التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

ببيان أن هذا القرآن من عنده ـ تعالى ـ وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ، فقال :

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٢٩)

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ..) للتفريع على ما تقدم من تحقيق وقوع البعث ، وهي تعطى ـ أيضا ـ معنى الإفصاح ، و «لا» مزيدة لتأكيد القسم ، وجواب القسم قوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ).

و (بِالْخُنَّسِ) ـ بزنة ركّع ـ جمع خانس ، والخنوس : الاستخفاء والاستتار ، يقال : خنست الظبية والبقرة ، إذا اختفت في بيتها.

و (الْجَوارِ) جمع جارية ، وهي التي تجرى بسرعة ، من الجري بمعنى الإسراع في السير.

و (الْكُنَّسِ) جمع كانس. يقال : كنس الظبى ، إذا دخل كناسه ـ بكسر الكاف ـ وهو البيت الذي يتخذه للمبيت ، وسمى بذلك لأنه يتخذه من أغصان الأشجار ، ويكنس الرمل إليه حتى يكون مختفيا عن الأعين.

وهذه الصفات ، المراد بها النجوم ، لأنها بالنهار تكون مختفية عن الأنظار ، ولا تظهر إلا بالليل ، فشبهت بالظباء التي تختفى في بيوتها ولا تظهر إلا في أوقات معينة.

أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن البعث حق ... فأقسم بالنجوم التي تخنس

٣٠١

بالنهار ، أى : يغيب ضوؤها عن العيون بالنهار ، ويظهر بالليل ، والتي تجرى من مكان إلى آخر بقدرة الله ـ تعالى ـ ثم تكنس ـ أى : تستتر وقت غروبها ـ كما تتوارى الظباء في كنسها ... إن هذا القرآن لقول رسول كريم.

قال ابن كثير ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ) : هي النجوم تخنس بالنهار ، وتظهر بالليل ، روى ذلك عن على بن أبى طالب وابن عباس ومجاهد.

وقال بعض الأئمة : وإنما قيل للنجوم «الخنس» أى : في حال طلوعها ، ثم هي جوار في فلكها ، وفي حال غيبوبتها ، يقال لها «كنس» ، من قول العرب. أوى الظبى إلى كناسه : إذا تغيب فيه.

وفي رواية عن ابن عباس : أنها الظباء ، وفي أخرى أنها بقر الوحش حين تكنس إلى الظل أو إلى بيوتها.

وتوقف ابن جرير في قوله : (بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) هل هي النجوم أو الظباء وبقر الوحش قال : ويحتمل أن يكون الجميع مرادا .. (١).

وقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ. وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) معطوف على ما قبله. وداخل في حيز القسم.

وقوله (عَسْعَسَ) أدبر ظلامه أو أقبل ، فهذا اللفظ من الألفاظ التي تستعمل في الشيء وضده ، إلا أن المناسب هنا يكون المراد به إقبال الظلام ، لمقابلته بالصبح إذا تنفس ، أى : أضاء وأسفر وتبلج.

وقيل : العسعسة : رقة الظلام وذلك في طرفي النهار ، فهو من المشترك المعنوي ، وليس من الأضداد ، أى : أقبل وأدبر معا. أى : وحق النجوم التي تغيب بالنهار ، وتجرى في حال استتارها .. وحق الليل إذا أقبل بظلامه ، والصبح إذا أقبل بضيائه.

(إِنَّهُ) أى : القرآن الكريم (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) وهو جبريل ـ عليه‌السلام ـ الذي أرسله ربه إلى نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكي يبلغه وحيه ـ تعالى ـ.

وأقسم الله ـ تعالى ـ بهذه الأشياء ، لأنها في حركاتها المختلفة ، من ظهور وأفول ، ومن إقبال وإدبار .. تدل دلالة ظاهرة على قدرة الله ـ تعالى ـ ، وعلى بديع صنعه في خلقه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٦٠.

٣٠٢

ونسب ـ سبحانه ـ القول إلى الرسول ـ وهو جبريل ـ لأنه هو الواسطة في تبليغ الوحى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم وصف ـ سبحانه ـ أمين وحيه جبريل بخمس صفات : أولها : قوله (كَرِيمٍ) أى : ملك شريف ، حسن الخلق ، بهى المنظر ، ثانيها : (ذِي قُوَّةٍ) أى : صاحب قوة وبطش.

كما قال ـ تعالى ـ : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ..) ثالثها : (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أى : أن من صفات جبريل ـ عليه‌السلام ـ أنه ذو مكانة رفيعة ، ومنزلة عظيمة عند الله ـ تعالى ـ.

رابعها : قوله ـ تعالى ـ (مُطاعٍ) أى يطيعه من معه من الملائكة المقربين.

