التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) معطوف على المقسم به الأول وهو قوله ـ تعالى ـ : (بِهذَا الْبَلَدِ). وداخل في حيز القسم. والمراد بالوالد آدم ـ عليه‌السلام ـ ، والمراد بما ولد : ذريته من بعده.

أى : أقسم بهذا البلد الذي له ماله من الشرف ، والمكانة السامية بين البلاد .. وأقسم بأبيكم آدم ، وبذريته من بعده .. أو أقسم بكل والد وبكل مولود.

وجيء باسم الموصول «ما» في قوله (وَما وَلَدَ) دون «من» مع أنها أكثر استعمالا في العاقل الذي هو مراد هنا ، لأن «ما» أشد إبهاما ، وشدة الإبهام المقصود بها هنا التفخيم والتعظيم .. وشبيه بذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ...) كما أن تنكير لفظ «والد» هنا للتعظيم أيضا.

وقيل المراد بالوالد هنا : ابراهيم ـ عليه‌السلام ـ وبما ولد : الصالحون من ذريته.

وقيل المراد بالوالد : من يولد له ، وبقوله (وَما وَلَدَ) الذي لم يولد له وعليه تكون ما نافية.

وقد رجح الإمام ابن جرير المعنى الأول فقال : والصواب من القول في ذلك ، ما قاله الذين قالوا : إن الله ـ تعالى ـ أقسم بكل والد وولده ، لأن الله ـ تعالى ـ عم كل والد وما ولد ، وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل. ولا خبر بخصوص ذلك ، ولا برهان يجب التسليم له بخصوصه ، فهو على عمومه .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) جواب القسم. والمراد بالإنسان : جنسه ، والكبد : الشدة والتعب والمشقة ، من المكابدة للشيء ، بمعنى تحمل المشاق والمتاعب في فعله. وأصله من كبد الرجل ـ بزنة طرب ـ فهو أكبد ، إذا أصيبت كبده بالمرض ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعب ومشقة تنال الإنسان.

والمعنى : لقد خلقنا الإنسان لهذه الشدائد والآلام ، التي هي من طبيعة هذه الحياة الدنيا ، والتي لا يزال يكابدها وينوء بها ، ويتفاعل معها .. حتى تنتهي حياته ، ولا فرق في ذلك بين غنى أو فقير ، وحاكم أو محكوم وصالح أو صالح .. فالكل يجاهد ويكابد ويتعب ، من أجل بلوغ الغاية التي يبتغيها.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أى : في تعب ومشقة ، فإنه لا يزال يقاسى فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٣٠ ص ١٢٥.

٤٠١

وعن ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء. وقيل : لقد خلقناه منتصب القامة واقفا ، ولم نجعله منكبا على وجهه.

وقيل : جعلناه منتصبا رأسه في بطن أمه ، فإذا أذن له في الخروج قلب رأسه إلى قدمي أمه .. وهذه الأقوال ضعيفة لا يعول عليها ، والصحيح الأول .. (١).

والحق أن تفسير الكبد بالمشقة والتعب ، هو الذي تطمئن إليه النفس ؛ لأنه لا يوجد في هذه الحياة إنسان إلا وهو مهموم ومشغول بمطالب حياته ، وفي كبد وتعب للحصول على آماله ورغباته وغاياته ، ورحم الله القائل :

تعب كلها الحياة فما أعجب

إلا من راغب في ازدياد

وقال ـ سبحانه ـ (فِي كَبَدٍ) للإشعار بأنه لشدة مقاساته ومكابدته للمشاق والمتاعب ، وعدم انفكاكه عنها .. كالظرف بداخل المظروف فهو في محن ومتاعب ، حتى يصير إلى عالم آخر تغاير أحواله أحوال هذا العالم.

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً. أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) للإنكار والتوبيخ.

أى : أيظن هذا الإنسان الذي هو في تعب ومشقة طول حياته ، أنه قد بلغ من القوة والمنعة .. بحيث لا يقدر عليه أحد.

إن كان يتوهم ذلك ، فهو في ضلال مبين ، لأن الله ـ تعالى ـ الذي خلقه ، قادر على إهلاكه في لمح البصر ، وقادر على أن يسلط عليه من يذله ، ويقضى عليه.

ويدخل في هذا التوبيخ دخولا أوليا ، أولئك المشركون الذين اغتروا بقوتهم ، فآذوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إيذاء شديدا.

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من أقوال هذا النوع الجاحد المغرور من بنى آدم فقال : (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً). أى : يقول هذا الإنسان المغرور بقوته ، والمفتون بماله ، المتفاخر بما معه من حطام الدنيا. يقول ـ على سبيل التباهي والتعالي على غيره ـ لقد أنفقت مالا كثيرا ، في عداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي إيذاء أتباعه ، وفي غير ذلك من الوجوه التي كان أهل الجاهلية يظنونها خيرا ، وما هي إلا شر محض. وعبر ـ سبحانه ـ عن إنفاق هذا الشقي لما له بقوله : (يَقُولُ أَهْلَكْتُ ...). للإشعار ، بأن ما أنفقه من مال هو شيء هالك ، لأنه لم ينفق في الخير ، وإنما أنفق في الشر.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ١٣٥.

