التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

فمعنى (لَأَسْقَيْناهُمْ) لوسعنا عليهم في الدنيا ، وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا ، لأن الخير والرزق كله ، بالمطر يكون ، فأقيم مقامه.

وفي صحيح مسلم ، عن أبى سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أخوف ما أخاف عليكم ، ما يخرج لكم من زهرة الدنيا ، قالوا : وما زهرة الدنيا؟ قال : بركات الأرض ...».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم ، فتنافسوها ، كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن المساجد التي تقام فيها الصلاة والعبادات ، يجب أن تنسب إلى الله ـ تعالى ـ وحده ، فقال : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً).

والجملة الكريمة معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ).

والمساجد : جمع مسجد ، وهو المكان المعد لإقامة الصلاة والعبادة فيه. واللام في قوله (لِلَّهِ) ، للاستحقاق.

أى : وأوحى إلىّ ـ أيضا ـ أن المساجد التي هي أماكن الصلاة والعبادة لا تكون إلا لله ـ تعالى ـ وحده ، ولا يجوز أن تنسب إلى صنم من الأصنام ، أو طاغوت من الطواغيت.

قال الإمام ابن كثير : قال قتادة : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم ، أشركوا بالله ، فأمر الله نبيه والمؤمنين ، أن يوحدوه وحده.

وقال سعيد بن جبير : نزلت في أعضاء السجود. أى : هي لله فلا تسجدوا بها لغيره ... وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : على الجبهة ـ وأشار بيده إلى أنفه ـ واليدين ، والركبتين ، وأطراف القدمين (٢).

ويبدو لنا أن المراد بالمساجد هنا الأماكن المعدة للصلاة والعبادة ، لأن هذا هو المتبادر من معنى الآية ، وأن المقصود بها توبيخ المشركين الذين وضعوا الأنصاب والأصنام ، في المسجد الحرام وأشركوها في العبادة مع الله ـ تعالى ـ.

وأضاف ـ سبحانه ـ المساجد إليه ، على سبيل التشريف والتكريم وقد تضاف إلى غيره ـ تعالى ـ على سبيل التعريف فحسب ، وفي الحديث الشريف : «الصلاة في مسجدى هذا خير من ألف صلاة في غيره ، إلا المسجد الحرام».

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ١٨.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٧٠.

١٤١

ثم بين ـ سبحانه ـ حال الصالحين من الجن ، عند ما استمعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ القرآن ، ويتقرب إلى الله ـ تعالى ـ بالعبادة فقال : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً).

أى : وأوحى الله ـ تعالى ـ فيما أوحى من شأن الجن ، (أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَدْعُوهُ) أى : يدعو الله ـ تعالى ـ ويعبده في الصلاة ، (كادُوا) أى : الجن (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أى : كادوا من شدة التزاحم عليه ، والتكتل حوله .. يكونون كاللبد ، أى : كالشىء الذي تلبد بعضه فوق بعض. ولفظ «لبدا» جمع لبدة ، وهي الجماعة المتزاحمة ، ومنه لبدة الأسد للشعر المتراكم في رقبته.

ووضع ـ سبحانه ـ الاسم الظاهر موضع المضمر ، إذ مقتضى الظاهر أن يقال : وأنه لما قمت تدعو الله .. أو لما قمت أدعو الله ... تكريما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث وصفه بأنه «عبد الله» لما في هذه الإضافة من التشريف والتكريم.

والجن : إنما ازدحموا حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلى ويقرأ القرآن ... تعجبا مما شاهدوه من صلاته ، ومن حسن قراءته ، ومن كمال اقتداء أصحابه ، قياما ، وركوعا ، وسجودا ... ومنهم من يرى أن الضمير في «كادوا» يعود لكفار قريش ، فيكون المعنى : وأنه لما قام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو ربه ... كادوا من تزاحمهم عليه ، يكونون كاللبد ، لا لكي ينتفعوا بما يسمعون ، ولكن لكي يطفئوا نور الله بأفواههم ، والحال أن الله ـ تعالى ـ قد رد كيدهم في نحورهم ، وأبى إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.

قال صاحب الكشاف : «عبد الله» هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن قلت : هلا قيل : رسول الله أو النبي؟ قلت : لأن تقديره وأوحى إلى أنه لما قام عبد الله ، فلما كان واقعا في كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه ، جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل ، أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله ، لله ـ تعالى ـ ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر ، حتى يكونوا عليه لبدا.

ومعنى «قام يدعوه» : قام يعبده. يريد : قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن ، فاستمعوا لقراءته ، وتزاحموا عليه.

وقيل معناه : لما قام رسول يعبد الله وحده ، مخالفا المشركين في عبادتهم كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته ، يزدحمون عليه متراكمين ... (١).

ويبدو لنا أن عودة الضمير في «كادوا» على مؤمنى الجن أرجح ، لأن هذا هو الموافق

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٣٠.

١٤٢

لإعجابهم بالقرآن الذي سمعوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن هذا هو الظاهر من سياق الآيات ، حيث إن الحديث عنهم ، ولأن الآثار قد وردت في أن الجن قد التفوا حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمعوه يقرأ القرآن.

