تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

ومذهب الأئمة عليهم‌السلام ، وأبي حنيفة : لا يمنعون ، وسيأتي زيادة عند ذكر قوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [التوبة : ٢٨] في سورة براءة ،

وأطلق في الانتصار : أنهم يمنعون من جزيرة العرب.

وقوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) قيل : أراد بالفتنة إخراجهم من مكة ؛ لأن في ذلك تعذيبا لهم ، وقيل لبعض الحكماء : ما أشد من الموت؟ فقال : ما يتمنى فيه الموت ، فجعل تعالى الإخراج من الوطن من الفتن الذي يتمنى عندها الموت ، ومنه قول الشاعر (١) :

لقتل بحد السيف أهون موقعا

على النفس من قتل بحد فراق

أي : قطع الأوصال أهون من قطيعة الوصال ، وضرب الرقاب أيسر من مفارقة الأحباب ، وفي هذا دليل على أن ما أباحه القتل أباحه التوعد من القادر بالإخراج من البلد ، وقد ذكر هذا أبو مضر ، لكن تجب الهجرة في مواضع يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

وقيل : الفتنة عذاب الآخرة ، قال تعالى : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) [الذاريات : ١٤] وهذا مروي عن الكسائي.

وقيل : الفتنة هي شركهم ، وهذا مروي عن الحسن ، وقتادة ، أي : كفرهم أعظم من القتال في الشهر الحرام ؛ لأنه روي في سبب نزولها : أن رجلا من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام ، فعاب المشركون ذلك على المؤمنين. فنزلت.

أي : كفركم (٢) أعظم من قتل مشرك في الشهر الحرام ، وإن كان محظورا ، وهذا مروي عن أبي علي. وقيل : الشرك أعظم من القتل في

__________________

(١) انظر مشاهد الإنصاف على الكشاف ، ولم ينسبه لأحد.

(٢) في نسخة (كفرهم أعظم).

٣٨١

الحرم ؛ لأنهم كانوا يعيبون المسلمين بذلك فقيل : شرككم (١) أعظم من القتل في الحرم ، قال الزمخشري : ويجوز أن يراد وفتنتهم إياكم بكونهم صدوكم عن المسجد الحرام ، فذلك أشد من قتلكم لهم في الحرم ، أو من قتلهم لكم لو قتلوكم ، فلا تبالوا بقتالهم ، بل (اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (٢).

وقرئ في السبع (٣) (ولا تقتلوهم ... حتى يقتلوكم ، ... فإن قتلوكم فاقتلوهم) جعل القتل في بعضهم كالقتل في جميعهم.

وقوله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) دل ذلك على قبول التوبة من كل ذنب ؛ لأن الكفر أعظم الذنوب ، فيبطل قول من قال : لا توبة لقاتل.

ويدل على : سقوط الواجبات على الكافر من حد ، وقتل ، وحق ، كقوله تعالى في سورة الأنفال : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإسلام يجب ما قبله» هذا إن فسر الإنتهاء بالتوبة ، وهو الظاهر ، وإن فسر بترك ابتدائهم القتال ، فالتقدير فاعفو عنهم ، وهو خبر بمعنى الأمر ، لكن قيل : ذلك العفو منسوخ بآية السيف.

وقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي : حتى لا يكون شرك دلت على وجوب الجهاد حتى يزول الكفر (٤).

وفي الآية دلالة على أن كفار العرب لا تقبل منهم الجزية ؛ لأن الآية مسوقة فيهم

__________________

(١) في ب (شركهم).

(٢) الرواية من الكشاف بالمعنى ، ولفظ الكشاف (ويجوز أن يراد : وفتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام أشدّ من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم).

(٣) حمزة ، والكسائي ـ بغير ألف في الجميع ، الباقون بالألف. (التهذيب للحاكم).

(٤) أو شوكته. (ح / ص).

٣٨٢

واعلم أن للعلماء رضي الله عنهم أقوالا في من تؤخذ منهم الجزية بعد اتفاقهم أنها تؤخذ من أهل الكتاب عربا أو عجما ، إلا قولا لبعض المالكية : إنها لا تؤخذ من قرشي ، سواء كان كتابيا أم لا.

فقال مالك ، وهو إطلاق الهادي عليه‌السلام : إنها تؤخذ من كل كافر.

وقال الشافعي : لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عربا ، أو عجما ، ومن المجوس. والذي صححه أبو العباس ، والأخوان لمذهب الهادي عليه‌السلام كقول أبي حنيفة : أنها تؤخذ من أهل الكتاب عموما ، ومن غيرهم إن كانوا عجما ، لا إن كانوا عربا ، وليس لهم كتاب ، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف.

وسبب الاختلاف : انه قد ورد في قوله تعالى في سورة براءة : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] فأباح الجزية من أهل الكتاب وهذا مجمع عليه معلوم من الدين ، لم يخرج إلا قول من استثنى القرشي.

