التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0694-9
الصفحات: ٤٨٧

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٢٧)

٣

٤

تفسير

سورة الذاريات

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة (الذَّارِياتِ) من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها ستون آية. وكان نزولها بعد سورة «الأحقاف».

٢ ـ وقد افتتحت هذه السورة بقسم من الله ـ تعالى ـ ، ببعض مخلوقاته ، على أن البعث حق ، وعلى أن الجزاء حق.

قال ـ تعالى ـ : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً. فَالْحامِلاتِ وِقْراً. فَالْجارِياتِ يُسْراً. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ).

٣ ـ ثم بينت السورة الكريمة بعد ذلك ، ما أعده ـ سبحانه ـ لعباده المتقين ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ. كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

٤ ـ ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك طرفا من قصة إبراهيم ولوط وهود وصالح وموسى ونوح ـ عليهم‌السلام ـ مع أقوامهم ، ليكون في هذا البيان ما يدعو كل عاقل إلى الاتعاظ والاعتبار ، بحسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار.

٥ ـ ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ببيان ما يدل على كمال قدرته ، وعلى سعة رحمته ، ودعا الناس جميعا إلى إخلاص العبادة والطاعة له ، لأنه ـ سبحانه ـ ما خلقهم إلا لعبادته.

قال ـ تعالى ـ : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ. فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ).

٦ ـ هذا ، والمتدبر في هذه السورة الكريمة ، يراها ـ كغيرها من السور المكية ـ قد ركزت حديثها على إقامة الأدلة على أن العبادة لا تكون إلا لله الواحد القهار ، وعلى أن

٧

البعث حق ، والجزاء حق ، وعلى أن سنة الله ـ تعالى ـ قد اقتضت أن يجعل العاقبة الطيبة لأنبيائه وأتباعهم ، والعاقبة السيئة للمكذبين لرسلهم ، وعلى أن الوظيفة التي من أجلها خلق الله ـ تعالى ـ الجن والإنس ، إنما هي عبادته وطاعته.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يهدينا جميعا إلى صراطه المستقيم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. محمد سيد طنطاوى

١٨ من جمادى الأولى ١٤٠٦ ه‍

٢٩ / ١ / ١٩٨٦ م

٨

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (١٤)

والمراد بالذاريات : الرياح التي تذرو الشيء ، أى تسوقه وتحركه وتنقله من مكانه.

فهذا اللفظ اسم فاعل من ذرا المعتل ، بمعنى فرّق وبدّد. يقال : ذرت الرياح التراب تذروه ذروا ، وتذريه ذريا ـ من بابى عدا ورمي ـ إذا طيرته وفرقته.

ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ ...) (١). أى : تنقله وتحركه من مكان إلى آخر.

والمفعول محذوف ، و «ذروا» مصدر مؤكد ، وناصبه لفظ الذاريات ، أى : وحق الرياح التي تذرو التراب وغيره ذروا ، وتحركه تحريكا شديدا.

والمراد بالحاملات : السحب التي تحمل الأمطار الثقيلة ، فتسير بها من مكان إلى آخر.

__________________

(١) سورة الكهف الآية ٤٥.

٩

والوقر ـ بكسر الواو ـ كالحمل وزنا ومعنى ، وهو مفعول به.

أى : فالسحب الحاملات للأمطار الثقيلة ، وللمياه الغزيرة ، التي تنزل على الأرض اليابسة ، فتحولها ـ بقدرة الله ـ تعالى ـ إلى أرض خضراء.

وهذا الوصف للسحاب بأنه يحمل الأمطار الثقيلة ، قد جاء ما يؤيده من الآيات القرآنية ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ..) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ..) (٢).

والمراد بالجاريات : السفن التي تجرى في البحر ، فتنقل الناس وأمتعتهم من بلد إلى بلد.

وقوله : (يُسْراً) صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف ، أى : فالجاريات بقدرة الله ـ تعالى ـ في البحر جريا ذا يسر وسهولة ، إلى حيث يسيرها ربانها.