٤٠٢

والمال اللّبد : هو المال الكثير الذي تلبد والتصق بعضه ببعض لكثرته وهو جمع لبدة ـ بضم اللام وسكون الباء ـ كغرفة وغرف ، وهي ما تلبد من صوف أو شعر ، أى : تجمع والتصق بعضه بعض.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) توبيخ لهذا المغرور إثر توبيخ ، وتجهيل في أعقاب تجهيل. أى : أيظن هذا الجاهل المغرور ، حين أنفق المال الكثير في المعاصي والسيئات ، أن الله ـ تعالى ـ غير مطلع عليه؟ إن كان يظن ذلك فهو في نهاية الجهالة وانطماس البصيرة ، لأن الله ـ تعالى ـ مطلع عليه ، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، وسيحاسبه على ذلك حسابا عسيرا.

وفي الحديث الشريف : لن تزل قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن شبابه فيم أبلاه ، وعن عمره فيم أفناه ، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيم أنفقه.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من مظاهر نعمه ، على هذا الإنسان الجاهل المغرور. فقال ـ تعالى ـ : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ).

والاستفهام هنا للتقرير ، لأن الله ـ تعالى ـ قد جعل له كل ذلك ، ولكنه لم يشكر الله ـ تعالى ـ على هذه النعم ، بل قابلها بالجحود والبطر ..

أى : لقد جعلنا لهذا الإنسان عينين ، يبصر بهما ، وجعلنا له لسانا ينطق به ، وشفتين ـ وهما الجلدتان اللتان تستران الفم والأسنان ـ تساعدانه على النطق الواضح السليم.

واقتصر ـ سبحانه ـ على العينين ، لأنهما أنفع المشاعر ، ولأن المقصود إنكار ظنه أنه لم يره أحد ، ولأن الإبصار حاصل بذاتهما.

وذكر ـ سبحانه ـ اللسان وذكر معه الشفتين. للدلالة على أن النطق السليم ، لا يتأتى إلا بوجودهما معا ، فاللسان لا ينطق نطقا صحيحا بدون الشفتين ، وهما لا ينطقان بدونه.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) بيان لنعمة أخرى هي أجل النعم وأعظمها.

والنجد : الأرض المرتفعة ، وجمعه نجود ، ومنه سميت بلاد نجد بهذا الإسم ، لأنها مرتفعة عن غيرها ... والمراد بالنجدين هنا : طريق الخير. وطريق الشر ، أى : وهدينا هذا الإنسان وأرشدناه إلى طريق الخير والشر ، عن طريق رسلنا الكرام ، وعن طريق ما منحناه من عقل ، يميز به بين الحق والباطل ، ثم وهبناه الاختيار لأحدهما ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

قال بعض العلماء : وكأنهما إنما سميا نجدين ـ أى : سبيل الخير والشر : لأنهما لما وضحت

٤٠٣

الدلائل ، وقربت الحجج ، وظهرت البراهين ، جعلا كالطريق المرتفعة العالية ، في أنها واضحة لذوي الأبصار.

أو إنما سميا بذلك ، للإشارة إلى أن في كل منهما وعورة يشق معها السلوك ، ولا يصبر عليها إلا من جاهد نفسه وراضها ، وليس سلوك طريق الشر بأهون من سلوك الخير ، بل الغالب أن يكون طريق الشر ، أشق وأصعب ، وأحوج إلى الجهد .. (١).

وبعد بيان هذه النعم الجليلة التي أنعم الله بها ـ سبحانه ـ على الإنسان ، أتبع ـ سبحانه ـ ذلك بحضه على المداومة على فعل الخير ، وعلى إصلاح نفسه ، فقال ـ تعالى ـ : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ).

والفاء في قوله ـ سبحانه ـ : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) للتفريع على ما تقدم ، والمقصود بهذه الآية الحض على فعل الخير بدل الشر.

وقوله : (اقْتَحَمَ) من الاقتحام للشيء ، بمعنى دخوله بشدة. يقال : اقتحم الجنود أرض العدو ، إذا دخلوها بقوة وسرعة ، وبدون مبالاة بارتكاب المخاطر.

والعقبة في الأصل : الطريق الوعر في الجبل ، والمراد بها هنا : مجاهدة النفس ، وقسرها على مخالفة هواها وشهوتها ، وحملها على القول والفعل الذي يرضى الله تعالى ـ.

والمعنى : لقد جعلنا للإنسان عينين ولسانا وشفتين. وهديناه النجدين. فهلا بعد كل هذه النعم ، فعل ما يرضينا ، بأن جاهد نفسه وهواه ، وبأن قدم ماله في فك الرقاب ، وإطعام اليتامى والمساكين.

قال الجمل : وقوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أى : فهلا اقتحم العقبة ، فلا بمعنى هلا التي للتحضيض. أى : الذي أنفق ماله في عداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هلا أنفقه في اقتحام العقبة فيأمن .. (٢).

وقد استعيرت العقبة لمجاهدة النفس ، وحملها على الإنفاق في سبيل الخير ، لأن هذه الأعمال شاقة على النفس ، فجعلت كالذي يتكلف سلوك طريق وعر ..

