تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

فائدة

تكمل بها هذه الجملة ، وهي : أن الفجر الذي هو حد للأكل وسائر المفطرات هو الثاني المستطير الأبيض ؛ لأنه عليه‌السلام بينه كذلك.

قال في النهاية : وشذت فرقة ، فقالت : هو الفجر الأحمر ، الذي يكون بعد الأبيض ، وهو نظير الشفق الأحمر ، وهو مروي عن حذيفة وابن مسعود ، قال فيها : ولا يجب الإمساك قبل طلوع الفجر عند الجمهور لظاهر الأدلة.

وقيل : يجب جريا على الاحتياط ، وسد الذريعة.

وقد ذكر في صحيحي البخاري ، ومسلم عن زيد بن ثابت : «أنه كان بين سحور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين الأذان قدر خمسين آية».

وفي البخاري ، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر (١) : «أنه لم يكن بين أذان بلال ، وابن أم مكتوم إلا أن يرقى ذا ، وينزل ذا».

قال الحاكم : و «من» في قوله تعالى : (مِنَ الْفَجْرِ) قيل : للتبعيض ؛ لأن المعتبر بعض الفجر ، لا كله ، وقيل : للتبيين ، كأنه قال : الذي هو الفجر.

__________________

(١) القاسم بن محمد بن أبي بكر بن أبي قحافة ، أبو محمد ، وقيل : أبو عبد الرحمن التيمي ، المدني ، روى عن ابن عباس ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وعمته عائشة ، وغيرهم من الصحابة ، وروى عنه خلق من التابعين ، قال ابن عيينة : كان القاسم أفضل أهل زمانه ، وقال أبو الزناد : ما رأيت أعلم من القاسم ، وقال ابن عيينة : أعلم الناس بحديث عائشة القاسم ، وعروة.

وعمره : قال ابن سعد توفي سنة ١٠٨ ه‍ بعد ما ذهب بصره ، وهو ابن اثنتين وسبعين ، وكان ثقة ، عالما ، رفيعا ، فقيها ، ورعا ، إماما ، كثير الحديث ، جالس ابن عباس ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وكان يحدث بالحديث على حروفه ، وبنته أم جعفر الصادق ، روى له أئمتنا والجماعة.

٣٦١

قال الإمام المؤيد بالله : [يحي بن حمزة] عليه‌السلام في كتاب الانتصار : لدخول الليل الذي هو حد الصوم ثلاث أمارات.

الأولى : طلوع سواد من أفق المشرق ، كالخيط الممدود المستطيل ، وذهاب النور من المغرب ، وهو المراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إذا أقبل الليل من هاهنا» الخبر.

الأمارة الثانية : ظهور الكواكب.

الأمارة الثالثة : سقوط ضياء الشمس من الجبال العالية.

[خلاصة البحث]

فصارت الثمرات المذكورة : حل المفطرات في جميع الليل ، وجواز الفحش بالقول الذي يذكر عند الجماع بين الزوجين ، وطلب الولد ، وطلب ليلة القدر ، وتحريم العزل ، وتحريم الموضع المكروه ، والنهي عن الوصال ، وأنه لو تنحى عن المفطر حال طلوع الفجر لم يبطل صومه ، وأن من أصبح جنبا لم يبطل صومه ، وأن النية لا يجب تبييتها ، وأن من تسحر شاكا في طلوع الفجر لم يبطل صومه ، وأنه إن تبين له أنه أكل بعد طلوعه فسد ، وأنه إن تبين أنه أفطر قبل الغروب فسد صومه.

وقوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) شبهت باللباس لملاقاة بشرها لبشره ، كما يلاقي اللباس.

قال الزمخشري : وفي ذلك إشارة إلى بيان الرخصة ، كأنه قال : لما بينكم هذه المخالطة ، التي يقل معها الصبر على اجتنابهن رخص لكم.

وقوله تعالى : (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي : تظلمونها ، وتنقصونها حظها من الخير.

وقوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) يعني : حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور.

٣٦٢

وأما قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ).

فقد دل على أحكام :

الأول : النهي عن المباشرة مع الاعتكاف ، والنهي يقتضي الفساد.

لكن ما هذه المباشرة المفسدة؟ فقال الأكثر : إنها الجماع ، لما تقدم من قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) فإن باشر بدون الجماع نظر ، فإن كان لا لشهوة جاز ذلك ، ولم يبطل اعتكافه ؛ لأنه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدلي رأسه إلى عائشة فترجله وهو معتكف.

وإن كانت المباشرة لشهوة كالتقبيل ، واللمس ونحوه ففي ذلك ثلاثة أقوال للعلماء

قول مالك ، وأحد قولي الشافعي : إن ذلك مفسد ، سواء أمنى أم لا.

الثاني : أن ذلك غير مفسد ، أمنى أم لا ، وهذا أحد قولي الشافعي.