ويصح أن يكون قوله (يُسْراً) حال. أى. فالجاريات في حال كونها ميسرة مسخرا لها البحر.

ومن الآيات التي تشبه في معناها هذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (٣).

والمراد بالمقسمات في قوله ـ سبحانه ـ (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الملائكة ، فإنهم يقسمون أرزاق العباد وأمورهم وشئونهم ... على حسب ما يكلفهم الله ـ تعالى ـ به من شئون مختلفة.

و (أَمْراً) مفعول به ، للوصف الذي هو المقسمات ، وهو مفرد أريد به الجمع ، أى : المقسمات لأمور العباد بأمر الله ـ تعالى ـ وإرادته.

وهذا التفسير لتلك الألفاظ ، قد ورد عن بعض الصحابة ، فعن أبى الطفيل أنه سمع عليا ـ رضى الله عنه ـ يقول ـ وهو على منبر الكوفة ـ : لا تسألونى عن آية في كتاب الله ، ولا عن سنة رسول الله ، إلا أنبأتكم بذلك ، فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين. ما معنى قوله ـ تعالى ـ : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) قال : الريح. (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) قال : السحاب. (فَالْجارِياتِ يُسْراً) قال : السفن ، (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) قال : الملائكة.

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٥٧.

(٢) سورة الرعد الآية ١٢.

(٣) سورة الشورى الآية ٣٢.

١٠

وروى مثل هذا التفسير عن عمر بن الخطاب ، وعن ابن عباس. (١).

ومن العلماء من يرى أن هذه الألفاظ جميعها صفات للرياح.

قال الإمام الرازي. هذه صفات أربع للرياح ، فالذاريات : هي الرياح التي تنشئ السحاب أولا. والحاملات : هي الرياح التي تحمل السحب التي هي بخار الماء ... والجاريات : هي الرياح التي تجرى بالسحب بعد حملها. والمقسمات : هي الرياح التي تفرق الأمطار على الأقطار (٢).

ومع وجاهة رأى الإمام الرازي في هذه المسألة ، إلا أننا نؤثر عليه الرأى السابق ، لأنه ثابت عن بعض الصحابة ، ولأن كون هذه الألفاظ الأربعة لها معان مختلفة ، أدل على قدرة الله ـ تعالى ـ وعلى فضله على عباده.

وقد تركنا أقوالا ظاهرة الضعف والسقوط. كقول بعضهم : الذاريات هن النساء ، فإنهن يذرين الأولاد ، بمعنى أنهن يأتين بالأولاد بعضهم في إثر بعض ، كما تنقل الرياح الشيء من مكان إلى مكان.

قال الآلوسى : ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات ـ كما هو الرأى المعول عليه ـ فالفاء للترتيب في الأقسام ذكرا ورتبة ، باعتبار تفاوت مراتبها في الدلالة على كمال قدرته ـ عزوجل ـ وهذا التفاوت إما على الترقي أو التنزل ، لما في كل منها من الصفات التي تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر.

وإن حملت على واحد وهو الرياح ، فهي لترتيب الأفعال والصفات ، إذ الريح تذرو الأبخرة إلى الجو أولا ، حتى تنعقد سحابا ، فتحمله ثانيا ، وتجرى به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله ـ تعالى ـ ثم تقسم أمطاره (٣).

وقوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) جواب القسم. و «ما» موصولة والعائد محذوف ، والوصف بمعنى المصدر. أى : وحق هذه الأشياء التي ذكرتها لكم إن الذي توعدونه من الجزاء والحساب والبعث .. لصدق لا يحوم حوله كذب أوشك.

ويجوز أن تكون «ما» مصدرية. أى : إن الوعد بالبعث والجزاء والحساب لصادق.

وقوله : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) تأكيد وتقرير لما قبله. أى : وإن الجزاء على الأعمال لواقع

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٩١.

(٢) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٦٢٨.

(٣) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ٣.

