التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الكوثر

مقدمة وتمهيد

سورة «الكوثر» وتسمى ـ أيضا ـ سورة «النحر» ، تعتبر أقصر سورة في القرآن الكريم ، وهي من السور المكية عند الجمهور ، وقيل مدنية.

قال بعض العلماء : والأظهر أن هذه السورة مدنية ، وعلى هذا سنسير في تفسير آياتها ، وعلى القول بأنها مكية عددها الخامسة عشرة ، في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة «العاديات» ، وقيل سورة «التكاثر» ، وعلى القول بأنها مدنية ، فقد قيل إنها نزلت في الحديبية. وعدد آياتها ثلاث آيات بالاتفاق (١).

والسورة الكريمة بشارة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله ـ تعالى ـ سيعطيه الخير الجزيل ، والذكر الخالد.

__________________

(١) تفسير التحرير والتنوير ج ٣٠ ص ٥٦١ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

٥٢١

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣)

والكوثر : فوعل من الكثرة ، مثل النّوفل من النفل ، ومعناه : الشيء البالغ في الكثرة حد الإفراط ، والعرب تسمى كل شيء كثر عدده ، وعظم شأنه : كوثرا ، وقد قيل لأعرابية بعد رجوع ابنها من سفر : بم آب ابنك؟ قالت : آب بكوثر. أى : بشيء كثير.

قال الإمام القرطبي ما ملخصه : واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ستة عشر قولا : الأول : أنه نهر في الجنة ، رواه البخاري عن أنس ، ورواه الترمذي ـ أيضا ـ عن ابن عمر ... الثاني : أنه حوض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموقف ... الثالث : أنه النبوة والكتاب ... الرابع : أنه القرآن ... الخامس : الإسلام.

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ قلت : أصح هذه الأقوال الأول والثاني ، لأنه ثابت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نص في الكوثر ... وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيره قد أعطيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيادة على حوضه ...» (١).

وافتتح ـ سبحانه ـ الكلام بحرف التأكيد ، للاهتمام بالخبر ، وللإشعار بأن المعطى شيء عظيم ... أى : إنا أعطيناك بفضلنا وإحساننا ـ أيها الرسول الكريم ـ الكوثر ، أى : الخير الكثير الذي من جملته هذا النهر العظيم ، والحوض المطهر ... فأبشر بذلك أنت وأمتك ، ولا تلتفت إلى ما يقوله أعداؤك في شأنك.

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والمراد بالصلاة : المداومة عليها.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ٢٠ ص ٢١٨ ، وابن كثير ج ٧ ص ٥١٩.

٥٢٢

أى : ما دمنا قد أعطيناك هذه النعم الجزيلة ، فداوم على شكرك لنا ، بأن تواظب على أداء الصلاة أداء تاما ، وبأن تجعلها خالصة لربك وخالقك ، وبأن تواظب ـ أيضا ـ على نحرك الإبل تقربا إلى ربك. كما قال ـ سبحانه ـ (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).

ثم بشره ـ سبحانه ـ ببشارة أخرى فقال : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) والشانئ : هو المبغض لغيره ، يقال : شنأ فلان شنئا ، إذا أبغضه وكرهه.

والأبتر في الأصل : هو الحيوان المقطوع الذنب ، والمراد به هنا : الإنسان الذي لا يبقى له ذكر. ولا يدوم له أثر ...

شبه بقاء الذكر الحسن بذنب الحيوان ، لأنه تابع له وهو زينته ، وشبه الحرمان من ذلك ببتر الذيل وقطعه.

والمعنى : إن مبغضك وكارهك ـ أيها الرسول الكريم ـ هو المقطوع عن كل خير ، والمحروم من كل ذكر حسن.

قال الإمام ابن كثير : «كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له ، فإذا هلك انقطع ذكره ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه السورة.

وقال السدى : كانوا إذا مات ذكور الرجل قالوا : بتر ، فلما مات أبناء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : بتر محمد فأنزل الله هذه الآية.

وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر إذا مات انقطع ذكره ، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه ينقطع ذكره ، وحاشا وكلا ، بل أبقى الله ذكره على رءوس الأشهاد ، وأوجب شرعه على رقاب العباد ، مستمرا على دوام الآباد ، إلى يوم الحشر والمعاد ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد ...

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا من أهل شفاعته يوم القيامة.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٥٢٣
٥٢٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الكافرون

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الكافرون» تسمى ـ أيضا ـ سورة «المقشقشة» أى : المبرئة من الشرك ، وسورة «العبادة» وسورة «الدين».

وهي من السور المكية عند الجمهور ، وكان نزولها بعد سورة «الماعون» وقبل سورة «الفيل».

وقيل : إنها مدنية ، وعدد آياتها ست آيات.

٢ ـ وقد ذكروا في سبب نزولها روايات منها ما ذكره ابن إسحاق عن ابن عباس ، أن جماعة من زعماء المشركين أتوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : هلم فلنعبد إلهك مدة ، وأنت تعبد آلهتنا مدة ، فيحصل بذلك الصلح بيننا وبينك ... فنزلت هذه السورة.

٣ ـ وقد ذكر الإمام ابن كثير بعض الأحاديث التي تدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ بها كثيرا في صلاة ركعتي الفجر ، ومن ذلك ما أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ سورة «الكافرون» وسورة «قل هو الله أحد» في ركعتي الفجر ... (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٥٢٧.

٥٢٥

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٦)

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين الذين جاءوك ليساوموك على أن تعبد آلهتهم مدة ، وهم يعبدون إلهك مدة أخرى ... قل لهم على سبيل الحزم والتأكيد «لا أعبد» أنا الذي تعبدونه من آلهة باطلة ، ولا أنتم عابدون الإله الحق الذي أعبده ، لجهلكم وجحودكم. وعكوفكم على ما كان عليه آباؤكم من ضلال.

وافتتحت السورة الكريمة بفعل الأمر «قل» للاهتمام لما سيأتى بعده من كلام المقصود منه إبلاغه إليهم ، وتكليفهم بالعمل به.

ونودوا بوصف الكافرين ، لأنهم كانوا كذلك ، ولأن في هذا النداء تحقيرا واستخفافا بهم.

و «ما» هنا موصولة بمعنى الذي ، وأوثرت على «من» لأنهم ما كانوا يشكون في ذات الآلهة التي يعبدونها ، ولا في ذات الإله الحق الذي يعبده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما كانوا يشكون في أوصافه ـ تعالى ـ ، من زعمهم أن هذه الأصنام ما يعبدونها إلا من أجل التقرب إليه. ويقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) مع أن الله ـ تعالى ـ منزه عن ذلك ، فالمقصود من «ما» هنا : الصفة ، وليس الذات ، فكأنه قال : لا أعبد الباطل الذي تعبدونه ، وأنتم لجهلكم لا تعبدون الإله الحق الذي أعبده.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) تأكيد وتقرير لما اشتمل عليه الكلام السابق ... «وما» هنا مصدرية ، فكأنه قبل : ولا أنا عابد عبادتكم ، ولا أنتم عابدون عبادتي.

٥٢٦

فالآيتان السابقتان تنفيان الاتحاد بينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينهم في المعبود ، وهاتان الآيتان تنفيان الاتحاد في العبادة ، والمقصود من ذلك المبالغة التامة في البراءة من معبوداتهم الباطلة ، ومن عبادتهم الفاسدة ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المؤمنين ، لا يعبدون إلا الله ـ عزوجل ـ ، وهم بذلك يكونون قد اهتدوا إلى العبادة الصحيحة.

وقوله ـ تعالى ـ : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) تذييل مؤكد لما قبله. والدين : يطلق بمعنى العقيدة التي يعتقدها الإنسان ويدين بها ، وبمعنى الملة التي تجرى أقواله وأفعاله على مقتضاها ، وبمعنى الحساب والجزاء. ومنه قولهم : دنت فلانا بما صنع ، أى : جازيته على صنيعه.