والقول الثالث : مذهبنا ، وأبي حنيفة ، والمروزي (١) عن أصحاب الشافعي : إن أمنى بالمباشرة في غير الفرج بطل اعتكافه ، وإلا فلا ، وهذا قول الناصر

وسبب الإختلاف : أن لفظة المباشرة مشتركة بين التقبيل واللمس ، ونحو ذلك ، وتخصيصها بالجماع مجاز ، وهذه مسألة أصولية ، إذا دارت اللفظة بين المجاز والإشتراك ، هل تحمل على المجاز ، أو على الاشتراك

__________________

(١) إبراهيم بن أحمد بن إسحاق المروزي ، أخذ الفقه عن ابن سريج ، وصنف ، وشرح مختصر المزني ، وتفقه عليه خلق ببغداد ، وارتحل إلى مصر ، وبها توفي في رجب سنة ٦٤٠ ه‍ وقبره قريب من قبر الشافعي.

٣٦٣

؟ في ذلك خلاف بين الأصوليين : رجح ابن الحاجب ، والرازي : الحمل على المجاز (١).

وأما إذا كانت اللفظة مشتركة بين معنيين ، لا تنافي بينهما ، هل يحمل على أحد المعنيين فقط ، أو على كلا المعنيين ، فقال أبو علي ، والقاضي ، وأبو الحسين : إنه يجوز أن يراد باللفظة المشتركة كلا معنييها ، ويحمل على ذلك ، مع تجرد اللفظ عن القرائن ، وقال أبو هاشم ، وأبو عبد الله : لا يجوز أن يراد بها كلا معنييها.

ففي مسألتنا هذه إن حملنا المباشرة على المعاني دخل الوطء ، واللمس والتقبيل ، وكان القول ما قاله مالك ، إلا أن هذا إذا تجرد عن القرينة ، وفي مسألتنا تقدمت قرينة أن المراد بالمباشرة هي : المباشرة التي تقدم ذكرها في حق الصائم ، وهي الجماع.

وإن قلنا : لا يراد جميع المعاني ، حمل على أحدها ، وليس ذلك إلا الوطء

ثم إنه إذا باشر في غير الفرج فأنزل ، ففي أحد أقوال الشافعي : لا يبطل اعتكافه ؛ لأنه ليس بجماع ، وقد حملت المباشرة على الجماع.

قال في شرح الإبانة : هو في معنى الجماع ، وما قاله الشافعي في هذا القول مخالف للإجماع.

وإذا قلنا : إنه ممنوع عن المباشرة المذكورة ، فالأكثر من العلماء : أن ذلك لأجل الاعتكاف لا لأجل المسجد ، وهذا إجماع ، ولم يحك الخلاف إلا عن ابن لبانة ، فإنه روى عنه صاحب النهاية : أن الاعتكاف لا

__________________

(١) واختاره الإمام المهدي في المعيار. قيل : لغلبته ، وقيل : بل الاشتراك ؛ لأنه حقيقة ، الإمام : يوكل إلى نظر الفقيه. (فصول وهامشه) (ح / ص).

٣٦٤

يبطله الجماع في غير المسجد ، وأنه إنما منع منه لأجل المسجد ، وأنه يصح الإعتكاف خارج المسجد ، ومنشأ خلافه من قوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) فيجعل الجملة حالية ، ويحعل لها مفهوما تقديره : فأما إذا كان داخلا في الدار ، فإن مفهومه جواز الإعطاء إذا كان خارجا.

قلنا : منع من هذا المفهوم أمران : الأول : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا اعتكاف إلا في مسجد جامع» ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعتكف إلا في مسجد ، وفعله بيان لمجمل الآية ، وأيضا فالمسألة كالمجمع عليها ، فمنع ذلك من هذا المفهوم.

وفي صحيح البخاري عن عائشة ، قالت : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصغي إليّ رأسه ، وهو مجاور في المسجد فأرجّله وأنا حائض».

وفي لفظ الترمذي : «كان إذا اعتكف أدنى إلي رأسه فأرجله».

قال في الانتصار : هذا الحديث قد اشتمل على فوائد :

وهي : أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد ، إذا لخرج عليه‌السلام.

وأن إخراج الرأس من المسجد لا يضر الاعتكاف ، ويقاس عليه إخراج الرجلين إذا كان الرأس في المسجد. وأن يد الحائض ليست نجسة. وأن يد المرأة ليست عورة ؛ لأنها أخرجت يدها ، ولا يخلو المسجد عن أحد.

وأنه يجوز للمعتكف التزين ، والنفيس من الثياب ، واحتمال الطيب ، قياسا على الترجيل ؛ لأن الجميع زينة.

وأنه يجوز مباشرة النساء من غير شهوة ، وكذا النظر من غير شهوة.