وخامسها : قوله : ـ سبحانه ـ (ثَمَّ أَمِينٍ) و «ثم» بفتح الثاء ـ ظرف مكان للبعيد. والعامل ما قبله أو ما بعده ، والمعنى : أنه مطاع في السموات عند ذي العرش ، أو أمين فيها ، أى : يؤدى ما كلفه الله ـ تعالى ـ به بدون أية زيادة أو نقص.

قال الشوكانى : ومن قال إن المراد بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمعنى : أنه ذو قوة على تبليغ الرسالة إلى الأمة ، مطاع يطيعه من أطاع الله ، أمين على الوحى.

وقوله : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) : الخطاب لأهل مكة ، والمراد بصاحبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمعنى : وما محمد يا أهل مكة بمجنون ، وذكره بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره ، وأنه ليس مما يرمونه من الجنون وغيره في شيء ، وأنهم افتروا عليه ذلك ، عن علم منهم ، بأنه أعقل الناس وأكملهم ، وهذه الجملة داخلة في جواب القسم.

فأقسم ـ سبحانه ـ بأن القرآن نزل به جبريل ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس كما يقولون من أنه مجنون ، وأنه يأتى بالقرآن من جهة نفسه (١).

فالمقصود بالآية نفى الجنون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأكمل وجه ، وتوبيخ أعدائه الذين اتهموه بتهمة هم أول من يعلم ـ عن طريق مشاهدتهم لاستقامة تفكيره ، وسمو أخلاقه ـ أنه أكمل الناس عقلا وأقومهم سلوكا.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) معطوف ـ أيضا ـ على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فهو من جملة المقسم عليه.

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٣٩١ ، للشوكانى.

٣٠٣

والمقصود بهذه الرؤية : رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل ـ عليه‌السلام ـ لأول مرة ، على الهيئة التي خلقه الله عليها ، عند ما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعبد في غار حراء ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد سأل جبريل أن يريه نفسه ، على الهيئة التي خلقه الله ـ تعالى ـ عليها.

والأفق : هو الفضاء الواسع الذي يبدو للعين ما بين السماء والأرض.

والمبين : وصف للأفق ، أى : بالأفق الواضح البين ، الذي لا تشتبه معه المرئيات.

والمعنى : وو الله لقد رأى صاحبكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل ، بصورته التي خلقه الله عليها ، بالأفق الواضح البين ، الذي لا تلتبس فيه المرئيات ، ولا مجال فيه للأوهام والتخيلات.

والمقصود من الآية الكريمة الرد على المشركين الذين كانوا إذا أخبرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه رأى جبريل. كذبوه واستهزءوا به ، وتأكيد أن هذه الرؤية كانت حقيقة واقعة ، لا مجال معها للتشكيك أو اللبس.

قال الإمام ابن كثير : وقوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) يعنى : ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله ـ عزوجل ـ وعلى الصورة التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أى : البين ، وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء ـ أى بالمكان المجاور لغار حراء. وهي المذكورة في قوله ـ تعالى ـ : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ..) (١).

والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) يعود إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعبر عنه قبل ذلك (بِصاحِبِكُمْ).

والغيب : ما غاب عن مدارك الناس وحواسهم ، لأن الله ـ تعالى ـ قد استأثر بعلمه.

والضنين : هو البخيل بالشيء ، مأخوذ من الضن ـ بالكسر والفتح ـ بمعنى البخل.

قال الآلوسى : «وما هو» أى : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «على الغيب» أى : على ما يخبر به من الوحى إليه وغيره من الغيوب «بضنين» من الضن ـ بكسر الضاد وفتحها ـ بمعنى البخل ، أى : ببخيل ، أى : لا يبخل بالوحي ، ولا يقصر في التعليم والتبليغ ، ومنح كل ما هو مستعد له من العلوم ، على خلاف الكهنة فإنهم لا يطلعون غيرهم على ما يزعمون معرفته إلا بإعطائهم حلوانا.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٦١ ، وراجع تفسيرنا لهذه الآيات في سورة النجم.

٣٠٤

وقرأ ابن كثير والكسائي وأبو عمر بظنين ـ بالظاء ـ أى : وما هو على الغيب بمتهم ، من الظنة ـ بالكسر ـ بمعنى التهمة.

ثم قال : ورجحت هذه القراءة ، لأنها أنسب بالمقام ، لاتهام الكفرة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، ونفى التهمة ، أولى من نفى البخل. (١).

وهذا القول لا نوافق الآلوسى ـ رحمه‌الله ـ عليه ، لأن القراءة متى ثبتت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يجوز التفاضل بينها وبين غيرها التي هي مثلها في الثبوت ، والقراءتان هنا سبعيتان ، ومن ثم فلا ينبغي التفاضل بينهما. والمعنى عليهما واضح ولا تعارض فيه.

أى : وما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببخيل بتبليغ الوحى ، بل هو مبلغ له على أكمل وجه وأتمه ، وما هو ـ أيضا ـ بمتهم فيما يبلغه عن ربه ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد أهل الصدق والأمانة.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) معطوف ـ أيضا ـ على قوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) والضمير هنا يعود على القرآن الكريم.

