التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ٨

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0668-X
الصفحات: ٥٩٧

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٢٧)

٣
٤

تفسير

سورة الحجر

٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تعريف بسورة الحجر

١ ـ سورة الحجر ، هي السورة الرابعة عشرة في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فقد ذكر الزركشي والسيوطي أنها نزلت بعد سورة يوسف (١) ..

وعدد آياتها تسع وتسعون آية.

٢ ـ وسميت بسورة الحجر ، لورود هذا اللفظ فيها دون أن يرد في غيرها وأصحاب الحجر هم قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ ، إذ كانوا ينزلون الحجر ـ بكسر الحاء وسكون الجيم ـ وهو المكان المحجور ، أى الممنوع أن يسكنه أحد غيرهم لاختصاصهم به.

ويجوز أن يكون لفظ الحجر ، مأخوذ من الحجارة ، لأن قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ كانوا ينحتون بيوتهم من أحجار الجبال وصخورها ، ويبنون بناء محكما جميلا.

قال ـ تعالى ـ حكاية عما قاله نبيهم صالح لهم ـ (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) (٢) ومساكنهم ما زالت آثارها باقية ، وتعرف الآن بمدائن صالح ، وهي في طريق القادم من المدينة المنورة إلى بلاد الشام أو العكس ، وتقع ما بين خيبر وتبوك ...

وقد مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ديارهم وهو ذاهب إلى غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة ...

٣ ـ وسورة الحجر كلها مكية.

قال الشوكانى : وهي مكية بالاتفاق. وأخرج النحاس في ناسخه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحجر بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله» (٣).

وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه السورة أنها مكية ، دون أن يذكر في ذلك خلافا.

__________________

(١) راجع البرهان للإمام الزركشي ج ١ ص ١٩٣ والإتقان للإمام السيوطي ج ١ ص ٢٧.

(٢) سورة الشعراء الآية ١٤٩

(٣) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٣ ص ١٢٠

٦

وقال الآلوسى : أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير ـ رضى الله عنهم ـ أنها نزلت بمكة. وروى ذلك عن قتادة ومجاهد.

وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) وقوله ـ تعالى ـ (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (١).

والحق أن السورة كلها مكية ، وسنبين ـ عند تفسيرنا للآيات التي قيل بأنها مدنية ـ أن هذا القول ليس له دليل يعتمد عليه.

٤ ـ (ا) وعند ما نقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل. نراها في مطلعها تشير إلى سمو مكانة القرآن الكريم ، وإلى سوء عاقبة الكافرين الذين عموا وصموا عن دعوة الحق ..

قال ـ تعالى ـ (الر ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ. رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ).

(ب) ثم تخبرنا بعد ذلك بأن الله ـ تعالى ـ قد تكفل بحفظ كتابه ، وصيانته من أى تحريف أو تبديل ، وبأن المكذبين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما يكذبونه عن عناد وجحود ، لا عن نقص في الأدلة الدالة على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ـ تعالى ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).

(ج) ثم تسوق السورة الكريمة بعد ذلك ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وقدرته ، وعلى سابغ نعمه على عباده ...

قال ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ).

(د) ثم حكت السورة قصة خلق آدم ـ عليه‌السلام ـ ، وتكليف الملائكة بالسجود له ، وامتثالهم جميعا لأمر الله ـ سبحانه ـ ، وامتناع إبليس وحده عن الطاعة ، وصدور حكمه ـ سبحانه ـ بطرده من الجنة ...

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢.

٧

قال ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ. وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) ..

(ه) ثم قصت علينا السورة الكريمة بأسلوب فيه الترغيب والترهيب ، وفيه العظة والعبرة ، جانبا من قصة إبراهيم ، ثم من قصة لوط ، ثم من قصة شعيب ، ثم من قصة صالح ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ...

قال تعالى ـ : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ. قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ. قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ. قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ. قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ. قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ).

(و) ثم ختمت سورة الحجر بتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه ، وأمرته بالصفح والعفو حتى يأتى الله بأمره ، وبشرته بأنه ـ سبحانه ـ سيكفيه شر أعدائه ، وبأنه سينصره عليهم ...

قال ـ تعالى ـ : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ، وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ).

