التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

أى : والله ـ تعالى ـ وحده هو الذي جعل لكم ـ بفضله ومنته ـ الأرض مبسوطة. حيث تتقلبون عليها كما يتقلب النائم على البساط.

وجعلها لكم كذلك (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً) أى : لكي تتخذوا منها لأنفسكم طرقا (فِجاجاً) أى : متسعة جمع فج وهو الطريق الواسع.

وقوله : (بِساطاً) تشبيه بليغ. أى : جعلها لكم كالبساط ، وهذا لا يتنافى مع كون الأرض كروية ، لأن الكرة إذا عظمت جدا ، كانت القطعة منها كالسطح والبساط في إمكان الانتفاع بها ، والتقلب على أرجائها.

وهكذا نرى أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ قد سلك مع قومه مسالك متعددة لإقناعهم بصحة ما يدعوهم إليه ، ولحملهم على طاعته ، والإيمان بصدق رسالته.

لقد دعاهم بالليل والنهار ، وفي السر وفي العلانية ، وبين لهم أن طاعتهم لله ـ تعالى ـ تؤدى إلى إمدادهم بالأموال والأولاد ، والجنات والأنهار ووبخهم على عدم خشيتهم من الله ـ تعالى ـ وذكرهم بأطوار خلقهم ، ولفت أنظارهم إلى بديع صنعه ـ سبحانه ـ في خلق السموات والشمس والقمر ، ونبههم إلى نشأتهم من الأرض ، وعودتهم إليها ، وإخراجهم منها للحساب والجزاء ، وأرشدهم إلى نعم الله ـ تعالى ـ في جعل الأرض مبسوطة لهم.

وهكذا حاول نوح ـ عليه‌السلام ـ أن يصل إلى آذان قومه وإلى عقولهم وقلوبهم ، بشتى الأساليب الحكيمة ، والتوجيهات القويمة ، في صبر طويل وإرشاد دائم.

ولكن قومه كانوا قد بلغوا الغاية في الغباء والجهالة والعناد والطغيان ، لذا نرى السورة الكريمة تحكى عن نوح ـ عليه‌السلام ـ ضراعته إلى ربه ، والتماسه منه ـ تعالى ـ استئصال شأفتهم ، وقطع دابرهم ، لنستمع في تدبر إلى قوله ـ تعالى ـ.

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ

١٢١

اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً)(٢٨)

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا ..) كلام مستأنف. لأن ما سبقه يستدعى سؤالا تقديره : ماذا كانت عاقبة قوم نوح بعد أن نصحهم ووعظهم بتلك الأساليب المتعددة؟ فكان الجواب : (قالَ نُوحٌ) ـ عليه‌السلام ـ بعد أن طال نصحه لقومه ، وبعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، وبعد أن يئس من إيمانهم وبعد أن أخبره ـ سبحانه ـ أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن.

(قالَ) متضرعا إلى ربه (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) أى : إن قومي قد عصوني وخالفوا أمرى ، وكرهوا صحبتي ، وأصروا واستكبروا استكبروا استكبارا عظيما عن دعوتي.

(وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أى : إنهم أصروا على معصيتي ، ولم يكتفوا بذلك بل بجانب إعراضهم عنى ، اتبعوا غيرى .. اتبعوا رؤساءهم أهل الأموال والأولاد الذين لم تزدهم النعم التي أنعمت بها عليهم إلا خسرانا وجحودا ، وضلالا في الدنيا ، وعقوبة في الآخرة.

فالمراد بالذين لم يزدهم مالهم وولدهم إلا خسارا : أولئك الكبراء والزعماء الذين رزقهم الله المال والولد ، ولكنهم استعملوا نعمه في معصيته لا في طاعته.

وقوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) صفة أخرى من صفاتهم الذميمة ، وهو معطوف على صلة «من» والجمع باعتبار معناها ، كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار اللفظ.

والمكر : هو التدبير في خفاء لإنزال السوء بالممكور به.

أى : أن هؤلاء الزعماء الذين استعملوا نعمك في الشر ، لم يكتفوا بتحريض أتباعهم على معصيتي ، بل مكروا بي وبالمؤمنين مكرا قد بلغ النهاية في الضخامة والعظم.

فقوله : (كُبَّاراً) مبالغة في الكبر والعظم. أى : مكرا كبيرا جدا لا تحيط بحجمه العبارة.

وكان من مظاهر مكرهم : تحريضهم لسفلتهم على إنزال الأذى بنوح ـ عليه‌السلام ـ

١٢٢

وبأتباعه ، وإيهامهم لهؤلاء السفلة أنهم على الحق ، وأن نوحا ومن معه على الباطل.

وكان من مظاهر مكرهم ـ أيضا ـ ما حكاه القرآن بعد ذلك عنهم في قوله : (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً).

أى : ومن مظاهر مكر هؤلاء الرؤساء أنهم قالوا لأتباعهم. احذروا أن تتركوا عبادة آلهتكم ، التي وجدتم على عبادتها آباءكم ، واحذروا أيضا أن تتركوا عبادة هذه الأصنام الخمسة بصفة خاصة ، وهي : ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. فقد روى البخاري عن ابن عباس : صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ، أما «ود» فكانت لقبيلة بنى كلب بدومة الجندل. وأما «سواع» فكانت لهذيل ، وأما «يغوث» فكانت لبنى غطيف ، وأما «يعوق» فكانت لهمدان ، وأما «نسر» فكانت لحمير.

وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح ـ عليه‌السلام ـ فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم ، أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصابا ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا.

وقال ابن جرير : كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ، فصوروهم ، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم ، وبهم يسقون المطر. فعبدوهم. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً ، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) معمول لقول مقدر ، وهذا القول المقدر معطوف على أقوال نوح السابقة.

أى : قال نوح مناجيا ربه بعد أن يئس من إيمان قومه : يا رب ، إن قومي قد عصوني ، وإنهم قد اتبعوا رؤساءهم المغرورين ، وإن هؤلاء الرؤساء قد مكروا بي وبأتباعى مكرا عظيما ، ومن مظاهر مكرهم أنهم حرضوا السفهاء على العكوف على عبادة أصنامهم .. وأنهم قد أضلوا خلقا كثيرا بأن حببوهم في الكفر وكرهوا إليهم الإيمان.

وقال نوح ـ أيضا ـ وأسألك يا رب أن لا تزيد الكافرين إلا ضلالا على ضلالهم ، فأنت الذي أخبرتنى بأنه (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٢٦٢.

١٢٣

وإذا فدعاء نوح ـ عليه‌السلام ـ عليهم بالازدياد من الضلال الذي هو ضد الهدى ، إنما كان بعد أن يئس من إيمانهم ، وبعد أن أخبره ربه أنهم لن يؤمنوا.

قال صاحب الكشاف : قوله : (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) الضمير للرؤساء ، ومعناه : وقد أضلوا كثيرا قبل هؤلاء الذين أمروهم بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام .. ويجوز أن يكون الضمير للأصنام ، كقوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ).

فإن قلت : علام عطف قوله : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً)؟ قلت : على قوله (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) على حكاية كلام نوح .. ومعناه : قال رب إنهم عصون ، وقال : ولا تزد الظالمين إلا ضلالا.

فإن قلت : كيف جاز أن يريد لهم الضلال ، ويدعو الله بزيادته؟ قلت : لتصميمهم على الكفر ، ووقوع اليأس من إيمانهم .. ويجوز أن يريد بالضلال : الضياع والهلاك .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) كلام معترض بين ضراعات نوح إلى ربه. والمقصود به التعجيل ببيان سوء عاقبتهم ، والتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه.

و «من» في قوله (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) للتعليل ، و «ما» مزيدة لتأكيد هذا التعليل.

والخطيئات جمع خطيئة ، والمراد بها هنا : الإشراك به ـ تعالى ـ وتكذيب نوح ـ عليه‌السلام ـ والسخرية منه ومن المؤمنين.

أى : بسبب خطيئاتهم الشنيعة ، وليس بسبب آخر (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) يصلون سعيرها في قبورهم إلى يوم الدين ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

وهم عند ما نزل بهم الطوفان الذي أهلكهم ، وعند ما ينزل بهم عذاب الله في الآخرة. لن يجدوا أحدا ينصرهم ويدفع عنهم عذابه ـ تعالى ـ لا من الأصنام التي تواصوا فيما بينهم بالعكوف على عبادتها ، ولا من غير هذه الأصنام.

فالآية الكريمة تعريض بمشركي قريش ، الذين كانوا يزعمون أن أصنامهم ستشفع لهم يوم القيامة ، والذين حكى القرآن عنهم قولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى).

والتعبير بالفاء في قوله : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) للإشعار بأن دخولهم النار كان في أعقاب غرقهم بدون مهلة ، وبأن صراخهم وعويلهم كان بعد

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٢٠.

١٢٤

نزول العذاب بهم مباشرة ، إلا أنهم لم يجدوا أحدا ، يدفع عنهم شيئا من هذا العذاب الأليم.

ثم واصلت السورة الكريمة حكاية ما ناجى نوح به ربه ، فقالت : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً).

أى : وقال نوح متابعا حديثه مع ربه ، ومناجاته له : يا رب ، لا تترك على الأرض من هؤلاء الكافرين (دَيَّاراً) أى : واحدا يسكن دارا ، أو واحدا منهم يدور في الأرض ويتحرك عليها ، بل خذهم جميعا أخذ عزيز مقتدر.

فقوله (دَيَّاراً) مأخوذ من الدار ، أو الدوران ، وهو التحرك ، والمقصود : لا تذر منهم أحدا أصلا ، بل اقطع دابرهم جميعا.

قالوا : والديار من الأسماء التي لا تستعمل إلا في النفي العام. يقال : ما بالدار ديار. أى : ليس بها أحد ألبتة ، وهو اسم بزنة فيعال.

وقوله (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) تعليل لدعائه عليهم جميعا بالهلاك. أى : يا رب لا تترك منهم أحدا سالما ، بل أهلكهم جميعا لأنك إن تترك منهم أحدا على أرضك بدون إهلاك ، فإن هؤلاء المتروكين من دأبهم ـ كما رأيت منهم زمانا طويلا ـ إضلال عبادك عن طريق الحق.

وقوله : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) زيادة في ذمهم وفي التشنيع عليهم.