أى : وليس هذا القرآن الكريم ، المنزل على سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول شيطان مرجوم مسترق للسمع .. وإنما هو كلام الله ـ تعالى ـ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وهذا رد آخر على المشركين الذين زعموا أن القرآن الكريم إنما هو من باب الكهانة ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هو كاهن ، تلقنه الشياطين هذا القرآن.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) جملة معترضة بين ما سبقها ، وبين قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ، والمقصود فيها توبيخهم وتعجيزهم عن أن يأتوا ولو بحجة واحدة يدافعون بها عن أنفسهم.

والفاء لتفريع هذا التعجيز والتوبيخ ، على الحجج السابقة ، المثبتة بأن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ وليس من عند غيره.

وأين اسم استفهام عن المكان ، والاستفهام هنا للتعجيز والتقريع ، وهو منصوب بقوله : (تَذْهَبُونَ).

أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم ، فأى طريق تسلكون أوضح وأبين من هذا الطريق الذي أرشدناكم إليه؟ إنه لا طريق لكم سوى هذا الطريق الذي أرشدناكم إليه.

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ٦١.

٣٠٥

قال صاحب الكشاف : قوله : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) استضلال لهم ، كما يقال لتارك الجادة اعتسافا أو ذهابا في بنيات الطريق ـ أى : في الطريق المتشعبة عن الطريق الأصلى ـ أين تذهب؟ مثلت حالهم في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل (١).

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أى : ما هذا القرآن الكريم ، إلا تذكير وإرشاد وهدايات للبشر جميعا.

وهذا الذكر العظيم إنما هو (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) أى : هو نافع لمن شاء منكم ـ أيها الناس ـ أن يستقيم على طريق الحق ، وأن يلزم الرشاد ويترك الضلال.

والجملة الكريمة بدل مما قبلها ، للإشعار بأن الذين استجابوا لهدى القرآن قد شاءوا لأنفسهم الهداية والاستقامة.

فالمقصود بهذه الجملة : الثناء عليهم ، والتنويه بشأنهم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، ببيان أن مشيئته ـ تعالى ـ هي النافذة ، فقال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

أى : وما تشاءون الاستقامة أو غيرها ، إلا إذا شاءها وأرادها الله ـ تعالى ـ رب العالمين ، إذ مشيئة الله ـ تعالى ـ هي النافذة ، أما مشيئتكم فلا وزن لها إلا إذا أذنت بها مشيئته ـ تعالى ـ.

فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن كل مشيئة لا قيمة لها ولا وزن .. إلا إذا أيدتها مشيئة الله ـ عزوجل ـ.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧١٣.

٣٠٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الانفطار

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الانفطار» من السور المكية الخالصة ، وتسمى ـ أيضا ـ سورة «إذا السماء انفطرت» ، وسورة «المنفطرة» أى : السماء المنفطرة.

٢ ـ وعدد آياتها : تسع عشرة آية. وهي السورة الثانية والثمانون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول ، فكان نزولها بعد سورة (النازعات) ، وقبل سورة (الانشقاق) ، أى أنها السورة الثانية والثمانون ـ أيضا ـ في ترتيب النزول.

٣ ـ وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على إثبات البعث ، وعلى أهوال يوم القيامة ، وعلى تنبيه الناس إلى وجوب الاستعداد لهذا اليوم الشديد ، وعلى جانب من نعم الله على خلقه ، وعلى بيان حسن عاقبة الأبرار ، وسوء عاقبة الفجار.

٣٠٧

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(١٩)

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) بيان لما ستكون عليه السماء عند اقتراب قيام الساعة.

ومعنى : (انْفَطَرَتْ) انشقت ، من الفطر ـ بفتح الفاء ـ بمعنى الشق ، كما قال ـ تعالى ـ في أول سورة الانشقاق : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ). يقال : فطرت الشيء فانفطر ، أى : شققته فانشق. أى : إذا السماء تصدعت وتشققت في الوقت الذي يريده الله ـ تعالى ـ لها أن تكون كذلك.

٣٠٨

(وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أى : وإذا النجوم تهاوت وتساقطت وتفرقت ، ويقال : نثرت الشيء على الأرض ، إذا ألقيته عليها متفرقا. فانتثار الكواكب معناه : تفرقها عن مواضعها التي كانت فيها.

(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أى : شققت جوانبها ، فزالت الحواجز التي بينها ، واختلط بعضها ببعض فصارت جميعها بحرا واحدا ، فقوله (فُجِّرَتْ) مأخوذ من الفجر ـ بفتح الفاء ـ وهو شق الشيء شقا واسعا ، يقال : فجر الماء فتفجر ، إذا شقه شقا واسعا ترتب عليه سيلان الماء بشدة.

(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أى : صار باطنها ظاهرها ، وخرج ما فيها من الموتى مسرعين ، يقال : بعثر فلان متاعه ، إذا فرقه وبدده وقلب بعضه على بعض.

