التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

(ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) أى : ثم إنه بعد هذا التفكير والتقدير ، وبعد هذا العبوس والبسور ، بعد ذلك أدبر عن الحق ، واستكبر عن قبوله.

(فَقالَ) ـ على سبيل الغرور والجحود ـ (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أى : ما هذا القرآن الذي يقرؤه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم علينا ، إلا سحر مأثور أى : مروى عن الأقدمين ، ومنقول من أقوالهم وكلامهم.

وجملة (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) بدل مما قبلها ، أى : ما هذا القرآن إلا سحر مأثور عن السابقين ، فهو من كلام البشر ، وليس من كلام الله ـ تعالى ـ كما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى «ثم» الداخلة في تكرير الدعاء؟ قلت : الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى ، ونحوه قوله : ألا يا أسلمي ثم أسلمي ، ثمّت أسلمي.

فإن قلت : ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ قلت : الدلالة على أنه قد تأتى في التأمل والتمهل ، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخيا وتباعدا ..

فإن قلت : فلم قيل : (فَقالَ إِنْ هذا ...) بالفاء بعد عطف ما قبله بثم؟ قلت : لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب ، لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث.

فإن قلت : فلم لم يوسط حرف العطف بين الجملتين؟ قلت : لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التوكيد من المؤكد (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك الوعيد الشديد الذي توعد به هذا الشقي الأثيم فقال : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) وسقر : اسم لطبقة من طبقات جهنم ، والجملة الكريمة بدل من قوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أى : سأحرقه بالنار المتأججة الشديدة الاشتعال.

وقوله : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) تهويل من حال هذه النار وتفظيع لشدة حرها.

أى : وما أدراك ما حال سقر؟ إن حالها وشدتها لا تستطيع العبارة أن تحيط بها.

وجملة (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) بدل اشتمال من التهويل الذي أفادته جملة (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ).

أى : هذه النار لا تبقى شيئا فيها إلا أهلكته ، ولا تترك من يلقى فيها سليما ، بل تمحقه محقا ، وتبلعه بلعا ، وتعيده ـ بأمر الله تعالى ـ إلى الحياة مرة أخرى ليزداد من العذاب ، كما

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٥٠.

١٨١

قال ـ تعالى ـ : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ...).

وقوله : (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) صفة ثالثة من صفات سقر.

ومعنى : (لَوَّاحَةٌ) مغيّرة للبشرات. مسوّدة للوجوه ، صيغة مبالغة من اللّوح بمعنى تغيير الشيء يقال : فلان لوّحته الشمس ، إذا سوّدت ظاهره وأطرافه. والبشر : جمع بشرة وهي ظاهر الجلد.

أى : أن هذه النار من صفاتها ـ أيضا ـ أنها تغير ألوان الجلود ، فتجعلها مسودة بعد أن كانت على غير هذا اللون ، وأنها تنزل بالأجساد من الآلام ما لا يعلمه إلا الله ـ تعالى ـ.

وقوله ـ تعالى ـ : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) صفة رابعة من صفات سقر. أى : على هذه النار تسعة عشر ملكا ، يتولون أمرها ، وينفذون ما يكلفهم الله ـ تعالى ـ في شأنها.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أى : على سقر تسعة عشر من الملائكة ، يلقون فيها أهلها. ثم قيل : على جملة النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها. مالك وثمانية عشر ملكا.

ويحتمل أن يكون التسعة عشر نقيبا. ويحتمل أن يكون تسعة عشر ملكا بأعيانهم ، وعلى هذا أكثر المفسرين .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من مظاهر قدرته وحكمته ، وابتلائه لعباده بشتى أنواع الابتلاء ، ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه.

فقال ـ تعالى ـ :

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٧٩.

١٨٢

وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)(٣٧)

قال الإمام ابن كثير : يقول الله ـ تعالى ـ : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ) أى : خزانها (إِلَّا مَلائِكَةً) أى : غلاظا شدادا. وذلك رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة. فقال أبو جهل : يا معشر قريش ، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟ فقال الله ـ تعالى ـ :

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً). أى : شديدي الخلق لا يقاومون ولا يغالبون.

وقد قيل : إن أبا الأشد ـ واسمه : كلدة بن أسيد بن خلف ـ قال : يا معشر قريش ، اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم سبعة عشر ، إعجابا منه بنفسه ، وكان قد بلغ من القوة ـ فيما يزعمون ـ أنه كان يقف على جلد البقرة. ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدميه ، فيتمزق الجلد ، ولا يتزحزح عنه .. (١).

وقال الجمل في حاشيته : قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ). قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم! محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر أن خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الشجعان ، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم؟.

فقال أبو الأشد : أنا أكفيكم منهم سبعة عشر ، عشرة على ظهري ، وسبعة على بطني.

واكفوني أنتم اثنين .. فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ..) (٢).

والمقصود من هذه الآية الكريمة الرد على المشركين ، الذين سخروا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما عرفوا منه أن على سقر تسعة عشر ملكا يتولون أمرها ..