ومن هذا العرض الإجمالى للسورة الكريمة ، نراها قد اهتمت اهتماما واضحا بتثبيت المؤمنين وتهديد الكافرين ، تارة عن طريق الترغيب والترهيب ، وتارة عن طريق قصص السابقين ، وتارة عن طريق التأمل في هذا الكون وما اشتمل عليه من مخلوقات تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته وسابغ رحمته ....

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المؤلف

د. محمد سيد طنطاوى

٨

التفسير

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥)

٩

سورة الحجر من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي (الر).

وقد بينا ـ بشيء من التفصيل ـ عند تفسيرنا لسورة : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ...

آراء العلماء في هذه الحروف التي افتتحت بها بعض سور القرآن الكريم.

وقلنا ما خلاصته : من العلماء من يرى أن المعنى المقصود منها غير معروف لأنها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ..

ومنهم من يرى أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه ، بل هي أسماء للسور التي افتتحت بها ... أو هي حروف مقطعة بعضها من أسماء الله ، وبعضها من صفاته ...

ثم قلنا : ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض السور ؛ للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين ، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل.

وفضلا عن ذلك فإن تصدير بعض السور بمثل هذه الحروف المقطعة ، يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيسمعوا حكما وهدايات قد تكون سببا في استجابتهم للحق ، كما استجاب صالحو الجن الذين حكى الله ـ تعالى ـ عنهم أنهم عند ما استمعوا إلى القرآن قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ...).

واسم الإشارة (تِلْكَ) يعود إلى الآيات التي تضمنتها هذه السورة ، أو إلى جميع الآيات القرآنية التي نزلت قبل ذلك.

والمراد بالكتاب : القرآن الكريم ، ولا يقدح في هذا ، ذكر لفظ القرآن بعده ، لأنه ـ سبحانه ـ جمع له بين الاسمين تفخيما لشأنه ، وتعظيما لقدره.

و (مُبِينٍ) اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان ، مبالغة في الوضوح والظهور.

١٠

قال صاحب الصحاح : يقال : «بان الشيء يبين بيانا ، أى اتضح ، فهو بين وكذا أبان الشيء فهو مبين ...».

والمعنى : تلك ـ أيها الناس ـ آيات بينات من الكتاب الكامل في جنسه ، ومن القرآن العظيم الشأن ، الواضح في حكمه وأحكامه ، المبين في هدايته وإعجازه فأقبلوا عليها بالحفظ لها ، وبالعمل بتوجيهاتها ، لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم.

قال الآلوسى : وفي جمع وصفي الكتابية والقرآنية من تفخيم شأن القرآن ما فيه ، حيث أشير بالأول إلى اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإلهية فكأنه كلها ، وبالثاني إلى كونه ممتازا عن غيره ، نسيجا وحده ، بديعا في بابه ، خارجا عن دائرة البيان ، قرآنا غير ذي عوج ..» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن الكافرين سيندمون بسبب كفرهم في وقت لا ينفع فيه الندم ، فقال ـ تعالى ـ : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ).

قال الشوكانى ما ملخصه : قرأ نافع وعاصم بتخفيف الباء من (رُبَما) ، وقرأ الباقون بتشديدها .. وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير.

قال الكوفيون : أى يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين.

وقيل : هي هنا للتقليل ، لأنهم ودوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب ....» (٢).

وقد حاول بعض المفسرين الجمع بين القولين فقال : من قال بأن (رُبَما) هنا للتكثير نظر إلى كثرة تمنيهم أن لو كانوا مؤمنين ، ومن قال بأنها للتقليل نظر إلى قلة زمان إفاقتهم من العذاب بالنسبة إلى زمان دهشتهم منه ، وهذا لا ينافي أن التمني يقع كثيرا منهم في زمن إفاقتهم القليل ، فلا تخالف بين القولين (٣).

والمعنى : ود الذين كفروا عند ما تنكشف لهم الحقائق. فيعرفون أنهم على الباطل ، وأن المؤمنين على الحق ، أن لو كانوا مسلمين ، حتى ينجوا من الخزي والعقاب.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٣.

(٢) تفسير فتح القدير ج ٣ ص ١٢١.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين بتصرف قليل ج ٢ ص ٥٣٧.