ويصح أن تكون «لا» هنا ، على معناها الحقيقي وهو النفي ، فيكون المعنى : أن هذا

__________________

(١) تفسير جزء عم ص ٢٠٤ للشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٥٣٩.

٤٠٤

الإنسان الذي جعلنا له عينين .. لم يشكرنا على نعمنا ، فلا هو اقتحم العقبة ، ولا هو فعل شيئا ينجيه من عذابنا.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : قوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) يعنى : فلم يشكر تلك الأيادى والنعم بالأعمال الصالحة : من فك الرقاب ، وإطعام اليتامى والمساكين .. بل غمط النعم ، وكفر بالمنعم ..

فإن قلت : قلما تقع «لا» الداخلة على الماضي ، غير مكررة ، فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟. قلت : هي متكررة في المعنى ، لأن المعنى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) .. فلا فكّ رقبة ، ولا أطعم مسكينا. ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك .. (١).

والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) لتفخيم شأنها ، والتهويل من أمرها ، والتشويق إلى معرفتها.

والكلام على حذف مضاف ، والتقدير : وما أدراك ما اقتحام العقبة؟.

ثم فسر ـ سبحانه ـ ذلك بقوله : (فَكُّ رَقَبَةٍ). والمراد بفك الرقبة إعتاقها وتخليصها من الرق والعبودية. إذ الفك معناه : تخليص الشيء من الشيء ..

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ، جملة من الأحاديث التي وردت في فضل عتق الرقاب ، وتحريرها من الرق ..

ومن هذه الأحاديث قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أعتق رقبة مؤمنة ، أعتق الله بكل إرب منها ـ أى عضو منها ـ إربا منه من النار ...».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ومن أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار ...» (٢).

وقراءة الجمهور (فَكُّ رَقَبَةٍ) برفع «فك» وإضافته إلى «رقبة».

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : «فك» بفتح الكاف على أنه فعل ماض ، ونصب لفظ «رقبة» على أنه مفعول به.

وقد ذهب جمع من المفسرين إلى أن المراد بفك الرقبة : أن يخلص الإنسان نفسه من المعاصي والسيئات ، التي تكون سببا في دخوله النار.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) بيان لفضيلة ثانية من الفضائل التي

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٥٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٣٠.

٤٠٥

تؤدى إلى مجاهدة النفس ، وحملها على طاعة الله ـ تعالى ـ.

والمسغبة : المجاعة ، مصدر ميمى بمعنى السّغب ، يقال : سغب الرجل ـ كفرح ونصر ـ إذا أصابه الجوع. ووصف اليوم بذلك على سبيل المبالغة كما في قولهم : نهاره صائم ..

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «أطعم» بصيغة الفعل الماضي.

أى : اقتحام العقبة. أى : التمكن من حمل النفس على طاعة الله ـ تعالى ـ يتمثل في فك الرقاب. وفي إطعام المحتاجين في يوم يشتد فيه جوعهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) بيان لفضيلة ثالثة من الفضائل التي تؤدى إلى رضا الله ـ تعالى ـ.

وقوله : (يَتِيماً) منصوب على أنه مفعول به لقوله «إطعام» أو أطعم على القراءة الثانية. واليتيم : هو الشخص الذي مات أبوه وهو صغير ..

والمقربة : بمعنى القرابة ، مصدر ميمى ، من قرب فلان من فلان ، إذا كان بينهما نسب قريب ..

والمتربة : الحاجة والافتقار الشديد ، مصدر ميمى من ترب الرجل ـ كطرب ـ إذا افتقر ، حتى لكأنه قد لصق بالتراب من شدة الفقر ، وأنه ليس له مأوى سوى التراب.

وأما قولهم : أترب فلان ، فمعناه استغنى ، حتى لكأن ماله قد صار كالتراب من كثرته.

أى : اقتحام العقبة من أكبر مظاهره : فك الرقاب ، وإطعام الطعام لليتامى الأقارب ، وللمساكين المحتاجين إلى العون والمساعدة.

وخص ـ سبحانه ـ الإطعام بكونه في يوم ذي مجاعة ، لأن إخراج المال في وقت القحط ، أثقل على النفس ، وأوجب لجزيل الأجر ، كما قال ـ تعالى ـ : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

وقيد ـ سبحانه ـ اليتيم بكونه ذا مقربة ، لأنه في هذه الحالة يكون له حقان : حق القرابة ، وحق اليتم ، ومن كان كذلك فهو أولى بالمساعدة من غيره.

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ، وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) معطوف على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ..).

و «ثم» هنا للتراخي الرتبى ، للدلالة على أن ما بعدها أصل لقبول ما قبلها.

والمعنى : هلا كان هذا الإنسان ممن فكوا الرقاب ، وأطعموا الطعام لليتامى والمساكين .. ثم كان ـ فضلا عن كل ذلك ـ من الذين آمنوا بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا ، وممن أوصى بعضهم

٤٠٦

بعضا بفضيلة الصبر ، وفضيلة التراحم والتعاطف ..