والفاجر : هو المتصف بالفجور ، والملازم له ملازمة شديدة ، والفجور : هو الفعل البالغ للنهاية في الفساد والقبح.

والكفار : هو المبالغ في الكفر ، والجحود لنعم الله ـ تعالى ـ.

أى : إنك يا إلهى إن تتركهم بدون إهلاك ، يضلوا عبادك عن كل خير ، وهم فوق ذلك ، لن يلدوا إلا من هو مثلهم في الفجور والكفران لأنهم قد نشّأوا أولادهم على كراهية الحق ، وعلى محبة الباطل.

قال الجمل : فإن قيل : كيف علم نوح أن أولادهم يكفرون؟ أجيب : بأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فعرف طباعهم وأحوالهم ، وكان الرجل منهم ينطلق إليه بابنه ويقول له : احذر هذا ـ أى نوحا ـ فإنه كذاب ، وإن أبى حذرني منه ، فيموت الكبير ، وينشأ الصغير على ذلك. (١) وعلى أية حال فالذي نعتقده أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ ما دعا عليهم بهذا الدعاء ، وما قال في شأنهم هذا القول ـ وهو واحد من أولى العزم من الرسل ـ إلا بعد أن يئس من

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤١٥.

١٢٥

إيمانهم ، وإلا بعد أن أخبره ربه : أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، وإلا بعد أن رأى منهم ـ بعد ألف سنة إلا خمسين عاما عاشها معهم ـ أنهم قوم قد استحبوا العمى على الهدى ، وأن الأبناء منهم يسيرون على طريقة الآباء في الكفر والفجور .. وإلى جانب دعاء نوح ـ عليه‌السلام ـ على الكافرين بالهلاك الساحق .. نراه يختتم دعاءه بالمغفرة والرحمة للمؤمنين ، فيقول : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ).

أى : يا رب أسألك أن تغفر لي ذنوبي ، وأن تغفر لوالدي ـ أيضا ـ ذنوبهما ، ويفهم من هذا الدعاء أنهما كانا مؤمنين ، وإلا لما دعا لهما بهذا الدعاء.

(وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) واغفر يا إلهى لكل من دخل بيتي وهو متصف بصفة الإيمان ، فيخرج بذلك من دخله وهو كافر كامرأته وابنه الذي غرق مع المغرقين.

(وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أى : واغفر يا رب ذنوب المؤمنين والمؤمنات بك إلى يوم القيامة.

(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أى : ولا تزد الظالمين إلا هلاكا وخسارا ودمارا. يقال : تبره يتبره ، إذا أهلكه. ويتعدى بالتضعيف فيقال : تبره الله تتبيرا ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ).

وهكذا اختتمت السورة الكريمة بهذا الدعاء الذي فيه طلب المغفرة للمؤمنين ، والهلاك للكافرين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

١٢٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الجن

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الجن» من السور المكية الخالصة ، وتسمى بسورة (قُلْ أُوحِيَ ...) ، وعدد آياتها ثمان وعشرون آية بلا خلاف ، وكان نزولها بعد سورة «الأعراف» وقبل سورة «يس» وقد سبقها في ترتيب النزول ثمان وثلاثون سورة ، إذ هي السورة التاسعة والثلاثون ـ كما ذكر السيوطي ـ.

أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة الثانية والسبعون.

٢ ـ والمتدبر لهذه السورة الكريمة ، يراها قد أعطتنا صورة واضحة عن عالم الجن ، فهي تحكى أنهم أعجبوا بالقرآن الكريم ، وأن منهم الصالح ومنهم غير الصالح ، وأنهم لا يعلمون الغيب ، وأنهم أهل للثواب والعقاب ، وأنهم لا يملكون النفع لأحد ، وأنهم خاضعون لقضاء الله ـ تعالى ـ فيهم.

كما أن هذه السورة قد ساقت لنا ألوانا من سنن الله التي لا تتخلف ، والتي منها : أن الذين يستقيمون على طريقه يحيون حياة طيبة في الدنيا والآخرة ..

كما أنها لقنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإجابات التي يرد بها على شبهات المشركين وأكاذيبهم ، وساقت له ما يسليه عن سفاهاتهم ، وما يشرح صدره ، ويعينه على تبليغ رسالة ربه ..

ويبدو أن نزول هذه السورة الكريمة كان في حوالى السنة العاشرة ، أو الحادية عشرة ، من البعثة ـ كما سنرى ذلك من الروايات ـ ، وأن نزولها كان دفعة واحدة ..

١٢٧

التفسير

وقد افتتحت هذه السورة بقوله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣)

١٢٨

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(١٥)

وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات روايات منها ما أخرجه الشيخان والترمذي ، عن ابن عباس أنه قال : انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه ، عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : مالكم؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما ذاك إلا لشيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فمر النفر ـ من الجن ـ الذي أخذوا نحو تهامة ، عامدين إلى سوق عكاظ ، فوجدوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنخلة يصلى بأصحابه صلاة الصبح ، فلما سمعوا القرآن ، استمعوا إليه وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء.

فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا ، إنا سمعنا قرآنا عجبا ، يهدى الى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ، وأنزل الله ـ تعالى ـ على نبيه (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ...).

وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : أتانى داعي الجن ، فذهبت معهم ، فقرأت عليهم القرآن ..