قال الشافعي : فلما خص أهل الكتاب بالجزية دل ذلك على أنها لا تؤخذ من غيرهم.

ويحمل قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) وقوله تعالى في سورة التوبة : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] على غير أهل الكتاب ، وهذا ترتيب مذهب الشافعي في كيفية استدلاله ، وأما ترتيب ظاهر كلام الهادي عليه‌السلام ، ومالك : من أنها تؤخذ من كل مشرك ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول لأمراء السرايا حين كان يبعثهم إلى مشركي العرب ، ومعلوم أنهم لم يكونوا أهل كتاب : «فإذا لقيت عدوك فادعهم إلى ثلاث خصال ، فأيتهن

٣٨٣

أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم. ادعهم إلى الدخول في الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار الهجرة ، فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما عليهم ، فإن دخلوا في الإسلام ، وأبوا أن يتحولوا إلى دار الهجرة ، فأخبرهم أنهم كأعراب المؤمنين ، يجري علهم حكم الله ، ولا يكون لهم في الفيئ والغنيمة شيء حتى يجاهدوا مع المؤمنين ، فإن فعلوا فاقبل منهم ، وكف عنهم ، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية ، فإن فعلوا فاقبل منهم ، وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله عليهم ، ثم قاتلهم» فهذا مخصص بعموم قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] وقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله» الخبر.

إن قيل : إن آية براءة نزلت عام الفتح ، وهي عامة ، وأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمراء السرايا قبل الفتح ، بدليل أنه أمر بدعائهم إلى الهجرة.

قلنا : هذه المسألة ، وهي بناء العام على الخاص ، مع تقدم الخاص خلافية بين الأصوليين ، فمنهم من يقول : ببناء العام على الخاص ؛ لأن الخاص غير محتمل ، فهذا القول يصح بناؤه على هذه القاعدة.

ومنهم من يقول : إن العام ناسخ للخاص ، وهذا قول أصحاب أبي حنيفة ، والقاضي ، والسيد أبي طالب.

وأما ترتيب ما صححه السادة للمذهب ، وهو قول أبي حنيفة ، فيقولون : خرج أهل الكتاب من عموم الآيتين والخبر بآية براءة ، وخرج كفار العجم ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقريش» (١) هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم العرب ، وأدت إليكم العجم الجزية» فعم العجم بإيجاب الجزية

__________________

(١) في النسخة ب (لكفار قريش).

٣٨٤

عليهم ، وقد روي عن علي عليه‌السلام أنه قال : «لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف».

فأما مشركو العجم فتقبل منهم الجزية ، وللناظر نظره في ترجيح طرق اجتناء هذا الحكم من هذه الحدائق.

وقوله تعالى : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) سره الزمخشري بوجهين : الأول : أن المراد فإن انتهوا عن الشرك فلا عدوان عليهم ؛ إنما يكون على الظالمين الذين لم ينتهوا ، وسماه عدوانا للمشاكلة ، وكقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ).

والثاني : أن المراد أنكم إذا تعرضتم لهم بعد الإنتهاء سلط الله عليكم من يعدو عليكم لظلمكم المنتهين.

قوله تعالى

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [البقرة : ١٤٩]

السبب في نزول هذه الآية :

أن المشركين عام الحديبية قاتلوا المسلمين في الشهر الحرام ، وهو ذو القعدة ، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء ، وكراهتهم القتال ، وذلك في ذي القعدة : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أي : هذا الشهر بذلك الشهر ، وهتكه بهتكه ، هذا معنى ما في الكشاف (١).

__________________

(١) ولفظه : (قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة ، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذلك في ذي القعدة : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أي هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه ، يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم).

٣٨٥

ونظّر على الزمخشري بأنه لم يكن قتال ، لكن منع. وأجيب : بأنه قد وقع بينهم ترام ، مع أنه يجوز تسمية العزم على القتال مع الصد قتالا.

وقال الحسن وأبو علي ، والزجاج : إن مشركي قريش قالوا : يا محمد أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال : نعم ، وأرادوا قتاله ، فأنزل الله تعالى الآية ، يعني استحلوا منهم ما استحلوا منكم.

وقيل : لما صد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن العمرة عام الحديبية سنة ست في ذي القعدة ، وصالح أن يعود للقضاء في سنة سبع.

والمعنى : إن فاتت العمرة في الشهر الحرام في سنة ست ، فالقضاء لها في مثله سنة سبع ، وسميت حرما لتحريم القتال فيها ، وسميت ذا القعدة ، للقعود عن الحرب.

والتقدير على الأول : قتال الشهر بقتال الشهر.

