تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

سراتهم في الفارسي المسرد

والظن بمعنى : ترجيح أحد المجوزين ، وقد يصيب ويخطئ ، وقد يكون بمعنى الشك ، ومنه قوله تعالى : (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) [الفتح : ١٢] والمعنى بالظن في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي : يعلمون.

وقيل : المراد أنه لا يفارق قلبه ظنّ الموت في كل وقت ، فلا يكون بمعنى العلم.

قوله تعالى

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [البقرة : ٤٧]

الثمرة من ذلك : أن النعمة على الآباء نعمة على الأبناء ، فيثبت جزاء الولاء لمعتق الآباء ؛ لأن الميراث فيه بالنعمة. وذلك لأن المعنى : اذكروا نعمتي التي أنعمت على آبائكم ، وإنما كانت النعمة على آبائهم نعمة عليهم ؛ لأن الشرف بما أعطى آباءهم من الملك ، وعلم الدين ـ يكون شرفا للأبناء.

وقوله تعالى : (عَلَى الْعالَمِينَ) قال الحسن : المراد عالمي زمانهم ، وكذا عن مجاهد ، وقتادة ، وأبي العالية.

وقيل : بالتفضيل في شيئ مخصوص لا في جميع الأشياء ، ولا خلاف أن أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الأمم ، وقد قال تعالى في سورة آل عمران : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) والذكر الواجب للنعمة يكون بالقلب ، وأما باللسان فقال الحاكم : إنما يجب عند تهمة الجحود.

١٤١

قوله تعالى

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة : ٥٠]

قال الحاكم : هذه الآية تدل على أن هلاك الظالم نعمة ، يجب عليها الشكر ولا يجوز التأسف عليه ، وإنما قال تعالى : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) لأن هلاك العدو مع النظر أتم للسرور ، فهو نعمة ثانية.

قوله تعالى

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) [البقرة : ٥١]

قيل : لما أهلك الله تعالى فرعون ، ورجع بنوا إسرائيل إلى مصر ، ولم يكن لهم كتاب يرجعون إليه ، وعد الله تعالى موسى أن ينزل عليه التوراة ، ووعد له ميقاتا ، ذا القعدة ، وعشرا من ذي الحجة.

الثمرة من ذلك : أن الليالي إذا ذكرت دخلت فيها الأيام ، فلهذا قال تعالى : (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [البقرة : ٥١].

وقيل : لأن الشهور أولها بالليالي ، فعلى هذا إذا أوجب اعتكاف ليال دخلت فيها الأيام ، وهذه المسألة خلافية بين الفقهاء.

فمذهبنا والناصر ، وأبي حنيفة ، ومحمد : أن الأيام تدخل في إطلاق الليالي ، وكذا العكس ، وذلك في ذكر يومين أو ليلتين فصاعدا.

واحتجوا على ذلك : بأن الله سبحانه عبر عن أحدهما بالآخر ، فقال تعالى في سورة آل عمران (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران : ٤١] وفي سورة مريم : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) [مريم : ١٠] والقصة واحدة ، فعبر بعبارتين ، يعرف أن إحداهما تفيد ما تفيده الأخرى ، ولهذا أن الله تعالى لما أراد الفرق بينهما في العدد ، ذكر

١٤٢

إحداهما بعبارة ، وذكر الأخرى بعبارة أخرى ، فقال تعالى في الحاقة : (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة : ٧].

إن قيل : ما وجه الاستدلال بمجموع الآيتين (١)؟ ولقائل أن يقول : إنما دخل الليل والنهار معا بذكرهما ، فلو لم يذكر إلا أحدهما لم يدخل الآخر.

وقال بعض أصحاب الشافعي : «لا يدخل أحدهما في الآخر ؛ لأنه زمان مختص باسم غير اسم الآخر».

ولو قال : يومين لزما مع ليلتين ، وكذا العكس عندنا ، وعند أبي حنيفة ، وأحد وجهي (٢) أصحاب الشافعي : لا يدخل أحدهما في الآخر.

والثاني : (٣) وأبو يوسف يدخل المتوسط ، إما ليلة بين يومين ، إن قال : يومين ، أو يوم بين ليلتين إن قال : ليلتين.

وأما لو قال : يوما ، أو ليلة ، لم يتبعه غيره عند هؤلاء جميعا ؛ لأن العرب لا تعبر في اليوم الواحد ، أو الليلة الواحدة [بأحدهما] (٤) عن الآخر.

وأما لو قال : عليه اعتكاف العشر الأواخر ، أو الأول ، ونحو ذلك فمفهوم كلامهم دخول الليالي المتوسطة إجماعا.

