التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

والنبذ : الطرح والترك للشيء ، والعراء : الأرض الفضاء الخالية من النبات وغيره.

والمعنى : لولا أن الله ـ تدارك عبده يونس برحمته ، وبقبول توبته .. لطرح من بطن الحوت بالأرض الفضاء الخالية من النبات والعمران .. وهو مذموم ، أى : وهو ملوم ومؤاخذ منا على ما حدث منه ..

ولكن ملامته ومؤاخذته منا قد امتنعت ، لتداركه برحمتنا ، حيث قبلنا توبته ، وغسلنا حوبته ، ومنحناه الكثير من خيرنا وبرنا ..

فالمقصود من الآية الكريمة بيان جانب من فضل الله ـ تعالى ـ على عبده يونس ـ عليه‌السلام ـ ، وبيان أن رحمته ـ تعالى ـ به ، ونعمته عليه ، قد حالت بينه وبين أن يكون مذموما على ما صدر منه ، من مغاضبة لقومه ومفارقته لهم بدون إذن من ربه ..

قال الجمل ما ملخصه : قوله : (وَهُوَ مَذْمُومٌ) أى : ملوم ومؤاخذ بذنبه والجملة حال من مرفوع «نبذ» ، وهي محط الامتناع المفاد بلولا ، فهي المنفية لا النبذ بالعراء ..

أى : لنبذ بالعراء وهو مذموم ، لكنه رحم فنبذ غير مذموم ..

فلولا ـ هنا ـ ، حرف امتناع لوجود ، وأن الممتنع القيد في جوابها لا هو نفسه .. (١).

وقوله : (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) تأكيد وتفصيل لنعمة الله ـ تعالى ـ التي أنعم بها على عبده يونس ـ عليه‌السلام ـ ، وهو معطوف على مقدر.

أى : فتداركته النعمة فاصطفاه ربه ـ عزوجل ـ حيث رد عليه الوحى بعد انقطاعه ، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون من الناس ، وقبل توبته ، فجعله من عباده الكاملين في الصلاح والتقوى ، وفي تبليغ الرسالة عن ربه.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، ببيان ما كان عليه الكافرون من كراهية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن حقد عليه ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ ، لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ، وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ. وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ).

وقوله : (لَيُزْلِقُونَكَ) من الزّلق ـ بفتحتين ـ ، وهو تزحزح الإنسان عن مكانه ، وقد يؤدى به هذا التزحزح إلى السقوط على الأرض ، يقال : زلقه يزلقه ، وأزلقه يزلقه إزلاقا ، إذا نحاه وأبعده عن مكانه ، واللام فيه للابتداء.

قال الشوكانى : قرأ الجمهور : (لَيُزْلِقُونَكَ) بضم الياء من أزلقه ، أى : أزل رجله ..

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣٩١.

٦١

وقرأ نافع وأهل المدينة (لَيُزْلِقُونَكَ) ـ بفتح الياء ـ من زلق عن موضعه.

و (إِنْ) هي المخففة من الثقيلة ، ـ واسمها ضمير الشأن محذوف ، و «لما» ظرفية منصوبة بيزلقونك. أو هي حرف ، وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه. أى : لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك ... (١).

أى : وإن يكاد الذين كفروا ليهلكونك ، أو ليزلون قدمك عن موضعها ، أو ليصرعونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك شزرا ، بعيون ملؤها العداوة والبغضاء حين سمعوا الذكر ، وهو القرآن الكريم ..

(وَيَقُولُونَ) على سبيل البغض لك (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أى : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن الأشخاص الذين ذهبت عقولهم ..

(وَما هُوَ) أى : القرآن الذي أنزلناه عليك (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أى : تذكير بالله ـ تعالى ـ وبدينه وبهداياته .. وشرف لهم وللعالمين جميعا.

وجاء قوله (يَكادُ) بصيغة المضارع ، للإشارة إلى استمرار ذلك في المستقبل.

وجاء قوله (سَمِعُوا) بصيغة الماضي ، لوقوعه مع (لَمَّا) ، وللإشعار بأنهم قد حصل منهم هذا القول السّيئ ..

وجاء قوله (لَيُزْلِقُونَكَ) بلام التأكيد للإشعار بتصميمهم على هذه الكراهية ، وحرصهم عليها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) رد على أكاذيبهم ، وإبطال لأقوالهم الزائفة ، حيث وصفوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنون ، لأنه إذا كان ما جاء به شرف وموعظة وهداية وتذكير بالخير للناس .. لم يكن معقولا أن يكون مبلغه مجنونا.

ومنهم من فسر قوله ـ تعالى ـ : (لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ ..) أى : ليحسدونك عن طريق النظر الشديد بعيونهم ..