ومن هذه الآثار قول الزبير بن العوام : هم الجن حين استمعوا القرآن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كادوا يركب بعضهم بعضا ازدحاما عليه ... (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلن لجميع من أرسل إليهم ، أنه لا يعبد أحدا سواه ـ عزوجل ـ فقال : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لجميع من أرسلناك إليهم من الجن والإنس : إنى أعبد ربي وحده ، وأتوجه إليه وحده بالدعاء والطلب ، ولا أشرك معه أحدا في عبادتي أو صلاتي أو نسكي ...

وقل لهم ، كذلك : (إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا) أى : لا أملك ما يضركم (وَلا رَشَداً) أى : ولا أملك ما ينفعكم ، وإنما الذي يملك ذلك هو الله ـ تعالى ـ وحده.

وقل لهم للمرة الثالثة : (إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) أى : إنى لن يمنعني أحد من الله ـ تعالى ـ إن أرادنى بسوء.

(وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أى : ولن أجد من دونه ملجأ أركن إليه. يقال : التحد فلان إلى كذا ، أى : مال إليه.

فالآية الكريمة بيان لعجزه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شئون نفسه أمام قدرة خالقه ـ عزوجل ـ بعد بيان عجزه عن شئون غيره.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ ....) استثناء من مفعول (لا أَمْلِكُ) ، وهما قوله قبل ذلك : (ضَرًّا وَلا رَشَداً) وما يليهما اعتراض مؤكد لنفى الاستطاعة. أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ إنى لا أملك ما يضركم ولا أملك ما ينفعكم ، وإنما الذي أملكه هو تبليغ رسالات ربي إليكم ، بأمانة واجتهاد.

والبلاغ : مصدر بلّغ ، وهو إيصال الكلام أو الحديث إلى الغير ، ويطلق على الكلام المبلغ من إطلاق المصدر على المفعول ، مثل : «هذا خلق الله» ، و «من» ابتدائية صفة لقوله : «بلاغا» أى : بلاغا كائنا من جهة الله ـ تعالى ـ وأمره. والرسالات : جمع رسالة ، وهي

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٤٣. وتفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٧١.

١٤٣

ما يرسل إلى الغير من كلام أو كتاب. والمراد بها هنا : تبليغ ما أوحاه الله ـ تعالى ـ إلى نبيه للناس.

قال الآلوسى ما ملخصه وقوله : (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ ....) استثناء من مفعول لا أملك ... وما بينهما اعتراض ... فإن كان المعنى : لا أملك أن أضركم ولا أن أنفعكم ، كان استثناء متصلا ، كأنه قيل : لا أملك شيئا إلا بلاغا ، وإن كان المعنى : لا أملك أن أقسركم على الغي والرشد ، كان منقطعا ، أو من باب : لا عيب فيهم غير أن سيوفنا ... أى : أنه من أسلوب تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، وقوله (وَرِسالاتِهِ) عطف على قوله (بَلاغاً) وقوله : (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف وقع صفه له. أى : بلاغا كائنا من الله ... (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك سوء عاقبة من يخالف أمره فقال : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمرا به ، أو نهيا عنه.

(فَإِنَّ لَهُ) أى : لهذا العاصي (نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أى : فحكمه أن له نار جهنم ، وجمع ـ سبحانه ـ خالدين باعتبار معنى «من» ، كما أن الإفراد في قوله (فَإِنَّ لَهُ) باعتبار لفظها.

وقوله : «أبدا» مؤكد لمعنى الخلود. أى : خالدين فيها خلودا أبديا لا نهاية له.

وقوله ـ سبحانه ـ : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) تهديد ووعيد للكافرين بسبب استهزائهم بالمؤمنين ، فقد حكى القرآن عن الكفار أنهم قالوا : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) ، (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) وقالوا : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

و (حَتَّى) هنا حرف ابتداء. وهي متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام ، وهو سخرية الكافرين من المؤمنين. و (إِذا) اسم زمان للمستقبل مضمن معنى الشرط ، وهي في محل نصب بجوابه الذي هو قوله (فَسَيَعْلَمُونَ).

والمعنى : أن هؤلاء الكفار لا يزالون على ما هم عليه من غرور وعناد وجحود ... حتى إذا رأوا ما يوعدون من العذاب في الدنيا والآخرة (فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ من هو أضعف جندا وأقل عددا ، أهم المؤمنون ـ كما يزعم هؤلاء الكافرون ـ؟ أم أن الأمر سيكون على العكس؟ لا شك أن الأمر سيكون على العكس ، وهو أن الكافرين في هذا اليوم سيكونون في غاية الضعف والذلة والهوان.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ٩٤.

١٤٤

وجيء بالجملة التي أضيف إليها لفظ «إذا» فعلا ماضيا ، للتنبيه على تحقق الوقوع. والآية الكريمة تشير إلى خيبة هؤلاء الكافرين ، وتلاشى آمالهم ... فإنهم في هذا اليوم سيفقدون الناصر لهم ، كما أنهم سيفقدونه من جهة أنفسهم ، لأنهم مهما كثر عددهم ، فهم مغلوبون.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله للمرة الرابعة ، أن يعلن للناس أن هذا اليوم الذي يأتى فيه نصر الله للمؤمنين لا يعلمه إلا هو ، فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ. أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ...).