وللآية ثمرات : الأولى : أنه يجوز قتال الكفار في الشهر الحرام إذا قاتلونا فيه ، لكن اختلف العلماء هل المنع من ابتداء قتالهم فيه باق أو منسوخ؟ قول العترة : إنه منسوخ ، وإنه يجوز ابتداؤهم بالقتال فيه ، وهو قول أبي علي ، والقاضي ، وسيأتي زيادة إن شاء الله تعالى.

والناسخ قوله تعالى في سورة براءة : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦].

قال الحاكم : الصحيح أنه لا نسخ ؛ لأنه أراد بجواز (١) قتالهم حيث كانوا قد بدأونا كما تقدم ، فهذا حكم.

الحكم الثاني : ثبوت القصاص في النفس ، وفي الأعضاء ، فاستدل من جوز القصاص بين الحر والعبد ، والمسلم والكافر والذمي بهذه الآية ، والاستدلال مستدرك عليه ؛ لأنه لا تماثل بينهما (٢) ، وكذا بين الذكر والأنثى.

__________________

(١) في نسخة (يجوز قتالهم)

(٢) في ب (واستدل) .. (لأنه لا مماثلة بينهما).

٣٨٦

الحكم الثالث : أن من أتلف على غيره مثليا ، وهو غاصب فعليه مثله ، وفي القيمي قيمته ، لأنها المثل من طريق المعنى.

[فائدة في أخذ المقابل من مال الممتنع]

الحكم الرابع : أن من كان له شيئ مع خصم ممتنع ، فله أن يأخذ مثل حقه ، وهو قول المؤيد بالله ، وأبي حنيفة لقوله تعالى : (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).

وقال المنصور بالله ، وأحد قولي الشافعي : يجوز ولو من غير الجنس ؛ لأن العقاب يكون من غير جنس المعصية ، وقد قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠].

وعند الهادي عليه‌السلام : لا يجوز من الجنس ، ولا من غيره ، لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك».

الحكم الخامس : أن من غصب خشبة ، وبنى عليها ، فإن بناءه يهدم ، وتؤخذ ، وهذا قول أكثر العلماء ، وكذا من بنى على ساحة غيره ، فإنه يهدم البناء.

وقال أبو حنيفة : البناء على الخشبة استهلاك ، فيدفع قيمتها ، وكذا البناء على الساحة في رواية الشامل (١) عن أبي حنيفة.

قال الحاكم : الاستدلال بالآية يبعد ؛ لأنه أمر بمثله ، والغاصب

__________________

(١) الشامل : وهو من أجود كتب الشافعية ، ومؤلفه هو : عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر المعروف بابن الصباغ الشافعي ، كان فقيه العراق في وقته ، وثقة حجة ، ومن مصنفاته : كتاب الشامل ، ودرس ببغداد ، ولد سنة ٤٠٠ ه‍ ببغداد ، وكف بصره آخر عمره ، وتوفي في جمادى الأولى سنة ٤٧٧ ه‍ ببغداد.

٣٨٧

للمساحة لم ينقض بناء ، والاستدلال بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «على اليد ما أخذت حتى ترد» ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من وجد عين ماله فهو أحق به» ظاهر لوجوب الهدم ، وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس لعرق ظالم حق». وقوله تعالى : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) قيل : أراد حرمة الشهر ، وحرمة البلد ، وحرمة الإحرام ، وقيل : كل حرمة تستحل ، وسمي الاستيفاء اعتداء للمشاكلة ، كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) والاستيفاء ليس بسيئة ، وفي كلمة عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

قوله تعالى

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة : ١٩٥]

هذه الآية الكريمة قد انطوى أولها على الأمر بالانفاق ، وآخرها على الأمر بالإحسان ، ووسطها على النهي عن إلقاء الإنسان نفسه إلى التهلكة ، ودلالة الأمر مجملة ، وقد ذكر في الإنفاق وجوه :

الأول : أن ذلك أمر بالانفاق في الجهاد ، وقواه الحاكم ؛ لأن في سياق الآية ما يرشد إلى ذلك ، من حيث إنه تعالى ذكر التهلكة.

وقيل : أراد تعالى الإنفاق في الحج ، وعن ابن عباس : لما أمر الناس بالجهاد

والحج ، كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشعر بذلك ليأخذ الناس أهبة السفر ، فقال ناس من العرب كيف نتجهز وما لنا زاد ، فنزلت.

وقيل : لما أمروا بالإنفاق قال ناس : إن أنفقنا بقينا فقراء ، فقال : لا تخشوا العيلة ، فإن الله رازقكم. عن سعيد بن المسيب ، ومقاتل.

٣٨٨

وقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قيل : الباء زائدة ، والمعنى : ولا تجعلوا التهلكة مالكة لكم ، وقيل : المعنى : لا تلقوا بأنفسكم ، وقيل : المعنى : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم (١) ، كما يقال : أهلك فلان نفسه بيده.

واختلفوا بعد ذلك ، فقيل : المعنى النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله ؛ لأن ذلك يسبب الهلاك ، وعن الإسراف في الإنفاق الذي يضيع معه عياله.