قال الإمام ابن كثير : وقوله : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : (لَيُزْلِقُونَكَ) : لينفذونك بأبصارهم ، أى : ليعينوك بأبصارهم ، بمعنى ليحسدونك لبغضهم إياك ، لولا وقاية الله لك ، وحمايتك منهم.

وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله ـ عزوجل ـ ، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٢٧٧ للشوكانى.

٦٢

ثم ساق ـ رحمه‌الله ـ جملة من الأحاديث في هذا المعنى ، منها ما رواه أبو داود في سننه ، عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا رقية إلا من عين أو حمه ـ أى : سم ـ ، أو دم لا يرقأ».

وروى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العين حق ، ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين».

وعن ابن عباس ـ أيضا ـ قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوذ الحسن والحسين فيقول : «أعيذ كما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ـ والهامة كل ذات سم يقتل ـ ، ومن كل عين لامّة».

وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العين حق حتى لتورد الرجل القبر ، والجمل القدر ، وإن أكثر هلاك أمتى في العين (١)».

وبعد : فهذا تفسير محرر لسورة «ن» ، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٢٢٦ وما بعدها.

٦٣
٦٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الحاقة

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الحاقة» من السور المكية الخالصة ، وكان نزولها بعد سورة «الملك» وقبل سورة «المعارج» ، وعدد آياتها إحدى وخمسون آية ، وعند بعضهم اثنتان وخمسون آية.

قال الآلوسى : «ويدل على مكيتها ما أخرجه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال : «خرجت أتعرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن أسلم ، فوجدته قد سبقني إلى المسجد ، فوقفت خلفه ، فاستفتح بسورة (الحاقة) ، فجعلت أعجب من تأليف القرآن ، فقلت ـ أى في نفسي ـ : هذا والله شاعر ، فقرأ (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) فقلت : كاهن ، فقرأ (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) إلى آخر السورة. فوقع الإسلام في قلبي كل موقع» (١).

وعلى هذا الحديث يكون نزولها في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة لأن إسلام عمر ـ رضى الله عنه ـ كان ـ تقريبا ـ في ذلك الوقت.

٢ ـ والسورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن مصارع المكذبين ، وعن أحوال أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وعن إقامة الأدلة المتعددة على أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ وعلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ـ عزوجل ـ.

وتمتاز هذه السورة بقصر آياتها ، وبرهبة وقعها على النفوس ، إذ كل قارئ لها بتدبر

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ٣٨.

٦٥

وتفكر ، يحس عند قراءتها بالهول القاصم ، وبالجد الصارم ، وببيان أن هذا الدين حق لا يشوبه باطل. وأن ما أخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدق لا يحوم حوله كذب.

نرى ذلك كله في اسمها ، وفي حديثها عن مصارع الغابرين ، وعن مشاهد يوم القيامة التي يشيب لها الولدان.

نسأل الله تعالى ـ أن يرحمنا جميعا برحمته.

الراجي عفو ربه

د / محمد سيد طنطاوى

٦٦

التفسير

افتتح ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (١٢)

وكلمة «الحاقة» مأخوذة من حق الشيء إذا ثبت وجوده ثبوتا لا يحتمل الشك .. وهي من أسماء الساعة ، وسميت الساعة بهذا الاسم لأن الأمور تثبت فيها وتحق ، خلافا لما كان يزعمه الكافرون من أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء.

والهاء فيها يصح أن تكون هاء التأنيث ، فيكون لفظ «الحاقة» صفة لموصوف محذوف ، أى : الساعة الحاقة.

ويصح أن تكون هاء مصدر ، بزنة فاعلة ، مثل الكاذبة للكذب والباقية للبقاء ، والطاغية للطغيان.

٦٧

وأصلها تاء المرة ، ولكنها لما أريد بها المصدر ، قطع النظر عن المرة ، وصار لفظ «الحاقة» بمعنى الحق الثابت الوقوع.

ولفظ «الحاقة» مبتدأ ، و «ما» مبتدأ ثان ، ولفظ الحاقة الثاني ، خبر المبتدأ الثاني ، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره ، خبر المبتدأ الأول.

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ) يريد القيامة ، سميت بذلك : لأن الأمور تحق فيها.

وقيل سميت بذلك ، لأنها تكون من غير شك. أو لأنها أحقت لأقوام الجنة ، ولأقوام النار ، أو لأن فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله ، أو لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل. أى : تبطل حجة كل مخاصم في دين الله بالباطل ـ يقال : حاققته فحققته فأنا أحقّه ، إذا غالبته فغلبته .. والتّحاق التخاصم ، والاحتقاق : الاختصام .. (١).