١١

ودخلت رب هنا على الفعل المضارع (يَوَدُّ) مع اختصاصها بالدخول على الفعل الماضي ، للإشارة إلى أن أخبار الله ـ تعالى ـ بمنزلة الواقع المحقق سواء أكانت للمستقبل أم لغيره.

قال صاحب الكشاف : «فإن قلت : لم دخلت على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ قلت : لأن المترقب في أخبار الله ـ تعالى ـ بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه ، فكأنه قيل : «ربما ود الذين كفروا ...» (١).

و (لَوْ) في قوله (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) يصح أن تكون امتناعية ، وجوابها محذوف ، والتقدير : لو كانوا مسلمين لسروا بذلك.

ويصح أن تكون مصدرية ، والتقدير : ود الذين كفروا كونهم مسلمين.

وعلى كلا المعنيين فهي مستعملة في التمني الذي هو طلب حصول الأمر الممتنع الحصول.

وقال ـ سبحانه ـ (لَوْ كانُوا ...) بفعل الكون الماضي ، للإشعار بأنهم يودون الدخول في الإسلام ، بعد مضى وقت التمكن من الدخول فيه.

وعبر ـ سبحانه ـ عن متمناهم بالغيبة (كانُوا) ، نظرا لأن الكلام مسوق بصدد الإخبار عنهم ، وليس بصدد الصدور منهم ، ولو كان كذلك لقيل : لو كنا مسلمين.

هذا ، وللمفسرين أقوال في الوقت الذي ود فيه الكافرون أن لو كانوا مسلمين ، فمنهم من يرى أن ودادتهم هذه تكون في الدنيا ، ومنهم من يرى أنها تكون عند الموت ، ومنهم من يرى أنها تكون عند الحساب ، وعند عفو الله عن عصاة المؤمنين.

والحق أن هذه الودادة تكون في كل موطن يعرف فيه الكافرون بطلان كفرهم ، وفي كل وقت ينكشف لهم فيه أن الإسلام هو الدين الحق.

فهم تمنوا أن لو كانوا مسلمين في الدنيا ، عند ما رأوا نصر الله لعباده المؤمنين ، في غزوة بدر وفي غزوة الفتح وفي غيرهما ، فعن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ : «ود كفار قريش ذلك يوم بدر حين رأوا نصر الله للمسلمين» (٢).

وهم تمنوا ذلك عند الموت كما حكى عنهم ـ سبحانه ـ ذلك في آيات كثيرة منها قوله

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٨٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٥.

١٢

ـ تعالى ـ : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ...) (١).

وهم يتمنون ذلك عند ما يعرضون على النار يوم القيامة. قال ـ تعالى ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

وهم يتمنون ذلك عند ما يرون عصاة المؤمنين ، وقد أخرجهم الله ـ تعالى برحمته من النار.

وقد ذكر الإمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث الدالة على ذلك منها : ما أخرجه الطبراني عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ناسا من أهل «لا إله إلا الله» يدخلون النار بذنوبهم ، فيقول لهم أهل اللات والعزى : ما أغنى عنكم قولكم «لا إله إلا الله» وأنتم معنا في النار؟ قال فيغضب الله لهم ، فيخرجهم ، فيلقيهم في نهر الحياة فيبرءون من حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه ، فيدخلون الجنة. ويسمون فيها الجهنميين.

فقال رجل : يا أنس ، أنت سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال أنس : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» نعم ، أنا سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول هذا (٣).

قال بعض العلماء : وأقوال العلماء في هذه الآية راجعة إلى شيء واحد ، لأن من يقول : إن الكافر إذا احتضر تمنى أن لو كان مسلما ، ومن يقول : إنه إذا عاين النار تمنى أن لو كان مسلما .. كل ذلك راجع إلى أن الكفار إذا عاينوا الحقيقية ندموا على الكفر وتمنوا أنهم لو كانوا مسلمين (٤).

وفي هذه الآية ما فيها من تثبيت المؤمنين ، ومن تبشيرهم بأنهم على الحق ، ومن حض للكافرين على الدخول في الإسلام قبل فوات الأوان ، ومن تحذير لهم من سوء عاقبة الكفر والطغيان.