أى : إننا أوجدنا النار لعذاب الكافرين ، وما جعلنا خزنتها إلا من الملائكة الغلاظ الشداد ، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، والذين لا قدرة لأحد من البشر على مقاومتهم أو مخالفة أمرهم ، لأنهم أشد بأسا ، وأقوى بطشا من كافة الإنس والجن ..

والاستثناء من عموم الأنواع. أى : وما جعلنا أصحاب النار إلا من نوع الملائكة ، الذين لا قدرة لأحد من البشر على مقاومتهم ..

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٢٩٤.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤٤٠.

١٨٣

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بيان لحكمة أخرى من ذكر هذا العدد ..

والفتنة بمعنى الاختبار والامتحان. تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : اختبرته بها ، لتعلم جودته من رداءته. وقوله : (إِلَّا فِتْنَةً) مفعول ثان لقوله (جَعَلْنا) والكلام على حذف مضاف ..

أى : وما جعلنا عدة خزنة النار تسعة عشر ، إلا ليكون هذا العدد سبب فتنة واختبار للذين كفروا ، ولقد زادهم هذا الامتحان والاختبار جحودا وضلالا ، ومن مظاهر ذلك أنهم استهزءوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما قرأ عليهم القرآن ، فحق عليهم عذابنا ووعيدنا ..

قال الإمام الرازي : وإنما صار هذا العدد سببا لفتنة الكفار من وجهين : الأول أن الكفار كانوا يستهزئون ويقولون : لم لا يكونون عشرين ـ بدلا من تسعة عشر ـ وما المقتضى لتخصيص هذا العدد؟.

والثاني أن الكفار كانوا يقولون : هذا العدد القليل ، كيف يكون وافيا بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس ..؟

وأجيب عن الأول : بأن هذا السؤال لازم على كل عدد يفرض ، وأفعال الله ـ تعالى ـ لا تعلل ، فلا يقال فيها لم كان هذا العدد ، فإن ذكره لحكمة لا يعلمها إلا هو ـ سبحانه ـ.

وأجيب عن الثاني : بأنه لا يبعد أن الله ـ تعالى ـ يعطى ذلك العدد القليل قوة تفي بذلك ، فقد اقتلع جبريل وحده. مدائن قوم لوط على أحد جناحيه ، ورفعها إلى السماء .. ثم قلبها ، فجعل عاليها سافلها ..

ـ وأيضا ـ فأحوال القيامة ، لا تقاس بأحوال الدنيا ، وليس للعقل فيها مجال .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ...)

علة أخرى ، لذكر هذا العدد. والاستيقان : قوة اليقين ، فالسين والتاء للمبالغة.

أى : وما جعلنا عدتهم كذلك ـ أيضا ـ إلا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى ، بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ، إذ أن الكتب السماوية التي بين أيديهم قد ذكرت هذا العدد. كما ذكره القرآن الكريم ، وإلا ليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، بصدق نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ أن الإخبار عن المغيبات عن طريق القرآن الكريم ، من شأنها أن تجعل الإيمان في قلوب المؤمنين الصادقين ، يزداد رسوخا وثباتا.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي.

١٨٤

قال الإمام ابن كثير : قوله : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أى : يعلمون أن هذا الرسول حق ، فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله .. (١).

وقال الآلوسى : وأخرج الترمذي وابن مردويه عن جابر قال : قال ناس من اليهود ، لأناس من المسلمين : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ فأخبروا بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «هكذا وهكذا» في مرة عشرة. وفي مرة تسعة.

وقال الآلوسى : واستشعر من هذا أن الآية مدنية ، لأن اليهود إنما كانوا فيها ، وهو استشعار ضعيف ، لأن السؤال لصحابى فلعله كان مسافرا فاجتمع بيهودي حيث كان .. ـ وأيضا ـ لا مانع إذ ذاك من إتيان بعض اليهود نحو مكة .. (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) معطوف على قوله : (لِيَسْتَيْقِنَ ..) وهو مؤكد لما قبله ، من الاستيقان وازدياد الإيمان ، ونفى لما قد يعترى المستيقن من شبهة عارضة.

أى : فعلنا ما فعلنا ليكتسب أهل الكتاب اليقين من نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم. ولتزول كل ريبة أو شبهة قد تطرأ على قلوب الذين أوتوا الكتاب ، وعلى قلوب المؤمنين ..

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) بيان لعلة أخرى لكون خزنة سقر تسعة عشر.