و «ما» في قوله (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) اسم استفهام المقصود به هنا التهويل والتعظيم ، وهي مبتدأ. وخبرها جملة (أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) وما الثانية وخبرها في محل نصب سادة مسد المفعول الثاني لقوله (أَدْراكَ) لأن أدرى يتعدى لمفعولين ، الأول بنفسه والثاني بالباء ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) (٢).

وهذا الأسلوب الذي جاءت به هذه الآيات الكريمة ، فيه ما فيه من التهويل من شأن الساعة ، ومن التعظيم لأمرها ، فكأنه ـ تعالى ـ يقول : يوم القيامة الذي يخوض في شأنه الكافرون ، والذي تحق فيه الأمور وتثبت. أتدري أى شيء عظيم هو؟ وكيف تدرى أيها المخاطب؟ ونحن لم نحط أحدا بكنه هذا اليوم ، ولا بزمان وقوعه؟

وإنك ـ أيها العاقل ـ مهما تصورت هذا اليوم ، فإن أهواله فوق ما تتصور ، وكيفما قدرت لشدائده : فإن هذه الشدائد فوق ما قدرت.

ومن مظاهر هذا التهويل لشأن يوم القيامة افتتاح السورة بلفظ «الحاقة» الذي قصد به ترويع المشركين ، لأن هذا اللفظ يدل على أن يوم القيامة حق.

كما أن تكرار لفظ «ما» ثلاث مرات ، مستعمل ـ أيضا ـ في التهويل والتعظيم ، كما أن إعادة المبتدأ في الجملة الواقعة خبرا عنه بلفظه ، بأن قال (مَا الْحَاقَّةُ) ولم يقل ما هي ، يدل أيضا على التهويل. لأن الإظهار في مقام الإضمار يقصد به ذلك ، ونظيره

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٨ ص ٢٥٧.

(٢) سورة يونس الآية ١٦.

٦٨

قوله ـ تعالى ـ : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ). (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ).

والخطاب في الآيات الكريمة ، لكل من يصلح له ، لأن المقصود تنبيه الناس إلى أن الساعة حق. وأن الحساب والجزاء فيها حق ، لكي يستعدوا لها بالإيمان والعمل الصالح.

قال بعض العلماء ما ملخصه : واستعمال «ما أدراك» غير استعمال «ما يدريك» .. فقد روى عن ابن عباس أنه قال : كل شيء من القرآن من قوله (ما أَدْراكَ) فقد أدراه ، وكل شيء من قوله : (وَما يُدْرِيكَ) فقد طوى عنه.

فإن صح هذا عنه فمراده أن مفعول «ما أدراك» محقق الوقوع ، لأن الاستفهام فيه للتهويل وأن مفعول «ما يدريك» غير محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للإنكار ، وهو في معنى نفى الدراية.

قال ـ تعالى ـ : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ) وقال ـ سبحانه ـ (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (١).

ثم فصل ـ سبحانه ـ أحوال بعض الذين كذبوا بالساعة ، وبين ما ترتب على تكذيبهم من عذاب أليم فقال : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ. فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ. وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ).

وثمود : هم قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ ، سموا بذلك باسم جدهم ثمود. وقيل سموا بذلك لقلة المياه التي كانت في مساكنهم ، لأن الثمد هو الماء القليل.

وكانت مساكنهم بين الحجاز والشام. وما زالت أماكنهم معروفة باسم قرى صالح وتقع بين المملكة الأردنية الهاشمية ، والمملكة العربية السعودية.

وقد ذكرت قصتهم في سور : الأعراف ، وهود ، والشعراء ، والنمل ، والقمر ... إلخ.

وأما عاد فهم قبيلة عاد ، وسموا بذلك نسبة إلى جدهم الذي كان يسمى بهذا الاسم ، وكانت مساكنهم بالأحقاف باليمن ـ والأحقاف جمع حقف وهو الرمل الكثير المائل ... وينتهى نسب عاد وثمود إلى نوح ـ عليه‌السلام ـ.

والقارعة : اسم فاعل من قرعه ، إذا ضربه ضربا شديدا ، ومنه قوارع الدهر ، أى : شدائده وأهواله ، ويقال : قرع فلان البعير ، إذا ضربه ومنه قولهم : العبد يقرع بالعصا.

__________________

(١) تفسير التحرير والتنوير ج ٢٩ ص ١١٤ للشيخ ابن عاشور.

٦٩

ولفظ القارعة ، من أسماء يوم القيامة ، وسمى يوم القيامة بذلك ، لأنه يقرع القلوب ويزجرها لشدة أهواله : وهو صفة لموصوف محذوف ، أى : بالساعة القارعة.

والطاغية من الطغيان وهو تجاوز الحد ، والمراد بها هنا الصاعقة أو الصيحة التي أهلكت قوم ثمود ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) (١).