أى : وقل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الكافرين إن نصر الله لنا آت لا ريب فيه ، وعذاب الله لكم آت ـ أيضا ـ لا ريب فيه ، ولكني لا أدرى ولا أعلم أيتحقق ذلك في الوقت العاجل القريب ، أم يجعل الله ـ تعالى ـ لذلك «أمدا» أى : غاية ومدة معينة من الزمان ، لا يعلم وقتها إلا هو ـ سبحانه ـ.

والمقصود من الآية الكريمة : بيان أن العذاب نازل بهم قطعا ولكن موعده قد يكون بعد وقت قريب ، وقد يكون بعد وقت بعيد ، لأن تحديد هذا الوقت مرده إلى الله ـ تعالى ـ وحده.

وقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) تعليل لما قبله. أى : أنا لا أدرى متى يكون عذابكم ـ أيها الكافرون ـ لأن مرد علم ذلك إلى الله ـ تعالى ـ الذي هو عليم بكل شيء من الظواهر والبواطن ، والذي اقتضت حكمته أن لا يطلع أحدا على غيوبه ، وعلى ما استتر وخفى من أمور خلقه.

وقوله : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) استثناء من النفي في قوله : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً).

أى : هو ـ سبحانه ـ عالم الغيب ، فلا يطلع على غيبه أحدا من خلقه ، إلا الرسول الذي ارتضاه واختاره من خلقه ، فإنه ـ سبحانه ـ قد يطلعه على بعض غيوبه ، ليكون ذلك معجزة له ، دالة على صدقه أمام قومه.

فإذا ما أراد ـ سبحانه ـ إطلاع رسوله المصطفى لحمل رسالته على بعض غيوبه ، سخر له من جميع جوانبه حرسا من الملائكة يحرسونه من وسوسة الشيطان ونوازعه ، ومن كل ما يتعارض مع توصيل وحيه ـ سبحانه ـ إلى رسله ، بكل أمانة وصيانة.

ومعنى (مَنِ ارْتَضى ...) : من اختار واصطفى واجتبى ، وعبر عن ذلك بقوله (مَنِ ارْتَضى) ، للإشعار بأنه ـ سبحانه ـ يخص هؤلاء الذين رضى عنهم ورضوا عنه بالاطلاع على بعض غيوبه ، على سبيل التأييد والتكريم لهم.

١٤٥

و «من» في قوله (مِنْ رَسُولٍ) للبيان. والمراد بالرسول هنا : ما يشمل كل رسول اختاره ـ سبحانه ـ لحمل رسالته ، سواء أكان من البشر أم من الملائكة.

والضمير في قوله ـ تعالى ـ (فَإِنَّهُ) و (يَسْلُكُ) يعودان على الله ـ عزوجل ـ وأطلق السلك على إيصال الخبر إلى الرسول المرتضى ، للإشعار بأن هذا الخبر الذي أطلع الله ـ تعالى ـ رسوله عليه ، قد وصل إليه وصولا مؤكدا ، ومحفوظا من كل تحريف ، كما يدخل الشيء في الشيء دخولا تاما بقوة وضبط ، إذ حقيقة السلك. إدخال الشيء في الشيء بشدة وعناية ...

والمراد بقوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) جميع الجهات ، وعبر عن جميع الجهات بذلك ، لأن معظم ما يتعرض له الإنسان يكون من هاتين الجهتين.

والرصد : جمع راصد ، وهو ما يحفظ الشيء ، ويصونه من كل ما لا يريده ، أى : إلا من ارتضى ـ سبحانه ـ من رسول ، فإنه ـ عزوجل ـ يطلعه على ما يشاؤه من غيوبه ، ويجعل له حراسا من جميع جوانبه ، يحفظونه من كل سوء.

قال الآلوسى : قوله : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ...) أى : لكن الرسول المرتضى بظهره ـ جل وعلا ـ على بعض الغيوب المتعلقة برسالته ... إما لكون بعض هذه الغيوب من مباديها ، بأن يكون معجزة ، وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية ، وكيفيات الأعمال وأجزيتها ، ونحو ذلك من الأمور الغيبية ، التي بيانها من وظائف الرسالة.

بأن يسلك من جميع جوانبه عند اطلاعه على ذلك ، حرسا من الملائكة يحرسونه من تعرض الشياطين ، لما أريد اطلاعه عليه ... (١).

واللام في قوله ـ تعالى ـ : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ...) متعلقة بقوله (يَسْلُكُ).

والضمير في (لِيَعْلَمَ) يعود إلى الله ـ تعالى ـ ، والمراد بالعلم : علم المشاهدة الذي يترتب عليه الجزاء ، أى : أطلع الله ـ تعالى ـ من ارتضاهم على بعض غيوبه ، وحرسهم من وصول الشياطين إلى هذا الذي أظهرهم عليه من غيوب ... ليعلم ـ تعالى ـ علم مشاهدة يترتب عليه الجزاء ، أن الرسل قد أبلغوا رسالته ـ سبحانه ـ إلى خلقه ، وأنه ـ تعالى ـ قد (أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) أى : أحاط علمه ـ تعالى ـ بكل ما لدى الرسل وغيرهم من أقوال

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ٩٦.

١٤٦

وأفعال ، (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أى : وأحصى كل شيء في هذا الكون إحصاء تاما ، وعلما كاملا.