أى : ما جعلنا عدتهم كذلك إلا فتنة للذين كفروا ، وإلا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب من صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلا ليزداد الذين آمنوا إيمانا ، وإلا لنزول الريبة من قلوب الفريقين ، وإلا ليقول الذين في قلوبهم مرض ، أى : شك وضعف إيمان ، وليقول الكافرون المصرون على التكذيب : ما الأمر الذي أراده الله بهذا المثل ، وهو جعل خزنة سقر تسعة عشر؟ فالمقصود بالاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) الإنكار. والإشارة بهذا مرجعها إلى قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) وقوله : (مَثَلاً) حال من اسم الإشارة ، والمراد به العدد السابق. وسموه مثلا لغرابته عندهم. أى : ما الفائدة في أن تكون عدة خزنة سقر تسعة عشر ، وليسوا أكثر أو أقل؟ وهم يقصدون بذلك نفى أن يكون هذا العدد من عنده ـ تعالى ـ.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ص ٨ ص ٢٩٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١٢٧.

١٨٥

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أى : أى شيء أراده الله ـ تعالى ـ ، أو ما الذي أراده الله ـ تعالى ـ بهذا العدد المستغرب استغراب المثل.

وعلى الأول تكون (ما ذا) بمنزلة اسم واحد .. وعلى الثاني : هي مؤلفة من كلمة (ما) اسم استفهام مبتدأ ، و (ذا) اسم موصول خبره ، والجملة بعده صلة ، والعائد فيها محذوف ، و (مَثَلاً) نصب على التمييز أو على الحال .. وعنوا بالإشارة : التحقير ، وغرضهم : نفى أن يكون ذلك من عند الله ـ تعالى ـ .. (١).

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) يعود إلى ما تضمنه الكلام السابق ، من استيقان أهل الكتاب ، وازدياد المؤمنين إيمانا ، واستنكار الكافرين ومن في قلوبهم مرض لهذا المثل.

أى : مثل ذلك الضلال الحاصل للذين في قلوبهم مرض وللكافرين ، يضل الله ـ تعالى ـ من يشاء إضلاله من خلقه ، ومثل ذلك الهدى الحاصل في قلوب المؤمنين ، يهدى الله من يشاء هدايته من عباده ، إذ هو ـ سبحانه ـ الخالق لكل شيء ، وهو على كل شيء قدير.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يخرس ألسنة الكافرين ، الذين أنكروا هذا العدد الذي جعله الله ـ تعالى ـ على سقر ، ليتصرف فيها على حسب إرادته ـ تعالى ـ ومشيئته ، فقال : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ). والجنود : جمع جند ، وهو اسم لما يتألف منه الجيش من أفراد.

والمراد بهم هنا : مخلوقاته ـ تعالى ـ الذين سخرهم لتنفيذ أمره ، وسموا جنودا ، تشبيها لهم بالجنود في تنفيذ مراده ـ سبحانه ـ.

أى : وما يعلم عدد جنود ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ ، ولا مبلغ قوتهم ، إلا هو ـ عزوجل ـ وما هذا العدد الذي ذكرناه لك إلا جزء من جنودنا ، الذين حجبنا علم عددهم وكثرتهم .. عن غيرنا.

قال الإمام ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أى : وما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو ـ تعالى ـ ، لئلا يتوهم متوهم أنماهم تسعة عشر فقط.

وقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في صفة البيت المعمور ، الذي في السماء السابعة : فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك .. (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١٢٧.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٢٩٥.

١٨٦

والضمير في قوله : (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) يعود إلى سقر .. أى : وما سقر التي ذكرت لكم أن عليها تسعة عشر ملكا يلون أمرها ، إلا تذكرة وعظة للبشر ، لأن من يتذكر حرها وسعيرها وشدة عذابها .. من شأنه ، أن يخلص العبادة لله ـ تعالى ـ ، وأن يقدم في دنياه العمل الصالح الذي ينفعه في أخراه.

وقيل : الضمير للآيات الناطقة بأحوال سقر. أى : وما هذه الآيات التي ذكرت بشأن سقر وأهوالها إلا ذكرى للبشر.

ثم أبطل ـ سبحانه ـ ما أنكره الذين في قلوبهم مرض ، وما أنكره الكافرون مما جاء به القرآن الكريم ، فقال : (كَلَّا وَالْقَمَرِ. وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ. وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ. إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ. نَذِيراً لِلْبَشَرِ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ).

و (كَلَّا) حرف زجر وردع وإبطال لكلام سابق. والواو في قوله : (وَالْقَمَرِ) للقسم والمقسم به ثلاثة أشياء : القمر والليل والصبح ، وجواب القسم قوله : (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ...).

أى : كلا ، ليس الأمر كما أنكر هؤلاء الكافرون ، من أن تكون عدة الملائكة الذين على سقر ، تسعة عشر ملكا ، أو من أن تكون سقر مصير هؤلاء الكافرين ، أو من أن في قدرتهم مقاومة هؤلاء الملائكة.

كلا ، ليس الأمر كذلك ، وحق القمر الذي (قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) ، وحق (اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) أى : وقت أن ولى ذاهبا بسبب إقبال النهار عليه ، وحق (الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) ، أى : إذا أضاء وابتدأ في الظهور والسطوع.

والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) يعود إلى سقر. والكبر : جمع كبرى ، والمراد بها : الأمور العظام ، والخطوب الجسام.