ولفظ الطاغية ـ أيضا ـ صفة لموصوف محذوف.

والريح الصرصر العاتية : هي الريح الشديدة التي يكون لها صوت كالصرير ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) (٢).

والعاتية من العتو بمعنى الشدة والقوة وتجاوز الحد.

أى : كذبت قبيلة ثمود ، وقبيلة عاد ، بالقيامة التي تقرع القلوب ، وتزلزل النفوس ، فأما قبيلة «ثمود» فأهلكوا ، بالصيحة أو بالصاعقة ، أو بالرجفة ، التي تجاوزت الحد في الشدة والهول والطغيان.

وأما قبيلة عاد ، فأهلكت بالريح الشديدة ، التي لها صوت عظيم ، والتي تجاوزت كل حد في قوتها.

وابتدأ ـ سبحانه ـ بذكر ما أصاب هاتين القبيلتين ، لأنهما أكثر القبائل المكذبة معرفة لمشركي قريش ، لأنهما من القبائل العربية ، ومساكنهما كانت في شمال وجنوب الجزيرة العربية.

ثم بين ـ سبحانه ـ كيفية نزول العذاب بهم فقال : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ ، وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً).

والتسخير : التذليل عن طريق القهر والأمر الذي لا يمكن مخالفته.

وحسوما : من الحسم بمعنى التتابع ، من حسمت الدابة ، إذا تابعت كيها على الداء مرة بعد مرة حتى ينحسم .. أو من الحسم بمعنى القطع ، ومنه سمى السيف حساما لأنه يقطع الرءوس ، وينهى الحياة.

قال صاحب الكشاف : «والحسوم» : لا يخلو من أن يكون جمع حاسم ، كشهود وقعود. أو

__________________

(١) سورة هود الآية ٦٧.

(٢) سورة فصلت الآية ١٦.

٧٠

مصدرا كالشكور والكفور ، فإن كان جمعا فمعنى قوله (حُسُوماً) : نحسات حسمت كل خير ، واستأصلت كل بركة. أو : متتابعة هبوب الرياح ، ما خفتت ساعة حتى أتت عليهم ، تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكلى على الداء ، كرة بعد كرة حتى ينحسم.

وإن كان مصدرا ، فإما أن ينتصب بفعله مضمرا ، أى : تحسم حسوما ، بمعنى تستأصل استئصالا. أو يكون صفة كقولك : ذات حسوم .. (١).

أى : أرسل الله ـ تعالى ـ على هؤلاء المجرمين الريح التي لا يمكنها التخلف عن أمره ، فبقيت تستأصل شأفتهم ، وتخمد أنفاسهم .. (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) أى : متتابعة ومتوالية حتى قطعت دابرهم ، ودمرتهم تدميرا.

وقوله : (حُسُوماً) يصح أن يكون نعتا لسبع ليال وثمانية أيام ، ويصح أن يكون منصوبا على المصدرية بفعل من لفظه ، أى : تحسمهم حسوما.

ثم صور ـ سبحانه ـ هيئاتهم بعد أن هلكوا فقال : (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ).

والخطاب في قوله (فَتَرَى ..) لغير معين. والفاء للتفريع على ما تقدم والضمير في قوله (فِيها) يعود إلى الأيام والليالى. أو إلى مساكنهم.

وقوله : (صَرْعى) أى : هلكى ، جمع صريع كقتيل وقتلى ، وجريح وجرحى.

والأعجاز جمع عجز ، والمراد بها هنا جذوع النخل التي قطعت رءوسها.

وخاوية ، أى : ساقطة ، مأخوذ من خوى النجم ، إذا سقط للغروب أو من خوى المكان إذا خلا من أهله وسكانه ، وصار قاعا صفصفا. بعد أن كان ممتلئا بعمّاره.

أى : أرسل الله ـ تعالى ـ على هؤلاء الظالمين الريح المتتابعة لمدة سبع ليال وثمانية أيام ، فدمرتهم تدميرا ، وصار الرائي ينظر إليهم فيراهم وقد ألقوا على الأرض هلكى ، كأنهم في ضخامة أجسادهم ... جذوع نخل ساقطة على الأرض ، وقد انفصلت رءوسها عنها.

وعبر ـ سبحانه ـ بقوله : (فَتَرَى الْقَوْمَ ...) لاستحضار صورتهم في الأذهان ، حتى يزداد المخاطب اعتبارا بأحوالهم ، وبما حل بهم.

والتشبيه بقوله : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) المقصود منه تشنيع صورتهم ، والتنفير من

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٩٨.

٧١

مصيرهم السّيّئ ، لأن من كان هذا مصيره ، كان جديرا بأن يتحامى ، وأن تجتنب أفعاله التي أدت به إلى هذه العاقبة المهينة.