وهناك رواية ثالثة لابن إسحاق ملخصها : أنه لما مات أبو طالب ، خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من أهلها ويدعوهم إلى الإيمان .. فأغروا به سفهاءهم ، يسبونه ويستهزئون به ..

فانصرف صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم ، حتى إذا كان ببطن نخلة ـ هو موضع بين مكة والطائف ـ قام يصلى من الليل ، فمر به نفر من جن نصيبين ـ وهو موضع قرب الشام ـ فاستمعوا إليه ، فلما فرغ من صلاته ، ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا ، فقص الله ـ تعالى ـ خبرهم عليه ..

وهناك روايات أخرى في عدد هؤلاء الجن ، وفي الأماكن التي التقوا فيها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيما قرأه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، وفيمن كان معه من الصحابة خلال التقائه بهم ..

١٢٩

ويبدو لنا من مجموع الروايات ، أن لقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجن قد تعدد ، وأنهم تارة استمعوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون أن يراهم ، وتارة التقى بهم وقرأ عليهم القرآن (١).

قال الآلوسى : وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ، ويجمع بذلك بين اختلاف الروايات في عددهم وفي غير ذلك. وذكر ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : صرفت الجن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين .. (٢).

قال القرطبي : واختلف أهل العلم في أصل الجن. فعن الحسن البصري : أن الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء في الثواب والعقاب ، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولى الله ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان ..

وعن ابن عباس : أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين ومنهم المؤمن والكافر ، والشياطين هم ولد إبليس ، لا يموتون إلا مع إبليس .. (٣).

وقال بعض العلماء : عالم الجن من العوالم الكونية ، كعالم الملائكة وقد أخبر الله ـ تعالى ـ أنه خلقه من مارج من نار ، أى : أن عنصر النار فيه هو الغالب ، وأنه يرى الأناسى وهم لا يرونه ، أى : بصورته الجبلية ، وإن كان يرى حين يتشكل بأشكال أخرى ، كما رئي جبريل حين تشكل بشكل آدمي.

وأخبر ـ سبحانه ـ بأن الجن قادرون على الأعمال الشاقة. وأن الله سخر الشياطين لسليمان يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ...

وأخبر بأن من الجن مؤمنين ، وأن منهم شياطين متمردين ، ومن هؤلاء إبليس اللعين.

ولم يختلف أهل الملل في وجودهم ، بل اعترفوا به كالمسلمين ، وإن اختلفوا في حقيقتهم ، ولا تلازم بين الوجود والعلم بالحقائق ، ولا بينه وبين الرؤية بالحواس ، فكثير من الأشياء الموجودة لا تزال حقائقها مجهولة ، وأسرارها محجوبة ، وكثير منها لا يرى بالحواس. ألا ترى الروح ـ وهي مما لا شك في وجودها في الإنسان والحيوان ـ لم يدرك كنهها أحد ولم يرها أحد ، وغاية ما علم من أمرها بعض صفاتها وآثارها ..

وقد بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجن ، كما بعث إلى الإنس ، فدعاهم الى التوحيد ، وأنذرهم

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢١٠ وج ١٩ ص ٢ ، تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٧٢.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٦ ص ٣٠ وج ٢٩ ص ٨٣.

(٣) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٥.

١٣٠

وبلغهم القرآن ، وسيحاسبون على الأعمال يوم الحساب كما يحاسب الناس ، فمؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم وكل ذلك جاء صريحا في القرآن والسنة .. (١).

وقد افتتح ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول للناس ما حدث من الجن عند سماعهم للقرآن. فقال : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ..).

وفي هذا الأمر دلالة على أن المأمور به شيء هام ، يستدعى من السامعين التيقظ والانتباه ، والامتثال للمأمور به ، وتصديقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به.

والنفر : الجماعة من واحد إلى عشرة ، وأصله في اللغة الجماعة من الإنس فأطلق على الجماعة من الجن على وجه التشبيه.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ للناس ، إن الله ـ تعالى ـ قد أخبرك عن طريق أمين وحيه جبريل : أن جماعة من الجن قد استمعوا إليك وأنت تقرأ القرآن ..

فقالوا ـ على سبيل الفرح والإعجاب بما سمعوا ـ : (إِنَّا سَمِعْنا) من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُرْآناً عَجَباً) أى : إنا سمعنا قرآنا جليل الشأن ، بديع الأسلوب ، عظيم القدر ..

هذا القرآن (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أى : إلى الخير والصواب والهدى (فَآمَنَّا بِهِ) إيمانا حقا ، لا يخالطه شك أو ريب (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أى : فآمنا بما اشتمل عليه هذا الكتاب من دعوة إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، ولن نشرك معه في العبادة أحدا كائنا من كان هذا الأحد.

والمقصود من أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، دعوة مشركي قريش إلى الإيمان بالحق الذي جاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما آمن جماعة من الجن به ، وإعلامهم بأن رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشمل الجن والإنس.

وضمير «أنه» للشأن ، وخبر «أن» جملة «استمع نفر من الجن» ، وتأكيد هذا الخبر بأن ، للاهتمام به لغرابته. ومفعول «استمع» محذوف لدلالة قوله : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) عليه.