والمراد أن التراب الذي كان فيها يبعثر ويزال ، ويخرج الموتى من تلك القبور للحساب والجزاء.

وقوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) جواب (إِذَا) في الآيات الأربع.

أى : إذا تم ذلك ، علمت كل نفس ما قدمت من خير أو شر ، وما أخرت من سنة حسنة ، أو سنة سيئة يعمل بها بعدها.

قال الجمل ما ملخصه : واعلم أن المراد من هذه الآيات أنه إذا وقعت هذه الأشياء التي هي أشراط الساعة ، فهناك يحصل الحشر والنشر ، وهي هنا أربعة : اثنان منها يتعلقان بالعلويات ، واثنان يتعلقان بالسفليات ، والمراد بهذه الآيات : بيان تخريب العالم ، وفناء الدنيا ، وانقطاع التكاليف ... وإنما كررت إذا لتهويل ما في حيزها من الدواهي.

وجواب (إِذَا) وما عطف عليها قوله (عَلِمَتْ نَفْسٌ) أى : علمت كل نفس وقت هذه المذكورات الأربعة (ما قَدَّمَتْ) من الأعمال وما أخرت منها فلم تعمله.

ومعنى علم النفس بما قدمت وأخرت : العلم التفصيلي. وذلك عند نشر الصحف ـ كما تقدم في سورة التكوير ـ أما العلم الإجمالى فيحصل في أول زمن الحشر ، لأن المطيع يرى آثار السعادة ، والعاصي يرى آثار الشقاوة في أول الأمر ، وأما العلم التفصيلي فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة ... (١).

وبعد أن أشار ـ سبحانه ـ إلى أهوال علامات الساعة التي من شأنها أن تنبه العقول والحواس والمشاعر ... أتبع ذلك بنداء للإنسان فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤٩٨.

٣٠٩

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) والغرور : الخداع. يقال : غر فلان فلانا ، إذا خدعه وأطمعه بالباطل. والخطاب لجنس الإنسان. وقيل للكافر.

و «ما» استفهامية ، والمقصود بالاستفهام : الإنكار والتعجيب من حال هذا الإنسان المخدوع.

أى : يا أيها الإنسان المخلوق بقدرة ربك وحده ، أى شيء غرك وخدعك وجعل جانبا من جنسك يكفر بخالقه ، ويعبد غيره ، وجانبا آخر يعصى ربه ، ويقصر في أداء حقوقه؟

قال الإمام ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) : هذا تهديد ، لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب ، حيث قال : (الْكَرِيمِ) ، حتى يقول قائلهم : غره كرمه. بل المعنى في الآية : ما غرك يا بن آدم بربك الكريم ـ ، أى : العظيم ـ حتى أقدمت على معصيته ، وقابلته بما لا يليق؟ كما جاء في الحديث : «يقول الله يوم القيامة : يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟» ...

وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس تحته طائل ، لأنه إنما أتى باسمه الكريم لينبه على أنه لا ينبغي أن يقابل الكريم بالأفعال القبيحة ، وأعمال السوء ... (١).

والمقصود بالنداء هنا : التنبيه إلى ما سيأتى بعده من توجيهات ، وليس المقصود به طلب الإقبال على شيء معين.

وإيثار تعريف الله ـ تعالى ـ بصفة الرب ، لما في معنى الرب من التربية والرعاية والملكية ، والإيجاد من العدم ... ففي هذا الوصف تذكير للإنسان بنعم خالقه الذي أنشأه من العدم ، وتعهده بالرعاية والتربية.

وكذلك الوصف بالكريم ، فيه ـ أيضا ـ تذكير لهذا الإنسان بكرم ربه عليه ، إذ مقتضى هذا الكرم منه ـ تعالى ـ ، أن يقابل المخلوق ذلك بالشكر والطاعة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) صفات أخرى للرب ـ عزوجل ـ الكريم المنان.

والخلق : هو الإيجاد على مقدار معين مقصود. والتسوية : جعل الشيء سويا ، أى : قويما سليما خاليا من الاضطراب والاختلال.

وقوله : (فَعَدَلَكَ) قرأها بعضهم بفتح الدال مع التخفيف ، وقرأها آخرون بفتحها مع التشديد ، وهما متقاربان ، إلا أن التشديد يفيد المبالغة في التعديل ، الذي هو جعل البنية

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٦٤.

٣١٠

معتدلة ، متناسبة الأعضاء ، فالتسوية ترجع إلى عدم النقصان في الأعضاء ، والتعديل يرجع إلى عدم التخالف فيها وهذا ، باعتبار الأصل في خلق الإنسان ، فلا عبرة بوجود ما يخالف ذلك في قلة من أفراد الإنسان.