والاستفهام في قوله : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) للنفي ، والخطاب ـ أيضا ـ لكل من يصلح له ، وقوله (باقِيَةٍ) صفة لموصوف محذوف .. أى : فهل ترى لهم من فرقة أو نفس باقية.

ثم بين ـ سبحانه ـ النهاية السيئة لأقوام آخرين فقال : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً).

وفرعون : هو الذي قال لقومه ـ من بين ما قال ـ أنا ربكم الأعلى ... وقد أرسل الله ـ تعالى ـ إليه نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ ولكنه أعرض عن دعوته .. وكانت نهايته الغرق.

والمراد بمن قبله : الأقوام الذين سبقوه في الكفر ، كقوم نوح وإبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ.

والمراد بالمؤتفكات : قرى قوم لوط ـ عليه‌السلام ـ التي اقتلعها جبريل ـ عليه‌السلام ـ ثم قلبها بأن جعل عاليها سافلها ، مأخوذ من ائتفك الشيء إذا انقلب رأسا على عقب.

قال ـ تعالى ـ (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) (١).

والمراد بالمؤتفكات هنا : سكانها وهم قوم لوط الذين أتوا بفاحشة ما سبقهم إليها أحد من العالمين.

وخصوا بالذكر ، لشهرة جريمتهم وبشاعتها وشناعتها .. ولمرور أهل مكة على قراهم وهم في طريقهم إلى الشام للتجارة ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٢).

أى : وبعد أن أهلكنا أقوام عاد وثمود .. جاء فرعون ، وجاء أقوام آخرون قبله ، وجاء قوم لوط ، وكانوا جميعا كافرين برسلنا ، ومعرضين عن دعوة الحق ومرتكبين للفعلات الخاطئة ، والفواحش المنكرة.

ومن مظاهر ذلك أنهم (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) أى : كل أمة من أمم الكفر تلك ، عصت

__________________

(١) سورة هود الآية ٨٢.

(٢) سورة الصافات الآيتان ١٣٧ ـ ١٣٨.

٧٢

رسولها حين أمرها بالمعروف ، ونهاها عن المنكر.

فكانت نتيجة إصرارهم على ارتكاب المعاصي والفواحش .. أن أخذهم الله ـ تعالى ـ (أَخْذَةً رابِيَةً) أى : أخذة زائدة في الشدة ـ لزيادة قبائحهم ـ على الأخذات التي أخذ بها غيرهم.

فقوله : (رابِيَةً) مأخوذ من ربا الشيء إذا زاد وتضاعف.

وقال ـ سبحانه ـ (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) ولم يقل رسولهم ، للإشعار بأنهم لم يكتفوا بمعصية الرسول الذي هو بشر مثلهم ، وإنما تجاوزوا ذلك إلى الاستخفاف بما جاءهم به من عند ربهم وخالقهم وموجدهم.

والتعبير بالأخذ ، للإشعار بسرعة الإهلاك وشدته ، فإذا وصف هذا الأخذ بالزيادة عن المألوف ، كان المقصود به الزيادة في الاعتبار والاتعاظ لأن هؤلاء جميعا قد أهلكهم ـ سبحانه ـ هلاك الاستئصال ، الذي لم يبق منهم باقية.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما جرى لقوم نوح ـ عليه‌السلام ـ وبين جانبا من مننه ونعمه على المخاطبين ، فقال : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ).

وقوله : (طَغَى) من الطغيان وهو مجاوزة الحد في كل شيء ، والجارية صفة لموصوف محذوف.

أى : اذكروا ـ أيها الناس ـ لتعتبروا وتتعظوا ، ما جرى للكافرين من قوم نوح ـ عليه‌السلام ـ فإنهم حين أصروا على كفرهم ، أغرقناهم بالطوفان ، وحين علا الماء واشتد في ارتفاعه اشتدادا خارقا للعادة .. حملنا آباءكم الذين آمنوا بنوح ـ عليه‌السلام ـ في السفينة الجارية ، التي صنعها نوح بأمرنا. وحفظناهم ـ بفضلنا ورحمتنا ـ في تلك السفينة إلى أن انتهى الطوفان.

وقد فعلنا ذلك (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) أى : لنجعل لكم هذه النعمة وهي إنجاؤكم وإنجاء آبائكم من الغرق ـ عبرة وعظة وتذكيرا بنعم الله ـ تعالى ـ عليكم.

وهذه النعمة والمنة (تَعِيَها) وتحفظها (أُذُنٌ واعِيَةٌ). أى : أذن من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه ، وتعى ما يجب وعيه.