__________________

(١) جواب هذا السؤال هو في ما بعده ، وكأنه قال : وجه الاستدلال بمجموع الآيتين الدلالة على أن الليل والنهار مرادان ، لأنه يمكن أن يقال عند ذكر أحدهما دون الآخر : إن المذكور مراد ، والآخر وهو غير المذكور غير مراد.

(٢) في نسخة (وأحد وجوه أصحاب الشافعي).

(٣) قوله (والثاني) أي : والوجه الثاني من أوجه أصحاب الشافعي.

(٤) ما بين قوسي الزيادة موجودة في نسخ أ على أنه حاشية.

١٤٣

وقال الحاكم (١) : إذا ذكر الليالي دخلت فيها الأيام (٢) ، وإن ذكر الأيام لم تدخل فيها الليالي.

قوله تعالى

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة : ٥٢]

الثمرة من ذلك : أن توبة المرتد مقبولة ، وذلك لأنهم ارتدوا بعبادتهم للعجل لما قال لهم السامري : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) [طه : ٨٨] وقد ذهب إلى هذا أكثر العلماء.

ومن حججهم قوله تعالى : في سورة النساء : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [النساء : ١٣٧] فأثبت الله سبحانه إيمانا بعد كفر قد تقدمه إيمان.

ومنهم من قال : لا تقبل توبة المرتد.

ولو أنه تكرر منه الإيمان والردة ، قبلت توبته عند الجمهور من العلماء.

وقال (٣) إسحاق بن راهويه : إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته بعد ذلك.

لكن الاستدلال بهذه الآية على هذا الحكم مبني على : أن شرائع من تقدمنا تلزمنا ، ما لم تنسخ عنا ، وهذا ظاهر المذهب ، نص عليه المؤيد بالله ، واختاره المنصور بالله ، وابن الحاجب ، وإليه ذهب بعض الحنفية ،

__________________

(١) ولفظ الحاكم في التهذيب : (ويقال : لم قال (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) ولم يقل : أربعين يوما؟ قلنا : لأنه إذا ذكر الليالي دخل فيه الأيام ، وإذا ذكر الأيام لم تدخل فيه الليالي).

(٢) ولعل الوجه أنه لا يصح اعتكاف الليل وحد بخلاف العكس. ح ص.

(٣) في نسخ أ (قال إسحاق بن راهويه) بدون واو.

١٤٤

وبعض الشافعية ، وذهب بعضهم إلى أنا غير متعبدين بشرع من تقدم ، واختاره الشيخ أبو الحسن ، والغزالي (١).

وهكذا اختلفوا هل كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعبدا قبل البعثة بشيئ من الشرائع أم لا؟

فأهل القول الأول : يذهبون إلى أنه كان متعبدا بشرائع من تقدم من الأنبياء ومنهم من يقول : بشريعة موسى. ومنهم من يقول : بشريعة إبراهيم.

وأهل القول الثاني : يذهبون إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن متعبدا بشريعة أحد ممن قبله من الأنبياء (٢).

حجة الأولين : قوله تعالى عقيب ذكر الأنبياء : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) والإقتداء إنما يكون في الشرعيات ، فأما في العقليات فالواجب الرجوع إلى دليل العقل ، قالوا : إنه أمره بهدى مضاف إلى جماعتهم ، وذلك العدل والتوحيد.

__________________

(١) في الفصول (٤٠١) فصل : واختلف في شرع من قبلنا ، فعند المتكلمين [من المعتزلة والأشاعرة] وبعض أئمتنا والفقهاء : ليس بحجة ، وعن الشافعي : يحتج به ، وعنه لا يحتج به ، وعنه بشرع إبراهيم عليه‌السلام دون غيره. والمختار أن ما حكاه الله تعالى أو رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير إنكار ولا نسخ ، ولا خصوص فهو حجة. (الأمير الحسين ، والحفيد) يحتج بما علم منه. وعلى القول بأنه حجة إذا اختلف اعتبر حكم الأقرب منه إلى الإسلام وهو النصرانية) فصول ٤٠١.

قال المؤيد بالله : مذهب يحي عليه‌السلام أن شرائع الأنبياء الماضين تلزمنا ما لم يثبت نسخها. إلى آخر كلامه في أصول الأحكام ، وفيه قبيل باب الأخبار فصل : واختلف في تعبده قبل البعثة ، فعند أئمتنا وجمهور المعتزلة ، وبعض الفقهاء أنه لم يتعبد قبلها بشرع ، وقيل : بل متعبد. ومنهم من يقول بشريعة آدم [وهم الجمهور] وقيل : كان متعبدا بشريعة نوح ، وقيل : عيسى ، وقيل : بما ثبت أنه شرع ، وتوقف الغزالي. تمت من الكافل ((ح / ص).