ووصفهم للقرآن بكونه (قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) يدل على تأثرهم به تأثرا شديدا ، وعلى إعجابهم العظيم بنظمه المتقن ، وأسلوبه الحكيم ، ومعانيه البديعة .. ولذا أعلنوا إيمانهم به بدون تردد ، كما يشعر بذلك التعبير بالفاء في قوله : (فَآمَنَّا بِهِ ...).

__________________

(١) صفوة البيان ج ٢ ص ٤٧٠ فضيلة الشيخ حسنين مخلوف.

١٣١

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ : (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا ..) يحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم ، أو لإخوانهم الذين رجعوا إليهم ، كما في قوله ـ تعالى ـ في سورة الأحقاف : (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ...) ويحتمل أنهم قالوا ذلك في أنفسهم على سبيل الإعجاب ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) بل إننا نرجح أن قولهم هذا قد شمل كل ذلك ، لأن هذا هو الذي يتناسب مع إعجابهم بالقرآن الكريم ، ومع حرصهم على إيمان أكبر عدد منهم به.

ثم حكى ـ سبحانه ـ أن هذا النفر من الجن بعد استماعهم إلى القرآن وإيمانهم به ، أخذوا في الثناء على الخالق ـ عزوجل ـ فقال حكاية عنهم : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً).

ولفظ «وأن» قد تكرر في هذه السورة الكريمة أكثر من عشر مرات ، تارة بالإضافة الى ضمير الشأن ، وتارة بالإضافة الى ضمير المتكلم.

ومن القراء السبعة من قرأه بفتح الهمزة ، ومنهم من قرأه بكسرها ، فمن قرأ (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ..) بالفتح فعلى أنه معطوف على محل الجار والمجرور في قوله (فَآمَنَّا بِهِ) فكأنه قيل : فصدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا .. ومن قرأ بالكسر فعلى أنه معطوف على المحكي بعد القول ، أى : قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا ، وقالوا : إنه تعالى جد ربنا ..

قال الجمل في حاشيته ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ...) قرأه حمزة والكسائي وأبو عامر وحفص بفتح «أنّ» ، وقرأه الباقون بالكسر ..

وتلخيص هذا أن «أنّ» المشددة في هذه السورة على ثلاثة أقسام : قسم ليس معه واو العطف ، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحه أو كسره ، على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية ، كقوله : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ ...) لا خلاف في فتحه لوقوعه موقع المصدر ، وكقوله : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) لا خلاف في كسره لأنه محكي بالقول.

القسم الثاني أن يقترن بالواو ، وهو أربع عشرة كلمة ، إحداها : لا خلاف في فتحها ، وهي قوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ...) وهذا هو القسم الثالث. والثانية وهي قوله : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ ...) كسرها ابن عامر وأبو بكر وفتحها الباقون.

والاثنتا عشرة الباقية ، فتحها بعضهم ، وكسرها بعضهم وهي قوله : ـ تعالى ـ : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) وقوله : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ) .. و (أَنَّا ظَنَنَّا) .. و (أَنَّهُ كانَ رِجالٌ) .. و (أَنَّهُمْ ظَنُّوا ..

١٣٢

وأَنَّا لَمَسْنَا) .. و (أَنَّا كُنَّا) .. و (أَنَّا لا نَدْرِي) .. و (أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) .. و (أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) .. و (أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) (١).

وقوله : (تَعالى) من التعالي وهو شدة العلو. و (جَدُّ رَبِّنا) الجد ـ بفتح الجيم ـ العظمة والجلال.

قال القرطبي : الجد في اللغة : العظمة والجلال ، ومنه قول أنس : كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا. أى : عظم. فمعنى جد ربنا : عظمته وجلاله.

وقيل معنى «جد ربنا ...» : غناه ، ومنه قيل للحظ جد. ورجل مجدود ، أى : محظوظ. وفي الحديث : «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» أى : ولا ينفع ذا الغنى منك غناه ، وإنما تنفعه الطاعة .. (٢).

وجملة (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) بيان وتفسير لما قبله.

أى : آمنا به ـ سبحانه ـ إيمانا حقا ، وصدقنا نبيه فيما جاءنا به من عنده ، وصدقنا ـ أيضا ـ أن الحال والشأن تعالى وتعاظم جلال ربنا ، وتنزه في ذاته وصفاته ، عن أن يكون له شريك في ملكه. أو أن تكون له صاحبة أو أن يكون له ولد ، كما زعم الزاعمون من الكافرين الجاهلين.

وفي هذا القول من هذا النفر من الجن ، رد على أولئك المشركين الذين كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله ـ تعالى ـ ، وأنهم ـ أى الملائكة ـ جاءوا عن طريق مصاهرته ـ سبحانه ـ للجن ، كما حكى عنهم ـ سبحانه ـ ذلك في قوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ، وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ).

ثم حكى ـ سبحانه ـ أقوالا أخرى لهؤلاء المؤمنين من الجن فقال : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً ..) والمراد بالسفيه هنا : إبليس ـ لعنه الله ـ ، وقيل المراد به الجنس فيشمل كل كافر ومتمرد من الجن ، والشطط ، مجاوزة الحد والعدل في كل شيء ، أى : أننا ننزه الله ـ تعالى ـ عما كان يقوله سفهاؤنا ـ وعلى رأسهم إبليس ـ من أن لله ـ عزوجل ـ صاحبة أو ولدا ، فإن هذا القول بعيد كل البعد عن الحق والعدل والصواب.