فقوله : (واعِيَةٌ) من الوعى بمعنى الحفظ للشيء في القلب. يقال : وعى فلان الشيء يعيه إذا حفظه أكمل حفظ.

٧٣

وقال ـ سبحانه ـ (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) مع أن الحمل كان للآباء الذين آمنوا بنوح ـ عليه‌السلام ـ لأن في نجاة الآباء ، نجاة للأبناء ، ولأنه لو هلك الآباء لما وجد الأبناء.

قال صاحب الكشاف قوله : (حَمَلْناكُمْ) أى : حملنا آباءكم ، في الجارية ، أى : في السفينة الجارية ، لأنهم إذا كانوا من نسل المحمولين الناجين ، كان حمل آبائهم منة عليهم ، وكأنهم هم المحمولون ، لأن نجاتهم سبب ولادتهم.

(لِنَجْعَلَها) الضمير للفعلة : وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة (تَذْكِرَةً) عبرة وعظة. (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) من شأنها أن تعى وتحفظ ما يجب حفظه ووعيه ، ولا تضيعه بترك العمل.

فإن قلت : لم قيل : أذن واعية على التوحيد والتنكير؟ قلت : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله ، فهي السواد الأعظم عند الله ، وأن ما سواها لا يبالى بهم ، وإن ملأوا الخافقين .. (١).

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت الناس بأهوال يوم القيامة بأبلغ أسلوب ، وبينت ما حل بالمكذبين بطريقة تبعث الخوف والوجل في القلوب.

ثم أخذت السورة في تفصيل أهوال يوم القيامة ، وفي بيان ما تكون عليه الأرض والسماء في هذا اليوم ، وفي بيان ما أعده ـ سبحانه ـ لمن أوتى كتابه بيمينه في هذا اليوم ، فقال ـ تعالى ـ :

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧)

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٠٠.

٧٤

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ)(٢٤)

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ ..) للتفريع ، أى : لتفريع ما بعدها على ما قبلها ، وهو الحديث عن أهوال يوم القيامة.

والصور : هو البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله ـ تعالى ـ.

قال الآلوسى : قوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) شروع في بيان نفس الحاقة ، وكيفية وقوعها ، إثر بيان عظم شأنها ، بإهلاك مكذبيها.

والمراد بالنفخة الواحدة : النفخة الأولى ، التي عندها يكون خراب العالم. وقيل هي النفخة الثانية. والأول أولى ، لأنه هو المناسب لما بعده (١).

وجواب الشرط قوله : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ). أو قوله : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ).

أى : فإذا نفخ إسرافيل في الصور بأمرنا. وقعت الواقعة التي لا مفر من وقوعها ، لكي يحاسب الناس على أعمالهم.

ووصفت النفخة بأنها واحدة ، للتأكيد على أنها نفخة واحدة وليست أكثر ، وللتنبيه على أن هذه النفخة ـ مع أنها واحدة ـ تتأثر بها السموات والأرض والجبال ، وهذا دليل على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) بيان لما ترتب على تلك النفخة الهائلة من آثار.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٥٩ ص ٤٣.

٧٥

والمراد بحمل الأرض والجبال : إزالتهما من أماكنهما ، وتفريق أجزائهما.

والدك : هو الدق الشديد الذي يترتب عليه التكسير والتفتيت للشيء.

أى : عند ما ينفخ إسرافيل في الصور بأمرنا نفخة واحدة ، وعند ما تزال الأرض والجبال عن أماكنهما ، وتتفتت أجزاؤهما تفتتا شديدا.

فيومئذ (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أى : ففي هذا الوقت تقع الواقعة التي لا مرد لوقوعها ، والواقعة من أسماء يوم القيامة. كالحاقة ، والقارعة.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما تكون عليه السماء في هذا اليوم فقال : (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ).

والانشقاق : الانفطار والتصدع. ومعنى : (واهِيَةٌ) ضعيفة متراخية.

يقال : وهي البناء يهي وهيا فهو واه ، إذا كان ضعيفا جدا ، ومتوقعا سقوطه.

أى : وفي هذا الوقت ـ أيضا ـ الذي يتم فيه النفخ في الصور بأمرنا تتصدع السماء وتتفطر ، وتصير في أشد درجات الضعف والاسترخاء ، والتفرق.

وقيد ـ سبحانه ـ هذا الضعف بهذا الوقت ، للإشارة إلى أنه ضعف طارئ ، قد حدث بسبب النفخ في الصور ، أما قبل ذلك فكانت في نهاية الإحكام والقوة.

وهذا كله للتهويل من شأن هذه النفخة ، ومن شأن المقدمات التي تتقدم قيام الساعة ، حتى يستعد الناس لها بالإيمان والعمل الصالح.