(٢) وهو المذهب (ح / ص).

١٤٥

دليل آخر قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٩] وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) [المائدة : ٤٤] وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة : ٤٥] بعد قوله سبحانه : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) [المائدة : ٤٥] وقوله تعالى : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) [لقمان : ١٥] وقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) [الشورى : ١٣] وقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣] قالوا أراد في أصول الدين ؛ لأن الملة والدين يطلق على ذلك (١).

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما حكم بالقصاص في سن كسرت قال : (كتاب الله يقضي بذلك) وأراد قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِ) [المائدة : ٤٥] وهذا إشارة إلى التوراة.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) وقرأ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه : ١٤] وهذا أمر لموسى عليه‌السلام.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجع إلى التوراة في رجم اليهودي.

قالوا : أراد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : (كتاب الله يقضي بذلك) في قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] والحديث الآخر : أراد أنهم أمروا كما أمر موسى ، وراجع التوراة في الرجم ، لتكذيبهم من حيث أنهم أنكروا الرجم.

واحتج النافون بقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً)

__________________

(١) ولأنه السبيل الواحد الذي لا بد لكل أحد من سلوكه. (ح / ص).

١٤٦

[المائدة : ٤٨] وبحديث معاذ ، فإنه لم يذكر الشرائع المتقدمة ، وصوبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبأنه لم يكن يراجع التوراة ، ولا أمر بتعلمها ، وبأن شرعه عليه‌السلام مضاف إليه.

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي : لكي تشكروا ، وهذا دليل على أن العفو عن الذنب بالتوبة نعمة من الله تعالى ، وقد عد قبول التوبة من أصول النعم.

قال الحاكم (١) : واختلفوا في شكر النعمة ما هو؟ فعن ابن عباس : «هو طاعة الله في السر والعلانية» وعن الحسن : «إظهار النعمة والتحدث بها» وقيل : تعظيم المنعم بالقلب واللسان. وقيل : ذلك أربعة أشياء : مجانبة السيئات ، والمحافظة على الطاعات ، ومخالفة الشهوات ، ومراقبة رب السموات.

قوله تعالى

(فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤]

هذا حكمه منسوخ في هذه الشريعة ؛ لأن القتل إن كان شرطا في التوبة في شريعتهم فليس بشرط في شريعتنا ، وإن كان ليس بشرط في شريعتهم ، لكن حد المرتد لا يسقط بالتوبة ، فهو ساقط في شريعتنا.

قيل : معنى قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) على ظاهره ، وقيل : معنه : قتل بعضهم بعضا ، وروي أنه أمر من لم يعبد العجل بقتل العبدة ، قيل : كان الرجل يبصر ولده ، ووالده ، وجاره ، وقريبه ، فلا يمكنه المضي

__________________

(١) ولفظ الحاكم في التهذيب (ويقال : ما شكر النعمة؟ قلنا : فيه خلاف ، قيل : هو طاعة الله في السر والعلانية عن ابن عباس ، وقيل : اظهار النعمة ، والتحدث بها عن الحسن ، وقيل : هو تعظيم المنعم بالقلب واللسان بالخ.

١٤٧

لأمر الله ، فأرسل الله عليهم ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها ، وأمروا أن يختبئوا بأفنية بيوتهم ، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم ، وقيل لهم : اصبروا ، ولعن الله من مد طرفه ، أو حل حبوته ، أو اتقى بيد أو رجل ، فيقولون : آمين. فقتلوهم إلى المساء ، حتى دعا موسى وهارون ، وقالا : يا رب هلكت بنو إسرائيل ، البقية البقية ، أي : سلم البقية ، فكشفت السحابة ، ونزلت التوبة ، فسقطت الشفار من أيديهم (١) ، وكانت القتلى سبعين ألفا.

قوله تعالى

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة : ٥٥]

قيل : القائلون بهذه المقالة هم الذين عبدوا العجل ، وقيل : غيرهم ، وكانت مقالتهم هذه كفرا لرد (٢) ما جاء به موسى عليه‌السلام ، وأما تجويز الرؤية ، فإن كان معها تجسيم كانت كفرا ، وإن لم يكن معها تجسيم ، كأن يقول : إنه يرى من غير مقابلة ، فعن أبي علي ، وأبي هاشم ، والمؤيد بالله ، وهو قول الأكثر : إنه لا يكون كفرا ، وعن أبي القاسم : يكون كفرا.