ثم أمر ـ سبحانه ـ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يذرهم في طغيانهم يعمهون ، بعد أن ثبت أنهم قوم لا ينفع فيهم إنذار فقال ـ تعالى ـ : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

__________________

(١) سورة المؤمنون الآيتان ٩٩ ، ١٠٠.

(٢) سورة الأنعام الآية ٢٧.

(٣) راجع تفسير ابن كثير. المجلد الرابع ص ٤٤٣ طبعة دار الشعب

(٤) تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج ٣ ص ١١٧ للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

١٣

وذر فعل أمر بمعنى اترك ، ومضارعه يذر ، ولا يستعمل له ماض إلا في النادر ، ومن هذا النادر ما جاء في الحديث الشريف : «ذروا الحبشة ما وذرتكم».

و «يتمتعوا» من المتاع بمعنى الانتفاع بالشيء بتلذذ وعدم نظر إلى العواقب.

«ويلههم» : من الانشغال عن الشيء ونسيانه ، يقال : فلان ألهاه كذا عن أداء واجبه ، أى : شغله.

والأمل : الرغبة في الحصول على الشيء ، وأكثر ما يستعمل فيما يستبعد حصوله.

والمعنى : اترك ـ أيها الرسول الكريم ـ هؤلاء الكافرين ، وخلهم وشأنهم ، ليأكلوا كما تأكل الأنعام ، وليتمتعوا بدنياهم كما يشاءون ، وليشغلهم أملهم الكاذب عن اتباعك ، فسوف يعلمون سوء عاقبة صنيعهم في العاجل أو الآجل.

قال صاحب الكشاف : وقوله (ذَرْهُمْ) يعنى اقطع طمعك من ارعوائهم ، ودعهم من النهى عما هم عليه ، والصد عنه بالتذكرة والنصيحة ، واتركهم (يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) بدنياهم ، وتنفيذ شهواتهم ويشغلهم أملهم وتوقعهم لطول الأعمار واستقامة الأحوال. وألا يلقوا في العاقبة إلا خيرا فسوف يعلمون سوء صنيعهم (١).

وإنما أمره ـ سبحانه ـ بذلك ، لعدم الرجاء في صلاحهم ، بعد أن مكث فيهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمنا طويلا ، يدعوهم إلى الحق ، بأساليب حكيمة.

وفي تقديم الأكل على غيره ، إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل والمشارب. قال ـ تعالى ـ : (... وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (٢) كما أن فيه تعييرا لهم بما تعارفوا عليه من أن الاقتصار في الحياة على إشباع اللذات الجسدية ، دون التفات إلى غيرها من مكارم الأخلاق ، يدل على سقوط الهمة ، وبلادة الطبع. قال الحطيئة يهجو الزبرقان بن عمرو :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى

أى : واقعد عن طلب المكارم والمعالي فإنك أنت المطعوم المكسو من جهة غيرك.

والفعل «يأكلوا» وما عطف عليه مجزوم في جواب الأمر «ذرهم» ، وبعضهم يجعله مجزوم بلام الأمر المحذوفة ، الدالة على التوعد والتهديد ، ولا يستحسن جعله مجزوما في جواب

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٨٧.

(٢) سورة محمد الآية ١٢.

١٤

الأمر ، لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء أترك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعوتهم أم دعاهم.

والفاء في قوله ـ سبحانه ـ (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) للتفريع الدال على الزجر والإنذار. والاستجابة للحق قبل فوات الأوان.

أى : ذرهم فيما هم فيه من حياة حيوانية ، لا تفكر فيها ولا تدبر ، ومن آمال خادعة براقة شغلتهم عن حقائق الأمور ، فسوف يعلمون سوء عاقبة ذلك وسوف يرون ما يحزنهم ويشقيهم ويبكيهم طويلا بعد أن ضحكوا قليلا ...

وفي ذلك إشارة إلى أن لإمهالهم أجلا معينا ينقضي عنده ، ثم يأتيهم العذاب الأليم.

قال الآلوسى ـ رحمه‌الله ـ : وفي هذه الآية إشارة إلى أن التلذذ والتنعم ، وعدم الاستعداد للآخرة ، والتأهب لها ، ليس من أخلاق من يطلب النجاة.