والمراد بالملك في قوله ـ تعالى ـ : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) جنس الملك ، فيشمل عدد مبهم من الملائكة .. أو جميع الملائكة إذا أردنا بأل معنى الاستغراق.

والأرجاء : الأطراف والجوانب ، جمع رجا بالقصر ، وألفه منقلبة عن واو ، مثل : قفا وقفوان.

أى : والملائكة في ذلك الوقت يكونون على أرجاء السماء وجوانبها ، ينفذون أمر الله ـ تعالى ـ (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أى : والملائكة واقفون على أطراف السماء ، ونواحيها. ويحمل عرش ربك فوق هؤلاء الملائكة في هذا اليوم ، ثمانية منهم ، أو ثمانية من صفوفهم التي لا يعلم عددها إلا الله ـ تعالى ـ.

وعرش الله ـ تعالى ـ مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم ، فنحن نؤمن بأن لله ـ عزوجل ـ عرشا ، إلا أننا نفوض معرفة هيئته وكنهه .. إلى الله ـ تعالى ـ.

٧٦

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أى : والجنس المتعارف بالملك ، وهم الملائكة .. على جوانب السماء التي لم تتشقق.

(وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) أى : فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء المدلول عليهم بالملك ، وقيل : فوق العالم كلهم.

(يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أى : من الملائكة ، أو ثمانية صفوف لا يعلم عدتهم إلا الله ـ تعالى ـ (١).

هذا ، وقد وردت في صفة هؤلاء الملائكة الثمانية ، أحاديث ضعيفة لذا ضربنا صفحا عن ذكرها.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يجرى على الناس في هذا اليوم فقال : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ).

والعرض أصله : إظهار الشيء لمن يريد التأمل فيه ، أو الحصول عليه ، ومنه عرض البائع سلعته على المشترى.

وهو هنا كناية عن لازمه وهو المحاسبة.

أى : في هذا اليوم تعرضون للحساب والجزاء ، لا تخفى منكم خافية ، أى تعرضون للحساب ، دون أن يخفى منكم أحد على الله ـ تعالى ـ أو دون أن تخفى منكم نفس واحدة على خالقها ـ عزوجل ـ.

قال الجمل : وقوله : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) أى : تسألون وتحاسبون ، وعبر عنه بذلك تشبيها له بعرض السلطان العسكر والجند ، لينظر في أمرهم فيختار منهم المصلح للتقريب والإكرام ، والمفسد للإبعاد والتعذيب (٢).

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ..) لتفصيل ما يترتب على العرض والحساب من جزاء.

والمراد بكتابه : ما سجلته الملائكة عليه من أعمال في الدنيا ، والمراد بيمينه : يده اليمنى ، لأن من يعطى كتابه بيده اليمنى ، يكون هذا الإعطاء دليلا على فوزه ونجاته من العذاب.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ٤٥.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣٩٧.

٧٧

والعرب يذكرون التناول باليمين ، على أنه كناية عن الاهتمام بالشيء المأخوذ ، وعن الاعتزاز به ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

وجملة (فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) جواب «أما» ـ ولفظ «هاؤم» هنا :

اسم فعل أمر. بمعنى : خذوا ، والهاء في قوله «كتابيه وحسابيه» وما ماثلهما للسكت ، والأصل كتابي وحسابي فأدخلت عليهما هاء السكت لكي تظهر فتحة الياء.

والمعنى في هذا اليوم يعرض كل إنسان للحساب والجزاء ، ويؤتى كل فرد كتاب أعماله ، فأما من أعطى كتاب أعماله بيمينه ، على سبيل التبشير والتكريم ، (فَيَقُولُ) على سبيل البهجة والسرور لكل من يهمه أن يقول له : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) أى : هذا هو كتابي فخذوه واقرءوه فإنكم ستجدونه مشتملا على الإكرام لي ، وتبشيرى بالفوز الذي هو نهاية آمالى ، ومحط رجائي.

(إِنِّي ظَنَنْتُ) أى : تيقنت وعلمت (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أى : إنى علمت أن يوم القيامة حق ، وتيقنت أن الحساب والجزاء صدق ، فأعددت للأمر عدته عن طريق الإيمان الكامل ، والعمل الصالح.

قال الضحاك : كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شك.

وهذه الجملة الكريمة بمنزلة التعليل للبهجة والمسرة التي دل عليها قوله ـ تعالى ـ (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ).

(فَهُوَ) أى : هذا المؤمن الفائز برضا الله ـ تعالى ـ (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أى : في حياة ذات رضا ، أى : ثابت ودائم لها الرضا. فهي صيغة نسب ، كلابن وتامر لصاحب اللبن والتمر.

أو فهو في عيشة مرضية يرضى بها صاحبها ولا يبغضها ، فهي فاعل بمعنى مفعول ، على حد قولهم : ماء دافق بمعنى مدفوق.