لقد كان من الواجب عليه .. لو كان عاقلا ـ أن يكون من المؤمنين الصادقين ، ولكنه لتعاسته وشقائه وغروره لم يكن كذلك ، لأنه لا هو اقتحم العقبة ، ولا هو آمن ..

وخص ـ سبحانه ـ من أوصاف المؤمنين تواصيهم بالصبر ، وتواصيهم بالمرحمة ، لأن هاتين الصفتين على رأس الصفات الفاضلة بعد الإيمان بالله ـ تعالى ـ :

واسم الإشارة في قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) يعود على الذين آمنوا وتواصوا بالصبر ، وتواصوا بالمرحمة. أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة ، هم أصحاب الجهة اليمنى التي فيها السعداء الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم ، فالمراد بالميمنة : جهة اليمين ..

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك سوء عاقبة الكافرين فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أى : الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أى : هم في جهة الشمال التي فيها الأشقياء ، أو هم أصحاب الشؤم على أنفسهم بسبب إصرارهم على كفرهم.

(عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أى : عليهم نار مغلقة بحيث لا يستطيعون الخروج منها ، تقول : آصدت الباب وأوصدته ، إذا أحكمت غلقه ، والاسم فيهما ، الإصاد والوصاد ..

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا من أصحاب الميمنة.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٤٠٧
٤٠٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الشمس

مقدمة وتمهيد

١ ـ هذه السورة الكريمة سماها معظم المفسرين ، سورة «الشمس» ، وعنونها الإمام ابن كثير بقوله : تفسير سورة «والشمس وضحاها».

وهي من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها : خمس عشرة آية في معظم المصاحف ، وفي المصحف المكي ست عشرة آية ، وكان نزولها بعد سورة «القدر» وقبل سورة «البروج».

٢ ـ ومن مقاصدها : تهديد المشركين بأنهم سيصيبهم ما أصاب المكذبين من قبلهم ، إذا ما استمروا في كفرهم ، وبيان مظاهر قدرته ـ تعالى ـ في خلقه ، وبيان حسن عاقبة من يزكى نفسه ، وسوء عاقبة من يتبع هواها.

٤٠٩

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها)(١٥)

افتتح ـ سبحانه ـ هذه السورة الكريمة ، بالقسم بكائنات عظيمة النفع ، جليلة القدر ، لها آثارها في حياة الناس والحيوان والنبات ، ولها دلالتها الواضحة على وحدانيته ـ تعالى ـ وكمال قدرته ، وبديع صنعه.

فقال ـ سبحانه ـ : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) والضحى الوقت الذي ترتفع فيه الشمس بعد إشراقها ، فتكون أكمل ما تكون ضياء وشعاعا ..

فالمراد بضحاها : ضوؤها ـ كما يرى مجاهد ـ ، أو النهار كله ـ كما اختار قتادة وغيره ـ ، أو حرها ـ كما قال مقاتل ـ.

وهذه الأقوال لا تنافر بينها ، لأن لفظ الضحى في الأصل ، يطلق على الوقت الذي تنبسط فيه الشمس ، ويمتد النهار ، تقول : ضحى فلان يضحى ـ كرضى يرضى ـ ، إذا برز

٤١٠

للشمس ، وتعرض لحرها ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أى : تبعها ، تقول : فلان تلا فلانا يتلوه ، إذا تبعه ، قال بعض العلماء : فأما أن القمر تابع للشمس فيحتمل معنيين : أحدهما : أنه تال لها في ارتباط مصالح الناس ، وتعلق منافع هذا العالم بحركته ، وقد دل علم الهيئة على أن بين الشمس والقمر من المناسبة ما ليس بين غيرهما من الكواكب. وثانيهما : أن القمر يأخذ نوره ويستمده من نور الشمس. وهذا قول الفراء قديما ، وقد قامت الأدلة عند علماء الهيئة والنجوم ، على أن القمر يستمد ضوءه من الشمس .. (١).

وقال الشيخ ابن عاشور : وفي الآية إشارة إلى أن نور القمر ، مستفاد من نور الشمس ، أى : من توجه أشعة الشمس إلى ما يقابل الأرض من القمر ، وليس نيرا بذاته ، وهذا إعجاز علمي من إعجاز القرآن .. (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) أى : جلى الشمس وأظهرها وكشفها للناظرين.

قال الآلوسى : وقوله : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) أى : جلى النهار الشمس ، أى : أظهرها ، فإنها تنجلي وتظهر إذا انبسط النهار ، ومضى منه مدة ، فالإسناد مجازى كالإسناد في نحو : صام نهاره.

وقيل : الضمير المنصوب يعود إلى الأرض ، وقيل : إلى الدنيا ، والمراد بها وجه الأرض ، وقيل : إلى الظلمة ، وجلاها حينئذ بمعنى أزالها ، وعدم ذكر المرجع على هذه الأقوال للعلم به.

والأول أولى ، لذكر المرجع واتساق الضمائر .. (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أى : يغشى الليل الشمس فيغطي ضوءها ، فالضمير في يغشاها يعود إلى الشمس.

وقيل : يعود إلى الدنيا ، وقيل : إلى الأرض أى : يغشى الليل الدنيا والأرض بظلامه.