قال الشوكانى : قوله : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ...) اللام متعلقة بيسلك ، والمراد به العلم المتعلق بالإبلاغ الموجود بالفعل ، و «أن» هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، والخبر الجملة ، والرسالات عبارة عن الغيب الذي أريد إظهاره لمن ارتضاه الله من رسول ...

وقال قتادة : ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو ، وفيه حذف تتعلق به اللام ، أى : أخبرناه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحفظنا الوحى ، ليعلم أن الرسل قبله كانوا على حالته من التبليغ بالحق والصدق.

وقيل : ليعلم الرسل أن الملائكة قد بلغوا رسالات ربهم ... (١).

ويبدو لنا أن عودة الضمير في «ليعلم» إلى الله ـ تعالى ـ هو الأظهر ، أى : ليعلم الله ـ تعالى ـ أن رسله قد أبلغوا رسالاته علم مشاهدة كما علمه غيبا ، لأن علم الله بذلك لا يكون إلا على وفق ما وقع ...

وهكذا ساقت لنا سورة «الجن» الكثير من الحقائق التي تتعلق بإصلاح العقائد والأخلاق والسلوك والأفكار التي طغى كثير منها على العقول والأفهام ...

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٣١٣ للشوكانى.

١٤٧
١٤٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة المزمل

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «المزمل» هي السورة الثالثة والسبعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي السورة الثالثة أو الرابعة ، إذ يرى بعضهم أنه لم يسبقها في النزول سوى سورتي العلق والمدثر ، بينما يرى آخرون أنه لم يسبقها سوى سور العلق ، ونون ، والمدثر.

وعدد آياتها عشرون آية عند الكوفيين ، وتسع عشرة آية عند البصريين وثماني عشرة آية عند الحجازيين.

٢ ـ وجمهور العلماء على أن سورة «المزمل» من السور المكية الخالصة ، فابن كثير ـ مثلا ـ عند تفسيره لها قال : تفسير سورة «المزمل» ، وهي مكية.

وحكى بعضهم أنها مكية سوى آيتين ، فقد قال القرطبي : مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة : هي مكية إلا آيتين منها ، وهما قوله ـ تعالى ـ : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً. وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ ...).

وقال الثعلبي : هي مكية إلا الآية الاخيرة منها وهي قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ ....) فإنها نزلت بالمدينة (١).

وقال الشيخ ابن عاشور ما ملخصه : وقال في الإتقان : إن استثناء قوله ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٣١.

١٤٩

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ...) إلى آخر السورة ، يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أنها قالت : نزلت هذه الآية بعد نزول صدر السورة بسنة ...

ثم قال الشيخ ابن عاشور : وهذا يعنى أن السورة كلها مكية ، والروايات تظاهرت على أن هذه الآية قد نزلت منفصلة عما قبلها ، بمدة مختلف في قدرها ، فعن عائشة أنها سنة ... ومن قال بأن هذه الآية مدنية ، يكون نزولها بعد نزول ما قبلها بسنين ...

والظاهر أن هذه الآية مدنية ، لقوله ـ تعالى ـ : (... وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ومن المعروف أن القتال لم يفرض إلا في المدينة ـ إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة (١).

٣ ـ والسورة الكريمة : زاخرة بالحديث الذي يدخل التسلية والصبر على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعلى من شأن القرآن الكريم ، ويرشد المؤمنين إلى ما يسعدهم ويصلح بالهم ، ويهدد الكافرين بسوء المصير إذا ما استمروا في طغيانهم ، ويذكّر الناس بأهوال يوم القيامة ... ويسوق لهم ألوانا من يسر شريعته ورأفته ـ عزوجل ـ بعباده ، وإثابتهم بأجزل الثواب على أعمالهم الصالحة.

__________________

(١) راجع تفسير التحرير والتنوير ج ٢٩ ص ٢٥٢ للشيخ ابن عاشور.

١٥٠

التفسير

افتتح ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)(١٩)

١٥١

وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه السورة الكريمة روايات منها ما رواه البزار والطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الدلائل عن جابر ـ رضى الله عنه ـ قال : اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسما تصدوا الناس عنه فقالوا : كاهن. قالوا : ليس بكاهن. قالوا : مجنون. قالوا : ليس بمجنون. قالوا : ساحر. قالوا : ليس بساحر ... فتفرق المشركون على ذلك. فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها. فأتاه جبريل فقرأ عليه : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ...).

وقيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان نائما بالليل متزملا في قطيفة ... فجاءه جبريل بقوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ...).

وقيل : إن سبب نزول هذه الآيات ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري ، هبطت ، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ... فرفعت رأسى فإذا الذي جاءني بحراء ، جالس على كرسي بين السماء والأرض ... فرجعت فقلت : دثروني دثروني ، وفي رواية : فجئت أهلى فقلت : زملوني زملوني ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ...) (١).

وجمهور العلماء يقولون : وعلى أثرها نزلت : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ...).

و (الْمُزَّمِّلُ) : اسم فاعل من تزمل فلان بثيابه ، إذا تلفف فيها ، وأصله المتزمل ، فأدغمت التاء في الزاى والميم.