وقوله : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) اعتذار منهم عن كفرهم السابق ، فكأنهم يقولون بعد أن استمعوا إلى القرآن ، وآمنوا بالله ـ تعالى ـ وحده : إننا

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤١٦.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٨.

١٣٣

ننزه الله ـ تعالى ـ عما قاله السفهاء في شأنه .. وإذا كنا قد اتبعناهم قبل إيماننا ، فسبب ذلك أننا صدقنا هؤلاء السفهاء فيما قالوه لنا ، وما كنا نعتقد أو نتصور أو نظن أن هؤلاء السفهاء يصل بهم الفجور والكذب .. إلى هذا الحد الشنيع.

وقوله : (كَذِباً) مفعول به لتقول ، أو صفة لمصدر محذوف ، أى : قولا مكذوبا.

ثم حكى ـ سبحانه ـ عنهم تكذيبهم لما كان متعارفا عليه في الجاهلية من أن للجن سلطانا على الناس ، وأن لهم قدرة على النفع والضر ... فقال ـ تعالى ـ : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً ..).

وقوله : (يَعُوذُونَ) من العوذ بمعنى الاستجارة بالشيء والالتجاء إليه طلبا للنجاة.

والرهق : الإثم وغشيان المحارم ..

قال صاحب الكشاف : والرهق : غشيان المحارم ، والمعنى : أن الإنس باستعاذتهم بهم ـ أى بالجن ـ زادوهم كفرا وتكبرا. وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض مسايره ، وخاف على نفسه قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، يريد الجن وكبيرهم ، فإذا سمعوا ذلك استكبروا وقالوا : سدنا الجن والإنس ، فذلك رهقهم ، أو : فزاد الجنّ والإنس رهقا بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم .. (١).

فالمقصود من الآية الكريمة بيان فساد ما كان شائعا في الجاهلية ـ بل وفي بعض البيئات حتى الآن ـ من أن الجن لهم القدرة على النفع والضر وأن بعض الناس كانوا يلجئون إليهم طلبا لمنفعتهم وعونهم على قضاء مصالحهم.

وإطلاق اسم الرجال على الجن ، من باب التشبيه والمشاكلة لوقوعه من رجال من الإنس ، فإن الرجل اسم للمذكر البالغ من بنى آدم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً). بيان لما استنكره هؤلاء النفر المؤمنون من الجن على قومهم الكافرين. وعلى من يشبهونهم في الكفر من الإنس.

أى : وأنهم ـ أى الإنس ـ ظنوا واعتقدوا (كَما ظَنَنْتُمْ) واعتقدتم أيها الجن ، أن الله ـ تعالى ـ لن يبعث أحدا بعد الموت ، وهذا الظن منهم ومنكم ظن خاطئ فاسد ، فإن البعث حق ، وإن الحساب حق ، وإن الجزاء حق.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٢٤.

١٣٤

وفي هذا القول من مؤمنى الجن ، تعريض بمشركي قريش ، الذين أنكروا البعث ، وقالوا : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ..).

ثم حكى ـ سبحانه ـ عنهم ما قالوه عند اقترابهم من السماء ، طلبا لمعرفة أخبارها .. قبل أن يؤمنوا فقال : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ... وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً).

وقوله : (لَمَسْنَا) من اللمس ، وحقيقته الجس باليد ، واستعير هنا ، لطلب أخبار السماء ، لأن الماس للشيء في العادة ، إنما يفعل ذلك طلبا لاختباره ومعرفته.

والحرس : اسم جمع للحراس ، كخدم وكخدام ، والشهب : جمع شهاب ، وهو القطعة التي تنفصل عن بعض النجوم ، فتسقط في الجو أو على الأرض أو في البحر.

أى : وأنا طلبنا أخبار السماء كما هي عادتنا قبل أن نؤمن (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) أى : فوجدناها قد امتلأت بالحراس الأشداء من الملائكة الذين يحرسونها من استراق السمع ... كما أنا قد وجدناها قد امتلأت بالشهب التي تنقض على مسترقى السمع فتحرقهم.

(وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها) أى من السماء (مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أى : كنا نقعد منها مقاعد كائنة للسمع ، خالية من الحرس والشهب ...

(فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) بعد نزول القرآن ، الذي هو معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي آمنا به وصدقناه.

(يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أى : فمن يجلس الآن ليسترق السمع من السماء يجد له شهابا معدا ومهيأ للانقضاض عليه فيهلكه.

فالرصد : جمع راصد ، وهو الحافظ للشيء ، وهو وصف لقوله «شهابا».

والفاء في قوله : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) للتفريع على محذوف ، وكلمة «الآن» في مقابل كلمة «كنا» الدالة على المحذوف ..

والتقدير : كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فنستمع أشياء ، وقد انقضى ذلك ، وصرنا من يستمع الآن منا يجد له شهابا رصدا ، ينقض عليه فيحرقه.

والمقصود من هاتين الآيتين : تأكيد إيمانهم بالله ـ تعالى ـ ، وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحض غيرهم على اتباعهم ، وتحذيرهم من التعرض لاستراق السمع.