والحق أن في قوله ـ تعالى ـ (جَلَّاها) و (يَغْشاها) إشارة واضحة إلى أن الضمير فيهما يعود إلى الشمس ، إذ النهار يجلى الشمس ويكشفها أتم انكشاف ، والليل يزيل ضوءها

__________________

(١) تفسير جزء «عم» ص ٢١١ لفضيلة الشيخ محمد محى الدين عبد الحميد.

(٢) تفسير التحرير والتنوير ج ٣٠ ص ٣٦٧.

(٣) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ١٤١.

٤١١

ويستره ، فنسب ـ سبحانه ـ إلى النهار ما يلائمه بالنسبة للشمس ، وكذلك الحال بالنسبة لليل.

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) أى : وحق السماء وحق من بناها وأنشأها وأوجدها على تلك الصورة البديعة الرائعة.

فما هنا اسم موصول بمعنى من ، والمراد بمن بناها : الله ـ عزوجل ـ وأوثرت على من التي تأتى للعاقل كثيرا ، لإشعارها معنى الوصفية. أى : وحق السماء ، وحق القادر العظيم الذي بناها وأوجدها على هذه الهيئة الجميلة الدقيقة.

وقد أشار إلى ذلك صاحب الكشاف فقال : والوجه أن تكون «ما» موصولة ـ أى : في هذه الآية وما بعدها ـ وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية ، كأنه قيل : والسماء ، والقادر العظيم الذي بناها (١).

ومنهم من يرى أن «ما» هنا مصدرية ، فيكون المعنى : وحق السماء وبنيانها.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) أى : وحق الأرض ومن بسطها من كل جانب ، وجعلها مهيأة للاستقرار عليها : يقال : طحى فلان الشيء ودحاه ، إذا بسطه ووسعه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أى : وحق النفوس ، وحق من أنشأها من العدم في أحسن تقويم ، وجعلها مستعدة لتلقى ما يكملها ويصلحها.

ويبدو أن المراد بالنفس هنا ذات الإنسان ، من باب إطلاق الحالّ على المحل ، ويكون المراد بتسويتها : استواء خلقة الإنسان ، وتركيب أعضائه في أجمل صورة.

ومن قال بأن المراد بالنفس هنا : القوة المدبرة للإنسان ، يكون المقصود بتسويتها. منحها القوى الكثيرة المتنوعة ، التي توصلها إلى حسن المعرفة ، والتمييز بين الخير والشر ، والنفع والضر ، والهدى والضلال.

قالوا : وقوله : ـ تعالى ـ بعد ذلك : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) يشير إلى أن المراد بالنفس في قوله ـ تعالى ـ : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) القوة المدبرة للإنسان ، والتي عن طريقها يدرك الأمور إدراكا واضحا. ويختار منها ما يناسب استعداده.

والإلهام : هو التعريف والإفهام للشيء ، أو التمكين من فعله أو تركه ، والفجور : فعل ما يؤدى إلى الخسران والشقاء. والتقوى : هي الإتيان بالأقوال والأفعال التي ترضى الله ـ تعالى ـ وتصون الإنسان من غضبه ـ عزوجل ـ.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٥٩.

٤١٢

أى : فعرف ـ سبحانه ـ النفس الإنسانية وألهمها وأفهمها معنى الفجور والتقوى ، وبين لها حالهما ، ووضح لها ما ينبغي أن تفعله وما ينبغي أن تتركه ، من خير أو شر ، ومن طاعة أو معصية ، بحيث يتميز عندها الرشد من الغي ، والخبيث من الطيب.

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ. إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

وقدم ـ سبحانه ـ هنا الفجور على التقوى ، مراعاة لأحوال المخاطبين بهذه السورة ، وهم كفار قريش ، الذين كانت أعمالهم قائمة على الفجور والخسران ، بسبب إعراضهم عما جاءهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حق وبر.

وقوله ـ سبحانه ـ : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) يصح أن يكون جوابا للقسم. والفلاح : الظفر بالمطلوب. والتزكية : التزود من الخير والطاعة ، والحرص على تطهير النفس من كل سوء ، وقوله : (دَسَّاها) أى : نقصها وأخفاها بالمعاصي والآثام. وأصل فعل دسّى : دسّس ، فلما اجتمع ثلاث سينات ، قلبت الثالثة ياء ، يقال : دس فلان الشيء إذا أخفاه وكتمه.

والمعنى : وحق الشمس وضحاها ، وحق القمر إذا تلاها. وحق النفس وحق من سواها ، وجعلها متمكنة من معرفة الخير والشر. لقد أفلح وفاز وظفر بالمطلوب ، ونجا من المكروه ، من طهر نفسه من الذنوب والمعاصي. وقد خاب وخسر نفسه. وأوقعها في التهلكة ، من نقصها وأخفاها وأخملها وحال بينها وبين فعل الخير بسبب ارتكاب الموبقات والشرور.

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله ـ تعالى ـ : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) جواب القسم. وإليه ذهب الزجاج وغيره. والأصل : لقد أفلح ، فحذفت اللام لطول الكلام المقتضى للتخفيف. وفاعل من «زكاها» ضمير «من» والضمير المنصوب للنفس ... (١).