وجاء عن الحسن : ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل.

وأخرج أحمد في الزهد ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ـ لا أعلمه إلا رفعه ـ قال : «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ، ويهلك آخرها بالبخل وطول الأمل».

وفي بعض الآثار عن على ـ كرم الله وجهه ـ : إنما أخشى عليكم اثنين : طول الأمل ، واتباع الهوى ، فإن طول الأمل ينسى الآخرة ، واتباع الهوى يصد عن الحق» (١).

هذا ، وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُون) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (٤).

ثم قرر ـ سبحانه ـ أن هلاك الأمم الظالمة ، موقوت بوقت محدد في علمه ، وأن سنته في ذلك ماضية لا تتخلف ، فقال ـ تعالى ـ (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٩.

(٢) سورة الزخرف الآية ٨٣.

(٣) سورة الطور الآية ٤٥.

(٤) سورة ابراهيم الآية ٣٠.

١٥

و «من» في قوله (مِنْ قَرْيَةٍ) و (مِنْ أُمَّةٍ) للتأكيد. والمراد بالقرية أهلها.

والمراد بالكتاب المعلوم : الوقت المحدد في علم الله ـ تعالى ـ لهلاكها ، شبه بالكتاب لكونه لا يقبل الزيادة أو النقص. والأجل : مدة الشيء.

أى : وما أهلكنا من قرية من القرى الظالم أهلها ، إلا ولهلاكها وقت محدد في علمنا المحيط بكل شيء ، ومحال أن تسبق أمة من الأمم أجلها المقدر لها أو تتأخر عنه.

قال ابن جرير ـ رحمه‌الله ـ عند تفسيره لهاتين الآيتين ما ملخصه : يقول ـ تعالى ـ ذكره ـ (وَما أَهْلَكْنا) يا محمد (مِنْ) أهل (قَرْيَةٍ) من القرى التي أهلكنا أهلها فيما مضى : (إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أى : أجل مؤقت ومدة معروفة ، لا نهلكهم حتى يبلغوها ، فإذا بلغوها أهلكناهم عند ذلك .. دون أن يتقدم هلاكهم عن ذلك أو يتأخر» (١).

وجملة (إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) في محل نصب على الحال من قرية ، وصح ذلك لأن كلمة قرية وإن كانت نكرة ، إلا أن وقوعها في سياق النفي سوغ مجيء الحال منها.

أى : ما أهلكناها في حال من الأحوال ، إلا في حال بلوغها نهاية المدة المقدرة لبقائها دون تقديم أو تأخير.

قال ـ تعالى ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٢) وجملة «ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون» بيان لجملة «إلا ولها كتاب معلوم» لتأكيد التحديد ، في بدئه وفي نهايته.

وحذف متعلق «يستأخرون» للعلم به ، أى : وما يستأخرون عنه.

والآيتان الكريمتان تدلان بوضوح ، على أن إمهال الظالمين ليس معناه ترك عقابهم ، وإنما هو رحمة من الله بهم لعلهم أن يثوبوا إلى رشدهم ، ويسلكوا الطريق القويم ...

فإذا ما لجوا في طغيانهم ، حل بهم عقاب الله ـ تعالى ـ في الوقت المحدد في علمه ـ سبحانه ـ.

قال صاحب الظلال : ولقد يقال : إن أمما لا تؤمن ولا تحسن ولا تصلح ولا تعدل. وهي مع ذلك قوية ثرية باقية ، وهذا وهم.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٤ ص ٥.

(٢) سورة الأعراف الآية ٣٤.

١٦

فلا بد من بقية من خير في هذه الأمم ، ولو كان هو خير العمارة للأرض ، وخير العدل في حدوده الضيقة بين أبنائها ، وخير الإصلاح المادي والإحسان المحدود بحدودها.

فعلى هذه البقية من الخير تعيش حتى تستنفدها ، فلا تبقى فيها من الخير بقية ثم تنتهي حتما إلى المصير المعلوم. إن سنة الله لا تتخلف. ولكل أمة أجل معلوم (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ سوء أدب هؤلاء الكافرين مع رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ تعالى ـ (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) والقائلون هم بعض مشركي قريش. قال مقاتل : نزلت الآيتان في عبد الله بن أمية ، والنضر بن الحارث ، ونوفل بن خويلد ، والوليد بن المغيرة.