واللفظ هنا شامل لكل ذلك ، أى : لكم ـ أيها الكافرون ـ دينكم وعقيدتكم التي تعتقدونها ولا تتجاوزكم إلى غيركم من المؤمنين الصادقين ، فضلا عن رسولهم ومرشدهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولى ديني وعقيدتي التي هي عقيدة التوحيد ، والتي بايعنى عليها أتباعى المؤمنون ، وهي مقصورة علينا ، وأنتم محرومون منها ، وسترون سوء عاقبة مخالفتكم لي.

وقدم ـ سبحانه ـ المسند على المسند إليه ، لإفادة القصد والاختصاص فكأنه قيل : لكم دينكم لا لغيركم ، ولى ديني لا لغيري والله ـ تعالى ـ هو أحكم الحاكمين بيني وبينكم.

وبذلك نرى السورة الكريمة ، قد قطعت كل أمل توهم الكافرون عن طريقه الوصول إلى مهادنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى الاستجابة لشيء من مطالبهم الفاسدة ، وإنما هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم برىء براءة تامة منهم ومن معبوداتهم وعباداتهم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٥٢٧
٥٢٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة النصر

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «النصر» تسمى ـ أيضا ـ سورة : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ، وتسمى سورة «التوديع» وهي من السور المدنية ، قيل : نزلت عند منصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة خيبر ، وقيل : نزلت بمنى في أيام التشريق ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع ، وقيل نزلت عند منصرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة حنين.

وكان نزولها بعد سورة «الحشر» وقبل سورة «النور» ، وهي ثلاث آيات.

٢ ـ وقد تضافرت الأخبار رواية وتأويلا ، على أن هذه السورة تومئ إلى قرب نهاية أجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد ذكر الإمام ابن كثير جملة من الآثار في هذا المعنى منها ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ، دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة وقال : «قد نعيت إلىّ نفسي» فبكت ثم ضحكت ، وقالت : أخبرنى أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ، ثم قال : «اصبري فإنك أول أهلى لحاقا بي» فضحكت.

وأخرج البخاري عن ابن عباس ، قال : كان عمر ـ رضى الله عنه ـ يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم قد وجد في نفسه ـ أى : تغير وغضب ـ وقال : لما ذا يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ، فقال عمر : إنه ممن علمتم. فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم ... فقال : ما تقولون في قوله ـ تعالى ـ (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ، فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره ، إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فقال ... عمر : أكذلك تقول

٥٢٩

يا بن عباس؟ فقلت : لا ، فقال : ما تقول؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلمه له ... فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول.

وأخرج الطبراني عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة نزلت من القرآن هذه السورة (١).

٣ ـ والسورة الكريمة وعد منه ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر والفتح وبشارة بدخول أفواج الناس في دين الله ، وأمر منه ـ سبحانه ـ بالمواظبة على حمده واستغفاره.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٥٢٩.

٥٣٠

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)(٣)

والنصر : التغلب على العدو ، والإعانة على بلوغ الغاية ، ومنه قولهم : قد نصر الغيث الأرض ، أى : أعان على إظهار نباتها.

والمراد به هنا : إعانة الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أعدائه ، حتى حقق له النصر عليهم.

والفتح : يطلق على فتح البلاد عنوة والتغلب على أهلها ، ويطلق على الفصل والحكم بين الناس ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ).

والمراد به : هنا فتح مكة. وما ترتب عليه من إعزاز الدين ، وإظهار كلمة الحق.

قال الإمام ابن كثير : والمراد بالفتح هنا فتح مكة قولا واحدا ، فإن أحياء العرب كانت تتلوم ـ أى : تنتظر ـ بإسلامها فتح مكة ، يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي ، فلما فتح الله عليه مكة ، دخلوا في دين الله أفواجا ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت ـ أى : اجتمعت ـ جزيرة العرب على الإيمان ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ، ولله الحمد والمنة.