قوله تعالى

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة : ٥٦]

قيل : إنه تعالى أحياهم بدعاء موسى عليه‌السلام ، وكانت إماتتهم كالإغماء لم يعاينوا أحوال الآخرة ؛ إذ لو كان كذلك لم يصح تكليفهم ؛ لأنهم قد انتهوا إلى حالة الإلجاء

__________________

(١) في بعض النسخ (من بين أيديهم) (ح / ص).

(٢) في أ (برد ما جاء به موسى عليه‌السلام).

١٤٨

قوله تعالى

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ٥٧]

قيل : الطيب : الشهي اللذيذ ، وفي ذلك دليل على أن الأصل في الطيبات الإباحة.

قال الحاكم : وفي ذلك دليل على أن الانتفاع بالطيب الحلال أولى من التضييق على النفس ، والأخذ من هذا محتمل ، وهو من قبيل قوله تعالى : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) [الملك : ١٥].

وقد ذكر الحاكم في السفينة بابا في اختيار الشدة على الرخاء ، وفي فضل الجوع ، وفي التقشف في الثياب ، وروي آثارا كثيرة منها :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من ترك اللباس وهو يقدر عليه تواضعا لله تعالى دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخير في حلل الإيمان فيلبس أيها شاء) (١).

وعن أنس (ما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رغيفا محورا ـ يعني النقي (٢) ـ حتى خرج من الدنيا) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (شرار أمتي الذين يأكلون مخ الحنطة).

وروي أن حزقيل النبي عليه‌السلام يبس جلده على عظمه.

قوله تعالى

(وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) [البقرة : ٥٨]

قيل : أراد باب بيت المقدس ، وقيل : موضعا آخر.

__________________

(١) في نسخة (فيلبس من أيها شاء) (ح / ص). وقد أخرج الحديث بمعناه الترمذي ٤ / ٦٣ رقم ٢٥٩٨.

(٢) ما بين الشرطتين غير موجود في النسخة ب. ومعنى المحور ، أي : مدورا مهيئا وفي اللسان : حور الخبزة تحويرا : هيأها ، وأدارها ليضعها في الملة.

١٤٩

وقوله : (سُجَّداً) أي متواضعين ، وقيل : أراد بالسجود الركوع ، وقيل : أراد السجود بعد الدخول شكرا لله تعالى.

وهذه تدل على استحباب السجود شكرا لله تعالى ، ولقد رأيت بعض الصالحين إذا رأى أخا له في الله ، سجد لله شكرا.

وقوله : (حِطَّةٌ) أي : حط عنا ذنوبنا (١).

قوله تعالى

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) [البقرة : ٦٠]

ذلك دليل على طلب السقيا من الله تعالى عند الجدب ، روي أنهم عطشوا في التيه ، فاستسقى لهم موسى عليه‌السلام ، وقيل : في غير التيه.

قوله تعالى (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) [البقرة : ٦١]

هذا فيه دليل على إلزامهم ذلك ، قال الحسن ، وقتادة : المراد الجزية ، لقوله تعالى في سورة التوبة : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] فكان خبرا معناه الأمر. وعن أبي عبيدة (٢) : هو الصغار ، وقيل : هو زي الفقر ، فلا ترى يهوديا إلا وكأنه فقير ، وإن كان من المياسير.

__________________

(١) (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) فقالوا : حطا سقماثا ، يعني : حنطة حمراء ، استهزاء منهم ، وسخرية على شق وجوههم ، فأنزل الله (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) وهو الطاعون ، مات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا ، وهلك سبعون ألفا عقوبة (سير العجائب للإمام المهدي أحمد بن يحي المرتضى).

(٢) أبو عبيدة : هو معمر بن المثنى ، التيمي بالولاء ، البصري ، أبو عبيدة النحوي ، من أئمة الأدب واللغة ، ولد بالبصرة سنة ١١٠ ه‍ وتوفي بها سنة ٢٠٩ ه‍ كان أباضيا شعوبيا ، من حفاظ الحديث ، له مجاز القرآن ، وإعراب القرآن.

١٥٠

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٦٢]

قال الزمخشري : «المراد بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) يعني : بألسنتهم لا بقلوبهم ، وهم المنافقون» (١).

فيكون قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ) راجع إلى جميع من تقدم ، وفي ذلك دلالة على صحة توبة المنافق. وقيل : أراد بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) المؤمنين إيمانا صحيحا. وقوله : (مَنْ آمَنَ) أي : من ثبت على إيمانه في المستقبل (٢).