وعن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وعكرمة ، والأصم : أنها نزلت في البخل

وقيل : إن ذلك نهي عن المخاطرة بالنفس في القتال.

وقيل : المعنى : النهي عن ترك الغزو الذي يحصل به قوة العدو ، فيتولد منه التهلكة

قال في الكشاف : «وروي أن رجلا من المهاجرين حمل على صف العدو ، فصاح به الناس : ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب

__________________

(١) جعله في (لا تلقوا بأنفسكم) لازما ، وفي الثاني : متعديا إلى الأول بنفسه ، والى الثاني بحرف الجر. وفي نسخة (ولا تقتلوا أنفسكم بأيديكم) والصواب ما في أ ، لأنه يريد الفرق بين الفعل لازما ، ومتعديا.

وقال الحاكم في التهذيب : (الباء في قوله (بِأَيْدِيكُمْ) قيل : زائدة كقولهم : جذبت الثوب ، وبالثوب ، وتعلقت زيدا وبزيد ، وقيل : ليست بزائدة ولكنها على أصل الكلام من وجهين احدهما أن كل فعل متعد إذا كني عنه أو قدر على المصدر دخلته الباء كقوله : ضربته ثم يكنى عنه فتقول : فعلت به ، والآخر أن تقول : وقعت الضرب منه فجاء على الأفعال المتعدية. والوجه الثاني ـ أنه لما كان معناه لا تهلكوا أنفسكم بأيديكم دخلت الباء لتدل على هذا المعنى ، وهو خلاف أهلك نفسه بيد غيره).

٣٨٩

الأنصاري (١) : نحن أعلم بهذه الآية ، وإنما نزلت فينا ، صحبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنصرناه ، وشهدنا معه المشاهد ، وآثرناه على أهالينا ، وأولادنا ، وأموالنا ، فلما فشا الإسلام ، وكثر أهله ، ووضعت الحرب أوزارها ، رجعنا إلى أهالينا ، وأولادنا ، وأموالنا نصلحها ، ونقيم فيها ، فكانت التهلكة الاقامة في الأهل والمال ، وترك الجهاد» وقيل : إن ذلك في إساءة الظن بالله تعالى ، والتهلكة : مصدر ، من هلك ، وأبدلت الكسرة ضمة ، كما جاء الجوار ، والجوار (٢).

وقد دلت الآية على أحكام :

الأول : وجوب الإنفاق في الجهاد والحج ، وسيأتي زيادة إن شاء الله تعالى

قال الحاكم : وهي تدل على وجوب الإنفاق في الدين ، وهو ما شرع من الزكوات والجهاد ، ونفقة الأقارب ، والمحتاجين ، ومعونة من تجب معونته ، والحج ، وأن الجهاد قد يكون بالمال.

الحكم الثاني : يتعلق بقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) أن الحج لا يجب إلا بأمن الطريق ، وأن من خاف على نفسه من الصوم وجب

__________________

(١) أبو أيوب الأنصاري هو : خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة ، أبو أيوب الأنصاري ، من بني النجار ، صحابي ، شهد المشاهد كلها ، كان شجاعا ، صابرا ، تقيا ، محبا للغزو والجهاد ، وتوفي في القسطنطينية ، ودفن في حصنها سنة ٥٢ ه‍ ح / س.

(٢) ولفظ الكشاف (وحكى أبو علي في (الحلبيات) عن أبي عبيدة ، التهلكة والهلاك والهلك واحد. قال : فدلّ هذا من قول أبي عبيدة على أن التهلكة مصدر. ومثله ما حكاه سيبويه من قولهم التضرة والتسرة ونحوها في الأعيان : التنضبة والتنفلة.

ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما ، على أنها مصدر من هلك فأبدلت من الكسرة ضمة ، كما جاء الجوار في الجوار).

٣٩٠

الفطر ، وعلى وجوب الصلاة قاعدا لمن خشي على نفسه إن صلى قائما ، وعلى وجوب التيمم إن خاف على نفسه الهلاك من برد الماء.

وهذا مذهب الجلة من العلماء من أهل البيت عليهم‌السلام ، وأبي حنيفة ، والشافعي

وحكي عن الحسن ، وعطاء : أنه لا يجوز له أن يتيمم ، وإن خشي الهلاك ، وغلّطا لهذه الآية ، ولخبر صاحب الشجة (١) ، وهو ما رواه جابر ، قال : كنا في سرية ، فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ، ثم احتلم ، فقال لأصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر بذلك ، فقال : «قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ، ويعصب على جرحه بخرقة ثم يمسح عليها ، ويغسل سائر جسده».

وللخبر فوائد ذكرها يخرج عن دلالة الآية. قال الحاكم : وتدل الآية على جواز الهزيمة في الجهاد إذا خاف على النفس (٢). وستأتي مسألة الفرار.