والأفواج : جمع فوج ، وهو الجماعة والطائفة من الناس وقوله (فَسَبِّحْ) جواب إذا.

والمعنى : إذا أتم الله ـ عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ وعلى أصحابك النصر ، وصارت

٥٣١

لكم الكلمة العليا على أعدائكم ، وفتح لكم مكة ، وشاهدت الناس يدخلون في دين الإسلام ، جماعات ثم جماعات كثيرة بدون قتال يذكر.

إذا علمت ورأيت كل ذلك ، فداوم وواظب على تسبيح ربك ، وتنزيهه عن كل مالا يليق به شكرا له على نعمه ، وداوم ـ أيضا ـ على طلب مغفرته لك وللمؤمنين.

(إِنَّهُ) عزوجل ـ (كانَ) وما زال (تَوَّاباً) أى : كثير القبول لتوبة عباده التائبين إليه ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ).

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا من عباده التائبين توبة صادقة نصوحا.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٥٣٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة المسد

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «المسد» تسمى ـ أيضا ـ بسورة «تبت» ، وبسورة «أبى لهب» ، وبسورة «اللهب» وهي من أوائل السور التي نزلت بمكة ، فهي السورة السادسة في ترتيب النزول ، وكان نزولها بعد سورة «الفاتحة» ، وقبل سورة «الكوثر» وهي خمس آيات.

٢ ـ وقد ذكروا في سبب نزول هذه السورة روايات منها : ما أخرجه البخاري عن ابن عباس ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى : «يا صباحاه» وهي كلمة ينادى بها للإنذار من عدو قادم ـ فاجتمعت إليه قريش ، فقال ـ : «أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا : نعم. قال : «فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا؟ تبا لك ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه السورة.

وفي رواية : أنه قام ينفض يديه وجعل يقول للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تبا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه السورة» (١).

وأبو لهب : هو أحد أعمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم ... وامرأته هي : أروى بنت حرب بن أمية ، وكنيتها أم جميل.

روى أنها لما سمعت ما نزل في زوجها وفيها من قرآن ، أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٥٣٤.

٥٣٣

جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق ، وفي يدها فهر ـ أى : حجر ـ فلما وقفت أخذ الله ـ تعالى ـ بصرها عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا أبا بكر ، بلغني أن صاحبك يهجونى ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ... ثم انصرفت ، فقال أبو بكر : يا رسول الله أما تراها رأتك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما رأتنى ، لقد أخذ الله بصرها عنى» (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٢ ص ٢٣١.

٥٣٤

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)(٥)

ومعنى (تَبَّتْ) هلكت وخسرت ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ).

وقوله : (وَتَبَ) أى : وقد تب وهلك وخسر ، فالجملة الأولى دعاء عليه بالهلاك والخسران ، والجملة الثانية : إخبار عن أن هذا الدعاء قد استجيب ، وأن الخسران قد نزل به فعلا.

أى : خسرت وخابت يدا أبى لهب ، وقد نزل هذا الهلاك والخسران به ، بسبب عداوته الشديدة للحق ، الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربه ـ سبحانه ـ.

والمراد باليدين هنا : ذاته ونفسه ، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ).

ويجوز أن يكون المراد باليدين حقيقتهما ، وذلك لأنه كان يقول : يعدني محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأشياء ، لا أدرى أنها كائنة ، يزعم أنها بعد الموت ، فلم يضع في يدي شيء من ذلك ، ثم ينفخ في يديه ويقول : تبا لكما ما أرى فيكما شيئا.

وقوله ـ سبحانه ـ : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) كلام مستأنف للانتقال من ذمه والدعاء عليه بالهلاك ، إلى بيان أن ماله وجاهه ... لن يغنى عنه من عذاب الله ـ تعالى ـ شيئا.