قوله تعالى

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) [البقرة : ٦٣]

الميثاق ، والعهد : نظائر ، قيل : والمراد بالعمل على ما في التوراة.

(وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق ، وذلك أن موسى عليه‌السلام لما جاءهم بالألواح فأبوا قبول ما فيها لمشقتها ، فأمر جبريل عليه‌السلام ، فقلع الطور من أصله ، ورفعه فوقهم ، فقال موسى عليه‌السلام : إن قبلتم ، وإلا ألقي عليكم فقبلوا ، ولم يكن هذا إلجاء ؛ لأنه استقر مدة ولم يسقط ، فترددوا في وقوعه ، وكان ذلك كوقوف السحاب (٣).

__________________

(١) واللفظ في الكشاف (إن الذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون).

(٢) ويجوز أن يراد آمنوا : صدقوا ، وقوله (مَنْ آمَنَ) أي : جمع بين التصديق والعمل الصالح. (ح / ص).

(٣) وقال الحاكم في التهذيب (ويدل على أن رفع الطور فوقهم لم يوجب الإلجاء ، لأن التكليف باق عليهم ، وتدل أن رفع الطور فوقهم كان لطفا لهم يكونوا أقرب الى القول ، فهو بمنزلة مقاتلة الكفار).

١٥١

الثمرة من ذلك :

أن الوفاء بالعهد واجب ، ويؤخذ من هذا : أن للقاضي والإمام التحليف على الأمور المستقبلة ، وهذا كقوله تعالى في سورة الممتحنة : (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ) [الممتحنة ٠١٢] وهذه المسألة خلافية بين أهل الفقه ، قيل : حكى علي خليل عن الهادي عليه‌السلام : أن له أن يحلف على الأمور المستقبلة ، كأن يحلف من عليه الحق ليعطينه صاحبه ، وعن المؤيد بالله : ليس له ذلك.

قوله تعالى

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) [البقرة : ٦٤]

المعنى : ثم توليتم من بعد أخذ الميثاق ، فلولا فضل الله تعالى بالإمهال ، وقبول التوبة ، وهذا فيه دليل أن التوبة مقبولة ، ولو تكررت المعصية عقبها.

وقيل : [لا تقبل ، كما تقدم عن إسحاق بن راهويه أن المرتد في الدفعة الثالثة لا تقبل توبته بعد ذلك] (١).

قوله تعالى

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥]

المعنى : أن الله تعالى لما نهاهم عن أخذ الحيتان يوم السبت ، وأمرهم الله بالتجرد للعبادة فيه ، وتعظيمه ، وابتلاهم الله تعالى فما كان

__________________

(١) ما بين القوسين بياض في الأصل ، فصححناه مما تقدم في تفسير قوله تعالى (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

١٥٢

يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت ، فإذا مضى تفرقت ، كما قال تعالى في سورة الأعراف : (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) [الأعراف : ١٦٣] فحفروا حياضا عند البحر ، وشرعوا إليها الجداول ، فكانت تدخلها ، ويأخذونها يوم الأحد ، فالحبس في الحياض هو الاعتداء.

وقيل : كانوا يلقون آلة الصيد يوم الجمعة ، ويخرجونها يوم الأحد ، وقيل : اصطادوا يوم السبت ، وكان هذا زمن داود عليه‌السلام بأيلة ، وكانوا ثلاث فرق فرقة هتكت الحرمة ، وفرقة أمسكت ولم تنه ، وفرقة أمسكت ونهت ، فمسخ الله تعالى الفرقتين الأوليين ، ونجّى الثالثة.

الثمرة من ذلك : حكمان

الأول : أن استعمال الحيل والذرائع لا يجوز ، وهذا يعارضه قوله تعالى في سورة ص : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) [ص : ٤٤] وفي هذا كلام يأتي بسطه إن شاء الله تعالى في سورة ص.

الحكم الثاني : أن الساكت عن إزالة المنكر عاص ، قال في الإنتصار : أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون : أني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم وستين ألفا من شرارهم ، قال : يا رب هؤلاء الأشرار ، فما بال الأخيار؟ فقال : إنهم لم يغضبوا لغضبي وواكلوهم وشاربوهم.

قوله تعالى

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ

١٥٣

النَّاظِرِينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [البقرة : ٦٧ ـ ٧٣]

قيل : كان في بني إسرائيل رجل موسر ، وله ابنة ، وابن أخ معسر ، فخطب ابنته فأبى أن يزوجه إياها ، فقال : لأقتلن عمي ، ولآخذن ماله ، وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطا ، ولهم مسجد ، لكل سبط باب ، فقتله ، وانطلق به

إلى باب سبط ، وجعل يحثو التراب على رأسه.