وأن الإشتغال بالأمور المستحبة لا يبطل الإعتكاف ، وأن المعتكف

٣٦٥

لا يخرج لتجديد الطهارة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخرج لغسل رأسه (١) ، وأنه يجوز نصب المائدة في المسجد ؛ لأن ذلك أصون ؛ ويجوز غسل اليد في الطست (٢).

قال في الانتصار : وحكى الغزالي عن الشافعي : أنه لو خرج لقضاء حاجة ، فجامع حالة خروجه لقضاء الحاجة لم يفسد اعتكافه.

الحكم الثاني : أن الرجال والنساء سواء في اشتراط المسجد ؛ لأن الآية لم تفصل ، وهذا هو مذهبنا والشافعي ، ومالك.

قال في النهاية : ولا تعتكف في المسجد إلا مع زوجها ، كالسفر ، وعند الناصر ، وأبي حنيفة ، وقول للشافعي : إن المرأة تعتكف في مسجد بيتها ؛ لأن في صحيح البخاري : أن حفصة ، وزينب لما ضربتا لهما خبائين في المسجد فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «البرّ ترون» (٣) وفي رواية مسلم : «البرّ تردن» وأمر بخبائه فقوّض ، وترك الاعتكاف ، وقياسا على الصلاة ، وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد» فيكون هذا مخصصا لعموم الآية.

الحكم الثالث : أن المساجد جميعها يصح فيها الاعتكاف ، لعموم قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) وهذا مذهب عامة العلماء من أهل البيت عليهم‌السلام ، وأبي حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي.

__________________

(١) لعله على أصل من يقول : المباشرة من المرأة للرجل لا تنقض الوضوء ، ويصلح أن يكون ذلك حجة لنا عليهم إذ لم يخرج للطهارة. (ح / ص). وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكاد يفارقها في غالب حالته غير النوم ونحوه

(٢) بالسين المهملة فقط ، وهو طست فقط ، (مصباح ، وشمس العلوم) (ح / ص).

(٣) أي : تظنون. ومعنى (قوّض) أي : رفع وأزيل. إن قيل : لم يذكر صحة اعتكافهن في غير المسجد ، ويمكن أن يقال : إنه إنما نهاهن عن الاعتكاف لما يحصل به من الإطلاع عليهم ، فترك البر أفضل ، بل واجب فينظر (ح / ص).

٣٦٦

وعن ابن مسعود : لا يصح إلا في المسجد الحرام.

وعن حذيفة : لا يصح إلا في المسجد الحرام ، أو مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومسجد بيت المقدس.

وقال الزهري ، والأوزاعي (١) : لا يصح إلا في الجوامع. وللشافعي قول : إنه لا يعتكف يوم الجمعة إلا في مسجد الجمعة ، وهذه رواية ابن عبد الحكم عن مالك ، والمشهور له كقول الأكثر ، ويجعل القياس الذي يتوهم مخصصا للعموم ، فيقول : لئلا تنقطع الجمعة ، فلذلك خص مسجدها.

ومن قصر على الثلاثة ، قال : لتشابه مسجد اعتكافه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث إنه تشد إليها المطي لشرفها ، وقراءة مجاهد ، وهي شاذة (وأنتم عاكفون في المسجد).

قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) قيل : المراد فلا تأتوها.

وقيل : المراد أن من كان في طاعة الله تعالى ، والعمل بشرائعه ، فهو متصرف في حيز الحق ، فإن تعداه خرج إلى حيز الباطل وقد قال تعالى : (فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة : ٢٢٩] وقال : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩] وقال هنا : (فَلا تَقْرَبُوها) مبالغة في التباعد ، وأن يكون بعيدا عن الطرف فضلا عن أن يتعداه ، وهذا كما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن لكل ملك حمى ، وحمى الله

__________________

(١) الأوزاعي هو : عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، أبو عمرو ، سكن دمشق ، ثم تحول الى بيروت فسكنها مرابطا إلى أن مات ، وهو ركن من أركان الحديث ، وعلم من أعلام الدين ، روى عن الباقر ، ونافع ، والزهري ، وقتادة ، وآخرين ، وروى عنه الثوري ، ومالك ، وأمم ، ولد سنة ٨٨ ه‍ ، قال ابن سعد : كان ثقة مأمونا ، كثير الحديث ، وقال ابن معين : ثقة ، أفتى الأوزاعي في سبعين ألف مسألة ، توفي سنة ١٥٧ ه‍ بدمشق ، روى له الجماعة ، وأئمتنا الخمسة.

٣٦٧

محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» والرتع حول الحمى ، وقربان حيزه واحد ، وقد قال القاسم عليه‌السلام : يكره الاستمتاع من الحائض لئلا يقارب الحمى ، وسيأتي الكلام على هذه المسألة بمشيئة الله تعالى عند ذكر قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة : ٢٢٢].