أى : إن سقر التي تهكم بها وبخزنتها الكافرون ، لهى إحدى الأمور العظام ، والدواهي الكبار ، التي قل أن يوجد لها نظير أو مثيل في عظمها وفي شدة عذاب من يصطلى بنارها.

وأقسم ـ سبحانه ـ بهذه الأمور الثلاثة ، لزيادة التأكيد ، ولإبطال ما تفوه به الجاحدون ، بأقوى أسلوب.

وكان القسم بهذه الأمور الثلاثة ، لأنها تمثل ظهور النور بعد الظلام ، والهداية بعد الضلال ، ولأنها تناسب قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

١٨٧

وانتصب لفظ «نذيرا» من قوله : (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) على أنه حال من الضمير في قوله (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) أى : إن سقر لعظمى العظائم ، ولداهية الدواهي ، حال كونها إنذارا للبشر ، حتى يقلعوا عن كفرهم وفسوقهم ، ويعودوا إلى إخلاص العبادة لخالقهم.

ويصح أن يكون تمييزا لإحدى الكبر ، لما تضمنته من معنى التعظيم ، كأنه قيل : إنها لإحدى الكبر إنذارا للبشر ، وردعا لهم عن التمادي في الكفر والضلال .. فالنذير بمعنى الإنذار.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) بدل مفصل من مجمل ، هذا المجمل هو قوله (لِلْبَشَرِ).

أى : إن سقر لهى خير منذر للذين إن شاءوا تقدموا إلى الخير ففازوا ، وإن شاءوا تأخروا عنه فهلكوا. فالمراد بالتقدم نحو الطاعة والهداية. والمراد بالتأخر : التأخر عنهما والانحياز نحو الضلال والكفر إذ التقدم تحرك نحو الأمام ، وهو كناية عن قبول الحق ، وبعكسه التأخر ..

ويجوز أن يكون المعنى : هي خير نذير لمن شاء منكم التقدم نحوها ، أو التأخر عنها.

وتعليق (نَذِيراً) بفعل المشيئة ، للإشعار بأن عدم التذكر مرجعه إلى انطماس القلب ، واستيلاء المطامع والشهوات عليه ، وللإيذان بأن من لم يتذكر ، فتبعة تفريطه واقعة عليه وحده ، وليس على غيره.

قال الآلوسى : قوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما سبق ، أعنى (لِلْبَشَرِ) وضمير «شاء» للموصول. أى : نذيرا للمتمكنين منكم من السبق إلى الخير ، والتخلف عنه. وقال السدى : أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها ، أو يتأخر عنها إلى الجنة ، وقال الزجاج : أن يتقدم إلى المأمورات أو يتأخر عن المنهيات .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر عدله في أحكامه : وفي بيان الأسباب التي أدت إلى فوز المؤمنين ، وهلاك الكافرين .. فقال ـ تعالى ـ :

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١٣١.

١٨٨

الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)(٥٦)

وقوله ـ تعالى ـ : (رَهِينَةٌ) خبر عن (كُلُّ نَفْسٍ) ، وهو بمعنى مرهونة. أى : كل نفس مرهونة عند الله ـ تعالى ـ بكسبها ، مأخوذة بعملها ، فإن كان صالحا أنجاها من العذاب ، وإن كان سيئا أهلكها ، وجعلها محلا للعقاب.

قالوا : وإنما كانت مرهونة ، لأن الله ـ تعالى ـ جعل تكليف عباده كالدّين عليهم ، ونفوسهم تحت استيلائه وقهره ، فهي مرهونة ، فمن وفي دينه الذي كلف به ، خلص نفسه من عذاب الله ـ تعالى ـ الذين نزل منزلة علامة الرهن ، وهو أخذه في الدين ، ومن لم يوف عذب. (١) والاستثناء في قوله (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) استثناء متصل أى أن كل نفس مرهونة بعملها .. إلا أصحاب اليمين وهم المؤمنين الصادقون فإنهم مستقرون (فِي جَنَّاتٍ) عالية (يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أى : يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين.

وهذا التساؤل إنما يكون قبل أن يروهم ، فإذا ما رأوهم سألوهم بقولهم. (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) أى : قال أصحاب اليمين للمجرمين : ما الذي أدخلكم في سقر ، وجعلكم وقودا لنارها وسعيرها؟ والسؤال إنما هو على سبيل التوبيخ والتحسير لهؤلاء المجرمين.

وعبر ـ سبحانه ـ بقوله : (ما سَلَكَكُمْ ...) للإشعار بأن الزج بهم في سقر ، كان بعنف وقهر ، لأن السلك معناه : إدخال شيء بصعوبة وقسر ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤٤٣.

١٨٩

نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) ثم حكى ـ سبحانه ـ ما رد به المجرمون على أصحاب اليمين فقال : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ). أى : قال المجرمون لأصحاب اليمين : الذي أدى بنا إلى الإلقاء في سقر ، أننا في الدنيا لم نقم بأداء الصلاة الواجبة علينا ، ولم نعط المسكين ما يستحقه من عطاء ، بل بخلنا عليه ، وحرمناه حقوقه ..