وفي هذا التعبير ما فيه من الدلالة على أن هذه الحياة التي يحياها المؤمن في الجنة ، في أسمى درجات الحبور والسرور ، حتى لكأنه لو كان للمعيشة عقل ، لرضيت لنفسها بحالتها ، ولفرحت بها فرحا عظيما.

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أى : هذا الذي أوتى كتابه بيمينه ، يكون ـ أيضا ـ في جنة مرتفعة على غيرها ، وهذا لون من مزاياها.

٧٨

(قُطُوفُها دانِيَةٌ) أى : ثمارها قريبة التناول لهذا المؤمن ، يقطفها كلما أرادها بدون تعب. فالقطوف جمع قطف بمعنى مقطوف ، وهو ما يجتنيه الجاني من الثمار ، و (دانِيَةٌ) اسم فاعل ، من الدنو بمعنى القرب. وجملة (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) مقول لقول محذوف.

أى : يقال لهؤلاء المؤمنين الصادقين ، الذين أعطوا كتابهم بأيمانهم كلوا أكلا طيبا ، واشربوا هنيئا مريئا بسبب ما قدمتموه في دنياكم من إيمان بالله ـ تعالى ـ ومن عمل صالح خالص لوجهه ـ تعالى ـ.

قال الإمام ابن كثير : أى : يقال لهم ذلك ، تفضلا عليهم ، وامتنانا وإنعاما وإحسانا ، وإلا فقد ثبت في الصحيح ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اعملوا وسددوا وقاربوا ، واعلموا أن أحدا منكم لن يدخله عمله الجنة. قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (١).

وكعادة القرآن الكريم ، في بيان سوء عاقبة الأشرار ، بعد بيان حسن عاقبة الأخيار ، أو العكس ، جاء الحديث عمن أوتى كتابه بشماله ، بعد الحديث عمن أوتى كتابه بيمينه ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ)(٣٧)

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٢٤٢.

٧٩

أى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) أى : من الجهة التي يعلم أن الإتيان منها يؤدى إلى هلاكه وعذابه.

(فَيَقُولُ) على سبيل التحسر والتفجع (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) أى : فيقول يا ليتني لم أعط هذا الكتاب ، لأن إعطائى إياه بشمالي دليل على عذابي وعقابي.

(وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) أى : ويا ليتني لم أعرف شيئا عن حسابي ، فإن هذه المعرفة التي لم أحسن الاستعداد لها ، أوصلتنى إلى العذاب المبين.

(يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) أى : ويا ليت الموتة التي متها في الدنيا ، كانت هي الموتة النهائية التي لا حياة لي بعدها.

فالضمير للموتة التي ماتها في الدنيا ، وإن كان لم يجر لها ذكر ، إلا أنها عرفت من المقام.

والمراد بالقاضية : القاطعة لأمره ، التي لا بعث بعدها ولا حساب .. لأن ما وجده بعدها أشد مما وجده بعد حلوله بها.

قال قتادة : تمنى الموت ولم يكن عنده في الدنيا شيء أكره منه. وشر من الموت ما يطلب منه الموت.

ثم أخذ هذا الذي أوتى كتابه بشماله يتحسر على تفريطه وغروره ، ويحكى القرآن ذلك فيقول : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أى : هذه الأموال التي كنت أملكها في الدنيا ، وأتفاخر بها. لم تغن عنى شيئا من عذاب الله ، ولم تنفعني ولو منفعة قليلة.

فما نافية ، والمفعول محذوف للتعميم ، ويجوز أن تكون استفهامية والمقصود بها التوبيخ.

أى : أى شيء أغنى عنى مالي؟ إنه لم يغن عنى شيئا.

(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أى : ذهب عنى ، وغاب عنى في هذا اليوم ما كنت أتمتع به في الدنيا من جاه وسلطان ، ولم يحضرني شيء منه ، كما أن حججي وأقوالى التي كنت أخاصم بها المؤمنين. قد ذهبت أدراج الرياح.

وعدى الفعل «هلك» بعن ، لتضمنه معنى غاب وذهب.

وخلال هذا التفجع والتحسر الطويل ... يأتى أمر الله ـ تعالى ـ الذي لا يرد ، فيقول ـ سبحانه ـ للزبانية المكلفين بإنزال العذاب بالكافرين : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) أى : خذوا هذا الكافر ، فاجمعوا يديه إلى عنقه.

فقوله : (خُذُوهُ) معمول لقول محذوف. وهو جواب عن سؤال نشأ مما سبق من الكلام. فكأنه قيل : وماذا يفعل به بعد هذا التحسر والتفجع. فكان الجواب : أمر

٨٠