وافتتح الكلام بالنداء للتنبيه على أهمية ما يلقى على المخاطب من أوامر أو نواه.

وفي ندائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفظ «المزمل» تلطف معه ، وإيناس لنفسه ، وتحبب إليه ، حتى يزداد نشاطا ، وهو يبلغ رسالة ربه.

والمعنى : يا أيها المتزمل بثيابه ، المتلفف فيها ، رهبة مما رآه من عبدنا جبريل. أو هما وغما مما سمعه من المشركين ، من وصفهم له بصفات هو برىء منها.

(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) أى : قم الليل متعبدا لربك ، (إِلَّا قَلِيلاً) منه ، على قدر ما تأخذ من راحة لبدنك ، فقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء من الليل ...

وقوله (نِصْفَهُ) بدل من (قَلِيلاً) بدل كل من كل ، على سبيل التفصيل بعد الإجمال ...

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٣٢ تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١٠١.

١٥٢

أى : قم نصف الليل للعبادة لربك ، واجعل النصف الثاني من الليل لراحتك ونومك ...

ووصف ـ سبحانه ـ هذا النصف الكائن للراحة بالقلة فقال (إِلَّا قَلِيلاً) للإشعار بأن النصف الآخر ، العامر بالعبادة والصلاة ... هو النصف الأكثر ثوابا وقربا من الله ـ تعالى ـ بالنسبة للنصف الثاني المتخذ للراحة والنوم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ...) تخيير له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يفعله ، وإظهار لما اشتملت عليه شريعة الإسلام من يسر وسماحة ...

فكأنه ـ تعالى ـ يقول له على سبيل التلطف والإرشاد إلى ما يشرح صدره ـ يا أيها المتلفف بثيابه ، قم الليل للعبادة والصلاة ، إلا وقتا قليلا منه يكون لراحتك ونومك ، وهذا الوقت القليل المتخذ للنوم والراحة قد يكون نصف الليل ، أو قد يكون أقل من النصف بأن يكون في حدود ثلث الليل ، ولك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تزيد على ذلك ، بأن تجعل ثلثى الليل للعبادة ، وثلثه للنوم والراحة ...

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد رخص لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن يجعل نصف الليل أو ثلثه ، أو ثلثيه للعبادة والطاعة. وأن يجعل المقدار الباقي من الليل للنوم والراحة ...

وخص ـ سبحانه ـ الليل بالقيام ، لأنه وقت سكون الأصوات ... فتكون العبادة فيه أكثر خشوعا ، وأدعى لصفاء النفس ، وطهارة القلب ، وحسن الصلة بالله ـ عزوجل ـ.

هذا ، وقد استمر وجوب الليل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بعد فرض الصلوات الخمس عليه وعلى أمته. تعظيما لشأنه ، ومداومة له على مناجاة ربه ، خصوصا في الثلث الأخير من الليل ، يدل على ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (١).

وقد كان المسلمون يقتدون بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قيام الليل وقد أثنى ـ سبحانه ـ عليهم بسبب ذلك في آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).

وقد ذكر الإمام أحمد حديثا طويلا عن سعيد بن هشام ، وفيه أنه سأل السيدة عائشة عن قيامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالليل ، فقالت له : ألست تقرأ هذه السورة ، يا أيها المزمل ...؟.

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٧٩.

(٢) سورة السجدة الآيتان ١٦ ، ١٧.

١٥٣

إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم. وأمسك الله ختامها في السماء اثنى عشر شهرا. ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة .. (١).

قال القرطبي ما ملخصه : واختلف : هل كان قيام الليل فرضا وحتما ، أو كان ندبا وحضا؟ والدلائل تقوى أن قيامه كان حتما وفرضا ، وذلك أن الندب والحض ، لا يقع على بعض الليل دون بعض ، لأن قيامه ليس مخصوصا به وقت دون وقت.

واختلف ـ أيضا ـ هل كان فرضا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده؟ أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء؟ أو عليه وعلى أمته؟ ثلاثة أقوال ... أصحها ثالثها للحديث المتقدم الذي رواه سعيد بن هشام عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ (٢).

وقال بعض العلماء بعد أن ساق أقوال العلماء في هذه المسألة بشيء من التفصيل : والذي يستخلص من ذلك أن أرجح الأقوال ، هو القول القائل بأن التهجد كان فريضة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أمته ، إذ هو الذي يمكن أن تأتلف عليه النصوص القرآنية ، ويشهد له ما تقدم من الآثار عن ابن عباس وعائشة وغيرهما.

ويرى بعض العلماء أن وجوب التهجد باق على الناس جميعا ، وأنه لم ينسخ ، وإنما الذي نسخ هو وجوب قيام جزء مقدر من الليل ، لا ينقص كثيرا عن النصف ..

ويرد على هذا القول بما ثبت في الصحيحين ، من أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للرجل الذي سأله عما يجب عليه من صلاة؟ قال : خمس صلوات في اليوم والليلة. قال : هل على غيرها؟ قال : لا إلا أن تطوع».

ويرى فريق آخر : أن قيام الليل نسخ عن الرسول وعن أمته بآخر سورة المزمل. واستبدل به قراءة القرآن ، على ما يعطيه قوله ـ تعالى ـ (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ويدل عليه ـ أيضا ـ ظاهر ما روى عن عائشة ، من قولها : فصار قيام الليل تطوعا من بعد الفريضة ، دون أن تقيد ذلك بقيد.