قوله تعالى

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٨٨]

السبب في نزول الآية : أنه اختصم امرؤ القيس بن عانس (١) الكندي ، وعبدان الحضرمي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أرض ، فأراد أن يحلف امرؤ القيس ، وهو المطلوب ، فنزل قوله تعالى في سورة آل عمران : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران : ٧٧] فلم يحلف (٢) وحلف عبدان الحضرمي ، فنزلت الآية.

وثمرة هذا : تحريم مال الغير بوجه باطل ، من الأكل الحقيقي ، وسائر الانتفاع ؛ لأن الجميع يسمى أكلا [مجازا].

قال الحاكم : وإنما خص الأكل بالذكر ؛ لأنه معظم الانتفاع ؛ لأن من الأموال ما لا يصح أكله.

وقوله تعالى : (أَمْوالَكُمْ) أي : لا يأكل بعضكم أموال بعض بالظلم ،

__________________

(١) وفي ب (عابس). في (ح / ص). (عانس بالعين المهملة ، والنون المكسورة ، والسين المهملة ، وعبدان بفتح العين ، وكسر الباء الموحدة. (مقاصد).

(٢) سبب النزول في آل عمران غير هذه القصة ، وإنما ترك امرء القيس حذرا وتباعدا فقط ، فلا يتوهم المنافاة في الكلام. والله أعلم. (ح / ص).

٣٦٨

كقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] أي بعضكم بعضا ، فيدخل في هذا الغصب ، والسرقة ، وكذلك الربا ، والقمار ، ومهر البغي ، وكسب النائحة والمغنية ، وحلوان الكاهن ؛ لأنه يجمعها الأكل الباطل ، وكذلك الرشا ، ومال اليتيم ، والودائع ، وما أخذ بشهادة الزور ، وباليمين الفاجرة ، وبحكم الحاكم الباطل ، علم أو جهل (١) ، وقد ذكرت هذه الوجوه في معنى الآية ، لكن كل عالم ذكر بعضا منها (٢).

قال الحاكم : والصحيح أن يحمل على الجميع ؛ لأنها أكل مال الغير بالباطل.

وقوله تعالى : (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ) أي : قطعة من أموال الناس.

وقوله تعالى : (بِالْإِثْمِ) أي : بالوجه الذي يستحق عليه العقاب.

وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : التحريم ؛ لأن الحرام مع العلم أعظم

__________________

(١) يقال : هذا إنما يتهيأ على أصولنا في القطعي ، أو حيث حكم بخلاف مذهبه عمدا ، كما هو مقرر في موضعه. (ح / ص).

(٢) وقد نسبها في الحاكم إلى أصحابها ، ولفظه (وقيل : لا تأكلوا أموالكم باللهو واللعب كما يؤخذ في القمار والملاهي ، وقيل : لا تكسبوا المال بالباطل أي بالأسباب المحرمة ، وقيل : لا تأكلوها بالمعاصي والرشا (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) اي تلقوا بها إلى القضاة قيل : الودائع وما يقوم عليه بينة عن ابن عباس والحسن وقتادة ، وقيل : هو مال اليتيم في يد الأوصياء يرفعه إلى الحاكم إذا طولب به ليقطع بعضه ويقوم له في الظاهر حجة عن أبي علي ، وقيل : يقيم شهادة الزور عن الكلبي ، وقيل : هو أن يحلف ليذهب حقه عن الحسن ، وقيل : هو أن يدفع إلى الحاكم رشوة ليحكم به ، ويذهب بالمال حراما ، والصحيح أن يحمل على الجميع لأنها أكل بالباطل).

٣٦٩

وفي هذه الجملة ثلاث مسائل خلافية :

الأولى : هل حكم الحاكم ينفذ باطنا وظاهرا ، أو لا ينفذ إلا في الظاهر؟ وهذا فيه تفصيل (١). أما ما وافق اجتهادا ، فإنه ينفذ في الباطن والظاهر ، وذلك وفاق بين من يقول : الآراء صائبة.

وأما في ابتداء الملك ، والحدود والقصاص ، فلا ينفذ في الباطن وفاقا.

وأما في العقود والفسوخ : فإذا حكم الحاكم بأن زيدا باع هذه الدار ، أو وهبها ، أو أقال ، أو أن فلانا تزوج فلانة ، أو طلق ، فإن هذا الحكم لا ينفذ في الباطن ، فلا يحل الثمن ، ولا المبيع للمحكوم له ، وكذا الزوجة ، وهذا قول عامة أهل البيت عليهم‌السلام ، والشافعي استدلالا بهذه الآية.

ووجه الدلالة : أنه تعالى نهى أن يدلى إلى الحكام بالخصومة : أي : ترفع إليهم ليؤكل بذلك مال الغير.