وكنا ـ أيضا ـ في الدنيا نخوض في الأقوال السيئة وفي الأفعال الباطلة مع الخائضين فيها ، دون أن نتورع عن اجتناب شيء منها.

وأصل الخوض : الدخول في الماء ، ثم استعير للجدال الباطل ، وللأحاديث التي لا خير من ورائها.

وكنا ـ أيضا ـ نكذب بيوم القيامة ، وننكر إمكانه ووقوعه ، وبقينا على هذا الإنكار والضلال (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أى : حتى أدركنا الموت ، ورأينا بأعيننا صدق ما كنا نكذب به.

فأنت ترى أن هؤلاء المجرمين قد اعترفوا بأن الإلقاء بهم في سقر لم يكن على سبيل الظلم لهم ، وإنما كان بسبب تركهم للصلاة وللإطعام ، وتعمدهم ارتكاب الباطل من الأقوال والأفعال ، وتكذيبهم بيوم القيامة وما فيه من حساب وجزاء.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) حكم منه ـ سبحانه ـ عليهم بحرمانهم ممن يشفع لهم أو ينفعهم.

أى : أن هؤلاء المجرمين لن تنفعهم يوم القيامة شفاعة أحد لهم ، فيما لو تقدم أحد للشفاعة لهم على سبيل الفرض والتقدير ، وإنما الشفاعة تنفع غيرهم من المسلمين.

والاستفهام في قوله : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) للتعجيب من إصرارهم على كفرهم ، ومن إعراضهم عن الحق الذي دعاهم إليه نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمراد بالتذكرة : التذكير بمواعظ القرآن وإرشاداته ، والحمر : جمع حمار ، والمراد به الحمار الوحشي المعروف بشدة نفوره وهروبه إذا ما أحس بحركة المقتنص له.

وقوله : (مُسْتَنْفِرَةٌ) أى : شديدة النفور والهرب فالسين والتاء للمبالغة.

١٩٠

والقسورة : الأسد ، سمى بذلك لأنه يقسر غيره من السباع ويقهرها ، وقيل : القسورة اسم لجماعة الرماة الذين يطاردون الحمر الوحشية ، ولا واحد له من لفظه ، ويطلق هذا اللفظ عند العرب على كل من كان بالغ النهاية في الضخامة والقوة. من القسر بمعنى القهر. أى : ما الذي حدث لهؤلاء الجاحدين المجرمين ، فجعلهم يصرون إصرارا تاما على الإعراض عن مواعظ القرآن الكريم ، وعن هداياته وإرشاداته ، وأوامره ونواهيه .. حتى لكأنهم ـ في شدة إعراضهم عنه ، ونفورهم منه ـ حمر وحشية قد نفرت بسرعة وشدة من أسد يريد أن يفترسها ، أو من جماعة من الرماة أعدوا العدة لاصطيادها؟.

قال صاحب الكشاف : شبههم ـ سبحانه ـ في إعراضهم عن القرآن ، واستماع الذكر والموعظة ، وشرادهم عنه ـ بحمر جدت في نفارها مما أفزعها.

وفي تشبيههم بالحمر : مذمة ظاهرة ، وتهجين لحالهم بين ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) ، وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل ، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش ، واطرادها في العدو ، إذا رابها رائب ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب ، في وصف الإبل ، وشدة سيرها ، بالحمر ، وعدوها إذا وردت ماء فأحست عليه بقانص .. (١).

والتعبير بقوله : (فَما لَهُمْ ...) وما يشبهه قد كثر استعماله في القرآن الكريم ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ...) والمقصود منه التعجيب من إصرار المخاطبين على باطلهم ، أو على معتقد من معتقداتهم .. مع أن الشواهد والبينات تدل على خلاف ذلك.

وقال ـ سبحانه ـ (عَنِ التَّذْكِرَةِ) بالتعميم ، ليشمل إعراضهم كل شيء يذكرهم بالحق ، ويصرفهم عن الباطل.

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) معطوف على كلام مقدر يقتضيه المقام ، وهو بيان لرذيلة أخرى من رذائلهم الكثيرة.

والصحف : جمع صحيفة ، وهي ما يكتب فيها. ومنشره : صفة لها والمراد بها : الصحف المفتوحة غير المطوية. بحيث يقرؤها كل من رآها.

وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية : أن المشركين قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لن نتبعك حتى تأتى لكل واحد منا بكتاب من السماء ، عنوانه : من رب العالمين ، إلى فلان بن فلان ، نؤمر في هذا الكتاب باتباعك.

أى : إن هؤلاء الكافرين لا يكتفون بمواعظ القرآن .. بل يريد كل واحد منهم أن يعطى

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٥٦.

١٩١

صحفا مفتوحة ، وكتبا غير مطوية ، بحيث يقرؤها كل من يراها. وفيها الأمر من الله ـ تعالى ـ لهم بوجوب اتباعهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ..).