١٣٥

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين الآيتين : «يخبر الله ـ تعالى ـ عن الجن حين بعث الله رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل عليه القرآن ، وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا ، وحفظت من سائر أرجائها ، وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك ، لئلا يسترقوا شيئا من القرآن ، فيلقوه على ألسنة الكهنة ، فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق ، وهذا من لطف الله بخلقه ، ورحمته بعباده ، وحفظه لكتابه العزيز ، ولهذا قالت الجن : «وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا» أى : من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا ، لا يتخطاه ولا يتعداه ، بل يمحقه ويهلكه» (١).

وقال بعض العلماء : والصحيح أن الرجم كان موجودا قبل المبعث. فلما بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثر وازداد ، كما ملئت السماء بالحرس والشهب. وليس في الآية دلالة على أن كل ما يحدث من الشهب إنما هو للرجم ، بل إنهم إذا حاولوا استراق السمع رجموا بالشهب ، وإلا فالشهب الآن وفيما مضى قد تكون ظواهر طبيعية ولأسباب كونية ... (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قالوه على سبيل الإقرار بأنهم لا يعلمون شيئا من الغيوب فقال : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً).

أى : وقال هؤلاء الجن المؤمنون على سبيل الاعتراف بأن مرد علم الغيوب إلى الله ـ تعالى ـ وحده : قالوا وإنا لا ندري ولا نعلم الآن ، بعد هذه الحراسة المشددة للسماء ، أأريد بأهل الأرض ما يضرّ بهم ، أم أراد الله ـ تعالى ـ بها ما ينفعهم؟.

قال الآلوسى : ولا يخفى ما في قولهم هذا من الأدب ، حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إلى الله ـ تعالى ـ ، كما صرحوا به في الخير ، وإن كان فاعل الكل هو الله ـ تعالى ـ ولقد جمعوا بين الأدب وحسن الاعتقاد ... (٣).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قالوه في وصف حالهم وواقعهم فقال : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ ....) أى : منا الموصوفون بالصلاح والتقوى ... وهم الذين آمنوا بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا ، ولم يشركوا معه في العبادة أحدا ...

(وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أى : ومنا قوم دون ذلك في الصلاح والتقوى ... وهم الذين فسقوا عن أمر ربهم ، ولم يستقيموا على صراطه ودينه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٦٧.

(٢) تفسير صفوة البيان ج ٢ ص ٤٧٢ لفضيلة الشيخ حسنين مخلوف.

(٣) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ٨٨.

١٣٦

وقوله : (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) ، تشبيه بليغ. والطرائق : جمع طريقة ، وهي الحالة والمذهب.

وقددا : جمع قدّة ، وهي الفرقة والجماعة من الناس ، الذين تفرقت مشاربهم وأهواؤهم.

والجملة الكريمة بيان وتفسير لما قبلها.

أى : وأنا في واقع أمرنا منا الصالحون الأخيار ... ومنا من درجته ورتبته أقل من ذلك بكثير أو بقليل ... فنحن في حياتنا كنا قبل سماعنا للقرآن كالمذاهب المختلفة في حسنها وقبحها ، وكالطرق المتعددة في استقامتها واعوجاجها ... أما الآن فقد وفقنا الله ـ تعالى ـ إلى الإيمان به ، وإلى إخلاص العبادة له ...

ومن وجوه البلاغة في الآية الكريمة ، أنهم قالوا : (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) ، ليشمل التعبير من هم دون الكمال في الصلاح ، ومن هم قد انحدروا في الشرور والآثام إلى درجة كبيرة ، وهم الأشرار.

والمقصود من الآية الكريمة ، مدح الصالحين ، وذم الطالحين ، ودعوتهم إلى الاقتداء بأهل الصلاح والتقوى والإيمان.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قالوه بشأن عجزهم المطلق أمام قدرة خالقهم فقال : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ ، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً).

والظن هنا بمعنى العلم واليقين. وقوله : (نُعْجِزَهُ) من الإعجاز ، وهو جعل الغير عاجزا عن الحصول على ما يريد. وقوله (فِي الْأَرْضِ) و (هَرَباً) في موضع الحال.

أى : وأننا قد علمنا وتيقنا بعد إيماننا وبعد سماعنا للقرآن ... أننا في قبضة الله ـ تعالى ـ وتحت قدرته ، ولن نستطيع الهرب من قضائه سواء كنا في الأرض أم في غيرها.

فقوله : (فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى عدم قدرتهم على النجاة من قضائه ـ تعالى ـ مهما حاولوا اللجوء إلى أية بقعة من بقاعها ، ففي أى بقعة منها يكونون ، يدركهم قضاؤه وقدره.

وقوله : (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) إشارة إلى أن هربهم إلى السماء لا إلى الأرض ، لن ينجيهم مما يريده ـ سبحانه ـ بهم.

فالمقصود بالآية الكريمة : إظهار عجزهم المطلق أمام قدرة الله ـ تعالى ـ وعدم تمكنهم من الهرب من قضائه ، سواء ألجأوا إلى الأرض ، أم إلى السماء.

وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

١٣٧

ثم حكى ـ سبحانه ـ حالهم عند ما سمعوا ما يهديهم إلى الرشد ... فقال ـ تعالى ـ : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً ...).