والمراد بالذكر : القرآن الكريم. قال ـ تعالى ـ (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٢).

و «مجنون» : اسم مفعول من الجنون ، وهو فساد العقل.

و «لوما» : حرف تحضيض مركب من لو المفيدة للتمني ، ومن ما الزائدة فأفاد المجموع الحث على الفعل.

والمعنى : وقال الكافرون لرسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل الاستهزاء والتهكم : «يا أيها» المدعى بأن الوحى ينزل عليك بهذا القرآن الذي تتلوه علينا ، «إنك لمجنون» بسبب هذه الدعوى التي تدعيها. وبسبب طلبك منا اتباعك وتركنا ما وجدنا عليه آباءنا ...

هلا إن كنت صادقا في دعواك ، أن تحضر معك الملائكة ، ليخبرونا بأنك على حق فيما تدعيه ، وبأنك من الصادقين في تبليغك عن الله ـ تعالى ـ ما أمرك بتبليغه؟

وأكدوا الحكم على الجنون بإن واللام ، لقصدهم تحقيق ذلك في نفوس السامعين ممن هم على شاكلتهم في الكفر والضلال ، حتى ينصرفوا عن الاستماع إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الآلوسى : يعنون يا من يدعى مثل هذا الأمر العظيم ، الخارق للعادة إنك بسبب تلك

__________________

(١) تفسير في ظلال القران ج ١٤ ص ٢١٦٦ للأستاذ سيد قطب.

(٢) سورة الأنبياء الآية ٥٠.

١٧

الدعوى تحقق جنونك على أتم وجه. وهذا كما يقول الرجل لمن يسمع منه كلاما يستبعده ، أنت مجنون (١).

فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد حكتا ألوانا من سوء أدبهم ، منها : مخاطبتهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الأسلوب الدال على التهكم والاستخفاف ، حيث قالوا : «يا أيها الذي نزل عليه الذكر» ، مع أنهم لا يقرون بنزول شيء عليه.

ووصفهم له بالجنون ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرجح الناس عقلا ، وأفضلهم فكرا ..

وشكهم في صدقه ، حيث طلبوا منه ـ على سبيل التعنت ـ أن يحضر معه الملائكة ليعاضدوه في دعواه كما قال تعالى في آيات أخرى منها قوله ـ تعالى ـ (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا ...) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (... لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) (٣).

وقد رد الله ـ تعالى ـ عليهم بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم فقال : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ).

وقرأ الجمهور ما تنزل ـ بفتح التاء والزاى على أن أصله تتنزل ـ ورفع الملائكة على الفاعلية.

وقرأ أبو بكر عن عاصم ما تنزل ـ بضم التاء وفتح الزاى على البناء للمجهول ـ ورفع الملائكة على أنه نائب فاعل.

وقرأ الكسائي وحفص عن عاصم (ما نُنَزِّلُ) ـ بنون في أوله وكسر الزاى ـ ونصب الملائكة على المفعولية والباء في قوله (إِلَّا بِالْحَقِ) للملابسة.

أى : ما ننزل الملائكة إلا تنزيلا ملتبسا بالحق ، أى : بالوجه الذي تقتضيه حكمتنا وجرت به سنتنا ، كأن ننزلهم لإهلاك الظالمين ، أو لتبليغ وحينا إلى رسلنا ، أو لغير ذلك من التكاليف التي نريدها ونقدرها ، والتي ليس منها ما اقترحه المشركون على رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قولهم (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ، ولذا اقتضت حكمتنا ورحمتنا عدم إجابة مقترحاتهم.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١١.

(٢) سورة الفرقان الآية ٢١.

(٣) سورة الفرقان الآية ٧.

١٨

وقوله (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) بيان لما سيحل بهم فيما لو أجاب الله ـ تعالى ـ مقترحاتهم.

و «إذا» حرف جواب وجزاء.

و «منظرين» من الإنظار بمعنى التأخير والتأجيل.