قال : وتدل على جواز ترك الأمر بالمعروف إذا خاف ؛ لأن كل ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة ، قال : وتدل على جواز مصالحة الكفار والبغاة ، إذا خاف الإمام على نفسه ، أو على المسلمين ، كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام الحديبية ، وكما فعله أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بصفين ، وكما فعل الحسن عليه‌السلام من مصالحة معاوية لعنه الله تعالى.

__________________

(١) في ب (وغلطا بهذه الآية ، وبخبر صاحب الشجة).

(٢) يعني فتقيد بما فيها من الفئة ونحوها ، فلا يؤخذ بظاهر ما هنا. (ح / ص).

٣٩١

فإن قيل : إن الحسين قاتل وحده ، قلنا : فعله يحتمل وجهين :

الأول : أنه ظن أنهم لا يقتلونه لمكانه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والثاني : أنه غلب على ظنه أنه إن ترك قتالهم قتلوه صبرا ، فكان القتل مع الجهاد أهون عليه (١). فإن قيل : لم صالح الحسن عليه‌السلام معاوية ـ العين (٢) ـ مع كونه إماما ، ومع إنكار جماعة من أصحابه (٣)؟

قلنا : لما تشتت الأمر ، وخالفه أصحابه خاف على نفسه ، وعلى بقية المؤمنين من شيعته ، هذا كلام الحاكم.

والذي يذكر لمذهب الهادي عليه‌السلام : أنه إذا خشي القتل في الجهاد ، أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن كان في قتله إعزاز للدين جاز وإن قتل ، وإن لم يكن كذلك لم يجز.

وعند المؤيد بالله عليه‌السلام : يجوز في الوجهين ، وأما الوجوب فلا يجب عند الهادي والمؤيد بالله جميعا (٤).

وتدل أيضا : أنه إذا خشي التهلكة صالح الإمام بشيء من أموال المسلمين ، ويؤيد هذا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يصالح يوم الأحزاب بثلث ثمار

__________________

(١) أفضل له. (ح / ص).

(٢) ما بين الشرطين ثابت في أ ، وساقط في ب.

(٣) ومثله في التهذيب للحاكم ، ولفظه (ومتى قيل : فلم صالح الحسن معاوية مع كونه اماما ومع انكار جماعة من أصحابه؟ قلنا : لأنه لما خرج وخالفه أصحابه واستأمن صاحب جيشه عبيد الله بن العباس إلى معاوية ، وتشتت الأمر خاف على نفسه وعلى بقية المؤمنين من شيعته ، وفي مثل هذه الحالة تكون المصالحة).

(٤) ينظر وجه عدم الوجوب عند الهادي والمؤيد بالله عليهما‌السلام.

٣٩٢

المدينة حتى شاور السعود (١) ـ سعد بن عبادة (٢) ، وسعد بن معاذ (٣) ـ فأشاروا عليه بترك ذلك ، وهو لا يعزم إلا على ما يجوز.

وقوله تعالى : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال القاضي ، وقواه الحاكم : المراد أحسنوا في الإنفاق ، ولا تسرفوا ، ولا تقتروا لاتصاله بما قبله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) المعنى : يريد إثابتهم.

__________________

(١) السعود : هم أسعد بن زرارة ، وسعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، كلهم من الأنصار ، رواه أبو إسحاق الشيرازي في المهذب ، وخطأه النووي في قوله : السعود ؛ لأن أسعد بن زرارة مات قبل الخندق ، ولم يكن الشاهد له إلا السعدان سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، وهما الذي شاور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلح بثلث ثمار المدينة ، والقصة مشهورة في مضانها. (ح / ص).

(٢) سعد بن عبادة : هو سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي ، الساعدي ، المدني ، الجواد ابن الجواد ، وابنه قيس كذلك ، اسلم رضي الله عنه في بيعة العقبة الكبرى ، في السنة الثالثة في ذي الحجة ، وجاء معه ثلاثة وسبعون من الأنصار ، وجعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد النقباء ، ولما قدم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يزل سعد يأتي بطعامه سنين ، ولما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراده الأنصار للخلافة ، وأخرجوه ليبايعوه ، والقصة مشهورة ، ولم يبايع أبا بكر ، ولا عمر ، وتوفي سنة ستة عشر بحوران ، من اعمال الأردن بالشام ، وذلك أنه بال في جحر فخر ميتا ، وسمع صوت في داره بالمدينة يقول :

قتلنا سيد الخزرج

سعد بن عبادة

رميناه بسهمين

فلم نخط فؤاده

وكان اعتزل بحوران ، وله قبر بقرب دمشق ، شاع عند العامة أنه قبر سعد بن عبادة ، فيحتمل أنه نقل من حوران إلى هناك.

(٣) سعد بن معاذ هو : سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس ، الأوسي ، الأنصاري ، صحابي من الأبطال ، سيد الأوس ، وحامل لؤائهم يوم بدر ، وممن ثبت يوم أحد ، توفي سنة خمس للهجرة ، على أثر جرح أصابه يوم الخندق. ح / س.