ويرى المحققون من العلماء أن جواب القسم محذوف ، للعلم به ، فكأنه ـ سبحانه ـ قد قال : وحق الشمس وضحاها ، وحق القمر إذا تلاها .. ليقعن البعث والحساب والجزاء ، أو لتحاسبن على أعمالكم. ودليل هذا الجواب قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) لأن هذه الآية الكريمة وما بعدها ، تدل على أن الله ـ تعالى ـ قد اقتضت سنته ، أن يحاسب من فسق عن أمره ، وأصر على تكذيب رسله.

وعلى هذا سار صاحب الكشاف ، فقد قال : فإن قلت : فأين جواب القسم؟ قلت : هو

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ١٤٣.

٤١٣

محذوف ، تقديره : ليدمدمنّ الله عليهم ، أى : على مكة لتكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما دمدم على قبيلة ثمود لأنهم كذبوا صالحا ـ عليه‌السلام ـ وأما قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) فكلام تابع لقوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء .. (١).

وقد أقسم الله ـ تعالى ـ بهذه الكائنات المختلفة ، والتي لها مالها من المنافع بالنسبة للإنسان وغيره ، لتأكيد وحدانيته ، وكمال قدرته ، وبليغ حكمته.

وبدأ ـ سبحانه ـ بالشمس ، لأنها أعظم هذه الكائنات ، وللتنويه بشأن الإسلام ، وأن هديه كضياء الشمس ، الذي لا يترك للظلام أثرا.

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات بعض الأحاديث ، منها ما رواه الطبراني عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مر بهذه الآية : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) وقف ثم قال : «اللهم آت نفسي تقواها أنت وليها ومولاها. وخير من زكاها». وعن أبى هريرة رضى الله عنه. قال : سمعت النبي يقرأ (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) قال : «اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها» (٢).

وبعد هذا الحديث الطويل المؤكد بالقسم ، والدال على وحدانيته ، وبديع صنعه .. أتبع ذلك ببيان ما حل بالمكذبين السابقين ، ليكون هذا البيان عبرة وعظة للمشركين المعاصرين للنبي ، فقال ـ تعالى ـ : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها. فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها. فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها).

والمراد بثمود : تلك القبيلة التي أرسل الله ـ تعالى ـ إلى أهلها صالحا ـ عليه‌السلام ـ لكي يأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده. ومفعول «كذبت» محذوف للعلم به.

والباء في قوله «بطغواها» للسببية ، والطّغوى : اسم مصدر من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد المعتاد.

أى : كذبت قبيلة ثمود ـ نبيهم صالحا ـ عليه‌السلام بسبب طغيانهم وإفراطهم في الجحود

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٦٠.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٣٦.

٤١٤

والتكبر والعناد. وقيل : إن الباء للتعدية ، والطغوى : اسم للعذاب الذي نزل بهم ، والذي توعدهم به نبيهم.

أى : كذبت ثمود بعذابها ، الذي توعدهم رسولهم به ، إذا ما استمروا في كفرهم وطغيانهم.

والظرف في قوله ـ سبحانه ـ : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) متعلق بقوله (بِطَغْواها) ، لأن وقت انبعاث أشقاهم لقتل الناقة. هو أشد أوقات طغيانهم وفجورهم.

وفعل «انبعث» مطاوع بعث ، تقول : بعثته فانبعث ، كما تقول : كسرته فانكسر.

ويصح أن يكون متعلقا بقوله : (كَذَّبَتْ).

وقوله (أَشْقاها) أى : أشقى تلك القبيلة ، وهو قدار ـ بزنة غراب ـ بن سالف ، الذي يضرب به المثل في الشؤم ، فيقال : فلان أشأم من قدار.

أى : كذبت ثمود نبيها ، بسبب طغيانها ، وقت أن أسرع أشقى تلك القبيلة ، وهو قدار بن سالف ، لعقر الناقة التي نهاهم نبيهم عن مسها بسوء.

وعبر ـ سبحانه ـ بقوله : (انْبَعَثَ) للإشعار بأنه قام مسرعا عند ما أرسله قومه لقتل الناقة ، ولم يتردد في ذلك لشدة كفره وجحوده.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) أى : فقال لهم رسول الله ـ تعالى ـ إليهم. وهو صالح ـ عليه‌السلام ـ على سبيل التحذير والإنذار : احذروا عقر ناقة الله ـ تعالى ـ ، واحذروا سقياها ، أى : الوقت المحدد لشرابها فلا تمنعوها فيه من الشرب ، فإن لها يوما لا تشاركونها فيه الشرب ، وإن لكم يوما آخر هي لن تشارككم فيه. وقد قال لهم صالح ـ عليه‌السلام ـ هذا الكلام ، عند ما شعر بأنهم قد بيتوا النية على عقرها.

فالفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَقالَ لَهُمْ ...) عاطفة على قوله (كَذَّبَتْ) لإفادة الترتيب والتعقيب ..

أى : قال لهم ذلك في أعقاب شعوره بتصميمهم على تكذيبه ، وعلى قتل الناقة.