أى : وأننا لما سمعنا الهدى ، أى : القرآن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آمَنَّا بِهِ) بدون تردد أو شك (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) وبما أنزله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلا يَخافُ بَخْساً) أى : نقصا في ثوابه (وَلا رَهَقاً) أى : ولا يخاف ـ أيضا ـ ظلما يلحقه بزيادة في سيئاته ، أو إهانة تذله وتجعله كسير القلب ، منقبض النفس.

فالمراد بالبخس : الغبن في الأجر والثواب. والمراد بالرهق : الإهانة والمذلة والمكروه.

والمقصود بالآية الكريمة إظهار ثقتهم المطلقة في عدالة الله ـ تعالى ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ ، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً. وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) تأكيد وتفصيل لما قبله.

والقاسطون : هم الجائرون الظالمون ، جمع قاسط ، وهو الذي ترك الحق واتبع الباطل ، اسم فاعل من قسط الثلاثي بمعنى جار ، بخلاف المقسط فهو الذي ترك الباطل واتبع الحق.

مأخوذ من أقسط الرباعي بمعنى عدل.

أى : وأنا ـ معاشر الجن ـ (مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) الذين أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة.

(وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أى : الجائرون المائلون عن الحق إلى الباطل.

(فَمَنْ أَسْلَمَ) منا (فَأُولئِكَ) المسلمون (تَحَرَّوْا رَشَداً) أى : توخوا وقصدوا الرشد والحق.

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) وهم الذين آثروا الغي على الرشد (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) أى : وقودا لجهنم ، كما توقد النار بما يلقى فيها من حطب وما يشبهه.

وإلى هنا نرى الآيات الكريمة قد حكت أقوالا متعددة ، لهؤلاء النفر من الجن ، الذين استمعوا إلى القرآن ، فآمنوا به ، وقالوا لن نشرك بربنا أحدا.

ثم بين ـ سبحانه ـ سنة من سننه التي لا تتخلف ، وهي أن الاستقامة على طريقه توصل إلى السعادة ، وأن الإعراض عن طاعته ـ تعالى ـ يؤدى إلى الشقاء ، وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلن للناس حقائق دعوته ، وخصائص رسالته ، وإقراره أمامهم بأنه لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، وأن علم الغيب مرده إلى الله ـ تعالى ـ وحده ، فقال ـ سبحانه ـ :

١٣٨

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)(٢٨)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ...) معطوف على قوله ـ تعالى ـ : (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ...) فهو من جملة الموحى به ، وهو من كلام الله ـ تعالى ـ لبيان سنة من سننه في خلقه ، واسم «أن» المخففة ضمير الشأن ، والخبر قوله ، (لَوِ اسْتَقامُوا ...) والضمير يعود على القاسطين سواء أكانوا من الإنس أم من الجن.

والماء الغدق : هو الماء الكثير ، يقال : غدقت عين فلان غدقا ـ كفرح ـ إذا كثر دمعها فهي غدقة ، ومنه الغيداق للماء الواسع الكثير ، والمراد : لأعطيناهم نعما كثيرة.

١٣٩

أى : ولو أن هؤلاء العادلين عن طريق الحق إلى طريق الباطل استقاموا على الطريقة المثلى ، التي هي طريق الإسلام ، والتزموا بما جاءهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربه ...

لو أنهم فعلوا ذلك ، لفتحنا عليهم أبواب الرزق ، ولأعطيناهم من بركاتنا وخيراتنا الكثير ... وخص الماء الغدق بالذكر ، لأنه أصل المعاش والسعة.

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) وقوله ـ سبحانه ـ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ...) وقوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ...).

ثم بين ـ سبحانه ـ الحكمة في هذا العطاء لعباده فقال : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) وأصل الفتن الامتحان والاختبار. تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : اختبرته لتعرف مقدار جودته.

والمعنى : نعطيهم ما نعطيهم من خيراتنا ، لنختبرهم ونمتحنهم ، ليظهر للخلائق موقفهم من هذه النعم ، أيشكروننا عليها فنزيدهم منها ، أم يجحدون ويبطرون فنمحقها من بين أيديهم ...؟.

والجملة الكريمة معترضة بين ما قبلها ، وبين قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً).

وقوله : (يَسْلُكْهُ) من السلك بمعنى إدخال الشيء في الشيء ومنه قوله ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ). والصّعد : الشاق. يقال : فلان في صعد من أمره ، أى : في مشقة وتعب ، وهو مصدر صعد ـ كفرح ـ صعدا وصعودا.

أى : ومن يعرض عن طاعة ربه ومراقبته وخشيته ... يدخله ـ سبحانه ـ في عذاب شاق أليم ، لا مفر منه ، ولا مهرب له عنه.

ومن الحقائق والحكم التي نأخذها من هاتين الآيتين ، أن الاستقامة على أمر الله ، تؤدى إلى السعادة التي ليس بعدها سعادة ، وأن رخاء العيش وشظافته هما لون من ألوان الابتلاء والاختبار ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) ، وأن الإعراض عن ذكر الله .... عاقبته الخسران المبين ، والعذاب الأليم.

قال القرطبي ما ملخصه : قوله : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أى لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم.

وقال عمر بن الخطاب في هذه الآية : أينما كان الماء كان المال ، وأينما كان المال كانت الفتنة

١٤٠