وقيل : كان رجل موسر فقتله بنو أخيه ليرثوه ، ثم جاؤا يطلبون الدية (١).

وقيل : كان موسر له ابن عم معسر ، فقتله ليرثه ، فأمرهم الله تعالى بذبح بقرة ، ويضربون المقتول بعضو منها ، ليعود حيا فيخبرهم بالقاتل.

قيل : البعض الذي ضربوا به اللسان ، وقوي ؛ لأن المراد من القتيل كلامه.

وقيل : العجب (٢) ، وقوي ؛ لأنه أول ما يخلق ، وآخر ما يبلى.

__________________

(١) صوابه (يطلبون بدمه) إذ الدية غير مشروعة في شريعتهم كما سيأتي.

(٢) العجب بالفتح : أصل الذنب.

وفي تفسير الحاكم (واختلفوا فقيل : ضربوه بفخذ البقرة ، فقام حيا ، وقال : قتلني فلان ، ثم عاد ميتا عن مجاهد وعكرمة ، وقيل : ضربوه بالبضعة التي بين الكتفين ، عن السدي ، وقيل : ضرب بالذنب ، عن الفراء ، وسعيد بن جبير ، وقيل : بالغضروف ، وقيل : ببعض من أبعاضه ، وقيل : بلسانها عن الضحاك).

١٥٤

وقيل : بالغضروف ، وهو أصل الأذن ، وقوي ؛ لأن فيه الحياة ، ولهذا من ضرب فيه لم يعش. وقيل : ضربوه بالأذن.

وقيل : بالبضعة التي بين الكتفين.

وروي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله تعالى وأوداجه تشخب دما ، وقال : قتلني فلان ، لابن عمه ، ثم سقط ميتا ، فأنكروا قتله وحلفوا ، ولهذا قال : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) وكان هذا قبل نزول القسامة في بني إسرائيل.

قال في العجائب والغرائب (١) : وإنما خص الله سبحانه البقرة ؛ لأنهم عبدوا العجل ، فعظم أمر البقرة عندهم ، فأراد الله تعالى أن يزيل ذلك عن قلوبهم (٢).

وهذه الآيات الكريمة قد استثمر منها ، ومن سبب نزولها فوائد :

منها : أن الأمر على الوجوب ، وعلى الفور ؛ لأن الله تعالى وبخهم على ترك المبادرة ، بقوله تعالى : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) وذلك استبطاء لتركهم للمبادرة ، ومن يقول الأمر للاستحباب ، أو على التراخي يقول : ذلك لقرينة

ومنها : أنه يستحب أن يقدم على الطلب من الله تعالى بشئ من القرب ، لذلك أمر الله تعالى بالتقرب بذبحها ، قبل طلب بيان القاتل ، وهذا نظير الاستسقاء (٣).

__________________

(١) كتاب للإمام المهدي أحمد بن يحي المرتضى عليه‌السلام.

(٢) وذلك أنه لما أمرهم بذبحها لترتب المصلحة على ذبحها وموتها دون حياتها ، فتهون عليهم بخلاف ما لو ترتبت المصلحة على حياتها لبقي التعظيم بحاله. (ح / ص).

(٣) في (ح / ص) (ينظر في استفادة القربة من هذا ، إذ لم يعرف أنهم تصدقوا به ، فإن عرف ذلك بدليل فلا بأس به).

١٥٥

ومنها : أن من حق المتقرب إلى ربه اختيار الأحسن ، والأعظم ثمنا ، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضحى (١) بنجيبة بثلاثمائة دينار.

ومنها : استحباب لباس النعل الصفراء ، وعن علي (٢) عليه‌السلام : «من لبس نعلا صفراء قل همه» (٣) لقوله تعالى : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ).

ومنها : استحباب الاستثناء بقول : إن شاء الله. وفي الحديث

__________________

(١) وفي نسخة ب (وروي أن عمر بن الخطاب تصدق بنجيبة).

(٢) هو : أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشمي ، أمير المؤمنين ، وختنه ، وأخوه ، وابن عمه ، ومستودع سره ، وأبو سبطيه ، الجامع لما تفرق في الصحابة ، أعلمهم علما ، وأقدمهم إسلاما ، وأشجعهم قلبا ، وأكثرهم بلاء في الجهاد ، القاطف بسيفه رؤوس الأعداء ، الناصح لله وللعباد ، أقرب الناس إليه ، وأحبهم إليه ، وأحظاهم لديه ، كان أول السابقين إلى الإسلام ، وأفضل أهل الشجاعة ، وأجلى أهل الزهد ، وأعلم أهل العلم ، وأحد أهل الكساء ، وزجته الزهراء سيدة النساء ، وليس في أحد من الفضل إلا كان أسبق فيه.