والمعنى : يا أيها الإنسان ، أى شيء خدعك وجرأك على معصية ربك الكريم ... الذي من مظاهر كرمه أنه (خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) بأن جعل أعضاءك سوية سليمة. مهيأة لا لاكتساب منافعها على حسب ما تقتضيه حكمة خالقك (فَعَدَلَكَ) أى : فعدل أعضاءك بأن جعلها متناسقة متوازنة بعضها مع بعض ، فلم يجعل ـ مثلا ـ إحدى يديك طويلة والأخرى قصيرة. ولم يجعل ـ مثلا ـ جانبا من جسدك أبيض ، والأخر أسود.

ومن مظاهر قدرته وكرمه ـ أيضا ـ أنه ـ سبحانه ـ ركبك ووضعك في أى صورة من الصور المتنوعة التي اقتضتها مشيئته وحكمته.

فقوله : (فِي أَيِّ صُورَةٍ) متعلق بركبك. و «ما» مزيدة ، و «شاء» صفة لصورة. ولم يعطف «ركبك» على ما قبله بالفاء ، كما عطف ما قبله بها ، لأنه بيان لقوله : (فَعَدَلَكَ). والتقدير : فعدلك بأن ركبك في أى صورة من الصور التي شاءها لك ، وهي صورة فيها ما فيها من العجائب والأسرار ، فضلا عن أنها أحسن صورة وأكملها ، كما قال ـ تعالى ـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

فالمقصود من الآيات الكريمة ، تذكير الإنسان بفضل ربه ـ تعالى ـ عليه ، وحضه على طاعته وشكره ، وتوبيخه على تقصيره وجحوده ، وتهديده بسوء المصير إذا ما استمر في غفلته وغروره.

قال بعض العلماء : إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة ، الكاملة الشكل والوظيفة. أمر يستحق التدبر الطويل ، والشكر العميق. والأدب الجم لربه الكريم الذي أكرمه بهذه الخلقة.

وهناك مؤلفات كاملة في وصف كمال التكوين الإنسان العضوى ودقته وإحكامه.

كاكتمال التكوين الجسدى ، والعضلى ، والجلدى ، والهضمى ، والدموي والعظمى ، والتنفسى ، والتناسلى ، والعصبي ... للإنسان.

وإن جزءا من أذن الإنسان «الأذن الوسطى» لهو سلسلة من نحو أربعة آلاف جزئية دقيقة معقدة ، متدرجة بنظام بالغ الدقة في الحجم والشكل.

ومركز حاسة الإبصار في العين التي تحتوى على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء ،

٣١١

وهي أطراف الأعصاب ، ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلا ونهارا ... (١).

ثم يكشف القرآن بعد ذلك عن علة الغرور والغفلة ـ وهي التكذيب بيوم الحساب ـ ويقرر أن كل عمل يعمله الإنسان هو مسجل عليه فيقول : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ. وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ).

و «كلا» حرف ردع وزجر ، وهي هنا للردع والزجر عن الاغترار بكرم الله ـ تعالى ـ وعن جعله ذريعة إلى الكفر والفسوق والعصيان.

وقوله (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) إبطال لوجود ما يدعو إلى غرورهم لو كانوا يعقلون.

أى : كلا ليس هناك شيء يقتضى غروركم بالله ـ تعالى ـ ويجرؤكم على عصيانه لو كنتم تتفكرون وتتدبرون ... ولكن تكذيبكم بالبعث والحساب والجزاء هو الذي حملكم على الكفر والفسوق والعصيان.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله (كَلَّا) ردع عن الاغترار بكرم الله ـ تعالى ـ وقوله : (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) إضراب عن جملة مقدرة ، ينساق إليها الكلام ، كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض ، وأنتم لا ترتدعون عن ذلك ، بل تجترئون على أعظم منه ، حيث تكذبون بالجزاء والبعث رأسا ، أو بدين الإسلام ، اللذين هما من جملة أحكامه ، فلا تصدقون سؤالا ولا جوابا ، ولا ثوابا ولا عقابا ، وفيه ترق من الأهون إلى الأعظم.

وعن الراغب : «بل» هنا لتصحيح الثاني وإبطال الأول. كأنه قيل : ليس هنا مقتض لغرورهم ، ولكن تكذيبهم بالبعث حملهم على ما ارتكبوه.

وقيل تقدير الكلام : كلا إنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمى إليكم ، وإرشادى لكم ، بل تكذبون بالدين ... (٢).

وقوله : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) عطف على جملة (تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) لتأكيد ثبوت الجزاء على الأعمال ، وتسجيل هذه الأعمال تسجيلا تاما.

وقوله (لَحافِظِينَ) صفة لموصوف محذوف. أى : وإن عليكم لملائكة يحفظون أعمالكم عليكم ، ويسجلونها دون أن يضيعوا منها شيئا.

وقوله : (كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) صفات أخرى لهؤلاء الملائكة.

__________________

(١) راجع تفسير في ظلال القرآن ج ٣٠ ص ٤٩٠.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ٦٥.