ويرى فريق ثالث : أن وجوب التهجد استمر على النبي وعلى الأمة ، حتى نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج.

ويرى فريق رابع : أن قيام الليل نسخ عن الأمة وحدها ، وبقي وجوبه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يعطيه ظاهر آية الإسراء.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٧٨.

(٢) راجع تفسير القرطبي.

١٥٤

ولعل أرجح هذه الأقوال هو القول الرابع .. فإن آية سورة الإسراء وهي قوله ـ تعالى ـ : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ...) تدل على أن وجوب التهجد قد بقي عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) إرشاد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته إلى أفضل طريقة لقراءة القرآن الكريم ، حتى يستمروا عليها ، وهم في أول عهدهم بنزول القرآن الكريم.

والترتيل : جعل الشيء مرتلا ، أى : منسقا منظما ، ومنه قولهم : ثغر مرتل ، أى : منظم الأسنان ، لم يشذ بعضها عن بعض ...

أى : قم ـ أيها الرسول الكريم ـ الليل إلا قليلا منه ... متعبدا لربك مرتلا للقرآن ترتيلا جميلا حسنا ، تستبين معه الكلمات والحروف ، حتى يفهمها السامع ، وحتى يكون ذلك أعون على حسن تدبره ، وأثبت لمعانيه في القلب ...

قال الإمام ابن كثير : وكذلك كان يقرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد قالت عائشة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ السورة فيرتلها ... وسئل أنس عن قراءته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : كانت مدا ... وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «زينوا القرآن بأصواتكم».

وقال عبد الله بن مسعود : لا تنثروه نثر الرمل ، ولا تهذوه هذّ الشّعر وقفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب (٢) ـ أى لا تسرعوا في قراءته كما تسرعوا في قراءة الشعر. والهذ : سرعة القطع ـ هذا ، وليس معنى قوله ـ سبحانه ـ : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) ، أن يقرأ بطريقة فيها تلحين أو تطريب يغير من ألفاظ القرآن ، ويخل بالقراءة الصحيحة من حيث الأداء ، ومخارج الحروف ، والغن والمد ، والإدغام والإظهار ... وغير ذلك مما تقتضيه القراءة السليمة للقرآن الكريم.

وإنما معنى قوله ـ تعالى ـ : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) أن يقرأه بصوت جميل وبخشوع وتدبر ، وبالتزام تام للقراءة الصحيحة ، من حيث مخارج الحروف ومن حيث الوقف والمد والإظهار والإخفاء ، وغير ذلك ...

وقد بسط القول في هذه المسألة بعض العلماء فارجع إليه إن شئت (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) تعليل للأمر بقيام الليل ، وهو كلام

__________________

(١) راجع تفسير الأحكام ج ٤ ص ١٩٠ للشيخ محمد على السائس ـ رحمه‌الله.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٧٦.

(٣) راجع تفسير آيات الأحكام ج ٤ ص ١٩٣ للشيخ السائس.

١٥٥

معترض بين قوله ـ سبحانه ـ (قُمِ اللَّيْلَ ...) وبين قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ ....).

والمراد بالقول الثقيل : القرآن الكريم الذي أنزله ـ سبحانه ـ على قلب نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويشهد لثقل القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث كثيرة ، منها : ما رواه الإمام البخاري من أن السيدة عائشة قالت : ولقد رأيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينزل عليه الوحى ، في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.

ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من مرة يوحى إلى ، إلا ظننت أن نفسي تفيض» ـ أى : تخرج ...

ومنها قول زيد بن ثابت : أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء من القرآن ـ وفخذه على فخذي فكادت ترض فخذي ـ أى : تتكسر ...

ومنها ما رواه هشام بن عروة عن أبيه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أوحى عليه وهو على ناقته ، وضعت جرانها ـ أى باطن عنقها ـ فما تستطيع أن تتحرك ، حتى يسرّى عنه (١).

أى : قم ـ أيها الرسول الكريم ـ الليل إلا قليلا منه متعبدا لربك ، متقربا إليه بألوان الطاعات ، فإنا سنلقى عليك قولا ثقيلا ، وهذا القول هو القرآن الكريم ، الثقيل في وزنه وفي ميزان الحق ، وفي أثره في القلوب ، وفيما اشتمل عليه من تكاليف ، وصدق الله إذا يقول : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ...)

قال الجمل : قوله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) أى : كلاما عظيما جليلا ذا خطر وعظمة ، لأنه كلام رب العالمين ، وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل.

أو هو ثقيل لما فيه من التكاليف ، والوعد والوعيد ، والحلال والحرام ، والحدود والأحكام.

قال قتادة : ثقيل والله في فرائضه وحدوده ... وقال محمد بن كعب : ثقيل على المنافقين ، لأنه يهتك أسرارهم ... وقال السدى : ثقيلا بمعنى كريم ، مأخوذ من قولهم : فلان ثقل علىّ ، أى كرم على ... وقال ابن المبارك : هو والله ثقيل مبارك ، كما ثقل في الدنيا ، ثقل في الميزان يوم القيامة.