٣٩٣

وعن الفضيل بن عياض (١) : المعنى : وأحسنوا الظن به تعالى ، فإنه يحب من أحسن الظن به. وفي الحديث الرباني «أنا بعبدي حيث ظنه بي».

وذكر العلماء رضي الله عنهم : أنه يؤمر المريض بحسن الظن بالله تعالى ، ويذكر له محاسن أفعاله.

وروي في كتاب الأذكار عن صحيح البخاري أن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعمر بن الخطاب حين طعن ، وكان يجزّعه ، أي : يزيل جزعه : يا أمير المؤمنين ، ولا كل ذاك ، قد صحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم ، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون (٢) ، وعن الأصم : أحسنوا في فرائض الله.

وقيل : في الإنفاق على من تلزمكم مؤنته.

وقيل : أحسنوا إلى أنفسكم ، لا تلقوها في النار بفعل الكبائر.

وعن أبي علي ، وأبي مسلم : أحسنوا بالأعمال الحسنة والعبادات.

قوله تعالى

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٦]

هذا أمر بإتمامهما ، والأمر للوجوب ، أما وجوب الحج فذلك

__________________

(١) الفضيل بن عياض هو : الفضيل بن عياض بن مسعود ، التميمي ، اليربوعي ، أبو علي ، شيخ الحرم المكي ، من أكابر العباد الصلحاء ، كان ثقة في الحديث ، أخذ عن خلق منهم الشافعي ، ولد سنة ١٠٥ ه‍ بسمرقند ، وتوفي سنة ١٨٧ ه‍ وقد ذكر الحاكم في تهذيبه كلام الفضيل بن عياض كما هنا.

(٢) في الأصل فارقك ، فارقك ، والتصويب من البخاري. ويحتمل انه نسخة أخرى من البخاري.

٣٩٤

معلوم ، وأما وجوب العمرة فهذة مسألة خلاف بين العلماء ، فالذي ذهب إليه القاسم عليه‌السلام وهو الذي رواه في شرح الابانة عن القاسمية ، وزيد بن علي ، والحنفية ، وهو المشهور عن مالك : أنها ليست بواجبة ، وإنما هي سنة ، وهو قول الشافعي في القديم ، والنخعي ، والشعبي.

وقال الشافعي في قوله الأخير ، والناصر ، والصادق ، والثوري ، والمزني ، وأحمد ، وإسحاق : إنها واجبة ، وذلك مروي عن سعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاووس ، والسدي ، لأن الله تعالى أمر بإتمامها وإتمام الحج ، والأمر للوجوب وقد روي عن علي عليه‌السلام وابن عباس ، وابن مسعود «أن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك» فجعل الإتمام الدخول فيهما.

دليل آخر : أنه روي عن ابن عباس ، وابن مسعود أنهما قرأ (وأقيموا الحج والعمرة لله) والقراءة الشاذة كخبر الواحد ، فدل على وجوب العمرة.

دليل آخر : وهو حديث سراقة بن مالك الأشجعي ، وذلك أنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعمرتنا هذه لعامنا أم للأبد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «بل للأبد» فلما سأله عن التكرار ، فهم أن فعلها ابتداء كان ثابتا ، وأجيب عن هذا بأنه قال : ذلك في عمرة القضاء ، وهي واجبة.

دليل آخر : وهو أن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله صلى الله عليك أعلى النساء جهاد؟ قال : جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة.

فأما من قال ليست بواجبة فقال : المراد بالتمام بعد الدخول فيهما ، وذلك واجب في حج التطوع ، واعتمار التطوع ، وهذا هو حمل القاسم عليه‌السلام للآية ، وقد قال الحاكم : إن دليل وجوب الحج من الآية في آل عمران ، يعني قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ

٣٩٥

سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] لا من هذه الآية ؛ لأن من دخل في تطوع الحج والعمرة لزمه إتمامه.

واستدل القاسم عليه‌السلام بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) قال : فلم يوجب الحج إلا مرة ، يريد : أنها لو وجبت العمرة ، وجب الحج مرتين.

وهو لا يجب إلا مرة ، والعمرة حج ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «العمرة الحج الأصغر».

دليل آخر : وهو ما رواه زيد بن علي عليه‌السلام عن أبيه عن جده ، عن علي عليه‌السلام قال : قيل : يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج؟ قال : لا ، ولكن لأن تعتمر خير لك» وهكذا في حديث جابر ، وفي حديث طلحة بن عبيد الله (١) ، وابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : الحج جهاد ، والعمرة تطوع.