من فيه ما فيكم من كل مكرمة

وليس في كلكم ما فيه من حسن

شهد المشاهد كلها إلا تبوكا ، فإنه خلفه على المدينة ، وقال له : تخلفني في النساء والصبيان ، فقال : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي) وأمه : فاطمة بنت أسد ، وفضلها شهير ، ولما قتل عثمان كما تقدم بايعه المهاجرون والأنصار ، وتخلف عنه جماعة منهم سعد ، وحسان ، وابن عمر ، قال ابن أبي الحديد : إنما امتنعوا من القتال لا من البيعة ، فهم بايعوا ثم نكث طلحة ، والزبير ، وجرت تلك الحرب يوم الجمل ، ثم ابتلي عليه‌السلام بابن آكلة الأكباد ، والتحكيم ، وأهل النهروان ، ولم يزل ناعشا للدين ، حتى ضربه أشقى الآخرين ابن ملجم على رأسه ، ومات صبيحة يوم ضربته يوم الجمعة ، السابع عشر من رمضان سنة ٤٠ ه‍ وقيل : غير ذلك ، وصلى عليه الحسن ، ودفن بالغري ، واختلف في سنه يوم مات ، وأحسن الأقوال ثلاثا وستين كرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. رجال شرح الأزهار.

(٣) قال ابن حجر : موقوف لم أجده ، لكن أخرجه العقيلي ، والطبراني ، والخطيب من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .. الخ.

١٥٦

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لو لم يستثنوا لما بينت لهم إلى آخر الأبد) يعني : لو لم يقولوا في السؤال الآخر : إن شاء الله ، لدام تحيرهم ، وهذا كما قال تعالى في سورة الكهف : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف ٢٣ ـ ٢٤] وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة بيان.

ومنها : أنه لا يجوز السؤال على وجه التعنت ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ، ولكن شددوا فشدد الله عليهم) (١).

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إياكم والأغلوطات) (٢).

والسؤال منقسم إلى أقسام :

الأول : لطلب الفائدة ، فهذا محمود ، ولكن له آداب

الثاني : قبيح ، وهو لطلب التطاول بإفحام المسؤل ، وإبانة عجزه.

الثالث : جائز ، وهو أن يكون طلبا للاختبار ، ممن يحتاج إلى اختباره ، من داع إلى الإمامة ، أو طالب الحكم ، أو متصد لتدريس ، ونحو ذلك.

ومنها : ثبوت القود ؛ لأن في القصة أنه قتل القاتل.

ومنها : أخذ الجماعة بالواحد ؛ لأن في إحدى الروايات أن القاتل اثنان ، وسيأتي بيان هذا الحكم إن شاء الله تعالى.

ومنها : أن القاتل عمدا لا يرث ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا ميراث لقاتل بعد صاحب البقرة).

__________________

(١) قال ابن حجر في تخريج الكشاف (ابن مردويه ، والبزار ، وابن أبي حاتم ، كلهم من طريق الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة مرفوعا .. الخ.

(٢) أخرجه أبو داوود ٣ / ٣٢١ رقم ٣٦٥٦. والاغلوطات : هي المسائل الشديدة الصعبة ، وهي المسائل التي يغالط بها العلماء ليزلوا فيها ، فيهيج بذلك شر وفتنة ، وإنما نهي عنها لأن الغالب فيها أنها تكون غير نافعة. (ح / ص).

١٥٧

ولكن إن كان القاتل بالغا ، عاقلا ، متعمدا ، مباشرا ، مبطلا ، عارفا بخطئه ، لا تأويل له ، فهذا قول أكثر العلماء. وأدلة الميراث نحو قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً* وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) [النساء : ١١ ـ ١٤].

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النساء : ١٧٦].

١٥٨

مخصصة بهذا الخبر. قال في الكافي : وعن سعيد بن المسيب (١) ، وسعيد بن جبير ، وبعض البصريين ، والخوارج : أنه يرث.

وأما إذا كان صغيرا ، أو مجنونا ، فعند أصحابنا ، والحنفية أنه يرث.

وقال الشافعي : لا يرث ، لعموم الحديث.

قلنا : إن الحرمان معلل بالعقوبة.