ولفظ «ناقة» منصوب على التحذير ، والكلام على حذف مضاف. أى : احذروا عقر ناقة الله ، وأضيفت إلى لفظ الجلالة ، على سبيل التشريف لها ، لأنها قد جعلها ـ سبحانه ـ معجزة لنبيه صالح ـ عليه‌السلام ـ ودليلا على صدقه.

وقوله : (وَسُقْياها) معطوف على ناقة الله ، وهو منصوب ـ أيضا ـ على التحذير.

٤١٥

أى : احذروا أن تقتلوا الناقة ، واحذروا أن تشاركوها في اليوم الخاص بشربها ، فضلا عن أن تؤذوها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها) بيان لموقفهم السيئ من تحذير نبيهم لهم ولما أصابهم من عذاب مهلك بسبب هذا التكذيب.

وقوله : (فَدَمْدَمَ) ـ بزنة فعلل ـ بمعنى تضعيف العذاب وترديده ، يقال : دمدمت على الشيء ، أى : أطبقت عليه ، ودمدم عليه القبر ، أى : أطبقه عليه.

أى : فكذب قوم صالح نبيهم ، وأصروا على هذا التكذيب ، وتجاوزوا ذلك إلى عقر الناقة التي نهاهم عن مسها بسوء ... فكانت نتيجة ذلك ، أن أهلكهم الله ـ تعالى ـ وأن أخذهم أخذ عزيز مقتدر ، فقد أطبق عليهم الأرض ، وسواها من فوقهم جميعا دون أن يفلت منهم أحد ، وصاروا كلهم تحت ترابها ، ونجى ـ سبحانه ـ صالحا ومن آمن معه. بفضله ورحمته.

والضمير في قوله ـ سبحانه ـ : (وَلا يَخافُ عُقْباها) يعود إلى الله ـ تعالى ـ أى : ولا يخاف الله ـ تعالى ـ عاقبة ما فعله بهؤلاء الطغاة الأشقياء ، لأن الذي يخاف إنما هو المخلوق.

أما الخالق لكل شيء ، فإنه ـ تعالى ـ لا يخاف أحدا ، لأنه لا يسأل عما يفعل ، ولأنه ـ تعالى ـ هو العادل في أحكامه. والضمير في عقباها ، يعود إلى الفعلة أو إلى الدمدمة.

ومنهم من جعل الضمير في «يخاف» يعود إلى أشقاها ، أى : أن هذا الشقي قد أسرع إلى عقر الناقة دون أن يخشى سوء عاقبة فعله ، لطغيانه وجهله.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا جميعا من عباده الصالحين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

٤١٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الليل

مقدمة وتمهيد

١ ـ سميت هذه السورة في معظم المصاحف سورة «الليل» وفي بعض كتب التفسير سميت بسورة «والليل» ، وعنون لها الإمام البخاري بسورة «والليل إذا يغشى» ، وعدد آياتها إحدى وعشرون آية.

وجمهور العلماء على أنها مكية ، وقال بعضهم : هي مدنية ، وقال آخرون : بعضها مكي ، وبعضها مدني ، والحق أن هذه السورة من السور المكية الخالصة ، وكان نزولها بعد سورة. «الأعلى» وقبل سورة «القمر» ، فهي تعتبر السورة التاسعة في النزول من بين السور المكية.

قال الإمام الشوكانى. وهي مكية عند الجمهور ، فعن ابن عباس قال : نزلت سورة «والليل إذا يغشى» بمكة. وأخرج ابن مردويه عن الزبير مثله ..

وفي رواية عن ابن عباس أنه قال : إنى لأقول إن هذه السورة نزلت في السماحة والبخل .. (١).

٢ ـ وحقا ما قاله ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ ، فإن السورة الكريمة ، قد احتوت على بيان شرف المؤمنين ، وفضائل أعمالهم ، ومذمة المشركين ، وسوء فعالهم ، وأنه ـ تعالى ـ قد أرسل رسوله للتذكير بالحق ولإنذار المخالفين عن أمره ـ تعالى ـ أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.

__________________

(١) راجع تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٤٥١ ، للشوكانى.

٤١٧

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى)(٢١)

أقسم الله ـ سبحانه ـ في افتتاح هذه السورة بثلاثة أشياء ، على أن أعمال الناس مختلفة.

أقسم ـ أولا ـ بالليل فقال : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) أى : وحق الليل إذا يغشى النهار ، فيغطي ضياءه ، ويذهب نوره ، ويتحول الكون معه من حالة إلى حالة ، إذ عند حلول الليل يسكن الخلق عن الحركة ، ويأوى كل إنسان أو حيوان إلى مأواه ، ويستقبلون النوم الذي فيه ما فيه من الراحة لأبدانهم ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً).

٤١٨

وأقسم ـ ثانيا ـ بالنهار فقال : (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) أى : وحق النهار حين ينكشف ويظهر ، ويزيل الليل وظلمته ، ويخرج الناس معه ليباشروا أعمالهم المتنوعة.

