمل أن يريد قبلة السفهاء (١).

دلت الآية ، وسبب نزولها على وجوب استقبال الكعبة ، وهو إجماع ، وعلى أنه لا يجوز الطعن في أمر الدين ، وهو إجماع.

قوله تعالى

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣]

أراد بالوسط الخيار ، وفي الآية دلالة على أن الإجماع حجة ؛ لأن الله تعالى عدّلهم ، وقرن شهادتهم بشهادة الرسول.

وقيل : ليشهدوا يوم القيامة على من خالف الحق ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] قال ابن زيد : والأشهاد أربعة : الملائكة ، والأنبياء ، وأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والجوارح.

__________________

(١) فإن قلت : أيّ فائدة في الإخبار قبل وقوعه؟ قلت : فائدته أن مفاجأة المكروه ، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع ، لما يتقدمه من توطين النفس ، وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أرد للخصم ، وأقطع لشغبه ، وقبل الرمي يراش السهم. (كشاف).

٢٤٠