وقيل : الإدلاء بمعنى : الرفع ، أي : لا ترفع الأموال إلى حكام السوء رشوة ، ليحكموا بالباطل.

ويؤيد هذا الخبر «أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للخصمين : إنما أنا بشر مثلكم ، وأنتم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئا ، فإنما أقطع له قطعة من نار ، فبكيا ، وقال كل واحد منها : حقي لصاحبي. قال : اذهبا فتوخيا ، ثم استهما ، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه» هذا لفظ رواية الزمخشري. وقوله : «فتوخيا» أي : اطلبا رضاكما.

وروي عن شريح أنه كان يقول للخصوم : إن قضائي لا يبيح ما هو حرام عليكم ، وهذا عام.

__________________

(١) أما ظاهر الآية فيفيد أنه لا ينفذ باطنا. (ح / ص).

٣٧٠

وقال أبو حنيفة : حكمه في العقود ، والفسوخ حكما في الباطن والظاهر ، ويحمل ما تقدم على ابتداء التمليك ، ويخصص العموم بالقياس على الحكم بين المتلاعنين ، فإنه ينفذ باطنا ، وتقع الفرقة مع علم الحاكم بكذب أحدهما.

قال : ولأن الحاكم له ولاية على العقد ، كبيع مال الصغير والمجنون ، وكذا له ولاية على الفسخ ، كالفسخ بعيوب النكاح ، ونحو ذلك.

ويستدل بالخبر عن علي عليه‌السلام أنه قضى لرجل بزوجية امرأة أنكرت ، وشهد بذلك شاهدان ، فقالت : والله ما تزوجني يا أمير المؤمنين ، اعقد بيننا عقدا حتى أحل له ، فقال لها : «شاهداه زوّجاك» ولم يقل : إن لم يكن بينكما نكاح ، فلا تمكنيه من نفسك. قلنا : لم يذكر ذلك ، لعلمها بتحريم الزنا ، وأيضا فلم يقل : حكمي زوّجك.

المسألة الثانية

إذا ادعى على غيره حقا ، وحلّفه ثم أراد أن يقيم البينة ، فإن له ذلك على قول عامة العلماء من أهل البيت عليهم‌السلام (١) ، وأبي حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي. وقال الناصر ، وداود ، وابن أبي ليلى : لا تقبل بينته بعد اليمين.

وقال مالك : تبطل البينة إن حلّف عالما أن له بينة.

وعن علي عليه‌السلام «البينة العادلة أولى من اليمين الفاجرة».

قال في شرح الإبانة : إنما تنقطع الدعوى ؛ لا أنه يبرأ باطنا عند الناصر عليه‌السلام

__________________

(١) ما لم يحكم بسقوط الحق ، واختاره الإمام المهدي في أزهاره ، وهو يفيد أن للحاكم أن يحكم بسقوط الحق ، وقد قالوا : إنه يحكم بتقرير يد المدعى عليه ، فيحقق ذلك. (ح / ص).

٣٧١

المسألة الثالثة

في الصلح على الإنكار ، فإنه لا يجوز أخذ المال إذا كان مبطلا في دعواه عندنا ، وهو قول الشافعي ؛ لأنه أكل مال الغير بالباطل ؛ ولأن مال الغير محرم ، والصلح لا يحل الحرام ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما ، أو حرم حلالا». وقال أبو حنيفة ، ومالك : يحل المال للمصالح ؛ لأنه في مقابلة ترك حق ، وهو إجابة الدعوى.

قلنا : إنما يكون تسليمه تفاديا من الأذى ، فيدخل في هذا تحريم ما أخذ على هذه الصفة ، كما يأخذه أهل الشعر خوف الهجو والأذى ، فيدخل في هذا ما يفعله الظلمة من الذرائع الباطلة ، كأخذهم أجرة الموازين ، والسكك لضرب الدراهم ، والأخشاب التي يوضع عليها اللحم ، فيأخذون على ذلك العوض ، ويزعمون أنه أجرة ملكهم ؛ لأن المسلّم إليهم ليس لمجرد الملك ، بل للمنع من فعل غيرهم كفعلهم ، وللتمكن من فعل المباح الذي هو الوزن ، ولو عرفوا أنهم لا يمنعون لأعدوا لهم أخشابا ، وموازين بملك أو عارية.

قال الحاكم رضي الله عنه : وتدل الآية على إثبات حكام ، وأن لحكمهم تأثيرا ، يعني في الظاهر ؛ لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن للرفع إليهم معنى.

قال : وتدل على وجوب نصب الأئمة ؛ لأنهم حكام ، أو الحكام من قبلهم ، والأخذ لما ذكر من الآية محتمل.

قوله تعالى

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩]

السبب في نزول الآية : أن معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنم الأنصاري ، قالا له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ، ثم يزيد ، حتى يمتلئ ، ثم ينقص حتى يعود كما بدأ ، ألا كان على حالة واحدة؟ فنزلت.