وأما الخاطئ فيرث عندنا ، ومالك ـ من المال دون الدية ، لورود الخبر بذلك صريحا ، وهو ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الزوجين : (أنهما يتوارثان ما لم يقتل أحدهما صاحبه عمدا ، فإن قتله عمدا لم يرث من ديته ، ولا من ماله ، وإن قتله خطأ ورث من ماله ، ولا يرث من ديته) (٢).

وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يرث من مال ولا دية.

وأما فاعل السبب ، كحافر البئر في الطريق ، وواضع الحجر فعندنا ، وأبي حنيفة : لا يمنع ذلك من الميراث. وقال الشافعي : إنه يمنع.

وحجتنا : أن ذلك يشبه الإمساك ، وأما المحق ، فيرث عندنا ، كأن يقتله مدافعا ، أو بأمر الإمام ، وقد استوجب الرجم ، ونحو ذلك ، وهذا قول أبي حنيفة ؛ لأنه أطاع الله تعالى ، وقال الشافعي : لا يرث.

__________________

(١) سعيد بن المسيب ـ بفتح الياء كمحمد ، والكسر لا أصل له ـ ابن حزن بن أبي وهب القرشي ، أبو محمد المخزومي ، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ، قال في الطبقات : كان سيد التابعين من الطراز الأول ، حدث عن أمير المؤمنين ، وأبي ذر ، وسلمان ، وخلق من الصحابة ، والتابعين ، وعنه زين العابدين ، وقتادة ، والزهري ، فأكثر ، وآخرون. قال مكحول : طفت الأرض كلها فما لقيت أعلم من ابن المسيب ، وقال قتادة : لم أجد أعلم منه ، وقال ابن المديني : لا أعلم في التابعين أوسع علما منه ، ومرسلاته صحاح عند أهل الحديث ، وطلب للبيعة فأبى فضرب بالسياط ، توفي سنة ٩٤ ه‍ وقد ناهز الثمانين.

(٢) أخرجه ابن ماجه ٢ / ٩١٤ رقم ٢٧٣٦.

١٥٩

وفي مهذب الشافعي : ثلاثة أوجه ، حيث لا يضمن القتل ، قول : يرث ، وقول : لا يرث مطلقا ، وصححه ، والثالث : إن كان متهما لم يرثه ، كالحاكم إذا قتله بالزنا بطريق الشهادة ، وإن كان غير متهم ورث ، كأن يقتله بطريق الاقرار

وأما إذا كان متأولا في قتله ، وهو باغ ، فعندنا والشافعي : لا يرث ، وقال أبو حنيفة : يرث.

ومنها : أن ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا كوجوبه (١) ، ولذلك وجب عليهم الشراء بالمال العظيم ، فيجيء مثله في شراء الماء للوضوء أنه يجب ، ولو بمال جليل ، ما لم يجحف ، هذا مذهب الأكثر من الأئمة.

وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، والمنصور بالله : لا يجب إلا بثمن المثل ؛ لقوله تعالى في سورة الحج : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] وقال الثوري (٢) : يشتريه ولو أجحف.

ومنها : أن ما كان سببا في فعل القبيح لم يحسن فعله ؛ لأن أهل التفسير ذكروا أن الله تعالى إنما لم يخبرهم بالقاتل ابتداء لئلا يكذبوا موسى عليه‌السلام فيكفروا ، وأمروا بذبح البقرة ، ليعرف القاتل من غير كفر.

__________________

(١) وهذا فيما وجب وجوبا مطلقا ، لا بما كان مشروطا كالحج بالاستطاعة ، ونحو ذلك ، كما هو مقرر في أصول الفقه. (ح / ص).

(٢) الثوري هو : سفيان بن سعيد بن مسروق ، أبو عبد الله ، الثوري ، الإمام ، أحد الأعلام ، قال السيد الحافظ : روى عن أبيه ، وسلمة بن كهيل ، وخلق ، وعنه القطان ، والقريابي ، وأمم ، مولده سنة ٦٧ ه‍ ، قال ابن عيينة : ما رأيت أعلم منه.

وقال ابن المبارك : لا نعلم على وجه الأرض أعلم منه. وقال صالح : حزرت حديثه ثلاثون ألفا ، كان زيديا مشددا على أئمة الجور ، عده السيد صارم الدين في ثقات محدثي الشيعة ، وقال الواقدي : كان سفيان زيديا ، ذكره الإمام أبو طالب ، وقال السيد محمد بن إبراهيم : هو الإمام الحجة ، المجمع على ثقته وجلالته ، ونصيحته لله ولرسوله وللمؤمنين ، توفي بالبصرة سنة ١٦١ ه‍ ولم يعقب.

١٦٠