١١

وقوعا لا ريب فيه. فالمراد بالدين هنا : الجزاء ، كما في قوله ـ سبحانه ـ (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ...).

ومنه قولهم : «كما تدين تدان» أى : كما تعمل تجازى ، ومعنى وقوعه : حصوله.

ثم أقسم ـ سبحانه ـ قسما آخر بالسماء ذات الحبك فقال : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ. إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ).

والحبك : جمع حبيكة ، كطريقة ، ـ وزنا ومعنى ـ ، أو جمع حباك ـ كمثل ومثال ـ ، والحبيكة والحباك. الطريقة في الرمل وما يشبهه. أى : وحق السماء ذات الطرق المتعددة ، والتي لا ترونها بأعينكم لبعدها عنكم.

ويرى بعضهم أن معنى ذات الحبك : ذات الخلق الحسن المحكم ... أو ذات الزينة والجمال.

قال القرطبي : وفي الحبك أقوال : الأول : قال : ابن عباس : ذات الخلق الحسن المستوي يقال ، حبك فلان الثوب يحبكه ـ بكسر الباء ـ إذا أجاد نسجه.

الثاني : ذات الزينة. الثالث : ذات النجوم ، الرابع : ذات الطرائق. ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها. الخامس : ذات الشدة ... (١).

وقوله : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) جواب القسم. وقوله : (يُؤْفَكُ عَنْهُ ...) من الأفك ـ بفتح الهمزة وسكون الفاء ـ بمعنى الصرف للشيء عن وجهه الذي يجب أن يكون عليه.

والضمير في «عنه» يعود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى القرآن الكريم.

فيكون المعنى : وحق السماء ذات الطرق المتعددة ، وذات الهيئة البديعة المحكمة الجميلة ..

إنكم ـ أيها المشركون ـ «لفي قول مختلف» أى : متناقض متخالف ، فمنكم من يقول عن القرآن الكريم إنه : أساطير الأولين ، ومنكم من يقول عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه ساحر أو مجنون.

والحق أنه يصرف عن الإيمان بهذا القرآن الكريم الذي جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صرفه الله ـ تعالى ـ عنه ، بسبب إيثاره الغي على الرشد ، والضلالة على الهداية ، والكفر على الإيمان.

والتعبير بقوله : (مَنْ أُفِكَ) للإشعار بأن هذا الشقي الذي آثر الكفر على الإيمان ، قد

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٣١.

١٢

صرف عن الرشاد وعن الخير صرفا ، ليس هناك ما هو أشد منه في سوء العاقبة.

فهذا التعبير شبيه في التهويل بقوله ـ تعالى ـ : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ).

قال الجمل : (يُؤْفَكُ) يصرف (عَنْهُ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن الكريم. أى : عن الإيمان به (مَنْ أُفِكَ) أى : من صرف عن الهداية في علم الله ـ تعالى ـ.

وقيل : الضمير للقول المذكور. أى : يرتد ، أى : يصرف عن هذا القول من صرف عنه في علم الله ـ تعالى ـ وهم المؤمنون (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة المكذبين فقال : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ. يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ. يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ).

والخراصون : جمع خرّاص ، وأصل الخرص : الظن والتخمين ، ومنه الخارص الذي يخرص النخلة ليقدر ما عليها من ثمر ، والمراد به هنا : الكذب ، لأنه ينشأ غالبا عن هذا الخرص ، والمراد بالآية الدعاء عليهم باللعن والطرد من رحمة الله ـ تعالى ـ.

أى : لعن وطرد من رحمة الله ـ تعالى ـ هؤلاء الكذابون ، الذين قالوا في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو منزه عنه ... والذين هم (فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) أى : في جهالة تغمرهم كما يغمر الماء الأرض. فهم ساهون وغافلون عن كل خير.

فالغمرة : ما يغمر الشيء ويستره ويغطيه ، ومنه قولهم : نهر غمر ، أى : يغمر من دخله.

والمراد : أنهم في جهالة غامرة لقلوبهم. وفي غفلة تامة عما ينفعهم.