٣١٢

أى : وإن عليكم ملائكة من صفاتهم أنهم يحفظون أعمالكم ، ويسجلونها عليكم ، وأنهم لهم عند الله ـ تعالى ـ الكرامة والمنزلة الحسنة ، وأنهم يكتبون أعمالكم كلها ، وأنهم يعلمون أفعالكم التي تفعلونها سواء أكانت قليلة أم كثيرة ، صغيرة أم كبيرة.

فالمقصود بهذه الآيات الكريمة : بيان أن البعث حق ، وأن الحساب حق ، وأن الجزاء حق ، وأن أعمال الإنسان مسجلة عليه تسجيلا تاما ، بواسطة ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

أما كيفية هذه الكتابة من الملائكة لأعمال الإنسان ، وعلى أى شيء تكون هذه الكتابة ، ومتى تكون هذه الكتابة ... فمن الأمور التي يجب الإيمان بها كما وردت ، مع تفويض كنهها وكيفيتها ودقتها إلى الله ـ تعالى ـ لأنه لم يرد حديث صحيح عن المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتمد عليه في بيان ذلك.

ثم بين ـ سبحانه ـ النتائج المترتبة على كتابة الملائكة لأفعال الإنسان فقال : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ. وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ).

والأبرار : جمع بر ـ بفتح الباء ـ ، وهو الإنسان التقى الموفى بعهد الله ـ تعالى ـ.

والفجار : جمع فاجر ، وهو الإنسان الكثير الفجور ، أى : الخروج عن طاعة الله ـ تعالى ـ. أى : إن المؤمنين الصادقين الذين وفوا بما عاهدوا الله عليه ، لفي نعيم دائم ، وهناء مقيم ، وإن الفجار الذين نقضوا عهودهم مع الله ، وفسقوا عن أمره ، لفي نار متأججة بعضها فوق بعض ، هؤلاء الفجار الذين شقوا عصا الطاعة (يَصْلَوْنَها) أى : يدخلون الجحيم ويقاسون حرها (يَوْمَ الدِّينِ) أى : يوم الجزاء والحساب.

(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أى : وما هم عن النار بمبعدين ، بل هم ملازمون لها ملازمة تامة.

ثم فخم ـ سبحانه ـ وعظم من شأن يوم الجزاء فقال : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ).

و «ما» اسم استفهام مبتدأ. وجملة «أدراك» خبره ، والكاف مفعول أول.

وجملة (ما يَوْمُ الدِّينِ) المكونة من مبتدأ وخبر سدت مسد المفعول الثاني لأدراك. والتكرار للتهويل والتعظيم ليوم الدين ، كما في قوله ـ تعالى ـ (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ).

أى : وأى شيء أدراك عظم وشدة يوم الحساب والجزاء ، ثم أى شيء أدراك بذلك؟

٣١٣

إننا نحن وحدنا الذين ندرك شدة هوله ... وقد أخبرناك بجانب مما يحدث فيه من شدائد ، لتنذر الناس ، حتى يستعدوا له بالإيمان والعمل الصالح.

ثم فصل ـ سبحانه ـ جانبا من أهواله فقال : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ). أى : يوم الدين والجزاء هو اليوم الذي لا تملك فيه نفس لغيرها شيئا من النفع. وإنما الذي ينفع فيه هو الإيمان والعمل الصالح ، والأمر فيه لله ـ تعالى ـ وحده ، ولا سلطان ولا تصرف لأحد سواه.

وقوله : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ ...) بيان ليوم الدين. وقد قرأ بعض القراء السبعة (يَوْمَ) بالنصب على أنه منصوب بفعل محذوف. أى : اذكر يوم لا تملك نفس لنفس شيئا.

وقرأ البعض الآخر بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. أى : هو يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ... أو على أنه بدل من «يوم الدين».

وهكذا اختتمت السورة الكريمة كما بدئت بالتهويل من شأن يوم القيامة ، ليزداد العقلاء استعدادا له ، عن طريق الإيمان والعمل الصالح الذي يرضى الله ـ تعالى ـ.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٣١٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة المطففين

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «المطففين» أو سورة «ويل للمطففين» أو سورة «التطفيف» من السور التي اختلف المفسرون في كونها مكية أو مدنية أو بعضها مكي وبعضها مدني.

فصاحب الكشاف يقول : مكية ... وهي آخر سورة نزلت بمكة.

والإمام ابن كثير يقول : هي مدنية ، دون أن يذكر في ذلك خلافا.

والإمام القرطبي يقول : سورة «المطففين» : مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومدنية في قول الحسن وعكرمة ، وهي ست وثلاثون آية.

قال مقاتل : وهي أول سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة : هي مدنية إلا ثماني آيات ، من قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) إلى آخرها. فإنها مكية. وقال الكلبي وجابر بن زيد : نزلت بين مكة والمدينة.

والإمام الآلوسى يجمع كل هذه الأقوال في تفسيره بشيء من التفصيل دون أن يرجح بينها.