وقيل : ثقيلا بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه ، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته. والفقهاء بحثوا في أحكامه ... والأولى أن جميع هذه المعاني فيه.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٧٧.

١٥٦

وقيل : المراد بالقول الوحى ، كما في الخبر ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أوحى إليه ، وهو على ناقته وضعت جرانها ـ أى : وضعت صدرها على الأرض ـ فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه ... (١).

ويبدو لنا أن وصف القرآن بالثقل وصف حقيقى ، لما ثبت من ثقله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت نزوله عليه ... وهذا لا يمنع أن ثقله يشمل ما اندرج فيه من علوم نافعة ، ومن هدايات سامية ، ومن أحكام حكيمة ، ومن آداب قويمة ، ومن تكاليف جليلة الشأن.

وعبر ـ سبحانه ـ عن إيحائه بالقرآن إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإلقاء للإشعار بأنه يلقى إليه على غير ترقب منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل ينزل إليه في الوقت الذي يريده ـ سبحانه ـ وللإشارة من أول الأمر إلى أن ما يوحى إليه شيء عظيم وشديد الوقع على النفس.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك الحكمة من أمره له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقيام الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة فقال : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً).

وقوله : (ناشِئَةَ) : وصف من النشء وهو الحدوث ، وهو صفة لموصوف محذوف. وقوله : (وَطْئاً) بمعنى مواطأة وموافقة ، وأصل الوطء : وضع الرجل على الأرض بنظام وترتيب ، ثم استعير للموافقة ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) ، ومنه قولهم : وطأت فلانا على كذا ، إذا وافقته عليه. وهو منصوب على التمييز. وقوله : (قِيلاً) بمعنى قولا.

وقوله : (أَقْوَمُ) بمعنى أفضل وأنفع.

والمعنى : يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة. فإن العبادة الناشئة بالليل. هي أشد مواطأة وموافقة لإصلاح القلب ، وتهذيب النفس ، وأقوم قولا ، وأنفع وقعا ، وأفضل قراءة من عبادة النهار ، لأن العبادة الناشئة بالليل يصحبها ما يصحبها من الخشوع والإخلاص ، لهدوء الأصوات بالليل ، وتفرغ العابد تفرغا تاما لعبادة ربه.

قال الشوكانى ما ملخصه : قوله : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ ...) أى : ساعاته وأوقاته ، لأنها تنشأ أولا فأولا ، ويقال : نشأ الشيء ينشأ ، إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شيء ، فهو ناشئ ... قال الزجاج : ناشئة الليل ، كل ما نشأ منه ، أى : حدث منه ... والمراد ساعات الليل الناشئة ، فاكتفى بالوصف عن الاسم الموصوف.

وقيل : إن ناشئة الليل ، هي النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة ، أى : تنهض ، من

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤٢٨.

١٥٧

نشأ من مكانه ، إذا نهض منه.

(هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) قرأ الجمهور (وَطْئاً) بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة ، وقرأ بعضهم وطاء بكسر الواو وفتح الطاء ممدودة.

والمعنى على القراءة الأولى : أن الصلاة الناشئة في الليل ، أثقل على المصلى من صلاة النهار ، لأن الليل للنوم ... ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم اشدد وطأتك على مضر».

والمعنى على القراءة الثانية : أنها أشد مواطأة وموافقة بين السمع والبصر والقلب واللسان ، لانقطاع الأصوات والحركات ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) أى : ليوافقوا.

(وَأَقْوَمُ قِيلاً) أى : وأشد مقالا. وأثبت قراءة ، لحضور القلب فيها ، وهدوء الأصوات ، وأشد استقامة واستمرارا على الصواب ... (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) تقرير للأمر بقيام الليل إلا قليلا منه للعبادة والطاعة والتقرب إليه ـ سبحانه ـ.

والسبح : مصدر سبح ، وأصله الذهاب في الماء والتقلب فيه ثم استعير للتقلب والتصرف المتسع ، الذي يشبه حركة السابح في الماء.

أى : إنا أمرناك بقيام الليل للعبادة والطاعة ، لأن لك في النهار ـ أيها الرسول الكريم ـ تقلبا وتصرفا في مهماتك ، واشتغالا بأعباء الرسالة يجعلك لا تستطيع التفرغ لعبادتنا ، أما في الليل فتستطيع ذلك لأنه وقت السكون والراحة والنوم.

فالمقصود من الآية الكريمة التخفيف والتيسير عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان الحكمة من أمره بقيام الليل ـ إلا قليلا منه ـ للعبادة ، حيث لم يجمع ـ سبحانه ـ عليه الأمر بالتهجد في الليل والنهار ، وإنما يسر عليه الأمر ، فجعله بالليل فحسب ، أما النهار فهو لمطالب الحياة : ولتبليغ رسالته ـ سبحانه ـ إلى الناس.

ثم أمره ـ سبحانه ـ بعد ذلك بالمداومة على ذكره ليلا ونهارا فقال : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَتَبَتَّلْ) من التبتل ، وهو الاشتغال الدائم بعبادة الله ـ تعالى ـ ، والانقطاع لطاعته. ومنه قولهم بتل فلان الحبل ، إذا قطعه ، وامرأة بتول.

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٣١٧ للشوكانى.