وقوله ـ سبحانه ـ (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) إبطال آخر لكلامهم ، وزجر لهم عن هذا الجدال السخيف. أى : كلا ليس الأمر كما أرادوا وزعموا بل الحق أن هؤلاء القوم لا يخافون الآخرة ، وما فيها من حساب وجزاء ، لأنهم لو كانوا يخافون لما اقترحوا تلك المقترحات السخيفة المتعنتة ..

وقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) زجر آخر مؤكد للزجر السابق. أى : كلا ثم كلا ، لن نمكنهم مما يريدون ، ولن نستجيب لمقترحاتهم السخيفة .. لأن القرآن الكريم فيه التذكير الكافي ، والوعظ الشافي ، لمن هو على استعداد للاستجابة لذلك.

فالضمير في (إِنَّهُ) يعود إلى القرآن ، لأنه معلوم من المقام ، والجملة بمنزلة التعليل للردع عن سؤالهم الذي اقترحوا فيه تنزيل صحف مفتوحة من عند الله ـ تعالى ـ تأمرهم باتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ..

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) تفريع عن كون القرآن تذكرة وعظة لمن كان له قلب يفقه ، أو عقل يعقل.

أى : إن القرآن الكريم مشتمل على ما يذكر الإنسان بالحق ، وما يهديه إلى الخير والرشد ، فمن شاء أن يتعظ به اتعظ ، ومن شاء أن ينتفع بهداياته انتفع ، ومن شاء أن يذكر أوامره ونواهيه وتكاليفه .. فعل ذلك ، وظفر بما يسعده ، ويشرح صدره.

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) يشعر بأن تذكر القرآن وحفظه. والعمل بأحكامه وإرشاداته .. في إمكان كل من كان عنده الاستعداد لذلك.

أى : إن التذكر طوع مشيئتكم ـ أيها الناس ـ متى كنتم جادين وصادقين ومستعدين لهذا التذكر ، فاعملوا لذلك بدون إبطاء أو تردد ..

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بما يدل على نفاذ مشيئته وإرادته فقال : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ).

أى : فمن شاء أن يذكر القرآن وما فيه من مواعظ ذكر ذلك ، ولكن هذا التذكر والاعتبار والاتعاظ. لا يتم بمجرد مشيئتكم ، وإنما يتم في حال مشيئة الله ـ تعالى ـ وإرادته ، فهو

١٩٢

ـ سبحانه ـ أهل التقوى ، أى : هو الحقيق بأن يتقى ويخاف عذابه ، وهو ـ عزوجل ـ «أهل المغفرة» أى : هو ـ وحده ـ صاحب المغفرة لذنوب عباده ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

فالمقصود من الآية الكريمة ، بيان أن هذا التذكر لمواعظ القرآن ، لا يتم إلا بعد إرادة الله ـ تعالى ـ ومشيئة ، لأنه هو الخالق لكل شيء ، وبيان أن مشيئة العباد لا أثر لها إلا إذا كانت موافقة لمشيئة الله ، التي لا يعلمها أحد سواه.

أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) فقال : قد قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معى إله ، فمن اتقاني فلم يجعل معى إلها آخر ، فأنا أهل أن أغفر له.

وبعد : فهذا تفسير لسورة المدثر ، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

١٩٣
١٩٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة القيامة

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «القيامة» من السور المكية الخالصة ، وتعتبر من السور التي كان نزولها في أوائل العهد المكي ، فهي السورة الحادية والثلاثون في ترتيب النزول ، وكان نزولها بعد سورة (القارعة) وقبل سورة (الهمزة). أما ترتيبها في المصحف فهي السورة الخامسة والسبعون.

وعدد آياتها أربعون آية في المصحف الكوفي ، وتسع وثلاثون في غيره.

٢ ـ والسورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن أحوال الناس فيه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ).

كما أنها تتحدث عن إمكانية البعث ، وعن حتمية وقوعه : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟).

ولقد روى عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : من سأل عن يوم القيامة ، أو أراد أن يعرف حقيقة وقوعه ، فليقرأ هذه السورة.

١٩٥

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)(١٩)

افتتح الله ـ تعالى ـ هذه السورة الكريمة بقوله ـ تعالى ـ : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ).

وللعلماء في مثل هذا التركيب أقوال منها : أن حرف «لا» هنا جيء به ، لقصد المبالغة في تأكيد القسم ، كما في قولهم : لا والله.

قال الآلوسى : إدخال «لا» النافية صورة على فعل القسم ، مستفيض في كلامهم وأشعارهم.

ومنه قول امرئ القيس : لا وأبيك يا ابنة العامري .. يعنى : وأبيك.

ثم قال : وملخص ما ذهب إليه جار الله في ذلك ، أن «لا» هذه ، إذا وقعت في خلال

١٩٦

الكلام كقوله ـ تعالى ـ (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) فهي صلة تزاد لتأكيد القسم ، مثلها في قوله ـ تعالى ـ : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) لتأكيد العلم .. (١).