وهذه الجملة جواب لجملة شرطية محذوفة ، تفهم من سياق الكلام ، والتقدير : ولو أنزل ـ سبحانه ـ الملائكة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبقي هؤلاء المشركون على شركهم مع ذلك ، لعوجلوا بالعقوبة المدمرة لهم ، وما كانوا إذا ممهلين أو مؤخرين ، بل يأخذهم العذاب بغتة.

قال الإمام الشوكانى : قوله (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) في الكلام حذف. والتقدير : ولو أنزلنا الملائكة لعوجلوا بالعقوبة ، وما كانوا إذا منظرين. فالجملة المذكورة جزاء للجملة الشرطية المحذوفة» (١).

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ، وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ أنه قد تكفل بحفظ هذا القرآن الذي سبق للكافرين أن استهزءوا به ، وبمن نزل عليه فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

أى : إنا نحن بقدرتنا وعظم شأننا نزلنا هذا القرآن الذي أنكرتموه ؛ على قلب نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنَّا) لهذا القرآن (لَحافِظُونَ) من كل ما يقدح فيه ، كالتحريف والتبديل ، والزيادة والنقصان والتناقض والاختلاف ، ولحافظون له بالإعجاز ، فلا يقدر أحد على معارضته أو على الإتيان بسورة من مثله ، ولحافظون له بقيام طائفة من أبناء هذه الأمة الإسلامية باستظهاره وحفظه والذب عنه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

قال صاحب الكشاف : قوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) ، ولذلك قال : إنا نحن ، فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع والبتات ، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن بين يديه ومن خلفه رصد حتى نزل وبلغ محفوظا من الشياطين ، وهو حافظه في كل وقت من كل زيادة ونقصان ...» (٣).

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٣ ص ١٢٢ للشوكانى.

(٢) سورة الأنعام الآية ٨.

(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٨٨.

١٩

وقال الآلوسى : ما ملخصه : «ولا يخفى ما في سبك الجملتين ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة ، وعلى فخامة شأن التنزيل ، وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد. و (نَحْنُ) ليس ضمير فصل لأنه لم يقع بين اسمين ، وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن. والضمير في (لَهُ) للقرآن كما هو الظاهر ، وقيل هو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...» (١).

هذا ونحن ننظر في هذه الآية الكريمة ، من وراء القرون الطويلة منذ نزولها فنرى أن الله ـ تعالى ـ قد حقق وعده في حفظ كتابه ، ومن مظاهر ذلك :

١ ـ أن ما أصاب المسلمين من ضعف ومن فتن ، ومن هزائم ، وعجزوا معها عن حفظ أنفسهم وأموالهم وأعراضهم .. هذا الذي أصابهم في مختلف الأزمنة والأمكنة ، لم يكن له أى أثر على قداسة القرآن الكريم ، وعلى صيانته من أى تحريف.

ومن أسباب هذه الصيانة أن الله ـ تعالى ـ قيض له في كل زمان ومكان ، من أبناء هذه الأمة ، من حفظه عن ظهر قلب ، فاستقر بين الأمة بمسمع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصار حفاظه بالغين عدد التواتر في كل مصر وفي كل عصر.

قال الفخر الرازي : فإن قيل : فلما ذا اشتغل الصحابة بجمع القرآن في المصحف ، وقد وعد الله بحفظه ، وما حفظه الله فلا خوف عليه؟

فالجواب : أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله ـ تعالى ـ إياه ، فإنه ـ سبحانه ـ لما أن حفظه قيضهم لذلك ....» (٢).

٢ ـ أن أعداء هذا الدين ـ سواء أكانوا من الفرق الضالة المنتسبة للإسلام أم من غيرهم ـ امتدت أيديهم الأثيمة إلى أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأدخلوا فيها ما ليس منها ... وبذل العلماء العدول الضابطون ما بذلوا من جهود لتننقية السنة النبوية مما فعله هؤلاء الأعداء ..

ولكن هؤلاء الأعداء ، لم يقدروا على شيء واحد ، وهو إحداث شيء في هذا القرآن ، مع أنهم وأشباههم في الضلال ، قد أحدثوا ما أحدثوا في الكتب السماوية السابقة ..

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١٥.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ١٦٠.

٢٠