٣٧٢

وثمرتها :

أن الأحكام الشرعية ، كالزكاة ، والعدد للنساء ، والحمل تتعلق بشهور الأهلة ، لا بشهور الفرس ، أما ما يتعلق بالعقود والأفعال المتعلقة بفعل بني آدم فيتبع فيه العرف على حسابهم بالأهلة ، أو بشهور الفرس؟ هذا حكم

وحكم آخر ، وهو : أن إحرام الحج ينعقد في غير أشهر الحج ، لأنه تعالى عم الأهلة بأنها أشهر للحج ؛ ولأنه تعالى جعل الأهلة لأمرين لحوائج الناس ، وللحج ، فكما أن الشهور كلها لمصالح الناس وحوائجهم ، فكذا للحج ، وتكون أشهر الحج كوقت الاختيار ، وقبله كوقت الاضطرار.

وقد روي عن علي عليه‌السلام ، وابن عمر ، وابن مسعود : أن تمامهما أن تحرم لهما من دويرة أهلك ، يعني : الحج والعمرة ، ولم يفرقوا بين أن يكون ذلك في أشهر الحج ، أو قبلها ، وهذا قول القاسمية ، وأبي حنيفة ، وأصحابه ، ورواية عن مالك ، إلا أنه يكون مكروها قبل أشهر الحج.

وقال الناصر ، والشافعي ، ورواية عن مالك : لا ينعقد الحج بالاحرام في غير أشهر الحج ، لقوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) [البقرة : ١٩٧] أي : وقته ، ولأن ذلك يشبه فعل الصلاة قبل دخول وقتها.

قالوا : وينعقد الإحرام بعمرة ، كما إذا أحرم بالصلاة قبل دخول وقتها كانت نافلة ، ويقولون : قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) مخصص لقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) والخلاف في الإفراد ، أما الإحرام للتمتع ، أو للقران ، ففي زوائد الإبانة : لا ينعقد في غير أشهر الحج بالإجماع.

ويحتج من صحح إحرام الحج في غير أشهره بإحرام العمرة ، وبأنه ظرف للحج ؛ فصح في غير أشهره ، كطواف الزيارة.

٣٧٣

وقال السيد يحي : يصح طواف القدوم والسعي قبل دخول أشهر الحج (١).

قوله تعالى

(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) [البقرة : ١٨٩]

قيل في سبب نزول الآية : إن ناسا من الجاهلية كانوا لا يدخلون بيوتهم من أبوابها ، بل من ظهورها ، فنهوا [عن ذلك] (٢).

وقال الزهري : كان ناس من الأنصار إذا أحرموا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيئ ، ولا يدخلون من الباب ، فنهوا عن ذلك.

وعن المرتضى عليه‌السلام : أن الله تعالى لما أمر بالاستئذان كانوا يرون أن إتيانها من ظهورها أفضل ، فنهوا.

وقيل : إن هذا مثل ضربه الله تعالى لمن يفعل غير الأولى ؛ لأنهم سألوا عن حكمة الله تعالى في الأهلة ، وكان عكس السؤال أولى أن يسألوا عن البر ، الذي هو التقوى.

دلت على أن المحرم له أن يستظل بظلال البيوت ونحوها من المحامل والعماريات ، وهذا قول أكثر العلماء.

وعن ابن عمر : أنه كره ظلال العماريات والمحامل للمحرم.

وذهبت الامامية : إلى أن ذلك لا يجوز.

وفي الحديث عن أم الحصين : أنها قالت : حججنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجة الوداع ، فرأيت أسامة ، وبلالا ، وأحدهما آخذ بخطام ناقة

__________________

(١) في غير التمتع.

(٢) ما بين القوسين ثابت في ب ، وساقط في أ.

٣٧٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر ، حتى رمى جمرة العقبة. هكذا في السنن.

وتدل الآية على وجوب الاستئذان ، وأن لا يأتي البيوت بغير استئذان من ظهورها ، على ما ذكر المرتضى عليه‌السلام.

وتدل على أن الأحق والأوجب أن يبدأ الإنسان بالأهم ؛ لأن فيها نكيرا عليهم من حيث أنهم سألوا عن فعل لا يتعلق بتكليفهم ، وكان البر الشغل بأعمال التقوى.

قوله تعالى

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة : ١٩٠]

الدلالة من هذه ضربان : منطوق ، ومفهوم.

فالمنطوق أمران : الأول ـ قتال من يقاتل. الثاني : النهي عن الاعتداء.