__________________

(١) طلحة بن عبيد الله ، القرشي ، من السابقين الأولين ، كان ثامنا في الإسلام ، وأخوه من المهاجرين الزبير ، ومن الأنصار أبو أيوب ، وكعب بن مالك ، شهد المشاهد كلها إلا بدرا ، كان في تجارة ، وأبلى يوم أحد بلاء عظيما ، ووقع فيه بضع وسبعون ما بين ضربة ورمية ، وطعنة ، وقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك اليوم : (أوجب طلحة) وكان من الأجواد ، وسمع أمير المؤمنين رجلا ينشد :

فتى كان يدنيه الغنى عن صديقه

إذا هو استغنى ويبعده الفقر

فقال عليه‌السلام : ذلك طلحة ، ولما قتل عثمان وبويع أمير المؤمنين عليه‌السلام بايعه طلحة والزبير ، ثم نفث الشيطان في قلبيهما ، فخرجا عن المدينة ناكثين ، فلقيا عائشة ، فأخذاها وساروا إلى البصرة وعاثوا فيها ، فخرج أمير المؤمنين ودعاهم إلى الصلح فأجابوا ، واتعدوا إلى الغد ، وكان قتلة عثمان كارهين للصلح ، فباكروهم الحرب ، فقال الزبير : ما هذا فقالوا : لم ندر إلا وقد شرعوا في قتالنا ، ولم أن أولئك السبب إلا بعد الوقعة ، ثم دعا أمير المؤمنين الزبير ، فذكره الحديث فاعتزل القتال تائبا ، ورمى طلحة في المعركة ، وقد تاب ، وبايع أصحاب أمير المؤمنين ، ذكر ذلك المنصور بالله في الشافي وغيره ، وفي الرياض : دعاه علي عليه‌السلام ، وذكر سوابقه فاعتزل ـ

٣٩٦

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» (١).

دليل آخر : وهو أنه روي في قراءة عن علي عليه‌السلام وابن مسعود ، والشعبي (والعمرةُ لله) بالرفع ، كأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الوجوب ، وقراءة الشاذة كخبر الواحد ، كما قلتم في قراءة (وأقيموا الحج والعمرة لله) وقد يستدل بالآية على وجوب الحج أخذا بالظاهر.

ويقال : خرجت العمرة من الوجوب بهذه الأدلة ، وإنما قرن بينهما في نفس الإتمام ، وإن وجب الأول دون الثاني كما يقال : صم رمضان ، وستة أيام من شوال في صحة الأمر بالواجب والتطوع.

وللمفسرين في تفسير الإتمام أقوال أخر : فقيل : الإتمام لهما أن يؤتى بهما كاملين بشرائطهما ومناسكهما ، قال ذو الرمة (٢).

تمام الحج أن تقف المطايا

على خرقاء واضعة اللثام

جعل الوقوف عليها كبعض مناسك الحج ، وخرقاء اسم محبوبته ، ويعني [بواضعة] : حاسرة اللثام.

__________________

ـ القتال ، فرماه مروان ، ولما بلغ أمير المؤمنين أنه بايع له قال : أبى الله أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه ، وكان قتله سنة ٣٣ ه‍ ودفن إلى جانب الفرات ، فرآه بعض قرابته يقول : ألا تجيرني من الماء ، فإني قد غرقت ثلاثا ، فأخبر ابن عباس ، فأخرج بعد ثلاثين سنة ، فوجدوه أخضر لم يتغير ، واشتروا له دارا ، ودفنوه بها ، وقبره بالبصرة مشهور ، وطلحة مذكور في أول كتاب الوقف.

(١) هذا يصلح دليلا على وجوب العمرة ، ويكون معنى الحديث أن من أحرم بالحج وجبت عليه العمرة ، فهي تدخل في أعمال الحج ، وقد أوجب أهل المذهب العمرة ، على الأصناف الثلاثة ، وعلى أهل مكة إذا انشأوا الحج ، وذلك أنه بعد عودتهم من عرفة ، يصبحون كالآفاقي. (التاج المذهب).

(٢) ذو الرمة هو : غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي ، من مضر ، أبو الحارث ، شاعر من فحول الطبقة الثانية في عصره ، ولد سنة ٧٧ ه‍ وتوفي سنة ١١٧ ه‍.

٣٩٧

وقيل : تمامهما أن تكون النفقة حلالا عن الضحاك ، وقيل : تمامهما أن لا يشاركا بتجارة ، ولا عمل دنيوي عن سفيان ، وقيل : تمامهما أن يفرد لكل واحد منهما سفر ، وهذا مروي عن طاووس ، وسعيد بن جبير ، وقيل : أن يأتي بهما ولا يلزمه دم عن قتادة.

وأما شروطهما ، وصفاتهما ، وشرائط وجوبهما فمأخوذ من غير الآية هذه ، ودلالتها على ذلك مجملة ، وذكر البعض من ذلك أليق بغير هذا الموضع.