ومنها : أن «لا» هنا ، جيء بها لنفى ورد كلام المشركين المنكرين ليوم القيامة ، فكأنه ـ تعالى ـ يقول : لا ، ليس الأمر كما زعموا ، ثم قال : أقسم بيوم القيامة الذي يبعث فيه الخلق للجزاء.

قال القرطبي : وذلك كقولهم : لا والله لا أفعل. فلا هنا رد لكلام قد مضى ، وذلك كقولك : لا والله إن القيامة لحق ، كأنك أكذبت قوما أنكروها .. (٢).

ومنها : أن «لا» في هذا التركيب وأمثاله على حقيقتها للنفي ، والمعنى لا أقسم بيوم القيامة ولا بغيره ، على أن البعث حق ، فإن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى قسم.

وقد رجح بعض العلماء القول الأول فقال : وصيغة لا أقسم ، صيغة قسم ، أدخل حرف النفي على فعل «أقسم» لقصد المبالغة في تحقيق حرمة المقسم به ، بحيث يوهم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به ، ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول : لا أقسم به ، أى : ولا أقسم بأعز منه عندي. وذلك كناية عن تأكيد القسم (٣).

والمراد بالنفس اللوامة : النفس التقية المستقيمة التي تلوم ذاتها على ما فات منها ، فهي ـ مهما أكثرت من فعل الخير ـ تتمنى أن لو ازدادت من ذلك ، ومهما قللت من فعل الشر ، تمنت ـ أيضا ـ أن لو ازدادت من هذا التقليل.

قال ابن كثير : عن الحسن البصري في هذه الآية : إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه ، يقول : ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتى؟ ... وإن الفاجر يمضى قدما ما يعاتب نفسه.

وفي رواية عن الحسن ـ أيضا ـ ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا يلوم نفسه يوم القيامة» (٤).

وجواب القسم يفهم من قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ). والمراد بالإنسان : جنسه. أو المراد به الكافر المنكر للبعث. والاستفهام للتوبيخ والتقريع.

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١٣٥.

(٢) راجع تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٩٢.

(٣) تفسير التحرير والتنوير ج ٢٩ ص ٣٣٨ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

(٤) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٣٠٠.

١٩٧

وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن بعض المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد حدثني عن يوم القيامة ، فأخبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه. فقال المشرك : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ـ يا محمد ـ أو يجمع الله العظام. فنزلت هذه الآية.

والمعنى : أقسم بيوم القيامة الذي لا شك في وقوعه في الوقت الذي نشاؤه ، وأقسم بالنفس اللوامة التقية التي تلوم ذاتها على الخير ، لما ذا لم تستكثر منه ، وعلى الشر لما ذا فعلته ، لنجمعن عظامكم ـ أيها الناس ـ ولنبعثنكم للحساب والجزاء.

وافتتح ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بهذا القسم ، للإيذان بأن ما سيذكر بعده أمر مهم ، من شأن النفوس الواعية أن تستشرف له ، وأن تستجيب لما اشتمل عليه من هدايات وإرشادات.

ووصف ـ سبحانه ـ النفس باللوامة بصيغة المبالغة للإشعار بأنها كريمة مستقيمة تكثر من لوم ذاتها ، وتحض صاحبها على المسارعة في فعل الخيرات.

والعظام المراد بها الجسد ، وعبر عنه بها ، لأنه لا يقوم إلا بها ، وللرد على المشركين الذين استبعدوا ذلك ، وقالوا ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) تأكيد لقدرته ـ تعالى ـ على إحياء الموتى بعد أن صاروا عظاما نخرة ، وإبطال لنفيهم إحياء العظام وهي رميم.

و (قادِرِينَ) حال من فاعل الفعل المقدر بعد بلى. وقوله : (نُسَوِّيَ) من التسوية ، وهي تقويم الشيء وجعله متقنا مستويا ، يقال : سوى فلان الشيء إذا جعله متساويا لا عوج فيه ولا اضطراب.

والبنان : جمع بنانة ، وهي أصابع اليدين والرجلين ، أو مفاصل تلك الأصابع وأطرافها.

أى : ليس الأمر كما زعم هؤلاء المشركون من أننا لا نعيد الإنسان إلى الحياة بعد موته للحساب والجزاء ، بل الحق أننا سنجمعه وسنعيده إلى الحياة حالة كوننا قادرين قدرة تامة ، على هذا الجمع لعظامه وجسده ، وعلى جعل أصابعه وأطرافه وأنامله مستوية الخلق ، متقنة الصنع ، كما كانت قبل الموت.

وخصت البنان بالذكر ، لأنها أصغر الأعضاء ، وآخر ما يتم به الخلق ، فإذا كان ـ سبحانه ـ قادرا على تسويتها مع لطافتها ودقتها ، فهو على غيرها مما هو أكبر منها أشد قدرة.

وقوله ـ تعالى ـ (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) بيان لحال أخرى من أحوال فجور

١٩٨

هؤلاء المشركين وطغيانهم ، وانتقال من إنكار الحسبان إلى الإخبار عن حال هذا الإنسان.