٢ ـ ويبدو لنا أن سورة المطففين من السور المكية ، إلا أننا نرجح أنها من آخر ما نزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرآن مكي ، وقد ذكرها الإمام السيوطي في كتابه الإتقان ، على أنها آخر سورة مكية ، نزلت على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الهجرة (١).

ومما يجعلنا نرجح أن سورة المطففين من السور المكية : حديثها الواضح عن الفجار والأبرار.

__________________

(١) راجع الإتقان ج ١ ص ٢٧.

٣١٥

وعن يوم القيامة وسوء عاقبة المكذبين به ، وعن أقوال المشركين في شأن القرآن الكريم.

وعن الموازنة بين مصير المؤمنين والكافرين ، وعن موقف كفار قريش من فقراء المؤمنين.

وهذه الموضوعات نراها من السمات الواضحة للقرآن المكي ، وإذا كان القرآن المدني قد تحدث عنها ، فبصورة أقل تفصيلا من القرآن المكي.

٣ ـ والسورة الكريمة في مطلعها تهدد الذين ينقصون المكيال والميزان ويبخسون الناس أشياءهم. وتذكرهم بيوم البعث والحساب والجزاء ، لعلهم يتوبون إلى خالقهم ويستغفرونه مما فرط منهم.

ثم تسوق موازنة مفصلة بين سوء عاقبة الفجار ، وحسن عاقبة الأبرار.

ثم تختتم بذكر ما كان يفعله المشركون مع فقراء المؤمنين ، من استهزاء وإيذاء ، وبشرت هؤلاء المؤمنين : بأنهم يوم الجزاء والحساب ، سيضحكون من الكفار ، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا. قال ـ تعالى ـ : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ. هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ).

٣١٦

التفسير

وقد افتتح ـ سبحانه ـ هذه السورة الكريمة بقوله :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)(١٧)

الويل : لفظ دال على الهلاك أو الشر ، وهو اسم لا فعل له من لفظه ... وقيل : هو اسم واد في جهنم.

والمطففين جمع مطفف ، من الطفيف ، وهو الشيء التافه الحقير ، لأن ما يغتاله المطفف من غيره شيء قليل. والتطفيف : الإنقاص في المكيال أو الميزان عن الحدود المطلوبة.

قال الإمام ابن جرير : وأصل التطفيف ، من الشيء الطفيف ، وهو القليل النزر.

والمطفف : المقلل صاحب الحق عمّا له من الوفاء والتمام في كيل أو وزن. ومنه قيل للقوم الذين

٣١٧

يكونون سواء في حسبة أو عدد : هم سواء كطف الصاع. يعنى بذلك كقرب الممتلئ منه ناقص عن الملء .... (١).

وقوله : (اكْتالُوا) من الاكتيال وهو افتعال من الكيل. والمراد به : أخذ مالهم من مكيل من غيرهم بحكم الشراء.

ومعنى : (كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) : كالوهم أو وزنوا لهم ، فحذفت اللام ، فتعدى الفعل إلى المفعول ، فهو من باب الحذف والإيصال.

فالواوان في «كالوهم أو وزنوهم» يعودان إلى الاسم الموصول في قوله : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا). والضميران المنفصلان «هم» ، يعودان إلى الناس.

قال صاحب الكشاف : والضمير في «كالوهم أو وزنوهم» ضمير منصوب راجع إلى الناس. وفيه وجهان : أن يراد : كالوا لهم ، أو وزنوا لهم فحذف الجار ، وأوصل الفعل ، كما في قول الشاعر :

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

بمعنى جنيت لك. وأن يكون على حذف مضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، والمضاف هو المكيل أو الموزون ... (٢).

والمعنى : هلاك شديد ، وعذاب أليم ، للمطففين ، وهم الذين يبخسون حقوق الناس في حالتي الكيل والوزن وما يشبههما ، ومن مظاهر ذلك أنهم إذا اشتروا من الناس شيئا حرصوا على أن يأخذوا حقوقهم منهم كاملة غير منقوصة ، وإذا باعوا لهم شيئا ، عن طريق الكيل أو الوزن أو ما يشبههما (يُخْسِرُونَ) أى : ينقصون في الكيل أو الوزن.

يقال : خسر فلان الميزان وأخسره ، إذا نقصه ، ولم يتمه كما يقتضيه العدل والقسط.

وافتتحت السورة الكريمة بلفظ «الويل» للإشعار بالتهديد الشديد ، والوعيد الأليم لمن يفعل ذلك. وقوله (وَيْلٌ) مبتدأ ، وهو نكرة ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء. وخبره «للمطففين».

وقال ـ سبحانه ـ (إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) ولم يقل : من الناس. للإشارة إلى ما في عملهم المنكر من الاستيلاء والقهر والظلم.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٣٠ ص ٩٠.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧١٩.

٣١٨

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرهم ، ويتحامل فيه عليهم ، أبدل «على» مكان «من» للدلالة على ذلك.