وهذا التعبير فيه ما فيه من تصوير ما هم عليه من جهالة وغفلة ، حيث يصورهم ـ سبحانه ـ وكأن ذلك قد أحاط بهم وغمرهم حتى لكأنهم لا يحسون بشيء مما حولهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كانوا عليه من سوء أدب فقال : (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ).

و «أيان» بمعنى متى. أى : يسألون سؤال استهزاء واستخفاف فيقولون : متى يكون هذا البعث الذي تحدثنا عنه يا محمد ، ومتى يوم الجزاء والحساب الذي تهددنا به؟

وهنا يأتيهم الجواب الذي يردعهم ويبين لهم سوء مصيرهم. فيقول ـ سبحانه ـ : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أى يقع هذا اليوم الذي تسألون عنه وهو يوم البعث والحساب والجزاء ... يوم تحرقون بالنار ـ أيها الكافرون ـ ، وتعذبون فيها عذاب أليما.

و «يفتنون» مأخوذ من الفتن بمعنى الاختبار والامتحان ، يقال : فتنت الذهب بالنار ، إذا

__________________

(١) تفسير الجلالين وحاشيته ج ٤ ص ٢٠٢.

١٣

أذبته لتظهر جودته من غيرها. والمراد به هنا : الإحراق بالنار.

وعدى «يفتنون» بعلى ، لتضمنه معنى يعرضون ، أو على بمعنى في.

وقوله : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ..) مقول لقول محذوف.

أى : هذا اليوم الذي يسألون عنه واقع يوم الجزاء .. يوم يقال لهم وهم يعرضون على النار : ذوقوا العذاب المعد لكم ، أو ذوقوا سوء عاقبة كفركم.

(هذَا) العذاب المهين ، هو (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) في الدنيا ، وتقولون ـ على سبيل الاستهزاء والإنكار ـ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أكدت بأقوى الأساليب وأحكمها ، أن يوم البعث والجزاء والحساب حق ، وان المكذبين بذلك سيذوقون أشد العذاب.

وكعادة القرآن الكريم في قرن الترغيب بالترهيب أو العكس ، جاء الحديث عن حسن عاقبة المتقين بعد الحديث عن سوء مصير المكذبين فقال ـ سبحانه ـ :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣)

والمعنى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) وهم الذين صانوا أنفسهم عن كل مالا يرضى الله ـ تعالى ـ.

(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أى : مستقرين في جنات وبساتين فيها عيون عظيمة ، لا يبلغ وصفها الواصفون.

١٤

(آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أى : هم منعمون في الجنات وما اشتملت عليه من عيون جارية ، حالة كونهم آخذين وقابلين لما أعطاهم ربهم من فضله وإحسانه.

وقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) بمثابة التعليل لما قبله. أى : هم في هذا الخير العميم من ربهم لأنهم ، كانوا قبل ذلك ـ أى : في الدنيا ـ محسنين لأعمالهم ، ومؤدين لكل ما أمرهم به ـ سبحانه ـ بإتقان وإخلاص.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر إحسانهم فقال : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أى كانوا ينامون من الليل وقتا قليلا ، أما أكثره فكانوا يقضونه في العبادة والطاعة.

والهجوع : النوم ليلا ، وقيده بعضهم بالنوم القليل ، إذ الهجعة هي النومة الخفيفة ، تقول : أتيت فلانا بعد هجعة ، أى بعد نومة قليلة.

عن الحسن قال : كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله ، كابدوا قيام الليل.

ثم مدحهم ـ سبحانه ـ بصفة أخرى فقال : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) والأسحار جمع سحر ، وهو الجزء الأخير من الليل.

أى ، وكانوا في أوقات الأسحار يرفعون أكف الضراعة إلى الله ـ تعالى ـ يستغفرونه مما فرط منهم من ذنوب ، ويلتمسون منه ـ تعالى ـ قبول توبتهم وغسل حوبتهم.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : وفي الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك ، وأخلص منه ، ويستغفرون من التقصير ، وهذه سيرة الكريم : يأتى بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ، ويعتذر من التقصير ، واللئيم يأتى بالقليل ويستكثره.