وأما المفهوم : فترك قتال من لا يقاتلنا ، وقد اختلف أهل التفسير في هذا المفهوم ، فقال الحسن ، وأبو علي ، وابن زيد ، والربيع بن أنس : أن هذا كان في ابتداء الإسلام ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقاتل من قاتل ، ويكف عمن كف. قال الربيع : وهذه أول آية نزلت في الجهاد بالمدينة ، ثم نسخ هذا المفهوم بقوله تعالى في سورة التوبة : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] وبقوله تعالى في سورة التوبة أيضا : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥].

وقالت طائفة من المفسرين : إنها محكمة لا نسخ فيها ، وهذا مروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقالوا : أراد تعالى بقوله : (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) الاحتراز من النساء ، والصبيان ، والشيوخ ، والمترهبين ، أو أراد تعالى الاحتراز من قتال من له عهد وصلح ، إلا أن يقاتل ، وينقض العهد.

٣٧٥

وعن ابن عباس : أنها نزلت في صلح الحديبية ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صالح قريشا على أن يرجع عامه ، ويعود في عام قابل ، ويخلو له مكة ثلاثة أيام ، فيطوف بالبيت ، ويفعل ما يشاء ، ورجع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فوره إلى المدينة ، فلما كان في العام القابل خرج هو وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لا تفي لهم قريش ، ويقاتلوهم ، وكره أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القتال في الحرم ، وفي الشهر الحرام ، فنزلت.

والمعنى : قاتلوا من يقاتلكم في الحرم ، ومحرمين ، وقد دلت الآية على وجوب المقاتلة في سبيل الله تعالى ، وهو الذي يكون لإعزاز الدين ، وإعلاء كلمة الله تعالى ، وهذا مذهب أكثر العلماء من أئمة العترة عليهم‌السلام ، وفقهاء الأمة لهذه الآية الكريمة ، ولغيرها من الآيات ، نحو قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) [البقرة : ٢١٦] وقوله تعالى : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] وقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [البقرة : ١٩٣] وغير ذلك.

وقال ابن شبرمة (١) : الجهاد تطوع ، وليس بواجب ، قال في الروضة والغدير : وهذا مروي عن الامامية ، وكذا في النهاية عن عبد الله (٢) بن الحسن العنبري ، وإذا قلنا : إنه واجب ، فإنما يكون فرض كفاية عندنا ، وهو قول مالك ، وأكثر الفقهاء ، وعن ابن المسيب : أنه فرض على الأعيان.

__________________

(١) عبد الله بن شبرمة ـ بضم المعجمة ، وسكون الباء الموحدة ، وضم الراء ـ ابن الطفيل ابن حسان الضبي ابن شبرمة ، الكوفي ، القاضي ، أحد الفقهاء المشهورين ، قال حماد بن زيد : ما رأيت أفقه من ابن شبرمة ، وقال في التقريب : ثقة من الخامسة ، مات سنة ١٤٤ ه‍ حديثه أقل من غيره ، واشتهر بالفقه ، روى له أهل الحديث ، وذكره المرشد بالله في أماليه.

(٢) في نسخة (عبيد الله).

٣٧٦

حجتنا قوله تعالى في سورة النساء : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٩٥] فلو كان فرضا على الجميع لما فاضل بينهما ، ولما وعد الله الحسنى للقاعد ؛ ولأنه تعالى جعلهم مؤمنين جميعا.

وقال تعالى في سورة التوبة : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة : ١٢٢] ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخرج للغزو إلا وترك البعض من الناس ، وفي الحديث : (أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث إلى بني لحيان ، وقال : «ليخرج من كل رجلين رجل» ثم قال للقاعدين : أيكم خلف الخارج في أهله ، وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج) ولأنه لو كان فرضا على الأعيان اشتغل الناس عن طلب المعاش ، وذلك يؤدي إلى الهلاك.

أما إذا دخل الكفار دار الإسلام ، ولم يكن ثم من يكفي بدفعهم تعين على الجميع ، قال مالك ، وأصحاب الشافعي : وأقل ما يجزي في السنة مرة ؛ لأنه بدل عن الجزية ، وهي تؤخذ في السنة مرة إلا لعذر ، وهذا عام في الكفار الذين هم أهل حرب ، وعليه قوله تعالى في هذه السورة : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٣] قال في النهاية : وذلك وفاق إلا رواية عن مالك : أنه لا يجوز ابتداء الحبشة والترك بالحرب لما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ذروا الحبشة ما ذرؤوكم» وقد سئل مالك عن صحة هذا الأثر ، فلم يعترف بذلك ، لكن قال : لم يزل الناس يتحامون غزوهم.

ثم إن الآية لم تفصل بين أن يكون ثمّ إمام أم لا ، وسيأتي الخلاف وسببه إن شاء الله تعالى.

ودلت الآية على أنه لا يجوز الاعتداء ، وقد فسر بابتداء القتال إن قلنا : إنها منسوخة وقيل : في الاعتداء : إنه قتال من نهينا عن قتله ، من

٣٧٧

النساء والشيوخ والصبيان ، والرهبان ، ومن له عهد ، وبالمثلة ، وبالمفاجأة من غير دعوة.