١٥٨

أى : منقطعة عن الزواج ، ومتفرغة لعبادة الله ـ تعالى ـ والمراد به هنا : التفرغ لما يرضى الله ـ تعالى ـ ، والاشتغال بذلك عن كل شيء سواه.

أى : وداوم ـ أيها الرسول الكريم ـ على ذكر الله ـ تعالى ـ عن طريق تسبيحه ، وتحميده وتكبيره ، وتفرغ لعبادته وطاعته تفرغا تاما ، دون أن يشغلك عن ذلك شاغل.

فربك ـ عزوجل ـ هو (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ). أى : هو ـ سبحانه ـ رب جهتي الشروق والغروب للشمس.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مستحق للعبادة والطاعة ، وما دام الأمر كذلك (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً).

أى : فاتخذه وكيلك الذي تفوض إليه أمرك ، وتلجأ إليه في كل أحوالك ... إذ الوكيل هو الذي توكل إليه الأمور ، ويترك له التصرف فيها.

وليس المراد بقوله ـ تعالى ـ : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) الانقطاع التام عن الأعمال ، لأن هذا يتنافى مع قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) ، وإنما المراد التنبيه إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينبغي له أن لا يشغله السبح الطويل بالنهار ، عن طاعته ـ عزوجل ـ وعن المداومة على مراقبته وذكره.

ومما لا شك فيه أن ما كان يقوم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الاشتغال بأمر الدعوة إلى وحدانية الله ـ تعالى ـ ، ومن تعليم الناس العلم النافع ، والعمل الصالح ... كل ذلك يندرج تحت المواظبة على ذكر الله ـ تعالى ـ ، وعلى التفرغ لعبادته.

وقال ـ سبحانه ـ (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) ولم يقل تبتلا حتى يكون الفعل موافقا لمصدره ، للإشارة إلى أن التبتل والانقطاع إلى الله يحتاجان إلى عمل اختياري منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأن يجرد نفسه عن كل ما سوى الله ـ تعالى ـ ، وبذلك يحصل التبتل الذي هو أثر للتبتيل ، بمعنى : ترويض النفس وتعويدها على العبادة والطاعة.

ووصف ـ سبحانه ـ ذاته بأنه (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ، لمناسبة الأمر بذكره في الليل والنهار ، وهما وقت ابتداء طلوع الشمس وغروبها ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : داوم على طاعتي لأنى أنا رب جميع جهات الأرض ، التي فيها تشرق الشمس وتغرب.

والمراد بالمشرق والمغرب هنا جنسهما ، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس ، التي هي ثلاثمائة وستون مشرقا ـ كما يقول العلماء ـ وعلى كل مغرب من مغاربها التي هي كذلك.

والمراد بالمشرقين والمغربين كما جاء في سورة الرحمن : مشرق ومغرب الشتاء والصيف.

١٥٩

والمراد بالمشارق والمغارب كما جاء في سورة المعارج : مشرق ومغرب كل يوم للشمس والكواكب.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك بالصبر الجميل ، على أذى قومه فقال : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ....).

أى : اجعل يا محمد اعتمادك وتوكلك على وحدي ، واصبر على ما يقوله أعداؤك في حقك من أكاذيب وخرافات ... واهجرهم هجرا جميلا ، أى : واعتزلهم وابتعد عنهم ، وقاطعهم مقاطعة حسنة ، بحيث لا تقابل السيئة يمثلها ، ولا تزد على هجرهم : بأن تسبهم ، أو ترميهم بالقبيح من القول ...

قال الإمام الرازي ما ملخصه : والمعنى أنك لما اتخذتني وكيلا فاصبر على ما يقولون ، وفوض أمرهم إلى ، فإنى لما كنت وكيلا لك أقوم بإصلاح أمرك ، أحسن من قيامك بإصلاح نفسك.

واعلم أن مهمات العباد محصورة في أمرين : في كيفية معاملتهم مع الله ، وقد ذكر ـ سبحانه ـ ذلك في الآيات السابقة ، وفي كيفية معاملتهم مع الخلق ، وقد جمع ـ سبحانه ـ كل ما يحتاج إليه في هذا الباب في هاتين الكلمتين ، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مخالطا للناس ، أو مجانبا لهم.

فإن كان مخالطا لهم فعليه أن يصبر على إيذائهم ... وإما أن يكون مجانبا لهم ، فعليه أن يهجرهم هجرا جميلا ... بأن يجانبهم بقلبه وهواه ، ويخالفهم في أفعالهم ، مع المداراة والإغضاء ... (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) أى : ودعني وشأنى مع هؤلاء المكذبين بالحق ، ولا تهتم أنت بأمرهم ، فأنا خالقهم ، وأنا القادر على كل شيء يتعلق بهم.

وقوله : (أُولِي النَّعْمَةِ) وصف لهم جيء به على سبيل التوبيخ لهم ، والتهكم بهم ، حيث جحدوا نعم الله ، وتوهموا أن هذه النعم من مال أو ولد ستنفعهم يوم القيامة.

والنّعمة ـ بفتح النون مع التشديد ـ : تطلق على التنعم والترفه وغضارة العيش في الدنيا.

__________________

(١) راجع تفسير فخر الرازي ج ٨ ص ٢٤٠.

١٦٠