وفيه وجه آخر ألطف منه : وهو أنه ـ تعالى ـ لما بين أنهم يهجعون قليلا ، والهجوع مقتضى الطبع. قال (يَسْتَغْفِرُونَ) أى : من ذلك القدر من النوم القليل.

ومدحهم بالهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر ... للإشارة إلى أن نومهم عبادة ، حيث مدحهم بكونهم هاجعين قليلا ، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى ، وهو الاستغفار ... في وجوه الأسحار ، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم ومن الاستكبار .. (١).

ثم مدحهم ـ سبحانه ـ للمرة الثالثة فقال : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

والسائل : هو من يسأل غيره العون والمساعدة. والمحروم : هو المتعفف عن السؤال مع أنه لا مال له لحرمان أصابه ، بسبب مصيبة نزلت به ، أو فقر كان فيه .. أو ما يشبه ذلك.

__________________

(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٦٣٥.

١٥

قال ابن جرير بعد أن ذكر جملة من الأقوال في المراد من المحروم هنا : والصواب من القول في ذلك عندي : أنه الذي قد حرم الرزق واحتاج ، وقد يكون ذلك بذهاب ماله وثمره فصار ممن حرمه الله. وقد يكون بسبب تعففه وتركه المسألة. وقد يكون بأنه لا سهم له في الغنيمة لغيبته عن الواقعة (١).

أى : أنهم بجانب قيامهم الليل طاعة لله ـ تعالى ـ واستغفارا لذنوبهم .. يوجبون على أنفسهم في أموالهم حقا للسائل والمحروم ، تقربا إلى الله ـ سبحانه ـ بمقتضى ما جبلوا عليه من كرم وسخاء.

فالمراد بالحق هنا : ما يقدمونه من أموال للمحتاجين على سبيل التطوع وليس المراد به الزكاة المفروضة ، لأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت في السنة الثانية من الهجرة.

قال الآلوسى : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) هو غير الزكاة كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما.

وقال منذر بن سعيد : هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وتعقب بأن السورة مكية. وفرض الزكاة بالمدينة. وقيل : أصل فريضة الزكاة كان بمكة والذي كان بالمدينة القدر المعروف اليوم ... والجمهور على الأول (٢).

والمتأمل في هذه الآيات الكريمة يرى أن هؤلاء المتقين ، قد مدحهم الله ـ تعالى ـ هذا المدح العظيم ، لأنهم عرفوا حق الله عليهم فأدوه بإحسان وإخلاص ، وعرفوا حق الناس عليهم فقدموه بكرم وسخاء.

ثم لفت ـ سبحانه ـ الأنظار إلى ما في الأرض من دلائل على قدرته ووحدانيته فقال : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ). أى : وفي الأرض آيات عظيمة وعبر وعظات بليغة ، تدل على وحدانية الله وقدرته ، كصنوف النبات ، والحيوانات ، والمهاد ، والجبال ، والقفار ، والأنهار ، والبحار. وهذه الآيات والعبر لا ينتفع بها إلا الموقنون بأن المستحق للعبادة إنما هو الله ـ عزوجل ـ.

ثم لفتة أخرى إلى النفس البشرية ، قال ـ تعالى ـ : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ).

أى : وفي أنفسكم وذواتكم وخلقكم ... أفلا تبصرون إبصار تذكر واعتبار ، فإن في خلقكم من سلالة من طين ، ثم جعلكم نطفة فعلقة فمضغة فخلقا آخر ، ثم في رعايتكم في بطون أمهاتكم. ثم في تدرجكم من حال إلى حال ، ثم في اختلاف ألسنتكم وألوانكم ، ثم في

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٢٦ ص ١٢٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ٩.

١٦

التركيب العجيب الدقيق لأجسادكم وأعضائكم. ثم في تفاوت عقولكم وأفهامكم واتجاهاتكم.