وأقسم ـ ثالثا ـ بقوله : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) و «ما» هنا يصح أن تكون موصولة ، بمعنى الذي ، فيكون ـ سبحانه ـ قد أقسم بذاته ، وجاء التعبير بما ، للدلالة على الوصفية ، ولقصد التفخيم.

فكأنه ـ تعالى ـ يقول : وحق الخالق العظيم ، الذي لا يعجزه شيء ، والذي خلق نوع الذكور ، ونوع الإناث من ماء واحد.

ويصح أن تكون «ما» هنا حرفا مصدريا ، فيكون المعنى : وحق خلق الذكر والأنثى ، وعليه يكون ـ سبحانه ـ قد أقسم بفعل من أفعاله التي تدل على كمال قدرته ، وبديع صنعته ، حيث أوجد الذكور والإناث من ماء واحد ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) وحيث وهب ـ سبحانه ـ الذكور لمن يشاء ، ووهب الإناث لمن يشاء ، وجعل العقم لمن يشاء.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) هو جواب القسم. وشتى جمع شتيت. مثل : جريح وجرحى ، ومريض ومرضى. والشيء الشتيت : هو المتفرق المتناثر بعضه عن بعض ، من الشتات بمعنى الابتعاد والافتراق.

والمعنى : وحق الليل إذا يغشى النهار فيستر ضياءه ، وحق النهار إذا تجلى وأسفر وأزال الليل وظلامه ، وحق الخالق العظيم القادر الذي أوجد الذكور والإناث.

وحق كل ذلك ، إن أعمالكم ومساعيكم ـ أيها الناس ـ في هذه الحياة ، لهى ألوان شتى ، وأنواع متفرقة ، منها الهدى ومنها الضلال ، ومنها الخير ، ومنها الشر ، ومنها الطاعة ، ومنها المعصية .. وسيجازى ـ سبحانه ـ كل إنسان على حسب عمله.

وحذف مفعول «يغشى» للتعميم ، أى يغشى كل شيء ويواريه بظلامه.

وأسند ـ سبحانه ـ التجلي إلى النهار ، على سبيل المدح له بالاستنارة والإسفار.

والمراد بالسعي : العمل. وقوله «سعيكم» مصدر مضاف فيفيد العموم فهو في معنى الجمع أى : إن مساعيكم لمتفرقة.

قال القرطبي : السعى : العمل ، فساع في فكاك نفسه ، وساع في عطبها ، يدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الناس غاديان : فمبتاع نفسه فمعتقها ، وبائع نفسه فموبقها» (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٢٠ ص ٨٢.

٤١٩

ثم فصل ـ سبحانه ـ ما أجمله في قوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) فقال : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى. وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) والحسنى تأنيث الأحسن ، وهي صفة لموصوف محذوف.

أى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) حق الله ـ تعالى ـ ، بأن أنفق من ماله في وجوه الخير : كإعتاق الرقاب ، ومساعدة المحتاجين .. (وَاتَّقى) المحارم والمعاصي (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أى : وأيقن بالخصلة الحسنى ، وهي الإيمان بكل ما يجب الإيمان به ، أو أيقن بالملة الحسنى ، وهي ملة الإسلام ، أو بالمثوبة الحسنى وهي الجنة.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أى : فسنهيئه للخصلة التي توصله إلى اليسر والراحة وصلاح البال ، بأن نوفقه لأداء الأعمال الصالحة التي تؤدى إلى السعادة.

وحذف مفعول «أعطى واتقى» للعلم بهما ، أى : أعطى ما كلفه الله ـ تعالى ـ به ، واتقى محارمه.

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بماله فلم يؤد حقوق الله ـ تعالى ـ فيه ، ولم يبذل شيئا منه في وجوه البر. (وَاسْتَغْنى) أى : واستغنى عن ثواب الله ـ تعالى ـ ، وتطاول على الناس بماله وجاهه ، وآثر متع الدنيا على نعيم الآخرة ... (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) أى : وكذب بالخصلة الحسنى التي تشمل الإيمان بالحق ، وبيوم القيامة وما فيه من حساب وجزاء.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) أى : فسنهيئه للخصلة التي توصله إلى العسر والمشقة والشدة ، بأن نجعله بسبب سوء اختياره ، يؤثر الغي على الرشد ، والباطل على الحق ، والبخل على السخاء ، فتكون عاقبته فرطا ، ونهايته الخسران والبوار.

والمتأمل في هذه الآيات الكريمة يراها ، وقد وصفت المؤمنين الصادقين بثلاث صفات هي جماع كل خير ، وأساس جميع الفضائل : وصفهم بالسخاء ، وبالخوف من الله ـ تعالى ـ ، وبالتصديق بكل ما يجب التصديق به ، ورتب على ذلك توفيقهم للخصلة الحسنى .. التي تنتهي بهم إلى الفوز والسعادة.

ووصف ـ أيضا ـ أهل الفسوق والفجور بثلاث صفات ، هي أساس البلاء ، ومنبع الفساد ، ألا وهي : البخل ، والغرور ، والتكذيب بكل ما يجب الإيمان به .. ورتب ـ سبحانه ـ على ذلك تهيئتهم للخصلة العسرى ، التي توصلهم إلى سوء المصير ، وشديد العقاب ..

٤٢٠