والفجور : يطلق على القول البالغ النهاية في السوء ، وعلى الفعل القبيح المنكر ، ويطلق على الكذب ، ولذا وصفت اليمين الكاذبة ، باليمين الفاجرة فيكون فجر بمعنى كذب ، وزنا ومعنى.

ولفظ «الأمام» يطلق على المكان الذي يكون في مواجهة الإنسان ، والمراد به هنا : الزمان المستقبل وهو يوم القيامة ، الذي دل عليه قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ).

أى : أن هذا الإنسان المنكر للبعث والحساب لا يريد أن يكف عن إنكاره وكفره ، بل يريد أن يستمر على فجوره وتكذيبه لهذا اليوم بكل إصرار وجحود ، فهو يسأل عنه سؤال استهزاء وتهكم فيقول : (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) أى : متى يجيء يوم القيامة هذا الذي تتحدثون عنه ـ أيها المؤمنون ـ وتخشون ما فيه من حساب وجزاء؟

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) قال ابن عباس : يعنى الكافر. يكذب بما أمامه من البعث والحساب .. ودليله (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ). أى : يسأل متى يكون؟ على وجه التكذيب والإنكار ، فهو لا يقنع بما هو فيه من التكذيب. ولكن يأثم لما بين يديه. ومما يدل أن الفجور : التكذيب ، ما ذكره القتبى وغيره ، من أن أعرابيا قصد عمر بن الخطاب ، وشكا إليه نقب إبله ودبرها ـ أى : مرضها وجربها ـ وسأله أن يحمله على غيرها فلم يحمله. فقال الأعرابى.

أقسم بالله أبو حفص عمر

ما مسها من نقب ولا دبر

فاغفر له اللهم إن كان فجر

يعنى إن كان كذبني فيما ذكرت .. (١).

وأعيد لفظ الإنسان في هذه الآيات أكثر من مرة ، لأن المقام يقتضى توبيخه وتقريعه ، وتسجيل الظلم والجحود عليه.

والضمير في «أمامه» يجوز أن يعود إلى يوم القيامة. أى : بل يريد الإنسان ليكذب بيوم القيامة. الثابت الوقوع في الوقت الذي يشاؤه الله ـ عزوجل ـ.

ويجوز أن يعود على الإنسان ، فيكون المعنى : بل يريد الإنسان أن يستمر في فجوره وتكذيبه بيوم القيامة في الحال وفي المآل. أى : أن المراد بأمامه : مستقبل أيامه.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٩٤.

١٩٩

وجيء بلفظ «أيان» الدال على الاستفهام للزمان البعيد ، للإشعار بشدة تكذيبهم ، وإصرارهم على عدم وقوعه في أى وقت من الأوقات.

ثم ساق ـ سبحانه ـ جانبا من أهوال يوم القيامة ، على سبيل التهديد والوعيد لهؤلاء المكذبين.

فقال : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ).

و «برق» ـ بكسر الراء وفتحها ـ دهش وفزع وتحير ولمع من شدة شخوصه وخوفه.

يقال : برق بصر فلان ـ كفرح ونصر ـ إذا نظر إلى البرق فدهش وتحير.

والمراد بخسوف القمر : انطماس نوره ، واختفاء ضوئه.

والمراد بجمع الشمس والقمر : اقترانهما ببعضهما بعد افتراقهما واختلال النظام المعهود للكون ، اختلالا تتغير معه معالمه ونظمه. وجواب (فَإِذا) قوله : (يَقُولُ الْإِنْسانُ) أى : فإذا برق بصر الإنسان وتحير من شدة الفزع والخوف ، بعد أن رأى ما كان يكذب به في الدنيا.

والتعريف في البصر : للاستغراق ، إذ أبصار الناس جميعا في هذا اليوم ، تكون في حالة فزع ، إلا أن هذا الفزع يتفاوت بينهم في شدته.

(وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أى : ذهب ضوؤه. وانطمس نوره.

(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أى : وقرن بينهما بعد أن كانا متفرقين.

والتصقا بعد أن كانا متباعدين ، وغاب ضوؤهما بعد أن كانا منيرين.

(يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) أى : فإذا ما تم كل ذلك ، يقول الإنسان في هذا الوقت الذي يبرق فيه البصر ، ويخسف فيه القمر ، ويجمع فيه بين الشمس والقمر : أين المفر. أى : أين الفرار من قضاء الله ـ تعالى ـ ومن قدره وحسابه. فالمفر مصدر بمعنى الفرار. والاستفهام بمعنى التمني أى : ليت لي مكانا أفر إليه مما أراه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) إبطال لهذا التمني ، ونفى لأن يكون لهذا الإنسان مهرب من الحساب.

والوزر : المراد به الملجأ والمكان الذي يحتمي به الشخص للتوقي مما يخافه ، وأصله : الجبل المرتفع المنيع ، من الوزر وهو الثقل.

٢٠٠