ويجوز أن يتعلق «على» بيستوفون ، ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية. أى : يستوفون على الناس خاصة ، فأما أنفسهم فيستوفون لها.

وقال الفراء : «من» و «على» يعتقبان في هذا الموضوع ، لأنه حق عليه ، فإذا قال : اكتلت عليك ، فكأنه قال : أخذت ما عليك. وإذا قال : اكتلت منك ، فكقوله : استوفيت منك ... (١).

والتعبير بقوله : (يَسْتَوْفُونَ) و (يُخْسِرُونَ) يدل على حرصهم الشديد فيما يتعلق بحقوقهم. وإهمالهم الشنيع لحقوق غيرهم ، إذ استيفاء الشيء ، أخذه وافيا تاما ، فالسين والتاء فيه للمبالغة.

وأما (يُخْسِرُونَ) فمعناه إيقاع الخسارة على الغير في حالتي الكيل والوزن وما يشبههما.

ثم أتبع ـ سبحانه ـ هذا التهديد للمطففين. بما يجعل الناس يتعجبون من أحوالهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ).

والهمزة للاستفهام التعجيبى من أحوالهم ، والجملة مستأنفة مسوقة لتفظيع ما فعلوه من بخس الناس أشياءهم. وأدخلت همزة الاستفهام على «لا» النافية لزيادة التوبيخ والإنكار ، حتى لكأن سوء عاقبة التطفيف لا تخطر لهم على بال.

والظن هنا مستعمل في معناه الحقيقي ، وهو اعتقاد الشيء اعتقادا راجحا.

وقال ـ سبحانه ـ : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ ...) ولم يقل : ألا يظنون ، لقصد تمييزهم والتشهير بهم ، زيادة في ذمهم ، وفي تقبيح أفعالهم.

أى : أبلغت الجرأة بهؤلاء المطففين ، أنهم صاروا من بلادة الحس ، ومن فقدان الشعور ، لا يخشون الحساب يوم القيامة ، ولا يخافون العذاب الشديد الذي سينزل بهم ، يوم يقوم الناس من قبورهم استجابة لأمر رب العالمين ، حيث يتلقون جزاءه العادل ، وحكمه النافذ.

ووصف ـ سبحانه ـ اليوم بالعظم. باعتبار عظم ما يقع فيه من أهوال.

وقوله : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بدل مما قبله. واللام في قوله (لِرَبِ)

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧١٩.

٣١٩

للتعليل. أى : يقومون لأجل ربوبيته ـ تعالى ـ وتلقى حكمه الذي لا يستطيعون الفرار منه. وفي هذا الوصف ما فيه من استحضار جلاله ـ وعظمته ـ سبحانه ـ.

قال القرطبي : وفي هذا الإنكار والتعجيب ، وكلمة الظن. ووصف اليوم بالعظيم ، وقيام الناس فيه لله خاضعين ، ووصف ذاته برب العالمين ، بيان بليغ لعظم الذنب ، وتفاقم الإثم في التطفيف ، وفيما كان مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط والعمل على التسوية والعدل ، في كل أخذ وإعطاء ، بل في كل قول وعمل .. (١).

هذا ، وقد جاء الأمر بإيفاء الكيل والميزان ، والنهى عن تطفيفهما ، في آيات كثيرة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ ، وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (٢).

ومنها قوله ـ سبحانه ـ : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٤).

قال بعض العلماء ما ملخصه : والتصدي لشأن المطففين بهذا الأسلوب في سورة مكية ، أمر يلفت النظر ، فالسورة المكية عادة توجه اهتمامها إلى أصول العقائد.

ومن ثم فالتصدى لهذا الأمر بذاته ، يدل أولا على أن الإسلام ، كان يواجه في البيئة المكية ، حالة صارخة من هذا التطفيف يزاولها الكبراء .. الذين يملكون إكراه الناس على ما يريدون فهم «يكتالون على الناس» لا من الناس .. فكأن لهم سلطانا على الناس.

ويدل ـ ثانيا ـ على طبيعة هذا الدين ، وشمول منهجه للحياة الواقعية ، وشئونها العملية ، وإقامتها على الأساس الأخلاقى الأصيل في طبيعة هذا المنهج الإلهى القويم .. (٥).

ثم زجر ـ سبحانه ـ هؤلاء الفاسقين عن أمره زجرا شديدا ، وتوعدهم بالعذاب الشديد ، فقال ـ تعالى ـ : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ).

وقوله : (كَلَّا) حرف ردع وزجر ، وما بعده كلام مستأنف ، وقد تكرر في الآيات التي

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٢٥٥.

(٢) سورة هود الآية ٨٤.

(٣) سورة الإسراء الآية ٣٥.

(٤) سورة الأنعام الآية ١٥٢.

(٥) راجع تفسير في ظلال القرآن ج ٣٠ ص ٥٠١.

٣٢٠