في كل ذلك وغيره ، عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين.

ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد قال عند تفسيره لهاتين الآيتين (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره ، حيث هي مدحوّة كالبساط ... وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها ، والماشين في مناكبها.

وهي مجزأة : فمن سهل وجبل ، وبر وبحر ، وقطع متجاورات : من صلبة ورخوة ، وطيبة وسبخة ، وهي كالطروقة تلقح بألوان النبات ... وتسقى بماء واحد ، ونفضل بعضها على بعض في الأكل ، وكلها موافقة لحوائج ساكنيها.

في كل ذلك آيات (لِلْمُوقِنِينَ) أى : للموحدين الذين سلكوا الطريق السوى .. فازدادوا إيمانا على إيمانهم.

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ) في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال ، وفي بواطنها وظواهرها ، من عجائب الفطر. وبدائع الخلق ، ما تتحير فيه الأذهان ، وحسبك بالقلوب ، وما ركز فيها من العقول ، وخصت به من أصناف المعاني ، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف ، وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها : من الآيات الدالة على حكمة المدبر .. فتبارك الله أحسن الخالقين (١).

ثم لفتة ثالثة للأنظار إلى الأسباب الظاهرة للرزق ، تراها في قوله ـ تعالى ـ : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ).

أى : أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة عنده ـ سبحانه ـ وهي تنزل إليكم من جهة السماء ، عن طريق الأمطار التي تنزل على الأرض الجدباء. فتنبت بإذن الله من كل زوج بهيج.

كما قال ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) (٢).

وقال ـ سبحانه ـ : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٣).

قال القرطبي : قوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) الرزق هنا : ما ينزل من السماء من مطر

__________________

(١) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٩٩.

(٢) سورة غافر آية ١٣.

(٣) سورة السجدة الآية ٥.

١٧

ينبت به الزرع ، ويحيى به الإنسان ... أى : وفي السماء سبب رزقكم ، سمى المطر سماء لأنه من السماء ينزل.

وقال سفيان الثوري : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أى : عند الله في السماء رزقكم (١).

وقوله : (وَما تُوعَدُونَ) أى : وفي السماء محددة ومقدرة أرزاقكم. وما توعدون به من ثواب أو عقاب ، ومن خير أو شر ، ومن بعث وجزاء.

و (ما) في محل رفع عطف على قوله (رِزْقُكُمْ) أى : وفي السماء رزقكم والذي توعدونه من ثواب على الطاعة ، ومن عقاب على المعصية.

فالآية الكريمة وإن كانت تلفت الأنظار إلى أسباب الرزق وإلى مباشرة هذه الأسباب ، إلا أنها تذكر المؤمن بأن يكون اعتماده على خالق الأسباب ، وأن يراقبه ويطيعه في السر والعلن لأنه ـ سبحانه ـ هو صاحب الخلق والأمر.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات بهذا القسم فقال : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ).

والضمير في قوله (إِنَّهُ) يعود إلى ما سبق الإخبار عنه من أمر البعث والحساب والجزاء والرزق .. وغير ذلك مما يدل على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به عن ربه.

ولفظ «مثل» منصوب بنزع الخافض ، و «ما» مزيدة للتأكيد أى : فوحق رب السماء والأرض ، إن جميع ما ذكرناه لكم في هذه السورة ، أو في هذا القرآن ، حق ثابت لا مرية فيه ، كمثل نطقكم الذي تنطقونه بألسنتكم دون أن تشكوا في كونه قد صدر عنكم لا عن غيركم.

فالمقصود بالآية الكريمة ، تأكيد صدق ما أخبر به الله ـ تعالى ـ عباده في هذه السورة وغيرها ، لأن نطقهم بألسنتهم حقيقة لا يجادل فيها مجادل ، وكذلك ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربه ، وما تلاه عليهم في هذه السورة وغيرها ، حق ثابت لا ريب فيه.