٥٣٥

أى : أن أبا لهب لن يغنى عنه ماله الكثير ، وكسبه الوفير من حطام الدنيا ... لن يغنى عنه شيئا من عذاب الله ـ تعالى ـ ، أو شيئا من انتشار رسالة الله ـ تعالى ـ في الأرض ، فإن الله ـ سبحانه ـ ناصر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومؤيده بروح منه.

والتعبير بالماضي في قوله : (ما أَغْنى ...) لتحقيق وقوع عدم الإغناء.

والراجح أن «ما» الأولى نافية ، والثانية موصولة. أى : ما أغنى عنه شيئا ماله الذي ورثه عن أبيه ، وأيضا ما أغنى عنه شيئا ماله الذي جمعه واكتسبه هو بنفسه عن طريق التجارة وغيرها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) بيان للعاقبة السيئة التي تنتظره ، بعد هذا الذم والتأنيب والوعيد. أى : سيلقى بأبى لهب في نار شديدة الحرارة ، تشوى الوجوه والأبدان ، ووصف ـ سبحانه ـ النار بأنها «ذات لهب» لزيادة تقرير المناسبة بين اسمه وكفره ، إذ هو معروف بأبى لهب ، والنار موصوفة بأنها ذات لهب شديد.

ثم أعقب ـ سبحانه ـ ذلك ، بذم زوجه التي كانت تشاركه العداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ، فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).

وقوله : (وَامْرَأَتُهُ) معطوف على الضمير المستتر العائد على أبى لهب في قوله (سَيَصْلى) ، وانتصاب لفظ «حمالة» على الذم بفعل مضمر ، لأن المقصود به هنا الذم ، وقرأ الجمهور (حَمَّالَةَ) ـ بالرفع ـ على أنه صفة لها ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، أى : هي حمالة الحطب.

والمقصود بقوله ـ تعالى ـ (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) الحقيقة ، فقد روى أنها كانت تحمل بنفسها حزمة الشّوك والحسك والسّعدان ، فتنثرها بالليل في طريقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لإيذائه به ، ويصح أن يكون المراد بهذه الجملة الكناية عن مشيها بين الناس بالنميمة ، وإشاعة السوء حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه يقال لمن يمشى بالنميمة ليفسد بين الناس ، إنسان يحمل الحطب بين الناس ، أى : أنه يفسد بينهم.

ويصح أن يكون المقصود بهذه الجملة ، حملها للذنوب والخطايا ، من قولهم : فلان يحطب على ظهره ، إذا كان يكتسب الذنوب والخطايا ، فاستعير الحطب لذلك.

وقد رجح الإمام ابن جرير القول الأول ، لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه في طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

__________________

(١) راجع تفسير ابن جرير ج ٢٠ ص ٢٢٠.

٥٣٦

وقوله ـ سبحانه ـ : (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) زيادة في تبشيع صورتها ، وتحقير هيئتها.

والجيد : العنق ، والمسد : الليف المتين الذي فتل بشدة ، يقال : حبل ممسود ، أى مفتول فتلا قويا.

والمعنى : سيصلى أبو لهب نارا شديدة ، وستصلى معه امرأته التي تضع الشوك في طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه النار المشتعلة ـ أيضا ـ ، وسيزيد الله ـ تعالى ـ في إذلالها وتحقيرها ، بأن يأمر ملائكته بأن تضع في عنقها حبلا مفتولا فتلا قويا ، على سبيل الإذلال والإهانة لها ، لأنها كانت في الدنيا تزعم أنها من بنات الأشراف الأكابر.

روى عن سعيد بن المسيب أنه قال : كان لها قلادة ثمينة فقالت : لأبيعنها ولأنفقن ثمنها في عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبدلها الله عنها حبلا في جيدها من مسد النار.