والعمرة : مأخوذة من العمارة ، وهي عمارة البيت بالزيارة ، وقيل : من الاعتمار ، الذي هو القصد ، قال الشاعر :

ومعتمر في ركب عزة لم يكن

يريد اعتمار البيت لو لا اعتمارها

أي : لو لا قصدها ما قصد البيت.

قوله تعالى

(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) [البقرة : ١٩٦]

اعلم أنه يتعلق بهذه الآية الكريمة أحكام : الأول : ما تفيده الآية من أسباب الإحصار ، وقد اختلف أهل التفسير في ذلك ، وسائر العلماء على أقوال ثلاثة :

الأول : أن الآية تفيد المنع بالمرض ، والعدوّ ، وغيرهما من الموانع ؛ لأن أصل الحصر من الحبس والمنع ، يقال : أحصره المرض إذا منعه عن سفر أو حاجة ، ويقال للملك : حصير ؛ لاحتباسه عن الناس.

والحصر : لاحتباس البطن عن غائط أو بول.

والحصور : الذي لا يأتي النساء ، قال الله تعالى : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) [آل عمران : ٣٩] والحصير المحبس ، قال الله تعالى : (لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) [الإسراء : ٨]

٣٩٨

وهذا الذي ذكره أبو طالب ، والناصر ، وهو مروي عن أبي علي ، والفراء

واستظهر على ذلك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من كسر أو عرج فقد حل».

وفي خبر آخر رواه أبو داود «من كسر ، أو عرج ، أو مرض فقد حل» وهو بفتح الراء في عرج ، وقد يسمع بالوجهين ، فالكسر إذا صار أعرج ، أو كان خلقة. وعرج بالفتح إذا غمز من شيء أصابه ، معناه : يجوز أن يحل كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم» أي : جاز له أن يفطر ، وفي النهاية عن أبي ثور ، وداود أن المحصر بالمرض يحل من غير هدي أخذا بظاهر الخبر ، ويقولان : الآية الواردة في المحصر هو حصر العدو.

القول الثاني :

أن الآية تفيد المنع بالعدو لا بالمرض ، وهذا قول مالك ، والشافعي ، واستدل على هذا بقوله تعالى في آخر الآية : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) قالوا : ولو كان الاحصار بالمرض لم يكن لذكر المرض بعد ذلك فائدة.

واحتجوا أيضا بقوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) [البقرة : ١٩٦] والأمن لا يطلق إلا على ارتفاع الخوف من العدو ، ولا يطلق على ارتفاع المرض إلا على وجه الاستعارة ، وهو لا يصار إلى الاستعارة إلا لأمر موجب للخروج عن الحقيقة إلى المجاز.

حجة ثالثة : قالوا : إنه نزل قوله تعالى في سورة الفتح (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الفتح : ٢٥] في منع العدو ، والاحصار به ، وخطاب الله تعالى يجب حمله على الحقيقة ، ولا يصار إلى المجاز إلا لدليل.

٣٩٩

وقد يقال : أحصر إذا منعه أمر من خوف ، أو مرض ، أو عجز ، قال تعالى : (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٧٣] وقال ابن ميادة :

وما هجر ليلى أن تكون تباعدت

عليك ولكن أحصرتك شغول

يعني : أن الهجر إنما هو الصدود عن اختيار لا لأمر شاغل.

قالوا : هو يفرق بين فعل ، وأفعل ، ففعل إذا أوقع فعلا من الأفعال بغيره ، وأما أفعل فهو إذا عرّضه لوقوع ذلك الفعل ، يقال : قتله إذا فعل به فعل القتل

وأقتله إذا عرضه للقتل (١).

فإذا كان هذا هكذا فأحصر أحق بالعدو ، وحصر أحق بالمرض ؛ لأن العدو إنما عرض للإحصار ، والمرض هو فاعل الاحصار.

القول الثالث : أن الآية تفيد الحصر بالمرض ، وإنما يلحق العدو قياسا ، وذلك لأن أحصره للمرض ، أو ذهاب النفقة ، وحصره للعدو ، وقال تعالى : (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ) [التوبة : ٥] وهذا قول أكثر أهل اللغة من أبي عبيدة ، والكسائي ، والزجاج ، قالوا : وإنما ذكر الله تعالى المرض بعد ذلك ؛ لأنه صنفان ـ صنف محصر به ، وصنف غير محصر به ، وهو الذي لا يمنعه من وصول البيت وذكر الأمن المراد به من المرض.

قال الحاكم : وقد أنكر أهل اللغة على الشافعي لما قال : لا حصر إلا بالعدو.

__________________

(١) قد يقال : المعرض للشيء سبب في ذلك الشيء ، ولا شك أن كل واحد من المرض والعدو سبب في المنع ، وعلة له ، ويصح أن يعبر عن كل واحد منهما بأنه مانع عن الحج ، فثبت أن كل واحد معرض للإحصار ، وفاعل للإحصار من غير فرق ، والله أعلم ـ تمت سيد الحسين. (ح / ص).

٤٠٠