وهكذا نرى هذه الآيات قد بشرت المتقين بألوان من البشارات ، ثم لفتت عقول الناس إلى ما في الأرض وإلى ما في أنفسهم وإلى ما في السماء من عظات وعبر.

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن قصص بعض الأنبياء السابقين فبدأت بجانب من قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ مع الملائكة الذين جاءوا لبشارته بابنه إسحاق ، فقال ـ تعالى :

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٤١.

١٨

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧)

(١) وهذه القصة التي تحكى لنا هنا ما دار بين إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وبين الملائكة الذين جاءوا لبشارته بابنه إسحاق ، ولإخباره بإهلاك قوم لوط ، قد وردت قبل ذلك في سورتي هود والحجر.

وقد افتتحت هنا بأسلوب الاستفهام (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) للإشعار بأهمية هذه القصة ، وتفخيم شأنها ، وبأنها لا علم بها إلا عن طريق الوحى ... وقيل إن هل هنا بمعنى قد.

والمعنى : هل أتاك ـ أيها الرسول الكريم ـ حديث ضيف إبراهيم المكرمين؟ إننا فيما أنزلناه عليك من قرآن كريم ، نقص عليك قصتهم بالحق الذي لا يحوم حوله باطل ، على سبيل التثبيت لك ، والتسلية لقلبك.

__________________

(١) أول الجزء السابع والعشرين.

١٩

والضيف في الأصل مصدر بمعنى الميل ، يقال ضاف فلان فلانا إذا مال كل واحد منهما نحو الآخر ، ويطلق على الواحد والجماعة. والمراد هنا : جماعة الملائكة الذين قدموا على إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وعلى رأسهم جبريل ، ووصفهم بأنهم كانوا مكرمين ، لإكرام الله ـ تعالى ـ لهم بطاعته وامتثال أمره. ولإكرام إبراهيم لهم ، حيث قدم لهم أشهى الأطعمة وأجودها.

قال الآلوسى : قيل : كانوا اثنى عشر ملكا وقيل : كانوا ثلاثة : جبريل وإسرافيل وميكائيل. وسموا ضيفا لأنهم كانوا في صورة الضيف ، ولأن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ حسبهم كذلك ، فالتسمية على مقتضى الظاهر والحسبان.

وبدأ بقصة إبراهيم وإن كانت متأخرة عن قصة عاد ، لأنها أقوى في غرض التسلية (١).

والظرف في قوله : (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ..) متعلق بلفظ (حَدِيثُ) السابق.

أى : هل بلغك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه .. أو بمحذوف تقديره : اذكر ، أى : اذكر وقت أن دخلوا عليه (فَقالُوا سَلاماً) ، أى : فقالوا نسلم عليك سلاما.

(قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أى : قال إبراهيم في جوابه عليهم : عليكم سلام ، أنتم قوم منكرون أى : غير معروفين لي قبل ذلك.

قال صاحب الكشاف : أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام ، أو أراد أنهم ليسوا من معارفه ، أو من جنس الناس الذين عهدهم .. أو رأى لهم حالا وشكلا خلاف حال الناس وشكلهم ، أو كان هذا سؤالا لهم ، كأنه قال : أنتم قوم منكرون فعرفوني من أنتم .. (٢).

وقيل : إن إبراهيم قد قال ذلك في نفسه ، والتقدير : هؤلاء قوم منكرون ، لأنه لم يرهم قبل ذلك.

وقال إبراهيم في جوابه عليهم (سَلامٌ) بالرفع ، لإفادة الدوام والثبات عن طريق الجملة الاسمية ، التي تدل على ذلك ، وللإشارة إلى أدبه معهم ، حيث رد على تحيتهم بأفضل منها.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما فعله إبراهيم بعد ذلك فقال : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أى : فذهب إلى أهله في خفية من ضيوفه. فجاء إليهم بعجل ممتلئ لحما وشحما. يقال : راغ فلان إلى كذا ، إذا مال إليه في استخفاء وسرعة.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ١١.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤٠١.

٢٠