والذي يتأمل هذه السورة الكريمة ، يراها قد اشتملت على أوضح الأدلة وأبلغ المعجزات الدالة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، فإن الله ـ تعالى ـ قد أخبر بشقاء أبى لهب وامرأته. وأنهما سيصليان نارا ذات لهب ... وقد علما بما جاء في هذه السورة من عقاب الله لهما ... ومع ذلك فقد بقيا على كفرهما حتى فارقا الحياة ، دون أن ينطقا بكلمة التوحيد ، ولو في الظاهر ـ فثبت أن هذا القرآن من عند الله ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ـ عزوجل ـ.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يلحقنا بعباده الصالحين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٥٣٧
٥٣٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة الإخلاص

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الإخلاص» من السور ذات الأسماء المتعددة ، وقد ذكر لها الجمل في حاشيته عشرين اسما ، منها أنها تسمى سورة التفريد ، والتجريد ، والتوحيد ، والنجاة ، والولاية ، والمعرفة ، والصمد ، والأساس ، والمانعة ، والبراءة ... (١).

٢ ـ وقد ورد في فضلها أحاديث متعددة ، منها ما أخرجه البخاري عن أبى سعيد الخدري ، أن رجلا سمع رجلا يقرأ هذه السورة ، ويرددها ، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» (٢).

قال بعض العلماء ومعنى هذا الحديث : أن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام : ثلث منها الأحكام ، وثلث منها وعد ووعيد ، وثلث منها الأسماء والصفات ، وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات.

٣ ـ وقد ذكروا في سبب نزولها روايات منها : أن المشركين قالوا : يا محمد ، انسب لنا ربك ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه السورة الكريمة ... (٣).

وجمهور العلماء على أنها السورة الثانية والعشرون في ترتيب النزول. ويرى بعضهم أنها مدنية ، والأول أرجح ، لأنها جمعت أصل التوحيد ، وهذا المعنى غالب في السور المكية.

وعدد آياتها خمس آيات في المصحف الحجازي والشامي ، وأربع آيات في الكوفي والبصري.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٦٠٢.

(٢) راجع تفسير القرطبي ج ٢٠ ص ٢٤٧.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٥٣٨.

٥٣٩

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤)

وقد افتتحت بفعل الأمر «قل» لإظهار العناية بما بعد هذا الأمر من توجيهات حكيمة ، ولتلقينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرد على المشركين الذين سألوه أن ينسب لهم ربه.

و (هُوَ) ضمير الشأن مبتدأ ، والجملة التي بعده خبر عنه.

والأحد : هو الواحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله ، وفي كل شأن من شئونه ، فهو منزه عن التركيب من جواهر متعددة ، أو من مادة معينة ، كما أنه ـ عزوجل ـ منزه عن الجسمية والتحيز ، ومشابهة غيره.

وفي الإتيان بضمير الشأن هنا : إشارة إلى فخامة مضمون الجملة ، مع ما في ذلك من زيادة التحقيق والتقرير ، لأن الضمير يشير إلى شيء مبهم تترقبه النفس ، فإذا جاء الكلام من بعده زال الإبهام ، وتمكن الكلام من النفس فضل تمكن.

وجيء بالخبر نكرة وهو لفظ «أحد» لأن المقصود الإخبار عن الله ـ تعالى ـ بأنه واحد ، ولو قيل : الله الأحد ، لأفاد أنه لا واحد سواه ، وليس هذا المعنى مقصودا هنا ، وإنما المقصود إثبات أنه واحد في ذاته وصفاته وأفعاله ... ونفى ما زعمه المشركون وغيرهم ، من أنه ـ تعالى ـ مركب من أصول مادية أو غير مادية ، أو من أنه له شريك في ملكه.

وقوله ـ سبحانه ـ (اللهُ الصَّمَدُ) أى : الله ـ تعالى ـ هو الذي يصمد إليه الخلق في حوائجهم ، ويقصدونه وحده بالسؤال والطلب ... مأخوذ من قولهم صمد فلان إلى فلان. بمعنى توجه إليه بطلب العون والمساعدة.

٥٤٠