ودل سبب نزولها على جواز قتال من يقاتل ، ولو في الحرم ، ولو في الشهر الحرام. وعن أبي مسلم : لا تعتدوا بقتال من جنح للسلم.

قال الحاكم : ودلت على قتال البغاة والكفار.

قوله تعالى

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [البقرة : ١٩١ ـ ١٩٤]

قال الزمخشري في تفسيرها : (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي : حيث وجدتموهم في حل أو حرم ، قال بعض أهل التفسير : هذا منسوخ بقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) [البقرة : ١٩١] ثم إن هذا الناسخ منسوخ بقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [البقرة : ١٩٣] فأمر الله تعالى بقتالهم حتى يزول الكفر ، وقيل : إنه منسوخ بآية السيف ، [وهي قوله تعالى في سورة التوبة : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ٥] (١). وقد قال القاضي عبد الله بن محمد بن أبي النجم في كتابه

__________________

(١) ما بين القوسين ثابت في ب ، وساقط في أ.

٣٧٨

البيان في الناسخ والمنسوخ في القرآن : إن هذا قول أكثر العترة عليهم‌السلام ، وهو قول قتادة ، والربيع من أهل التفسير.

وقيل : المنع من ابتداء القتال في المسجد الحرام باق ، وهذا قول مجاهد.

قال الحاكم : (١) وهو قول أكثر أهل التفسير ، فيكون المعنى بقوله تعالى :

(حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) يعني : في غير المسجد الحرام.

وقال الحاكم : الآية وردت في بداية الكفار لما تقدم.

وقوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠] فرتب هذه الآية على تلك ، فقال تعالى : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي : الذين يقاتلونكم ، ثم قال تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) إنما أعيد هذا لإزالة الشبهة في توهم أن الحرم لأجل حرمته لا يجوز أن نقاتلهم فيه وإن بدءونا ، فأزال تعالى الشبهة ، والتوهم لذلك.

ثم يبين تعالى غاية القتال بقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي : حتى لا يكون كفر.

إذا ثبت هذا ، فمن بدأ بالقتال من الكفار جاز قتاله في الحرم بصريح الآية ، ومن لم يبتد ، فالخلاف هل يبتدأ قتاله في الحرم؟ أو لا يبتدأ؟ وقد قلنا : بجواز ذلك على رأي أئمة العترة عليهم‌السلام.

فإن قيل : فقد تقدم ما حكي عنهم عليهم‌السلام : أن من وجب عليه حد أو قصاص فالتجأ إلى الحرم فإنه لا يقتل فيه لقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ

__________________

(١) في نسخة (وهذا قول) ولفظ الحاكم (ولا يجوز ابتداء القتال في الحرم عن مجاهد ، وأكثر اهل التفسير

٣٧٩

كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] وقلتم هنا : بجواز بداية الكفار بالقتال في الحرم (١).

وذكر الإمام يحي عليه‌السلام في الانتصار : أن للإمام أن يدخل مكة من غير إحرام إذا أراد حرب قوم من الكفار التجأوا إلى الحرم ، كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنه دخل مكة وعلى رأسه مغفر ، وقيل : على رأسه عمامة سوداء ، وقال : (إنما أحلت لي ساعة من نهار ، وهي حرام إلى يوم القيامة).

قال في المعالم (٢) : أراد دخولها قهرا عند من ذهب إلى أنها فتحت عنوة ، ومن قال : فتحت صلحا ، قال : أراد دخولها من غير إحرام ، وقد قتل جماعة يوم الفتح منهم ابن خطل وغيره [ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم] (٣).

وقوله تعالى : (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي : من مكة ، وقد فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك بمن لم يسلم يوم الفتح ، وورد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان» وهذه مسألة خلاف بين العلماء ، فقال الشافعي : يمنعون من الحرم لهذه الآية. ولقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ).

__________________

(١) يمكن أن يقال في جواب القيل ـ (قلنا : فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تخصيصا ، ولعل قوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) يكون تخصيصا يرفع السؤال. والله أعلم ويمكن أيضا أن يقال : مفسدة من ذلك عظيمة لمكان الشوكة ، فإذا ترك قتالهم في الحرم لم يؤمن تعديها ، وحصول الوهن في الإسلام وأهله ، بخلاف من وجب عليه حد أو نحوه فمفسدته غير متعدية. والله أعلم

(٢) المعالم : شرح على سنن أبي داود سليمان بن الأشعث ، لمصنفها الشيخ العلامة أبو سليمان أحمد بن محمد الخطابي المتوفي سنة ٣٨٨ ه‍.

(٣) قال في الأصل النسخة أ (وهذا بخط الفقيه رحمه‌الله).

٣٨٠